حجة القراءات

5 - سُورَة الْمَائِدَة
{وَلَا يجرمنكم شنآن قوم أَن صدوكم عَن الْمَسْجِد الْحَرَام أَن تَعْتَدوا}
قَرَأَ نَافِع فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل وَابْن عَامر وَأَبُو بكر / شنئان قوم / بِإِسْكَان النُّون مثل سرعَان ووشكان

(1/219)


وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {شنآن} بِفَتْح النُّون وَهُوَ الِاخْتِيَار لِأَن المصادر مِمَّا أَوله مَفْتُوح جَاءَ أَكْثَرهَا محركا مثل غلى غليانا وَضرب ضربانا والإسكان قَلِيل وَإِنَّمَا يَجِيء فِي المضموم والمكسور مثل شكران وكفران وحرمان قَالَ الْفراء الشنآن بالإسكان الِاسْم والشنآن الْمصدر
قَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو {أَن صدوكم} بِالْكَسْرِ وحجتهما أَن الْآيَة نزلت قبل فعلهم وصدهم قَالَ اليزيدي مَعْنَاهُ لَا يحملنكم بغض قوم أَن تَعْتَدوا إِن صدوكم يَقُول إِن صدوكم فَلَا يحملنكم بغضهم على أَن تَعْتَدوا
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {أَن صدوكم} أَي لِأَن صدوكم وحجتهم أَن الصد وَقع من الْكفَّار والمائدة فِي آخر مَا أنزل من الْقُرْآن وَقد صحت الْأَخْبَار عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة أَن نزُول هَذِه السُّورَة كَانَ بعد فتح مَكَّة لم يكن حِينَئِذٍ بِنَاحِيَة مَكَّة أحد من الْمُشْركين يخَاف أَن يصد الْمُؤمنِينَ عَن الْمَسْجِد الْحَرَام فَيُقَال لَا يحملنكم إِن صدكم الْمُشْركُونَ عَن الْمَسْجِد بغضكم إيَّاهُم أَن تَعْتَدوا عَلَيْهِم فَلَمَّا كَانَ كَذَلِك دلّ على أَن الْقَوْم إِنَّمَا نهوا عَن الاعتداء على الْمُشْركين لصد كَانَ قد سلف

(1/220)


{فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر وَالْكسَائِيّ وَحَفْص {وأرجلكم} بِالْفَتْح وحجتهم أَنَّهَا معطوفة على الْوُجُوه وَالْأَيْدِي فأوجبوا الْغسْل عَلَيْهِمَا وَعَن أبي عبد الرَّحْمَن عبد الله بن عمر قَالَ كنت أَقرَأ أَنا وَالْحسن وَالْحُسَيْن قَرِيبا من عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَعِنْده نَاس قد شغلوه فقرأنا {وأرجلكم} فَقَالَ رجل {وأرجلكم} بِالْكَسْرِ فَسمع ذَلِك عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لَيْسَ كَمَا قلت ثمَّ تَلا {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} هَذَا من الْمُقدم والمؤخر فِي الْكَلَام قلت وَفِي الْقُرْآن من هَذَا التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير كثير قَالَ الله {الْيَوْم أحل لكم الطَّيِّبَات وَطَعَام الَّذين أُوتُوا الْكتاب حل لكم} ثمَّ قَالَ {وَالْمُحصنَات من الْمُؤْمِنَات} وَعطف ب الْمُحْصنَات على الطَّيِّبَات وَقَالَ {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك لَكَانَ لزاما} ثمَّ قَالَ {وَأجل مُسَمّى} فعطف الْأَجَل على الْكَلِمَة وَبَينهمَا كَلَام فَكَذَلِك ذَلِك فِي قَوْله {وأرجلكم} عطف بهَا على الْوُجُوه وَالْأَيْدِي على مَا أَخْبَرتك بِهِ من التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير
وَأُخْرَى هِيَ صِحَة الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ أَنه تَوَضَّأ فَغسل رجلَيْهِ وَأَنه رأى رجلا يتَوَضَّأ وَهُوَ يغسل رجلَيْهِ فَقَالَ
بِهَذَا أمرت وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ
ويل لِلْأَعْقَابِ وبطون الْأَقْدَام

(1/221)


