دلائل الإعجاز ت هنداوي

فصل [من التوكيد]
واعلم أن ممّا أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده، أنّ هاهنا فروقا خفيّة تجهلها العامة وكثير من الخاصّة، ليس أنهم يجهلونها في موضع ويعرفونها في آخر، بل لا يدرون أنّها هي، ولا يعلمونها في جملة ولا تفصيل.
روي عن ابن الأنباريّ «1» أنه قال: ركب الكنديّ «2» المتفلسف إلى أبي العباس «3» وقال له: إنّي لأجد في كلام العرب حشوا! فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون: «عبد الله قائم»، ثم يقولون «إنّ عبد الله قائم»، ثم يقولون: «إنّ عبد الله لقائم»، فالألفاظ متكرّرة والمعنى واحد.
فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم: «عبد الله قائم»، إخبار عن قيامه وقولهم: «إنّ عبد الله قائم»، جواب عن سؤال سائل وقوله: «إنه عبد الله لقائم»، جواب عن إنكار منكر قيامه، فقد تكرّرت الألفاظ لتكرّر المعاني. قال فما أحار المتفلسف جوابا.
وإذا كان الكنديّ يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أو معترض، فما ظنّك بالعامّة، ومن هم في عداد العامّة، ممن لا يخطر شبه هذا بباله؟.
واعلم أنّ هاهنا دقائق لو أنّ الكنديّ استقرى وتصفّح وتتبع مواقع «إنّ»، ثم ألطف النّظر وأكثر التدبّر، لعلم علم ضرورة أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل. فأوّل ذلك
وأعجبه ما قدّمت لك ذكره في بيت بشّار: [من الخفيف]
بكّرا صاحبيّ قبل الهجير ... إنّ ذاك النّجاح في التّبكير «4»
وما أنشدته معه من قول بعض العرب: [من الرجز]
فغنّها وهي لك الفداء ... إنّ غناء الإبل الحداء «5»
__________
(1) ابن الأنباري: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن الأنباري أبو بكر أديب نحوي لغوي مفسر من كتبه (الكافي في النحو)، (غريب الحديث) توفي عام 328 هـ (شذرات الذهب 2/ 315)، ومعجم المؤلفين (11/ 143).
(2) الكندي: يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي أبو يوسف فيلسوف العرب والإسلام في عصره اشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى وغيرها، ألف وترجم كتبا كثيرة توفي 260 هـ (الأعلام).
(3) إلى أبي العباس والمراد به أبو العباس المبرد صاحب الكامل. (8/ 195).
(4) سبق ص (184)، هامش (1).
(5) سبق ص (184)، هامش (2).

(1/206)


وذلك أنه هل شيء أبين في الفائدة، وأدلّ على أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل، أنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها وتأتلف معه وتتّحد به، حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغا واحدا، وكأن أحدهما قد سبك في الآخر؟
هذه هي الصّورة، حتى إذا جئت إلى «إنّ» فأسقطتها، ورأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول، وتجافى معناه عن معناه، ورأيته لا يتّصل به ولا يكون منه بسبيل، حتى تجيء «بالفاء» فتقول: «بكّرا صاحبي قبل الهجير، فذاك النجاح في التبكير»، و «غنّها وهي لك الفداء، فغناء الإبل الحداء»، ثم لا ترى «الفاء» تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة، ولا تردّ عليك الذي كنت تجد «بإنّ» من المعنى.
وهذا الضرب كثير في التنزيل جدّا، من ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1]، وقوله عزّ اسمه: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17]، وقوله سبحان: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: 103]، ومن أبين ذلك قوله تعالى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هود: 37] [المؤمنون:
27]، وقد يتكرّر في الآية الواحدة كقوله عز اسمه: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف 53]، وهي على الجملة من الكثرة بحيث لا يدركها الإحصاء.
ومن خصائصها أنك ترى لضمير الأمر والشأن معها من الحسن واللّطف ما لا تراه إذا هي لم تدخل عليه، بل تراه لا يصلح حيث صلح إلا بها، وذلك في مثل قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 9] وقوله:
أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [التوبة: 63]، أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ [الأنعام: 54]، وقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون: 117]، ومن ذلك قوله: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج: 46]، وأجاز أبو الحسن «1» فيها وجها آخر، وهو أن يكون الضمير في «إنها» للأبصار، أضمرت قبل الذكر على شريطة التفسير. والحاجة في هذا الوجه أيضا إلى «إنّ» قائمة، كما كانت في الوجه الأوّل فإنه لا يقال: «هي لا تعمى الأبصار» كما لا يقال:
«هو من يتّق ويصبر فإن الله لا يضيع».
__________
(1) أبو الحسن: المراد به الأخفش الأوسط وهو سعيد بن مسعد.

