جواهر القرآن

الفصل الثامن عشر
في حال العَارفين ونِسْبَة لَذَّتهم إلى لذَّة الغافِلين
واعلم أنه لو خُلِقَ فيكَ شوقٌ إلى لقاء الله، وشهوةٌ إلى معرفة جلاله، أصدقَ وأقوى من شَهوتِكَ للأكل والنكاح، لكنتَ تُؤْثِرُ جنةَ المعارف ورياضَها وبساتينَها على الجنة التي فيها قضاءُ الشهواتِ المحسوسة.
واعلم أن هذه الشهوة خُلقت للعَارِفين ولم تُخْلَق لك، كما خُلِقَت لك شهوَةُ الجاهِ ولم تُخْلَق للصبيان، وإنما للصبيان شهوَةُ اللعب فقط. فأنتَ تتعجب من الصبيان في عُكوفِهِم على لذة اللعب وخِلْوِهِم عن لذَّة الرئاسة. والعارفُ يتعجب منك في عُكُوفِكَ على لذَّة الجاهِ والرئاسة، فإن الدنيا بحذافيرها عند العارِف لهوٌ ولعب.
ولمَّا خُلقت هذه الشهوة للعارفين كان التِذاذهُم بالمعرفة بقدر شهوتهم، ولا نسبة لتلك اللذة إلى لذة الشهوات الحِسِّيَّة، فإنها لذةٌ لا

(1/82)


يَعْتَريها الزوال، ولا يُغَيِّرُها المَلال. بل لا تزال تَتَضاعف وتَتَرادف، وتَزدادُ بزيادة المعرفة والأشواق فيها، بخلاف سائر الشهوات، إلا أن هذه الشهوة لا تُخلق في الإنسان إلا بعد البلوغ أعني البلوغ إلى حد الرجال. ومن لم تُخلَق فيه فهو إما صبي لم تَكْمُل فِطْرَتُهُ لقبول هذه الشهوات. أو عِنِّين أفسدت كُدوراتُ الدنيا وشهواتُها فِطْرَتُهُ الأصيلة. فالعارفون لمَّا رُزِقوا شهوة المعرفة، ولذَّة النظر إلى جلال الله، فهم في مُطالَعَتِهم جمالَ الحضرة الرُّبوبِيَّة في جنةٍ عرضُها السمواتُ والأرض، بل أكثر، وهي جنةٌ عالية، قُطوفُها دانِيَة، فإن فَواكِهَهَا صفةُ ذاتِهم، وليست مقطوعةً ولا ممنوعة، إذ لا مُضايقةَ للمعارف.

(1/83)