جواهر القرآن

الفصل التاسع
في التَّنْبيهِ على الرُّموز والإشارات التي يشتمل عليها القُرآن
لعلك تطمع في أن تُنَبَّهَ على الرَّموز والإشارات المودَعة تحت الجواهر الذي ذكرنا اشتمال القرآن عليها. فاعلم أن الكبريت الأحمر عند الخَلق في عالَم الشهادة، عبارة عن الكيمياء التي يُتَوصَّل بها إلى قلب الأعيان من الصفات الخَسِيسَة إلى الصفات النفيسة، حتى ينقلب به الحجر ياقوتاً، والنحاس ذهباً إبريزاً، ليتوصَّلََ به إلى اللَّذات في الدنيا مكدَّرةً مُنَغَّصة في الحال، مُنْصَرِمَةً على قرب الاستقبال، أفترى أن ما يقلُبُ جواهرَ القلب من رَزالةِ البهيمة وضَلالةِ الجهل إلى صفاءِ الملائكة وروحانِيَّتها، ليترقى [القلبُ] من أسفل السَّافلين إلى أعلى عِلِّيِّين، ويُنَالُ به القُرب من ربِّ العالمين والنظرُ إلى وجهه الكريم أبداً دائماً سَرْمَداً، هل هو أَولى باسم الكبريت الأحمر أم لا؟ فلهذا سميناه الكبريت الأحمر.

(1/57)


فتأمَّل وراجع نفسك وانْصِفْ: لِتَعلمَ أن هذا الاسمَ بهذا المعنى أحق، وعليه أصدق، ثم أنفس النفائس التي تُستَفَاد من الكيمياء اليواقيت، وأعلاها الياقوت الأحمر، فلذلك سميناه معرفة الذات.
وأما التِّرْياق الأكبر: فهو عند الخلق عبارة عما يُشْفَى به من السموم المُهلِكة، الواقعة في المعدة، مع أن الهلاكَ الحاصلَ بها ليس إلا هَلاكاً في حق الدُنيا الفانِيَة. فانظر إن كانت سموم البِدَع والأَهْوَاء والضَّلالات الواقعة في القلب، مُهلِكةً هلاكاً يحول بين السموم وبين عالَمِ القُدُس ومعدن الروح والراحة حيلولةً دائمة أبَدِيَّةً سَرْمَدِيَّةً، وكانت المُحَاجَّةُ البُرهانية تشفى عن تلك السموم وتدفع ضررها، هل هي أَولى بأن تسمى التِّرياقَ الأكبرَ أم لا؟
وأما المِسكُ الأذفَر: فهو عبارةٌ في عالَمِ الشهادة عن شيءٍ يَسْتَصْحِبُهُ الإنسان، فيثور منه رائحةٌ طيبة تَشهُره وتُظهره، حتى لو أراد خفاءَهُ لم يختف، لكن يستطيرُ وينتشر، فانظر إن كان في المُقْتَنَيَات العلمية ما يُنْشَرُ منه الاسمُ الطيب في العالم، ويشتهر صاحبه به اشتهاراً [حتى] لو أراد الاختفاء وإيثار الخمول، بل تَشْهُرُهُ وتُظهِرُهُ، فاسمُ المِسْكِ الأذفَر عليه أحقُّ وأصدَقُ أم لا؟ وأنت تعلم أن عِلمَ الفقه ومعرفةَ أحكام الشريعة يُطَيِّبُ الاسمَ وينشرُ الذِّكْرَ ويُعَظِّم الجاه وما يَنالُ القلبَ من روح طِيبِ الاسمِ وانتشارِ الجاهِ أعظمُ كثيراً مما يَنالُ المَشَامَّ من روح طِيبِ رائحةٍ من المسك.

(1/58)


وأما العود: فهو عبارة عند الخلق عن جسم في الأجسام لا يُنتَفَع به ولكن إذا أُلقِيَ على النار حتى احترقَ في نفسهِ تصاعدَ منه دُخَانٌ مُنْتَشِر، فينتهي إلى المَشَامِّ فيَعْظُم نَفعُهُ وجَدْوَاه، ويَطِيبُ مَوْرِدُهُ ومَلْقَاه، فإن كان في المنافقينَ وأعداءِ الله أَظْلالٌ كالخُشُبِ المُسنَّدَة لا منفعة لها، ولكنْ إذا نزل بها عقابُ الله ونَكَالُه من صاعقةٍ وخَسْفٍ وزَلْزَلَةٍ حتى يحترقَ ويتصاعدَ منه دخان، فينتهي إلى مَشَامِّ القلوب، فَيَعْظُم نَفعُهُ في الحَثِّ على طَلَبِ الفِردَوْسِ الأَعلى، وجِوَارِ الحقِّ سبحانه وتعالى، والصَّرْفِ عن الضَّلالة والغفلة واتِّباع الهوى، فاسمُ العود به أحقُّ وأصدقُ أم لا؟ فَاكْتَفِ من شرح هذه الرموز بهذا القدر، واستنبِطْ الباقي من نفسك، وحُلّ الرَّمْزَ فيه إن أطَقْتَ وكنتَ من أهله.
فقد أسْمَعْتُ لَوْ نادَيْتُ حياً ... ولكنْ لا حياةَ لمن أُنادي

(1/59)