من النَّار وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ خللوا الْأَصَابِع بِالْمَاءِ لَا تلحقها النَّار
وَقَالَ عبد الْملك قلت لعطاء هَل علمت أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ مسح على الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ وَالله مَا أعلمهُ وَالْأَخْبَار كَثِيرَة فِي هَذَا الْمَعْنى وَقد ذَكرنَاهَا فِي تَفْسِير الْقُرْآن
وَأُخْرَى قَالَ الزّجاج الدَّلِيل على أَن الْغسْل هُوَ الْوَاجِب فِي الرجل وَأَن الْمسْح لَا يجوز تَحْدِيد قَوْله {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} كَمَا جَاءَ فِي تَحْدِيد الْيَد {إِلَى الْمرَافِق} وَلم يجِئ فِي شَيْء من الْمسْح تَحْدِيد قَالَ
{وامسحوا برؤوسكم} بِغَيْر تَحْدِيد فِي الْقُرْآن
قَالَ وَيجوز أَن يقْرَأ {وأرجلكم} على معنى واغسلوا لِأَن قَوْله {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} دلّ على ذَلِك كَا وَصفنَا وينسق بِالْغسْلِ على الْمسْح كَمَا قَالَ الشَّاعِر ... يَا لَيْت بعلك قد غَدا ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا ...

(1/222)


وَالْمعْنَى مُتَقَلِّدًا سَيْفا وحاملا رمحا
وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَأَبُو بكر {وأرجلكم} خفضا عطفا على الرؤوس وحجتهم فِي ذَلِك مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ الْوضُوء غسفتان ومسحتان وَقَالَ الشّعبِيّ نزل جِبْرَائِيل بِالْمَسْحِ أَلا ترى أَنه أهمل مَا كَانَ مسحا وَمسح مَا كَانَ غسلا فِي التَّيَمُّم
وَالصَّوَاب من القَوْل مَا عَلَيْهِ فُقَهَاء الْأَمْصَار أَن الْغسْل هُوَ الْوَاجِب نَحْو الرجلَيْن وَيجوز أَن يكون قَوْله {وأرجلكم} بالخفض حملت على الْعَامِل الْأَقْرَب للجوار وَهِي فِي الْمَعْنى للْأولِ كَمَا يُقَال هَذَا جُحر ضَب خرب فَيحمل على الْأَقْرَب وَهُوَ فِي الْمَعْنى للْأولِ
قَالَ الْفراء وَقد يعْطف بِالِاسْمِ على الِاسْم وَمَعْنَاهُ يخْتَلف كَمَا قَالَ عز وَجل {يطوف عَلَيْهِم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معِين} ثمَّ قَالَ {وحور عين} وَهن لَا يُطَاف بِهن على أَزوَاجهنَّ
/ وَجَعَلنَا قُلُوبهم قسية 13 /
قَرَأَ حَمْزَة / قُلُوبهم قسية / وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {قاسية} وحجتهم إِجْمَاعهم على قَوْله {فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله} فَلَمَّا أَجمعُوا على إِحْدَاهمَا وَاخْتلفُوا فِي الْأُخْرَى رد مَا اخْتلفُوا فِيهِ إِلَى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ

(1/223)


وهما لُغَتَانِ بمنزل عَالم وَعَلِيم
وَحجَّة من قَرَأَ / قسية / هِيَ أَن فعيلا أبلغ فِي الذَّم والمدح من فَاعل كَمَا أَن عليما أبلغ من عَالم وسميعا أبلغ من سامع وَهِي فعيلة من الْقَسْوَة
وَقَالَ آخَرُونَ بل معنى قسية غير معنى الْقَسْوَة وَإِن معنى القسية الَّتِي لَيست بخالصة الْإِيمَان أَي قد خالطها كفر فَهِيَ فَاسِدَة وَلِهَذَا قيل للدراهم قد خالطها غش من نُحَاس أَو غَيره قسية وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة القسية هِيَ الرَّديئَة مشبهة بِالدَّرَاهِمِ القسية
وَالْأَصْل فِي قاسية قاسوة لِأَنَّهُ من قسا يقسو فقلبوا الْوَاو يَاء لما قبلهَا من الكسرة وَالْأَصْل فِي قسية قسيوة فقلبوا الْوَاو يَاء وأدغموا الْيَاء فِي الْيَاء

{يَا ويلتى} 31
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ {يَا ويلتى} و {يَا حسرتى} و {يَا أسفى} ممالا وحجتهما أَن النِّيَّة فِيهَا إِضَافَة الويل وَالْحَسْرَة والأسف إِلَى نَفسه فَكَأَنَّهُ فِي الْمَعْنى يَا ويلتي وَيَا حسرتي فَلَمَّا جعل الْيَاء ألفا أمالاها ليعلما أَن أَصْلهَا كَانَ يَاء لِأَن الإمالة من الْيَاء
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِغَيْر إمالة وحجتهم أَنَّهَا ألف الندبة وَلَا أصل لَهَا فِي الإمالة

(1/224)


