جواهر القرآن

الفصل السابع
في سَبَبِ التَّعبير عن معاني عَالَمِ المَلَكُوتِ في القُرآن بأَمثِلَةٍ من عَالَمِ الشَّهادة
ولعلك تقول: لِمَ أبرزتَ هذه الحقائق في هذه الأمثلة ولم تكشف صريحاً، حتى ارتبك الناس في جَهالة التَّشبيه وضَلالة التَّخيِيل؟
فاعلم: أن هذا تعرفه إذا عرفتَ أن النائم لم ينكشفْ له الغَيْبُ من اللوح المحفوظ، إلا بالمثال دون الكشف الصريح كما حكيتُ لك المثل، وذلك يعرفه من يعرف العلاقة الخَفيَّة التي بين عالم المُلْكِ والملكوت. ثم إذا عرفتَ ذلك عرفتَ أنك في هذا العالم نائم وإن كنتَ مستيقظاً، فالناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فنكشف لهم عند الانتباهِ بالمَوت حقائق ما سَمِعوه بالمثال وأرواحها، ويعلمون أن تلك الأمثلة كانت قُشوراً وأصْدافاً لتلك الأرواح، ويَتَيَقَّنون صدقَ آياتِ

(1/53)


القرآن وقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما تَيَقَّن ذلك المؤذنُ صدقَ قول ابنِ سيرين وصحةَ تعبيرهِ للرؤيا، وكل ذلك ينكشف عند اتِّصال المَوت، وربما ينكشف بعضُهُ في سَكَراتِ الموت، وعند ذلك يقول الجاحِدُ والغافِل: {ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} الآية؛ ويقول: {يا ويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} {يا ليتني كُنتُ تُرَاباً} {يا حسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} {ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ؛ وإلى هذا يشير أكثرُ آياتِ القرآن المتعلقة بشرح المَعادِ والآخِرة التي أضفنا إليها الزَّبَرْجَدَ الأخضر.
فَافْهَم من هذا أَنَّكَ ما دمتَ في هذه الحياة الدنيا فأنتَ نائم، وإنما يقظَتُكَ بعد الموت، وعند ذلك تصيرُ أهلاً لمشاهدةِ صريحِ الحقِّ كِفاحاً، وقبل ذلك لا تحتملُ الحقائقَ إلا مَصبوبةً في قالب الأمثال الخَياليَّة، ثم لجمود نظرِكَ على الحِسّ تظنُّ أنه لا مَعنَى له إلا المُتَخَيَّل، وتغفلُ عن الروح كما تغفلُ عن روحِ نفسِكَ ولا تدرك إلا قالبك.

(1/54)