حجة القراءات 8 - سُورَة الْأَنْفَال
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ
بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ}
قَرَأَ نَافِع {مُردفِينَ} بِفَتْح الدَّال مفعول بهم أَي الله
أردفهم أَي بَعثهمْ على آثَار من تقدمهم قَالَ أَبُو عبيد
تَأْوِيله أَن الله تبَارك وَتَعَالَى أرْدف الْمُسلمين بهم
وَكَانَ مُجَاهِد يُفَسِّرهَا ممدين وَهُوَ تَحْقِيق هَذَا
الْمَعْنى
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {مُردفِينَ} بِكَسْر الدَّال أَي جاؤوا
بعدهمْ على آثَارهم أَي ردفوا أصَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَآله وَأَرْدَفَ بِمَعْنى ردف قَالَ الشَّاعِر ...
إِذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظَنَنْت بآل فَاطِمَة الظنونا
...
قَالَ أَبُو عبيد أَرَادَ بقوله أردفت ردفت أَي جَاءَت بعْدهَا
أَلا ترى أَن الجوزاء تطلع بعد طُلُوع الثريا وعَلى أَثَرهَا
وَقَالَ ابْن عَبَّاس مُردفِينَ أَي مُتَتَابعين وَقَالَ
آخَرُونَ مِنْهُم أَبُو عَمْرو مُردفِينَ أَي أرْدف بَعضهم
بَعْضًا فالإرداف أَن يحمل الرجل
(1/307)
صَاحبه خَلفه تَقول ردفت الرجل أَي ركبت
خَلفه وأردفته إِذا أركبته خَلْفي وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم
أَبُو بكر بن مُجَاهِد مُردفِينَ أَي متقدمين لمن وَرَاءَهُمْ
كَأَن من يَأْتِي بعدهمْ ردف لَهُم أَي أَتَوا فِي ظُهُورهمْ
فعلى هَذَا الْوَجْه لَا يكون أرْدف بِمَعْنى ردف لأَنهم
أردفوا خَلفهم {إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ وَينزل
عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ}
قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن كثير / إِذْ يغشاكم / بِالْألف
{النعاس} رفع فعل الْفِعْل النعاس لِأَنَّك تَقول غشيني النعاس
يَغْشَانِي وحجتهما فِي أَن الْفَاعِل هُوَ النعاس قَوْله
{أَمَنَة نعاسا يغشى طَائِفَة مِنْكُم} أَلا ترى أَن النعاس
هُوَ الَّذِي يغشى فَهُوَ الْفَاعِل والقصة وَاحِدَة فَلذَلِك
اختارا هَذَا الْوَجْه
وَقَرَأَ ابْن عَامر وَأهل الْكُوفَة {إِذْ يغشيكم} بِضَم
الْيَاء وتشد الشين {النعاس} نصب أَي الله يغشيكم النعاس
وحجتهم أَن الْفِعْل أَتَى عقيب ذَلِك مُسْندًا إِلَى الله
وَهُوَ قَوْله {وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم
بِهِ وَيذْهب عَنْكُم رجز الشَّيْطَان} فَكَانَ الأولى بِمَا
قبله أَن يكون خَبرا عَن الله أَنه هُوَ الْفَاعِل لَهُ لينتظم
الْكَلَام على سِيَاق وَاحِد وَحجَّة التَّشْدِيد قَوْله
{فغشاها مَا غشى}
(1/308)
وَقَرَأَ أهل الْمَدِينَة {إِذْ يغشيكم}
بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْغَيْن {النعاس} نصب أَي يغشيكم الله
النعاس وحجتهم قَوْله {فأغشيناهم فهم لَا يبصرون}
{وَلَكِن الله قَتلهمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى}
قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَابْن عَامر {وَلَكِن} خَفِيفَة
{الله} رفع وَكَذَلِكَ الَّذِي بعده
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {وَلَكِن} بِالتَّشْدِيدِ {الله} نصب
وَقد ذكرت الْحجَّة فِي سُورَة الْبَقَرَة
{ذَلِكُم وَأَن الله موهن كيد الْكَافرين}
قَرَأَ نَافِع وَابْن كثير وَأَبُو عَمْرو {موهن}
بِالتَّشْدِيدِ {كيد} نصب من وَهن يوهن مثل قتل يقتل وحجتهم
فِي ذَلِك أَن التَّشْدِيد إِنَّمَا وَقع لتكرر الْفِعْل
وَذَلِكَ مَا ذكره الله من تثبيت أَقْدَام الْمُؤمنِينَ بالغيث
وربطه على قُلُوبهم وتقليله إيَّاهُم فِي أَعينهم عِنْد
الْقِتَال فَذَلِك مِنْهُ شَيْء بعد شَيْء وَحَال بعد حَال فِي
وَقت بعد وَقت فَكَانَ الأولى بِالْفِعْلِ أَن يشدد لتردد
هَذِه الْأَفْعَال فَكَأَنَّهُ أوقع الوهن بكيد الْكَافرين
مرّة بعد مرّة فَوَجَبَ أَن يُقَال {موهن} لهَذِهِ الْعلَّة
وَقَرَأَ أهل الْكُوفَة وَأهل الشَّام {موهن} بِإِسْكَان
الْوَاو من
(1/309)
أوهن يوهن فَهُوَ موهن مثل أَيقَن يُوقن
فَهُوَ موقن وهما لُغَتَانِ مثل كرم وَأكْرم وَكلهمْ ينصبون
{كيد} وينونون {موهن} إِلَّا حفصا عَن عَاصِم فَإِنَّهُ
أَضَافَهُ فَقَرَأَ {موهن كيد} وَمثله {بَالغ أمره} فَمن نون
أَرَادَ الْحَال والاستقبال كَقَوْلِك الْأَمِير خَارج الْآن
أَو غَدا وَمن لم ينون جَازَ أَن يُرِيد الْمَاضِي والاستقبال
{وَلنْ تغني عَنْكُم فِئَتكُمْ شَيْئا وَلَو كثرت وَأَن الله
مَعَ الْمُؤمنِينَ}
قَرَأَ نَافِع وَابْن عَامر وفحص {وَلَو كثرت وَأَن الله مَعَ
الْمُؤمنِينَ} بِفَتْح الْألف أَي وَلِأَن الله مَعَ
الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا حذفت اللَّام جعلت أَن فِي مَحل النصب
كَأَنَّهُ قَالَ وَلنْ تغني عَنْكُم فتئتكم لكثرتها لِأَن الله
مَعَ الْمُؤمنِينَ وحجتهم فِي ذَلِك أَنَّهَا مَرْدُودَة على
قَوْله قبلهَا {وَأَن للْكَافِرِينَ} و {وَأَن الله موهن} و
{وَأَن الله مَعَ الْمُؤمنِينَ} فَيكون الْكَلَام وَاحِدًا
يتبع بعضه بَعْضًا
{إِذْ أَنْتُم بالعدوة الدُّنْيَا وهم بالعدوة القصوى} {ليهلك
من هلك عَن بَيِّنَة وَيحيى من حَيّ عَن بَيِّنَة}
قَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو {إِذْ أَنْتُم بالعدوة
الدُّنْيَا وهم بالعدوة القصوى}
(1/310)
بِكَسْر الْعين فيهمَا مثل إسوة وقدوة
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْع فيهمَا قَالَ الْكسَائي
وَأَبُو عبيد هما لُغَتَانِ مثل حذوة وجذوة
قَرَأَ نَافِع والبزي عَن ابْن كثير وَأَبُو بكر / ويحيا من
حييّ / بياءين وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {حَيّ} بِالْإِدْغَامِ
قَالَ الْخَلِيل يجوز الْإِدْغَام والإظهار إِذا كَانَت
الْحَرَكَة فِي الثَّانِي لَازِمَة فَأَما من أدغم فلاجتماع