(1/207)


فإن قلت: أو ليس قد جاء ضمير الأمر مبتدأ به معرّى من العوامل في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟.
قيل: هو وإن جاء هاهنا، فإنه لا يكاد يوجد مع الجملة من الشرط والجزاء، بل تراه لا يجيء إلا «بإنّ»، على أنّهم قد أجازوا في «قل هو الله أحد»، أن لا يكون الضمير للأمر.
ومن لطيف ما جاء في هذا الباب ونادره، ما تجده في آخر هذه الأبيات، أنشدها الجاحظ لبعض الحجازيّين: [من الطويل]
إذا طمع يوما عراني قريته ... كتائب يأس، كرّها وطرادها
أكد ثمادي، والمياه كثيرة ... أعالج منها حفرها واكتدادها
وأرضى بها من بحر آخر، إنّه ... هو الرّيّ أن ترضى النّفوس ثمادها «1»
المقصود قوله: «إنّه هو الرّيّ»، وذلك أن الهاء في «إنّه» تحتمل أمرين:
أحدهما: أن تكون ضمير الأمر، ويكون قوله: «هو» ضمير «أن ترضى»، وقد أضمره قبل الذكر على شريطة التفسير. الأصل: «إن الأمر، أن ترضى النفوس ثمادها، الريّ»، ثم
أضمر قبل الذكر كما أضمرت «الأبصار» في «فإنها لا تعمى الأبصار» على مذهب أبي الحسن، ثم أتى بالمضمر مصرّحا به في آخر الكلام، فعلم بذلك أن الضمير السابق له، وأنه المراد به.
والثاني: أن تكون الهاء في «إنه» ضمير «أن ترضى» قبل الذكر، ويكون «هو» فصلا، ويكون أصل الكلام: «إنّ أن ترضى النفوس ثمادها هو الرّيّ» ثم أضمر على شريطة التفسير.
وأيّ الأمرين كان، فإنه لا بدّ فيه من «إن»، ولا سبيل إلى إسقاطها، لأنك إن أسقطتها أفضى ذلك بك إلى شيء شنيع، وهو أن تقول: «وأرضى بها من بحر آخر هو هو الريّ أن ترضى النفوس ثمادها». هذا، وفي «إنّ» هذه شيء آخر يوجب الحاجة إليها، وهو أنها تتولى من ربط الجملة بما قبلها نحوا مما ذكرت لك في بيت بشار.
ألا ترى أنّك لو أسقطت «إنّ» والضميرين معا، واقتصرت على ذكر ما يبقى من
__________
(1) البيت الثاني في لسان العرب (كدد)، منسوب لثعلب ومعناه: أرضى بالقليل وأقنع به. ثماد:
جمع ثمد وهو الماء القليل، وكدّ الشيء يكدّه واكتدّه: نزعه بيده، يكون ذلك في الجامد والسائل.

(1/208)


الكلام، لم تقله إلا «بالفاء» كقولك: «وأرضى بها من بحر آخر، فالرّيّ أن ترضى النفوس ثمادها».
فلو أنّ الفيلسوف قد كان تتبع هذه المواضع، لما ظنّ الذي ظن. هذا، وإذا كان خلف الأحمر وهو القدوة، ومن يؤخذ عنه، ومن هو بحيث يقول الشعر فينحله الفحول الجاهليّين فيخفى ذلك له، ويجوز أن يشتبه ما نحن فيه عليه حتّى يقع له أن ينتقد على بشار، فلا غرو أن تدخل الشّبهة في ذلك على الكنديّ.
ومما تصنعه «إنّ» في الكلام، أنك تراها تهيّئ النكرة وتصلحها لأن يكون لها حكم المبتدأ، أعني أن تكون محدّثا عنها بحديث من بعدها. ومثال ذلك قوله:
[من البسيط المنخلع]
إنّ شواء ونشوة ... وخبب البازل الأمون «1»
قد ترى حسنها وصحة المعنى معها، ثم إنك إن جئت بها من غير: «إنّ» فقلت: «شواء ونشوة وخبب البازل الأمون» لم يكن كلاما.
فإن كانت النكرة موصوفة، وكانت لذلك تصلح أن يبتدأ بها، فإنك تراها مع «إن» أحسن، وترى المعنى حينئذ أولى بالصحة وأمكن، أفلا ترى إلى قوله: [من الخفيف]
إنّ دهرا يلفّ شملي بسعدى ... لزمان يهمّ بالإحسان «2»
ليس بخفيّ وإن كان يستقيم أن تقول: «دهر يلف شملي بسعدى دهر صالح» أن ليس الحالان على سواء، وكذلك ليس بخفيّ أنك لو عمدت إلى قوله: [من المديد المشطور]
إنّ أمرا فادحا ... عن جوابي شغلك «3»
فأسقطت منه «إنّ» لعدمت منه الحسن والطّلاوة والتمكّن الذي أنت واجده الآن، ووجدت ضعفا وفتورا.
__________
(1) الشعر لسلمى بن ربيعة التميمي. والبازل: يقال للبعير إذا استكمل السنة الثامنة وطعن في التاسعة وفطر نابه فهو حينئذ بازل وكذلك الأنثى بغير هاء، جمل بازل وناقة بازل، وهو أقصى أسنان للبعير، سمي بازلا من البزل، وهو الشق، وذلك أن نابه وإذا اطلع يقال له: بازل لشقه عن اللحم عن منبته شقا. وقال النابغة في السّنّ وسماها بازلا:
مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
اللسان (بزل). الأمون: الناقة الموثقة الخلق المأمونة العثار.
(2) البيت: لحسان بن ثابت (الديوان 1/ 517) «بسعدى»، ورد في الديوان «بجمل».
(3) الشعر لأم السليك بن السلكة ترش ولدها، وشعرها في شرح الحماسة للتبريزي (2/ 191، 192).

