دلائل الإعجاز ت شاكر باب اللفظ والنظم:
بيان في "إنما":
فصل: هذا بيان آخر في "إنما"
"إنما" تفيد إيجاب الفعل لشيء، ونفيه عن غيره:
395 - اعْلَمْ أنها تفيدُ في الكلام بَعْدَها إيجابَ الفعلِ
لشيءٍ، ونَفْيَه عن غيرِه، فإذا قلْتَ: "إنما جاءني زيدٌ"،
عُقِلَ منه أنكَ أرَدْتَ أن تنفي أن يكون الجاني غيرَه. فمعنى
الكلامِ معَها شبيهٌ بالمعنى في قولك: "جاءني زيدٌ لا عمرو"،
إلا أنَّ لَهَا مزيَّةً، وهي أنَّك تَعْقِلُ معها إيجابَ
الفعلِ لشيءٍ ونفْيَه عن غيرِه دفعةً واحدةً في حالٍ واحدةٍ.
وليس كذلك الأمرُ في: "جاءني زيد لا عمرو"، فإنَّك تَعْقلُهما
في حالين ومزيةً ثانية، وهي أنها تَجْعلُ الأمرَ ظاهراً في أن
الجاني "زيدٌ"، ولا يكونُ هذا الظهورُ إذا جعلتَ الكلامَ "بلا"
فقلتَ: "جاءني زيدٌ لا عمرُو".
تفسير أن "لا" العاطفة، تنفي عن الثاني ما وجب للأول:
396 - ثم اعلمْ أنَّ قولَنا في "لا" العاطفةِ: "إنها تنفي عن
الاثني ما وَجَب للأولِ"، ليس المرادُ به أنها تنفي عن الثاني
أنْ يكون قد شاركَ الأوَّلَ في الفعل، بل أنها تنفي أن يكونَ
الفعلُ الذي قلتَ إنه كانَ من الأول، قد كان مِن الثاني دونَ
الأولِ. ألاَ تَرى أنْ ليس المعنى في قولك: "جاءني زيدٌ لا
عمروٌ"، أنه لم يكُنْ مِن عمرو مجيءٌ إليك مثلُ ما كانَ من
"زيدٍ"، حتى كأنه عكسُ قولك: "جاءني زيدٌ وعمرو"، بل المعنى
أنَّ الجائي هو زيدٌ لا عمرو، فهو كلامٌ تقولُه مع مَن يَغْلط
في الفعل قد كانَ مِنْ هذا، فيتوَهَّم أنه كان من ذلك.
(1/335)
والنكتةُ أنه لا شُبْهةَ في أنْ ليس ههنا
جائيان، وأنه ليس إلا جاءٍ واحدٌ، وإنما الشبهةُ في أنَّ ذلك
الجائي زيدٌ أم عمرو، فأنتَ تُحقِّقُ على المخاطَب بقولِك:
"جاءني زيدٌ لا عمرو"، أنه "زيدٌ" وليس بعمروٍ.
ونكتةٌ أخرى: وهي أنك لا تقول: "جاءني زيدٌ لا عمرو"، حتى
يكونَ قد بلغَ المخاطَبَ أنه كان مجيءٌ إليك من جاءٍ، إلاَّ
أنه ظنَّ أنه كان مِنْ "عمروٍ"، فأعلَمْتَه أنه لم يكْن مِنْ
"عمروٍ" ولكنْ من "زيد".
معاني "لا" العاطفة، قائمة في الكلام "بإنما":
397 - وإذ عرفت هذه المعاني في الكلام "بلا" العاطفةِ، فاعلمْ
أنها بجُملتها قائمةٌ لك في الكلام "بإنما". فإذا قلتَ: "إنما
جاءَني زيدٌ"، لم يكن عرضك أنْ تنفيَ أن يكونَ قد جاءَ مع
"زيدٍ" غيرُه، ولكنْ أن تنفيَ أن يكونَ المجيءُ الذي قلتَ إنه
كانَ منه، كان من "عمرو". وكذلك تكونُ الشبهةُ مرتفعةً في أنْ
ليس ههنا جائيان، وأنْ ليسَ إلا جاءٍ واحدٌ، وإنما تكونُ
الشبهةُ في أنَّ ذلك الجائي "زيدٌ". وكذلك لا تقول: "إنما
جاءني زيدٌ"، حتى يكونَ قد بلَغَ المخاطَب أنْ قدْ جاءَك جاءٍ،
ولكنَّه ظنَّ أنه "عمرُو" مثلاً، فأعلَمْتَه أنه "زيدٌ".
فإنْ قلتَ: فإنه قد يصحُّ أنْ تقولَ: "إنَما جاءَني مِنْ بين
القومِ زيدٌ وحدَه، وإنما أتاني مِنْ جملتهم عمروٌ فقط"، فإنَّ
ذلك شيءٌ كالتَكلُّفِ، والكلامُ هُوَ الأولُ، ثم الاعتبارُ به
إذا أُطْلِقَ فَلَمْ يقيد "بوحده" وما في معناه. ومعلومٌ أنكَ
إذا قلتَ: "إنتما جاءني زيد"، ولم نرد على ذلك، أنه لا يسبق
إىل القلبِ مِن المعنى إلاَّ ما قدَّمْنا شرْحَه، مِنْ أنك
أردْتَ النصَّ على "زَيْدٍ" أنه الجائي، وان
(1/336)
|