{جَاءَتْهُم رسلنَا}
قَرَأَ أَبُو عَمْرو {رسلنَا} و {رسلكُمْ} و {رسلهم} بِإِسْكَان السِّين إِذا كَانَ بعد اللَّام أَكثر من حرف وَكَذَلِكَ مذْهبه فِي {سبلنا} فَإِذا كَانَ بعد اللَّام حرف ضم السِّين مثل {رسله} وحجته أَنه استثقل حَرَكَة بعد ضمتين لطول الْكَلِمَة وَكَثْرَة الحركات فأسكن السِّين وَالْبَاء فَإِذا قصرت الْكَلِمَة لم يسكن السِّين
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {رسلنَا} بِضَم السن وحجتهم أَن بِنَاء فعول وفعيل على فعل بِضَم الْعين فِي كَلَام الْعَرَب وَلم تدع ضَرُورَة إِلَى إسكان الْحَرْف فتركوا الْكَلِمَة على حق بنيتها
{سماعون للكذب أكالون للسحت}
قَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَالْكسَائِيّ {للسحت} بِضَم الْحَاء وقرأه الْبَاقُونَ سَاكِنا وهما لُغَتَانِ مثل الْأذن وَالْأُذن والقدس والقدس والسحت هُوَ الْحَرَام سمي سحتا لِأَنَّهُ يسحت الْبركَة أَي يمحقها

{وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص}
قَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر {وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ} كلهَا بِالنّصب {والجروح} رفعا

(1/225)


وَقَرَأَ نَافِع وَعَاصِم وَحَمْزَة جَمِيع ذَلِك بِالنّصب وَقَرَأَ الْكسَائي كلهَا بِالرَّفْع
فَمن قَرَأَ {الْعين} أَرَادَ أَن الْعين بِالْعينِ فأضمر أَن وَهَذَا مَذْهَب الْأَخْفَش وَمذهب سِيبَوَيْهٍ نسق على قَوْله {أَن النَّفس بِالنَّفسِ}
وَحجَّة من رفع {والجروح} ذكرهَا اليزيدي عَن أبي عَمْرو فَقَالَ رفع على الِابْتِدَاء يَعْنِي والجروح من بعد ذَلِك قصاص

(1/226)


وَحجَّة أُخْرَى هِيَ إِنَّمَا اخْتَارُوا الِانْقِطَاع عَن الْكَلَام الأول والاستئناف ب الجروح لِأَن خبر الجروح يتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب وَخبر الِاسْم الأول مثل خبر الِاسْم الثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع وَالْخَامِس فَأشبه الْكَلَام بعضه بَعْضًا ثمَّ استأنفوا الجروح فَقَالُوا {والجروح قصاص} لِأَنَّهُ لم يكن خبر الجروح يشبه أَخْبَار مَا تقدمه فَعدل بِهِ إِلَى الِاسْتِئْنَاف
وَحجَّة الْكسَائي فِي ذَلِك صِحَة الْخَبَر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ أَنه قَرَأَ {وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف} كلهَا بِالرَّفْع قَالَ الزّجاج رَفعه على وَجْهَيْن على الْعَطف على مَوضِع {النَّفس بِالنَّفسِ} وَالْعَامِل فِيهَا الْمَعْنى وكتبنا عَلَيْهِم النَّفس أَي قُلْنَا لَهُم النَّفس وَيجوز أَن يكون {وَالْعين بِالْعينِ} على الِاسْتِئْنَاف وَعند الْفراء أَن الرّفْع أَجود الْوَجْهَيْنِ وَذَلِكَ لمجيء الِاسْم الثَّانِي بعد تَمام خبر الأول وَذَلِكَ مثل قَوْلك إِن عبد الله قَائِم وَزيد قَاعد وَقد أَجمعُوا على الرّفْع فِي قَوْله {إِن الأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} فَكَانَ إِلْحَاق مَا اخْتلفُوا فِيهِ إِلَى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ أولى
قَرَأَ نَافِع {وَالْأُذن بالأذن} سَاكِنة الذَّال فِي جَمِيع الْقُرْآن كَأَنَّهُ استثقل الضمتين فِي كلمة وَاحِدَة فأسكن وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ على أصل الْكَلِمَة

{وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ}
قَرَأَ حَمْزَة {وليحكم أهل الْإِنْجِيل} بِكَسْر اللَّام وَفتح الْمِيم جعل اللَّام لَام كي وَنصب الْفِعْل بهَا وَكَأَنَّهُ وَجه معنى ذَلِك إِلَى

(1/227)


{وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل فِيهِ هدى وَنور ومصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة} وكي يحكم أَهله بِمَا أنزل الله فِيهِ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {وليحكم} سَاكِنة اللَّام وَالْمِيم على الْأَمر فأسكنوا الْمِيم للجزم وأسكنوا اللَّام للتَّخْفِيف
وحجتهم فِي ذَلِك أَن الله عز وَجل أَمرهم بِالْعَمَلِ بِمَا فِي الْإِنْجِيل كَمَا أَمر نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ فِي الْآيَة الَّتِي بعْدهَا بِمَا أنزل الله إِلَيْهِ فِي الْكتاب بقوله {وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب ومهيمنا عَلَيْهِ فاحكم بَينهم بِمَا أنزل الله}

{أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ}
قَرَأَ ابْن عَامر / أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة تبغون / بِالتَّاءِ أَي قل لَهُم يَا مُحَمَّد / أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة تبغون / يَا كفرة
وَقَرَأَ

الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ أَي ايطلب هَؤُلَاءِ الْيَهُود حكم عَبدة الْأَوْثَان وحجتهم مَا تقدم وَهُوَ قَوْله قبلهَا {فَإِن توَلّوا فَاعْلَم أَنما يُرِيد الله أَن يصيبهم بِبَعْض ذنوبهم}

(1/228)


{وَيَقُول الَّذين آمنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم}
قَرَأَ ابو عَمْرو {وَيَقُول الَّذين آمنُوا} بِالنّصب رد على قَوْله {فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح} و {أَن يَقُول الَّذين آمنُوا} وَقَرَأَ أهل الْحجاز وَالشَّام / يَقُول / بِغَيْر الْوَاو وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مصاحفهم وحجتهم مَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد فِي تَفْسِيره {فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح} فتح مَكَّة {أَو أَمر من عِنْده فيصبحوا على مَا أَسرُّوا فِي أنفسهم نادمين} / يَقُول الَّذين آمنُوا / أَي حِينَئِذٍ / يَقُول الَّذين آمنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم / أَي لَيْسَ كَمَا قَالُوا
وَقَرَأَ أهل الْكُوفَة {وَيَقُول} بِالْوَاو وَالرَّفْع على الِانْقِطَاع من الْكَلَام الْمُتَقَدّم فابتدأ الْخَبَر عَن قَول الَّذين آمنُوا وَقد يجوز أَن تكون

(1/229)


مَرْدُودَة على قَوْله {فترى الَّذين فِي قُلُوبهم مرض يُسَارِعُونَ فيهم} وَيَقُول الَّذين آمنُوا أَي وَترى الَّذين آمنُوا يَقُولُونَ {أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه}

{من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه}
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر / من يرتدد مِنْكُم / بدالين وحجتهما إِجْمَاع الْجَمِيع فِي سُورَة الْبَقَرَة {وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت} بدالين وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {من يرْتَد} بدال مُشَدّدَة
اعْلَم أَن الْإِظْهَار لُغَة أهل الْحجاز وَهُوَ الأَصْل لِأَن التَّضْعِيف إِذا سكن الثَّانِي من المضاعفين ظهر التَّضْعِيف نَحْو قَوْله {إِن يمسسكم قرح} وَلَو قُرِئت / إِن يمسكم قرح / كَانَ صَوَابا والإدغام لُغَة غَيرهم وَالْأَصْل كَمَا قُلْنَا {يرتدد} فأدغمت الدَّال الأولى بِالثَّانِيَةِ وحركت الثَّانِيَة بِالْفَتْح لالتقاء الساكنين

{لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَالْكفَّار أَوْلِيَاء}
قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَالْكسَائِيّ {من قبلكُمْ وَالْكفَّار} بالخفض على النسق على {الَّذين أُوتُوا الْكتاب} الْمَعْنى من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَمن الْكفَّار وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنّصب على النسق على قَوْله

(1/230)


{لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا} وَلَا تَتَّخِذُوا الْكفَّار أَوْلِيَاء

{وَجعل مِنْهُم القردة والخنازير وَعبد الطاغوت}
قَرَأَ حَمْزَة {وَعبد} بِضَم الْبَاء {الطاغوت} جر يُقَال عبد وَعبد قَالَ الشَّاعِر ... ابْني لبينى إِن أمكُم ... أمة وَإِن أَبَاكُم عبد ...

قَالَ الْفراء الْبَاء تضمها الْعَرَب للْمُبَالَغَة فِي الْمَدْح والذم نَحْو رجل حذر ويقظ أَي مبالغ فِي الحذر فَتَأْوِيل عبد أَنه بلغ الْغَايَة فِي طَاعَة الشَّيْطَان وَكَذَا قَرَأَ مُجَاهِد ثمَّ فسره وَقَالَهُ وخدم الطاغوت قَالَ الزّجاج وَكَانَ اللَّفْظ لفظ وَاحِد يدل على الْجَمِيع كَمَا تَقول للْقَوْم مِنْكُم عبد الْعَصَا تُرِيدُ إِن فِيكُم عبيد الْعَصَا وَالنّصب فِي عبد من وَجْهَيْن أَحدهمَا على وَجعل مِنْهُم عبد الطاغوت وَالثَّانِي على الذَّم على أَعنِي عبد الطاغوت
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {وَعبد الطاغوت} وَلَهُم فِي ذَلِك حجتان
إِحْدَاهمَا النسق على قَوْله {من لَعنه الله} و {عبد الطاغوت} والطاغوت هُوَ الشَّيْطَان أَي أطاعه فِيمَا سَوَّلَ لَهُ وأغواه بِهِ وَالثَّانيَِة أَن ابْن مَسْعُود وأبيا قرأا / وعبدوا الطاغوت / حملا الْفِعْل على معنى