(1/209)


ومن تأثير «إنّ» في الجملة، أنها تغني إذا كانت فيها من الخبر، في بعض الكلام. ووضع صاحب الكتاب في ذلك بابا فقال: «هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة، لإضمارك ما يكون مستقرّا لها وموضعا لو أظهرته. وليس هذا المضمر بنفس المظهر، وذلك: «إنّ مالا» و «إنّ ولدا»، و «إنّ عددا»، أي: «إنّ لهم مالا» فالذي أضمرت هو «لهم» ويقول الرجل للرجل: «هل لكم أحد؟ إنّ الناس ألب عليكم؟»، فتقول: «إنّ زيدا وإنّ عمرا» أي: «لنا»، وقال الأعشى: [من المنسرح]
إنّ محلّا وإنّ مرتحلا ... وإنّ في السّفر إذ مضوا مهلا «1»
ويقول: «إنّ غيرها إبلا وشاء» كأنه قال: «إنّ لنا، أو: عندنا، غيرها»، قال:
وانتصب «الإبل» و «الشّاء» كانتصاب «الفارس» إذا قلت: «ما في الناس مثله فارسا»، وقال: ومثل ذلك قوله: [من الرجز] يا ليت أيّام الصّبا رواجعا «2» قال: فهذا كقولهم: «ألا ماء باردا»، كأنه قال: «ألا ماء لنا باردا» وكأنّه قال:
«يا ليت أيّام الصبا أقبلت رواجع».
فقد أراك في هذا كلّه أنّ الخبر محذوف، وقد ترى حسن الكلام وصحّته مع حذفه وترك النّطق به. ثم إنك إن عمدت إلى «إنّ» فأسقطتها، وجدت الذي كان حسن من حذف الخبر، لا يحسن أو لا يسوغ. فلو قلت: «مال»، و «عدد» و «محلّ» و «مرتحل»
__________
(1) البيت للأعشى في ديوانه (170)، والأعشى: هو ميمون بن قيس يمدح سلامة ذا قائش، والبيت في الإيضاح (89)، والإشارات والتنبيهات (63)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 103)، وخزانة الأدب (10/ 452، 459)، والخصائص (2/ 373)، والشعر والشعراء (75)، وأمالي ابن الحاجب (1/ 345).
(2) الشعر للعجاج في ملحقات ديوانه (405) ط، دار صادر، والعجاج هو: عبد الله بن رؤبة بن لبيد ابن صخر بن كثيف بن ربيعة بن سعد بن مالك بن تميم، وكنيته أبو الشعثاء، والشعثاء ابنته وكبرى أولاده، ولقب بالعجاج لقوله:
حتى يعجّ عنده من عجعجا والبيت في لسان العرب (ليت) بلا نسبة. والمعنى: إنما أراد: يا ليت أيام الصبا لنا رواجع، نصبه على الحال، وحكى النحويون أن بعض العرب يستعملها بمنزلة وجدت فيعديها إلى مفعولين، ويجريها مجرى الأفعال، فيقول: ليت زيدا شاخصا فيكون البيت على هذه اللغة. لسان العرب (ليت).

