جواهر القرآن الفصل الثامن
في الطريق الذي ينكشِفُ به للإنسان وجهُ العلاقة بين
العالَميْن
لعلَّك تقول: فاكشِف عن وجه العلاقة بين العالَمَيْن، وأنَّ
الرُّؤيا لِمَ كانت بالمِثَال دون الصريح، وأنَّ رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَ كان يرى جبريلَ كثيراً
في غير صورته، وما رآه في صورته إلا مَرَّتَين.
فاعلم: أنك إن ظننتَ أن هذا يُلْقَى إليك دفعةً، من غير أن
تُقَدِّم الاستعداد لقبوله، بالرياضة والمجاهدة، وإطِّراحِ
الدنيا بالكلية، والانحيازِ عن غِمَار الخلق، والاستغراقِ في
محبة الخالق وطلب الحق، فقد استكبرتَ وعَلَوْتَ عُلُوًّا
كبيراً، وعلى مِثلكَ يُبْخَل بمثله، ويُقال:
جِئْتُمانِي لِتَعْلَمَا سِرَّ سَعْدِي ... تَجِدَاني بِسِرِّ
سَعْدي شَحِيحا
فاقْطَعْ طمَعَكَ عن هذا بالمكاتبة والمراسلة، ولا تطلُبْهُ
إلا من باب المجاهدة والتقَوى، فالهداية تَتْلُوها
وتُثَبِّتُها كما قال الله تعالى {والذين
(1/55)
جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا} ؛ وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من
عَمِلَ بما عَلِمَ أَوْرَثُهُ اللهُ عِلَم ما لا يُعلم".
واعلم يقيناً: أن أسرارِ المَلَكُوت محجوبَةٌ عن القلوب
الدَّنِسَةِ بُحبِّ الدنيا، التي استغرقَ أكثرَ هِمَمِهَا طلبُ
العاجلة، وإنما ذكرنا هذا القدر تشويقاً وترغيباً،
وَلِنُنَبِّهَ به على سرٍّ من أسرار القرآن، مَنْ غفل عنه لم
تُفْتَح له أصدافُ القرآن عن جواهره البَتَّة، ثم إن صَدَقَتْ
رغبتُك شمَّرتَ للطَّلب، واستعنتَ فيه بأهل البصيرة،
واستمدَدْتَ منهم، فما أراك تُفلح لو استبدَدْتَ فيه برأيك
وعقلك، وكيف تفهم هذا وأنت لا تفهم لسان الأحوال، بل تظنُّ أنه
لا نُطْقَ في العالم إلا بالمقَال، فلم تفهم معنى قوله تعالى
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ولا قوله
تعالى {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} ما لم تُقَدِّرْ للأرض
لساناً وحياة؛ ولا تفهم أنَّ قولَ القائل: قال الجدارُ لِلوتد:
لم تنقُبُنِي؟ قال: "سَلْ من يَدُقُّني فلم يترُكْنِي، ورأى
الحجر الذي يَدُقُّني" ولا تدري أن هذا القولَ صِدْقٌ وأصحُّ
من نُطْق المقال، فكيف تفهم ما وراء هذا من الأسرار؟
(1/56)
|