(1/231)


من لِأَن من وَاحِد فِي اللَّفْظ وَجمع فِي الْمَعْنى فقراءة الْعَامَّة على اللَّفْظ وقراءتهما على الْمَعْنى كَمَا قَالَ {وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك} على الْمَعْنى ثمَّ قَالَ {وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك} على اللَّفْظ

{وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته}
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر وَأَبُو بكر / فَمَا بلغت رسالاته / على الْجمع وحجتهم أَنهم جعلُوا لكل وَحي رِسَالَة ثمَّ جمعُوا فَقَالُوا / فَمَا بلغت رسالاته /
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {رسَالَته} وحجتهم قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
إِن الله جلّ وَعز أَرْسلنِي برسالة وَأَمرَنِي أَن أبلغهَا الْخَبَر ثمَّ تَلا الْآيَة

{وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة}

(1/232)


قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ {وَحَسبُوا أَلا تكون} بِالرَّفْع أَي أَنه لَا تكون فتْنَة كَمَا قَالَ فِي مَوضِع آخر {أَلا يقدرُونَ} أَي أَنهم لَا يقدرُونَ على شَيْء فَهِيَ مُخَفّفَة من أَن
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {أَلا تكون} نصبا ونصبه ب أَن وَلَا تفصل بَين الْعَامِل والمعمول فِيهِ كَقَوْلِك أحب أَن تذْهب وَأحب أَلا تذْهب وحجتهم قَوْله {وَمَا لنا أَلا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله} {وَمَا لكم أَلا تنفقوا فِي سَبِيل الله} كل هَذَا نصب ب أَن لَا وَلما أَجمعُوا على إِحْدَاهمَا وَاخْتلفُوا فِي الْأُخْرَى رد مَا اخْتلفُوا فِيهِ إِلَى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ
وَاعْلَم أَن أَن تدخل فِي الْكَلَام على أَرْبَعَة أضْرب
1 - أَن الناصبة للْفِعْل وَهِي الَّتِي ذَكرنَاهَا تَقول أُرِيد أَن تخرج
2 - وَالثَّانِي أَن الْخَفِيفَة عَن أَن الثَّقِيلَة كَقَوْل الْأَعْشَى ... فِي فتية كسيوف الْهِنْد قد علمُوا ... أَن هَالك كل من يحفى وينتعل ...

أَرَادَ أَنه هَالك
3 - والموضع الثَّالِث أَن تكون بِمَعْنى أَي كَقَوْلِه {أَن امشوا}

(1/233)


مَعْنَاهُ أَي امشوا
4 - وَالرَّابِع أَن يكون للتوكيد كَقَوْلِه {وَلما أَن جَاءَت}

{وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَأَبُو بكر {بِمَا عقدتم} بتَخْفِيف الْقَاف أَي أوجبتم
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {عقدتم} بِالتَّشْدِيدِ وحجتهم ذكرهَا أَبُو عَمْرو فَقَالَ عقدتم أَي وكدتم وتصديقها قَوْله {وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها} والتوكيد هُوَ ضد اللَّغْو فِي الْيَمين واللغو مَا لم يكن باعتقاد وَأُخْرَى وَهِي جمع الْأَيْمَان فكأنهم أسندوا الْفِعْل إِلَى كل حَالف عقد على نَفسه يَمِينا وَالتَّشْدِيد يُرَاد بِهِ كَثْرَة الْفِعْل وتردده من فاعليه أَجْمَعِينَ فَصَارَ التكرير لَا لوَاحِد فَحسن حِينَئِذٍ التَّشْدِيد
وَحجَّة التَّخْفِيف أَن الْكَفَّارَة تلْزم الحانث إِذا عقد يَمِينا بِحلف مرّة وَاحِدَة كَمَا يلْزم بِحلف مَرَّات كَثِيرَة إِذا كَانَ ذَلِك على الشَّيْء الْوَاحِد وَلِأَن بَاب فعلت يُرَاد بِهِ رددت الْفِعْل مرّة بعد مرّة وَإِذا شددت الْقَاف سبق إِلَى وهم السَّامع أَن الْكَفَّارَة لَا تجب على الحانث الْعَاقِد على نَفسه يَمِينا بِحلف مرّة وَاحِدَة حَتَّى يُكَرر الْحلف وَهَذَا خلاف حميع الْأمة فَإِذا خففت دفع الْإِشْكَال