(1/210)


و «غيرها إبلا وشاء» لم يكن شيئا. وذلك أنّ «إنّ» كانت السبب في أن حسن حذف الذي حذف من الخبر، وأنها حاضنته، والمترجم عنه، والمتكفّل بشأنه.
واعلم أن الذي قلنا في «إن» من أنها تدخل على الجملة، من شأنها إذا هي أسقطت منها أن يحتاج فيها إلى «الفاء» لا يطّرد في كلّ شيء وكلّ موضع، بل يكون في موضع دون موضع، وفي حال دون حال، فإنك قد تراها قد دخلت على الجملة ليست هي مما يقتضي «الفاء»، وذلك فيما لا يحصى كقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وذاك أنّ قبله إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان: 50 - 52]. ومعلوم أنك لو قلت: «إنّ هذا ما كنتم به تمترون، فالمتقون في جنات وعيون»، لم يكن كلاما وكذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ، لأنك لو قلت: «لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء: 100 - 101] فالذين سبقت لهم منا الحسنى»، لم تجد لإدخالك «الفاء» فيه وجها وكذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الحج: 17]، «الذين آمنوا» اسم «إنّ»، وما بعده معطوف عليه، وقوله «إن الله يفصل بينهم يوم القيامة»، جملة في موضع الخبر، ودخول «الفاء» فيها محال، لأن الخبر لا يعطف على المبتدأ ومثله سواء: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30].
فإذا، إنما يكون الذي ذكرنا في الجملة من حديث اقتضاء «الفاء»، إذا كان مصدرها مصدر الكلام يصحّح به ما قبله، يحتجّ له، ويبيّن وجه الفائدة فيه. ألا ترى أن الغرض من قوله:
إنّ ذاك النّجاح في التبكير جلّه أن يبيّن المعنى في قوله لصاحبيه: «بكّرا»، وأن يحتجّ لنفسه في الأمر بالتبكير، ويبيّن وجه الفائدة فيه؟
وكذلك الحكم في الآي التي تلوناها فقوله: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، بيان للمعنى في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ، ولم أمروا بأن يتّقوا وكذلك قوله إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، بيان للمعنى في أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بالصلاة، أي بالدعاء لهم. وهذا سبيل كلّ ما أنت ترى فيه الجملة يحتاج فيها إلى «الفاء»، فاعرف ذلك.

(1/211)


فأما الذي ذكر عن أبي العباس «1»، من جعله لها جواب سائل إذا كانت وحدها، وجواب منكر إذا كان معها اللّام، فالذي يدلّ على أن لها أصلا في الجواب، أنّا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر إذا كانت جوابا للقسم، نحو: «والله إنّ زيدا منطلق»، وامتنعوا من أن يقولوا: «والله زيد منطلق».
ثمّ إنّا إذا استقرينا الكلام وجدنا الأمر بيّنا في الكثير من مواقعها، أنّه يقصد بها إلى الجواب كقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الكهف: 83 - 84]، وكقوله عز وجل في أول السورة:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) [الكهف: 13]، وكقوله تعالى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشعراء: 216]، وقوله تعالى:
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام: 56] [غافر: 66]، وقوله: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89]، وأشباه ذلك ممّا يعلم به أنه كلام أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا وناظروا فيه. وعلى ذلك قوله تعالى: فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 16]، وذاك أنه يعلم أن المعنى: فأتياه، فإذا قال لكما ما شأنكما؟ وما جاء بكما؟ وما تقولان؟
فقولا: إنّا رسول رب العالمين. وكذا قوله: وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 104]، هذا سبيله.
ومن البيّن في ذلك قوله تعالى في قصّة السّحرة: قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [الأعراف: 125]، وذلك لأنه عيان أنه جواب فرعون عن قوله: آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الأعراف: 123]، فهذا هو وجه القول في نصرة هذه الحكاية.
ثم إنّ الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه البناء، هو الذي دوّن في الكتب، من أنّها للتأكيد، وإذا كان قد ثبت ذلك، فإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظنّ في خلافه البتة، ولا يكون قد عقد في نفسه أن الذي تزعم أنّه كائن غير كائن، وأن الذي تزعم أنه لم يكن كائن- فأنت لا تحتاج هناك إلى «إنّ»، وإنما تحتاج إليها إذا كان له ظنّ في الخلاف، وعقد قلب على نفي ما تثبت أو إثبات ما تنفي. ولذلك تراها تزداد حسنا إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله في الظن، ولشيء قد جرت عادة الناس بخلافه، كقول أبي نواس: [من السريع]
__________
(1) المقصود به المبرد.

