جواهر القرآن الفصل السابع عشر
في تخصيص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية الكُرسي
بأنها سيِّدةُ آي القرآن، والفاتحة بأنها الأفضل
لعلَّكَ تقول: لمَ خُصِّصَت آيةُ الكُرسي بأنها السيِّدة،
والفاتحة بأنها الأَفضل، أفيه سِرٌّ أم هو بحكم الاتفاق؟ كما
يسبق اللسان في الثَّناء على شخصٍ إلى لفظ، وفي الثناءِ على
مثله إلى لفظٍ آخر؟
فأقول: هَيْهَاتَ، فإن ذلك يليق بي وبك وبمن ينطِقُ عن
الهَوَى، لا بمن ينطِقُ عن وَحْي يُوحَى، فلا تَظُنَّنَّ أن
كلمةً واحدة تصدر عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في
أحواله المختلفة من الغضب والرضا إلا بالحقِّ والصدق؛ والسرُّ
في هذا التخصيص أن الجامعَ بين فنون الفَضْلِ وأنواعها الكثيرة
يسمى فاضلاً، فالذي يجمع أنواعاً أكثر يسمى أفضل، فإن الفضل هو
الزيادة، فالأفضل هو الأَزْيَد، وأما السُّؤْدَدُ فهو عبارة عن
رُسوخِ معنى الشرف الذي يقتضي الاسْتِتْبَاعَ ويأبى التبعيَّة،
وإذا راجعتَ المعاني التي ذكرناها في السُّورَتَين علمتَ أن
الفاتحة تتضمن التنبيهَ على معانٍ كثيرة، ومعانٍ مختلفة، فكانت
أفضل. وآيةُ الكُرسي تشتمل على المعرفة العُظمَى التي هي
المَتبوعة والمقصودة، التي يتبعها
(1/80)
سائر المعارف، فكان اسم السّيدة بها
ألْيَق. فَتَنَبَّه لهذا النَّمط من التصرف في قَوارعِ القرآن
وما يتلوه عليك، لِيَغْزُرَ عِلمُكَ وينفَتح فِكْرُك، فترى
العجائب والآيات، وتنشرح في جنة المعارف، وهي الجنة التي لا
نهاية لأطرافها، إذْ معرفةُ جلال الله وأفعاله لا نهاية لها،
فالجنة التي تعرفها خُلِقَت من أجسام، فهي وإن اتَّسعَتْ
أكنافُها فَمُتَنَاهِيَة، إذ ليس في الإمكان خَلْقُ جسمٍ بلا
نهاية فإنه مُحال. وإياك أن تستبدلَ الذي هو أدنى بالذي هو
خير، فتكونَ من جملة البُلَهِ وإن كنتَ من أهل الجنة قال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أكثرُ أهلِ الجنة البُلْه
عِلِّيُّون لذوي الألباب".
(1/81)
|