(1/234)


وَقَرَأَ ابْن عَامر / بِمَا عاقدتم / بِالْألف أَي تحالفتم فعل من اثْنَيْنِ

{وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا فجزاء مثل مَا قتل من النعم يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم هَديا بَالغ الْكَعْبَة أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين}
قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ {فجزاء} منون {مثل} رفع وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {فجزاء مثل} مُضَافا فَمن رفعهما جَمِيعًا فرفعه على معنى فَعَلَيهِ جَزَاء مثل الَّذِي قتل فَيكون مثل من نعت الْجَزَاء قَالَ الزّجاج وَيجوز أَن يرْتَفع جَزَاء على الِابْتِدَاء يكون مثل {مَا قتل} خبر الِابْتِدَاء فَيكون الْمَعْنى فجزاء ذَلِك الْفِعْل مثل مَا قتل وَمن خفض أَرَادَ فَعَلَيهِ جَزَاء مثل ذَلِك الْمَقْتُول من النعم
وَقَالَ الْآخرُونَ إِذا نون فَكَأَنَّهُ قَالَ فَجَزَاؤُهُ عَلَيْهِ ثمَّ فسر فأبدل مثل من الْجَزَاء وَإِذا أضيف فَكَأَنَّهُ قَالَ فجزاء مثل الْمَقْتُول وَاجِب عَلَيْهِ أَي فداؤه
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل هَذِه الْآيَة فَذهب الشَّافِعِي أَن الرجل

(1/235)


إِذا اصاب صيدا وَهُوَ محرم فِي الْحرم يجب عَلَيْهِ مثل الْمَقْتُول من الصَّيْد من النعم من طَرِيق الْخلقَة لِأَن الْقيمَة فِيمَا لَهُ مثل ذَلِك أَن الرجل إِذا اصاب صيدا وَهُوَ محرم فِي الْحرم يحكم عَلَيْهِ فقيهان مسلمان وهما اللَّذَان ذكرهمَا الله جلّ وَعز {يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم} فَيَقُولَانِ لَهُ هَل أصبت صيدا قبل هَذَا فَإِن قَالَ نعم لم يحكما عَلَيْهِ وَقَالا الله ينْتَقم مِنْهُ وَإِن قَالَ لَا حكما عَلَيْهِ بِمثل مَا أصَاب إِن أصَاب حمَار وَحش فَعَلَيهِ بَدَنَة وَإِن أصَاب ظَبْيًا فَعَلَيهِ شَاة وَالَّذِي يدل على مذْهبه قَوْله {فجزاء مثل} الْمَعْنى فجزاء ذَلِك الْفِعْل مثل مَا قتل والمثل فِي ظَاهره يَقْتَضِي الْمُمَاثلَة من طَرِيق الصُّورَة لَا من طَرِيق الْقيمَة
وَدَلِيل آخر قد قُلْنَا إِن قَوْله {فجزاء} رفع بِالِابْتِدَاءِ و {مثل} خَبره أَو بدل مِنْهُ أَو نعت وَإِذا كَانَ بَدَلا مِنْهُ أَو مُبْتَدأ يكونَانِ شَيْئا وَاحِدًا لِأَن خبر الِابْتِدَاء هُوَ الأول إِذا قلت زيد منطلق فَالْخَبَر هُوَ نفس الأول وَكَذَلِكَ الْبَدَل هُوَ الْمُبدل مِنْهُ وَكَذَلِكَ النَّعْت هُوَ المنعوت
وَدَلِيل آخر أَنه قرنه بِالنعَم فَقَالَ {فجزاء مثل مَا قتل من النعم} فَدلَّ على أَن ذَلِك يعْتَبر فِيهِ الْخلقَة لَا الْقيمَة
وَمذهب أبي حنيفَة أَنه يقوم الصَّيْد الْمَقْتُول قِيمَته من الدَّرَاهِم

(1/236)


