جواهر القرآن الفصل العاشر
في فائدة هذه الرُّموز وبيان سبب جُحود المُلحدين بالأصول
الدينية
لعلك تقول: قد ظهر لي أن هذه الرموز صحيحةً صادقة، فهل فيها
فائدةٌ أخرى تُعرَفُ سِواها؟ فاعلم أن الفائدةَ كلَّها
وراءَها، فإن هذه أنموذَجٌ لِتَعْرِفَ بها تعريف طريق المعاني
الرُّوحَانية المَلَكوتيَّة بالألفاظ المألوفة الرسمية،
لينفتحَ لك بابُ الكشفِ في معاني القرآن، والغَوْصُ في بحارها،
فكثيراً ما رأينا من طوائف من المُتَكابسين تَشَوَّشَتْ عليهم
الظواهر، وانْقَدَحَت عندهم اعتراضاتٌ عليها، وتخايَلَ لهم ما
يناقضها، فبطلَ أصلُ اعتقادهم في الدين، وأَوْرَثَهُم ذلك
جحوداً باطناً في الحَشْرِ والنَّشْر، والجنَّةِ والنار،
والرجوعِ إلى الله تعالى بعد الموت، وأظهَروها في سرائرهم،
وانحلَّ عنهم لَجَامُ التَّقْوَى ورابطةُ الوَرَع،
واسْتَرْسَلوا في طَلَبِ الحُطام وأَكْلِ الحرام واتِّباعِ
الشهوات، وقَصَروا الهِمَمَ على طلبِ الجاهِ والمال، والحظوظِ
العاجلة،
(1/60)
ونظروا إلى أهل الوَرَع بعين الاستخفاف
والاسْتِجْهال، وإن شاهدوا الوَرَع ممن لا يقدرون على الإنكار
عليه لِغَزَارَةِ علمهِ وكمال عقله وثَقَابَةِ ذهنه، حملوه على
أَنَّ غرضَه التَّلْبِيسُ والتَّلبُّس واستمالةُ القلوب،
وصَرْفُ الوجوه إلى نفسه، فما زادهم مشاهدةُ الوَرعِ من أهله
إلا تمادياً وضَلالاً، مع أن مشاهدةَ وَرَعِ أهلِ الدين من
أعظَمِ المُؤَكِّدات لعقائد المؤمنين، وهذا كله لأنَّ نَظَرَ
عقلِهم مقصورٌ على صور الأشياء وقَوالبها الخَياليَّة، ولم
يمتدّ نَظَرُهم إلى أرواحها وحقائقها، ولم يدركوا المُوَازنةَ
بين عالَمِ الشهادةِ وعالَم المَلَكوت، فلمَّا لم يدركوا ذلك
وتناقضت عندهم ظواهرُ الأسئلة ضَلُّوا وأضلُّوا، فلا هُم
أدركوا شيئاً من عالَم الأرواح بالذَّوْقِ إدراكَ الخَواصّ،
ولا هُم آمنوا بالغَيْبِ إيمانَ العَوامِّ فأهلكَتْهم
كِيَاسَتُهم، والجهل أدنى إلى الخلاصِ من فَطانَةٍ بَتْراء،
وكيَاسَةٍ ناقصة. ولسنا نستبعد ذلك، فلقد تعثَّرنا في أذيال
هذه الضَّلالاتِ مدةً لِشُؤْمِ أَقْرانِ السُّوء وصُحبتهم، حتى
أبعدَنا الله عن هَفَواتِها، وَوَقانا من وَرْطاتِها، فلهُ
الحمدُ والمِنَّة والفضلُ على ما أرشَدَ وهَدَى، وأنعمَ
وأسْدَى، وعَصَمَ من وَرْطاتِ الرَّدَى، فليس ذلك مما يمكن أن
يُنَالَ بالجهد والمُنَى {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن
رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ
لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم} .
(1/61)
|