الحرفين من جنس وَاحِد كَمَا تَقول عيي بِالْأَمر يعيا ثمَّ
تَقول عي بِالْأَمر وَأما من أظهر فَلِأَن الْحَرْف الثَّانِي
ينْتَقل من لفظ الْيَاء تَقول حييّ يحيا والمحيا وَالْمَمَات
فَلهَذَا جَازَ الْإِظْهَار
{وَلَو ترى إِذْ يتوفى الَّذين كفرُوا الْمَلَائِكَة}
قَرَأَ ابْن عَامر / وَلَو ترى إِذْ تتوفى الَّذين كفرُوا /
بِالتَّاءِ وحجته قَوْله / إِن الَّذين كفرُوا تَوَفَّاهُم
الْمَلَائِكَة / وَقَوله {تحمله الْمَلَائِكَة}
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {إِذْ يتوفى} بِالْيَاءِ الْأَمر
بَينهمَا قريب وَذَلِكَ أَنَّك إِذا قَرَأت بِالتَّاءِ أردْت
جمَاعَة الْمَلَائِكَة وَإِذا قَرَأت بِالْيَاءِ أردْت جمع
الْمَلَائِكَة كَمَا تَقول قَالَت الرِّجَال وَقَالَ الرِّجَال
قَالَ الله تَعَالَى / فناداه الْمَلَائِكَة / و {فنادته
الْمَلَائِكَة}
(1/311)
{وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا سبقوا
إِنَّهُم لَا يعجزون}
قَرَأَ ابْن عَامر وَحَمْزَة وَحَفْص {وَلَا يَحسبن الَّذين
كفرُوا} بِالْيَاءِ قَالَ الزّجاج وَجههَا ضَعِيف عِنْد أهل
الْعَرَبيَّة إِلَّا أَنَّهَا جَائِزَة على أَن يكون الْمَعْنى
وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا أَن سبقوا لِأَنَّهَا فِي حُرُوف
ابْن مَسْعُود / أَنهم سبقوا / ف أَن مُخَفّفَة من أَن وَأَن
تنوب عَن الِاسْم وَالْخَبَر قَالَ وفيهَا وَجه آخر يكون وَلَا
يَحسبن قبيل الْمُؤمنِينَ الَّذين كفرُوا سبقوا
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {وَلَا تحسبن الَّذين} بِالتَّاءِ ف
{الَّذين} الْمَفْعُول الأول و {سبقوا} الْمَفْعُول الثَّانِي
الْمَعْنى لَا تحسبن يَا مُحَمَّد من أفلت من هَذِه الْحَرْب
قد سبق إِلَى الْحَيَاة
قَرَأَ ابْن عَامر {إِنَّهُم لَا يعجزون} بِفَتْح الْألف
الْمَعْنى وَلَا تحسبن الَّذين كفرُوا سبقوا لأَنهم لَا يعجزون
الله قَالَ الزّجاج وَقد يجوز أَن يكون {لَا} لَغوا فَيكون
الْمَعْنى وَلَا تحسبن الَّذين كفرُوا أَنهم يعجزون وَتَكون
أَن بَدَلا من سبقوا
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {إِنَّهُم} بِالْكَسْرِ على الِابْتِدَاء
{وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا}
قَرَأَ أَبُو بكر عَن عَاصِم {وَإِن جنحوا للسلم} بِالْكَسْرِ
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْح وهما لُغَتَانِ وَهُوَ
الصُّلْح
{وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا} {الْآن خفف الله
عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة
يغلبوا مِائَتَيْنِ}
(1/312)
65 - و 66
قَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَابْن عَامر / وَإِن تكن مِنْكُم
مئة / / فَإِن فتكن مِنْكُم مئة صابرة / بِالتَّاءِ فيهمَا