ثمَّ يَشْتَرِي الْقَاتِل بِقِيمَتِه فدَاء من النعم ثمَّ يهديه إِلَى الْكَعْبَة وَاسْتدلَّ على هَذَا بِقِرَاءَة من قَرَأَ {فجزاء مثل} مُضَافا أَي فَعَلَيهِ جَزَاء مثله اَوْ جَزَاء مثل الْمَقْتُول وَاجِب عَلَيْهِ وَوجه الدَّلِيل فِي هَذَا أَنَّك إِذا أضفته يجب أَن يكون الْمُضَاف غير الْمُضَاف إِلَيْهِ لِأَن الشَّيْء لَا يُضَاف إِلَى نَفسه قَالَ فَيجب أَن يكون الْمثل غير الْجَزَاء
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر {أَو كَفَّارَة} غير منون {طَعَام} خفض
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {كَفَّارَة} منون {طَعَام} رفع وحجتهم أَن الطَّعَام هُوَ الْكَفَّارَة فَلَا وَجه لإضافتها إِلَى نَفسهَا وَالشَّيْء لَا يُضَاف إِلَى نَفسه
وَحجَّة من أضَاف قَوْله {إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين} فأضاف الْحق إِلَى الْيَقِين وهما وَاحِد وَالشَّيْء يُضَاف إِلَى نَفسه وَقَالَ {ولدار الْآخِرَة} وَمذهب الْفراء إِنَّمَا جَازَ أَن تُضَاف الْكَفَّارَة إِلَى الطَّعَام لاخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ

{جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام قيَاما للنَّاس}
قَرَأَ ابْن عَامر / قيمًا للنَّاس / وَهُوَ مصدر قَامَ يقوم قيَاما وقيما وحجته قَول حسان بن ثَابت ... فنشهد أَنَّك عبد الملي ... ك أرْسلت نورا بدين قيم ...

وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {قيَاما للنَّاس} أَي صلاحا لدينهم وَأمنا وهما مصدران من قَامَ وَالْأَصْل فِيهِ قواما تَقول قاوم يُقَاوم مقاومة

(1/237)


وَتقول قَامَ يقوم قيَاما فَإِذا اعتل الْفِعْل اعتل الْمصدر وقاوم لَيْسَ بمعتل فَلذَلِك لم يقل قواما وَلَيْسَ لَك أَن تَقول قيَاما كَانَ فِي الأَصْل قواما فقلبت الْوَاو يَاء لانكسار مَا قبلهَا لِأَنَّهُ ينعكس عَلَيْك بِقَوْلِك صوان وخوان

{فآخران يقومان مقامهما من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان}
قَرَأَ حَمْزَة وَأَبُو بكر {من الَّذين اسْتحق} بِضَم التَّاء / الولين / على الْجَمِيع قَالَ الْفراء كَانَ ابْن عَبَّاس أَيْضا يقْرَأ {الْأَوَّلين} يَجعله نعتا ل الَّذين وحجته مَا قَالَه ابْن عَبَّاس قَالَ أَرَأَيْت إِن كَانَ الأوليان صغيرين كَيفَ يقومان مقامهما
قَرَأَ حَفْص {من الَّذين اسْتحق} بِفَتْح التَّاء {الأوليان} على التَّثْنِيَة و {الأوليان} رفع ب اسْتحق الْمَعْنى اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان رد الْأَيْمَان
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {من الَّذين اسْتحق} بِضَم التَّاء {عَلَيْهِم الأوليان} وتأويلها الأولى فَالْأولى وَالْأَقْرَب قَالَ الْفراء الأوليان أَرَادَ وليي

(1/238)


الْمَوْرُوث يقومان مقَام النصرانيين إِذا أتهما أَنَّهُمَا قد خَانا فيحلفان بعد حلف النصرانيي وَظهر على خيانتهما قَالَ وَمن قَرَأَ {الْأَوَّلين} فَهُوَ جمع الأول وَهُوَ على الْبَدَل من الَّذين اسْتحق
اخْتلف أهل الْعَرَبيَّة فِي السَّبَب الَّذِي من أَجله رفع {الأوليان} فَقَالَ الزّجاج رفعهما على الْبَدَل من الْألف فِي {يقومان} الْمَعْنى فَليقمْ الأوليان بِالْمَيتِ مقَام هذَيْن الخائنين فيقسمان بِاللَّه لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا وَقَالَ آخَرُونَ بدل من قَوْله {فآخران} فَهَذَا بدل الْمعرفَة من النكرَة وَقَالُوا يجوز أَن يكون الأوليان خبر الِابْتِدَاء الَّذِي هُوَ {فآخران} وَيجوز أَن يكون {الأوليان} مُبْتَدأ وآخران خَبرا مقدما التَّقْدِير فالأوليان آخرَانِ يقومان مقامهما

{فَقَالَ الَّذين كفرُوا مِنْهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ / إِن هَذَا إِلَّا سَاحر مُبين / بِالْألف وَكَذَلِكَ

(1/239)


