جواهر القرآن الفصل السادس
في وَجْهِ التَّسْمِيَة بالأَلْقَاب التي لُقِّبَ بها أقسامُ
القرآن
ولعلك تقول: أشرتَ في بعض أقسام العلوم إلى أنه يوجد فيها
التِّرياقُ الأكبر، وفي بعضها المسك الأَذْفَر، وفي بعضها
الكبريت الأحمر، إلى غير ذلك من النفائس، فهذهِ استِعَارات
رسمية تحتها رُموز وإشارات خفية.
فاعلم: أن التَكَلُّف والتَرَسُّم ممقوت عند ذوي الجِد، فما
كلمة طَمْسٍ إِلا وتحتها رُموز وإشارات إلى معنى خفيّ، يدركها
من يدرك الموازنة والمناسبة بين عالَمِ المُلْكِ وعالَمِ
الشهادة وبين عالَمِ الغَيْبِ والمَلَكُوت، إذْ ما مِن شيء في
عَالَمِ المُلْكِ والشَّهادة إلا وهو مِثال لأمرٍ روحاني من
عالَمِ المَلكوت كأنه هو في روحه ومعناه، وليس هُوَ هُوَ في
صورته وقالبه، والمِثال الجِسماني من عالَم الشهادة مُنْدَرِج
إلى المعنى الروحاني من ذلك العالم، ولذلك كانت الدنيا منزلاً
من منازل
(1/48)
الطريق إلى الله ضرورياً في حق الانس، إِذْ
كما يستحيل الوصول إلى اللُبِّ إلا من طريق القِشر فيستحيل
التَرَقِّي إلى عالم الأرواح إلا بمثال عالَمِ الأجسام، ولا
تُعَرف هذه الموازنة إلا بمثال، فانظروا إلى ما ينكشف للنائم
في نَومه من الرؤيا الصحيحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزءًا
من النبوة، وكيف ينكشف بأمثلة خيالية، فمن يُعلِّم الحكمة غيرَ
أهلِها يرى في المنام أنه يُعلق الدُرَّ على الخنازير. ورأى
بعضهم: أنه كان في يده خاتم يختم به فروجَ النساء وأفواهَ
الرجال، فقال له ابنُ سيرين: أنت رجل تؤذن في رمضان قبل الصبح،
فقال: نعم. ورأى آخر: كأنه يَصُبُّ الزَيت في الزيتون، فقال
له: إن كان تحتك جارية فهي أمك، قد سُبِيَت وبيعَت واشتريتَها
أنتَ ولا تعرف، فكان كذلك.
فانْظُر خَتْمَ الأفَواه والفروج بالخاتم مُشَارِكاً للأَذان
قبل الصبح في روح الخاتم وهو المنع وإن كان مخالفاً في صورته،
وقس على ما ذكرته ما لم أذكره.
واعلم: أن القرآنَ والأخبارَ تشتمل على كثير من هذا الجنس،
فانظر إلى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قلبُ
المؤمن بين أُصْبُعَيْن من أَصَابع الرَّحْمن" فإن روح
الأُصْبُع القدرةُ على سرعة التقليب، وإنما قلبُ المؤمن بين
لَمَّةِ المَلَك وبين لَمَّةِ الشيطان، هذا يُغويه، وهذا
يَهديه، والله تعالى بهما
(1/49)
يُقلِّب قلوبَ العباد كما تُقَلِّب
الأشياءَ أنت بأُصْبُعَيْك، فانظر كيف شارك نسبة المَلَكَيْن
المُسَخَّرَيْن إلى الله تعالى أُصْبُعَيْكَ في روح
أُصْبُعَيْه وخالفا في الصورة.
واستخرج من هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إن
الله تعالى خلق آدم على صورته" وسائرَ الآيات، والأحاديث
المُوهِمَة عند الجهلة للتشبيه،
(1/50)
والذكي يكفيه مثال واحد، والبليد لا يزيده
التكثير إلا تَحَيُّراً، ومتى عرفتَ معنى الأصبع، أمكنك
التَرَقِّي إلى القلم واليد واليمين والوجه والصورة، وأخذَتْ
جميعُها معنى روحانياً لا جِسمانياً، فتعلمَ أن روحَ القلم
وحقيقتَه التي لا بد من تحقيقها إذا ذكرتَ حدَّ القلم: هو الذي
يُكتَبُ به، فإن كان في الوجود شيء يتَسَطَّر بواسطته نقشُ
العلوم في ألواح القلوب، فأخْلِقْ به أن يكون هو القلم، فإن
الله تعالى علَّمَ بالقلم، علَّمَ الإنسانَ ما لم يَعلم، وهذا
القلم روحاني إذ وُجِدَ فيه روح القلم وحقيقته، ولم يُعْوِزْهُ
إلا قالبه وصورته، وكَون القلم من خشب أو قَصَب ليس من حقيقة
القلم، ولذلك لا يوجد في حَدِّه الحقيقي، ولكل شيء حَدٌّ
وحقيقة هي روحُه، فإذا اهْتَديْتَ إلى الأَرواح صِرْتَ
روحانياً، وفُتِحَت لك أبوابُ المَلَكُوت، وأُهِّلْتَ لمرافقة
الملأ الأعلى، وحَسُنَ أولئك رفيقاً، ولا يُستبعَد أن يكون في
القرآن إشارات من هذا الجنس، وإن كنتَ لا تقوى على احتمال ما
يقرع سمعَك من هذا النَّمط، ما لم تَسنُد التفسير إلى الصحابة،
فإن كان التقليدُ غالباً عليك، فانظُر إلى تفسير قولهِ تعالى
كما قاله المُفَسِّرون: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ
أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ
مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} الآية، وأَنه كيف مَثَّل العلمَ
بالماء، والقلوبَ بالأودية، والينابيعَ والضَّلالَ بالزَّبد،
ثم نبهك على آخِرها فقال: {كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} ؛
ويكفيك هذا القدر من هذا الفن فلا تطيق أكثر منه.
(1/51)
وبالجملة فاعلم: أنَّ كل ما يحتمله فهمُك
فإن القرآن يُلقيه إليك على الوجه الذي لو كنتَ في النوم
مُطالِعاً بروحك اللوحَ المحفوظ لتمثل ذلك لك بمثال مناسب
يحتاج إلى التعبير. واعلم أن التأويل يجري مجرَى التَّعبير،
فلذلك قلنا يدور المُفَسِّرُ على القشر، إذ ليس من يترجم معنى
الخاتم والفروج والأفواه كمن يدرك أنه أذان قبل الصبح.
(1/52)
|