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو الثَّانِيَة بِالتَّاءِ وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ فيهمَا فَمن أنث فلتأنيث المئة وَمن
ذكر فَلِأَن المئة وَقعت على عدد مُذَكّر وَأُخْرَى وَهِي أَنه
لما حجز بَين الِاسْم وَالْفِعْل بحاجز ذكر الْفِعْل لِأَن
الحاجز صَار كالعوض مِنْهُ وَحجَّة أبي عمر ذكرهَا اليزيدي
فَقَالَ لقَوْله {صابرة} ذهب اليزيدي إِلَى أَنه لما نعتها
بالتأنيث وَجب أَن يكون فعلهَا بِلَفْظ التَّأْنِيث لِأَن
الْمُذكر لَا ينعَت بِهِ الْمُؤَنَّث
قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة {وَعلم أَن فِيكُم ضعفا} بِفَتْح
الضَّاد وَفِي الرّوم مثله وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْع
وهما لُغَتَانِ مثل الْمكْث والمكث والفقر والفقر والقرح
والقرح 2
{مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} {يَا أَيهَا النَّبِي
قل لمن فِي أَيْدِيكُم من الأسرى} 67 و 70
قَرَأَ أَبُو عَمْرو / مَا كَانَ لنَبِيّ أَن تكون لَهُ أسرى /
بِالتَّاءِ أَرَادَ جمَاعَة أسرى فَجرى مجْرى قَوْله {كذبت قوم
نوح الْمُرْسلين}
ونظائر ذَلِك وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {أَن يكون} بِالْيَاءِ
أَرَادَ جمع أسرى
قَالَ أهل الْبَصْرَة لما فصل بَين الِاسْم وَالْفِعْل بفاصل
ذكر الْفِعْل لِأَن الْفَاصِل صَار كالعوض
(1/313)
قَرَأَ أَبُو عَمْرو يَا أَيهَا النَّبِي
قل لمن فِي أَيْدِيكُم من الْأُسَارَى بِالْألف قَالَ أَبُو
عَمْرو إِذا كَانَ عِنْد الْقِتَال فَأسر الْقَوْم عدوهم فهم
الأسرى فَإِذا ذهبت زحمة الْقِتَال فصاروا فِي أَيْديهم فهم
الْأُسَارَى وَقَالَ أَيْضا مَا كَانَ فِي الْأَيْدِي وَفِي
السجْن فَإِنَّهَا أُسَارَى وَمَا لم يكن فِي الْأَيْدِي وَلَا
فِي السجْن فَقل مَا شِئْت أسرى وأسارى
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {من الأسرى} بِغَيْر ألف وحجتهم أَن
الْعَرَب جمعت على فعلى من كَانَت بِهِ دمامة أَو مرض يمنعهُ
من النهوض فَقَالُوا فِي صريع صرعى وجريح جرحى وَلما كَانَ
الْأسر آفَة تدخل على الْإِنْسَان فتمنعه من النهوض أجري مجْرى
ذَوي العاهات فَقَالُوا أَسِير وَأسرى
{مَا لكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا}
قَرَأَ حَمْزَة {مَا لكم من ولايتهم} بِكَسْر الْوَاو وَهِي
مصدر وليت الشَّيْء ولَايَة ووال حسن الْولَايَة قَالَ الْفراء
{مَا لكم من ولايتهم} يُرِيد من ميراثهم وَكسر الْوَاو فِي
الْولَايَة أعجب إِلَيّ من فتحهَا لِأَنَّهَا إِنَّمَا يفتح
أَكثر ذَلِك إِذا كَانَت فِي معنى نصْرَة قَالَ فَكَانَ
الْكسَائي يفتحها وَيذْهب بهَا إِلَى النُّصْرَة وَلَا اراه
علم التَّفْسِير ويختارون فِي وليته ولَايَة الْكسر
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {من ولايتهم} بِفَتْح الْوَاو أَي من
نَصرهم وَالْعرب تَقول نَحن لكم على بني فلَان ولَايَة أَي
أنصار
(1/314)
|