فِي يُونُس وَهود والصف دخل مَعَهُمَا عَاصِم وَابْن كثير فِي يُونُس وحجتهم إِجْمَاع الْجَمِيع على قَوْله {فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب}
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} وحجتهم قَوْله {إِن هَذَا إِلَّا سحر يُؤثر} وَقَوله {سحر مُسْتَمر} وَأُخْرَى ذكرهَا اليزيدي عَن أبي عَمْرو فَقَالَ مَا كَانَ فِي الْقُرْآن مُبين فَهُوَ سحر بِغَيْر ألف وَمَا كَانَ عليم فَهُوَ سَاحر بِالْألف فَكَأَن أَبَا عَمْرو ذهب إِلَى أَنه إِذا وَصفه بِالْبَيَانِ دلّ على أَنه عَنى السحر الَّذِي يبين عَن نَفسه أَنه سحر لمن تَأمله وَإِذا نعت ب عليم لم يجز أَن يسند الْعلم إِلَى السحر فَجعله لفاعل السحر وَالسحر عِنْده أوعب معنى لِأَنَّهُ يدل على فَاعله والساحر قد يُوجد وَلَا يُوجد مَعَه السحر وَالسحر لَا يُوجد إِلَّا مَعَ سَاحر

{إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَل يَسْتَطِيع رَبك أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء}
قَرَأَ الْكسَائي / هَل تَسْتَطِيع / بِالتَّاءِ {رَبك} نصب أَي

(1/240)


هَل تقدر يَا عِيسَى أَن تسل رَبك لأَنهم كَانُوا مُؤمنين وَكَانَت عَائِشَة تَقول كَانَ الْقَوْم أعلم بِاللَّه من أَن يَقُولُوا {هَل يَسْتَطِيع رَبك} إِنَّمَا قَالُوا / هَل تَسْتَطِيع رَبك / وحجته قَوْله قبلهَا {وَإِذ أوحيت إِلَى الحواريين أَن آمنُوا بِي وبرسولي قَالُوا آمنا} وَالله تَعَالَى سماهم حواريين وَلم يكن الله ليسميهم بذلك وهم برسالة رَسُوله كفرة قَالَ أهل الْبَصْرَة الْمَعْنى هَل تَسْتَطِيع سُؤال رَبك فَحذف السُّؤَال والقى إعرابه على مَا بعده فنصبه كَمَا قَالَ {واسأل الْقرْيَة} أَي أهل الْقرْيَة
وقرا الْبَاقُونَ {هَل يَسْتَطِيع} بِالْيَاءِ {رَبك} أَي هَل يستجيب لَك رَبك إِن سَأَلته ذلكما كَمَا يَقُول الْقَائِل لآخر أتستطيع أَن تسْعَى مَعنا فِي كَذَا وَهُوَ يعلم أَنه على ذَلِك قَادر وَلَكِن يُرِيد السَّعْي مَعنا فِيهِ وَإِنَّمَا أَرَادوا بذلك أَن يَأْتِيهم بِآيَة يستدلون بهَا على صدقه وحجته قَول عِيسَى لَهُم {اتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين} استعظاما لما قَالُوهُ فَقَالُوا {نُرِيد أَن نَأْكُل مِنْهَا} الْآيَة

(1/241)


{قَالَ الله إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم}
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر وَعَاصِم {قَالَ الله إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم} بِالتَّشْدِيدِ من نزل ينزل
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {منزلهَا} بِالتَّخْفِيفِ وحجتهم قَوْله قبلهَا {رَبنَا أنزل علينا مائدة من السَّمَاء}

{قَالَ الله هَذَا يَوْم ينفع الصَّادِقين صدقهم} 119
قَرَأَ نَافِع {هَذَا يَوْم ينفع الصَّادِقين} الْمَعْنى قَالَ الله جلّ وَعز هَذِه الْأَشْيَاء وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ تقع فِي يَوْم ينفع الصَّادِقين أَي هَذَا الْجَزَاء يَقع يَوْم نفع الصَّادِقين
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {هَذَا يَوْم} بِالرَّفْع هَذَا رفع بِالِابْتِدَاءِ وَيَوْم خَبره أَي هَذَا الْيَوْم يَوْم مَنْفَعَة الصَّادِقين فَإِن سَأَلَ سَائل فَقَالَ لم أضفت الْيَوْم إِلَى الْفِعْل وَالْفِعْل لَا يدْخلهُ الْجَرّ وعلامة الْإِضَافَة سُقُوط التَّنْوِين من يَوْم فَالْجَوَاب عَنهُ أَن إِضَافَة أَسمَاء الزَّمَان إِلَى الْأَفْعَال فِي الْمَعْنى وَمَعْنَاهُ أَنَّك تضيف إِلَى المصادر التَّقْدِير هَذَا يَوْم نفع الصَّادِقين وَكَذَلِكَ قَوْله {يَوْم تبيض وُجُوه} أَي يَوْم ابيضاض الْوُجُوه وَيَوْم اسوداد الْوُجُوه وَإِنَّمَا أضفناه إِلَى المصادر