(1/212)


عليك باليأس من النّاس ... إنّ غنى نفسك في الياس «1»
فقد ترى حسن موقعها، وكيف قبول النفس لها، وليس ذلك إلّا لأن الغالب على الناس أنهم لا يحملون أنفسهم على اليأس، ولا يدعون الرّجاء والطّمع، ولا يعترف كل أحد ولا يسلّم أن الغنى في اليأس. فلما كان كذلك، كان الموضع موضع فقر إلى التأكيد، فلذلك كان من حسنها ما ترى.
- ومثله سواء قول محمد بن وهيب: [من الطويل]
أجارتنا إنّ التّعفّف بالياس ... وصبرا على استدرار دنيا بإبساس
حريّان أن لا يقذفا بمذلّة ... كريما، وأن لا يحوجاه إلى النّاس
أجارتنا إنّ القداح كواذب ... وأكثر أسباب النّجاح مع الياس «2»
هو: كما لا يخفى، كلام مع من لا يرى أن الأمر كما قال، بل ينكره ويعتقد خلافه. ومعلوم أنه لم يقله إلا والمرأة تحدوه وتبعثه على التعرّض للناس، وعلى الطّلب.
ومن طيف مواقعها أن يدّعى على الخاطب ظنّ لم يظنّه، ولكن يراد التهكم به، وأن يقال: «إن حالك والذي صنعت يقتضي أن تكون قد ظننت ذلك». ومثال ذلك قول الأوّل: [من السريع]
جاء شقيق عارضا رمحه، ... إنّ بني عمّك فيهم رماح «3»
يقول: إن مجيئه هكذا مدلّا بنفسه وبشجاعته قد وضع رمحه عرضا، دليل على إعجاب شديد، وعلى اعتقاد منه أنه لا يقوم له أحد، حتى كأن ليس مع أحد منّا رمح يدفعه به، وكأنّا كلّنا عزل.
وإذا كان كذلك، وجب إذا قيل إنها جواب سائل، أن يشترط فيه أن يكون
__________
(1) البيت في ديوانه (144) ط، دار العرب للبستاني، وهو في الباب الرابع (باب العتاب)، ورواية الديوان:
ألا ليت شعري هكذا أنت للناس ... فأقدع عنك القلب يا صاح بالياس
(2) الأبيات في الأغاني (19/ 82، 83)، لمحمد بن وهيب (ط) دار الكتب العلمية، بيروت. من قصيدة عددها (72) بيتا، استحسنها الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك، وأمر له باثنين وسبعين ألف درهم.
(3) البيت لحجل بن نضلة الباهلي، وهو شاهر جاهلي، وهو في الإيضاح (224)، والمفتاح (263)، والمصباح لبدر الدين بن مالك (6)، والبيت الذي يليه:
هل أحدث الدهر لنازلة ... أم هل رنت أم شقيق سلام.

(1/213)


للسائل ظنّ في المسئول عنه على خلاف ما أنت تجيبه به. فأمّا أن يجعل مجرّد الجواب أصلا فيه فلا، لأنه يؤدي إلى أن لا يستقيم لنا إذا قال الرجل: «كيف زيد؟» أن تقول: «صالح»، وإذا قال: «أين هو؟» أن تقول: «في الدار» - وأن لا يصح حتّى تقول: «إنه صالح»، «إنّه في الدار»، وذلك ما لا يقوله أحد.
وأمّا جعلها إذا جمع بينها وبين «اللام» نحو: «إنّ عبد الله لقائم» - للكلام مع المنكر، فجيّد، لأنه إذا كان الكلام مع المنكر، كانت الحاجة إلى التأكيد أشدّ.
وذلك أنك أحوج ما تكون إلى الزيادة في تثبيت خبرك، إذا كان هناك من يدفعه وينكر صحّته، إلّا أنه ينبغي أن يعلم أنه كما يكون للإنكار قد كان من السامع، فإنه يكون للإنكار يعلم أو يرى أنه يكون من السامعين. وجملة الأمر أنك لا تقول: «إنه لكذلك»، حتى تريد أن تضع كلامك وضع من يزع «1» فيه عن الإنكار.
واعلم أنها قد تدخل للدلالة على أن الظّن قد كان منك أيّها المتكلم في الذي كان أنّه لا يكون. وذلك قولك للشيء هو بمرأى من المخاطب ومسمع: «إنّه كان من الأمر ما ترى، وكان منّي إلى فلان إحسان ومعروف، ثمّ أنّه جعل جزائي ما رأيت»، فتجعلك كأنك تردّ على نفسك ظنّك الذي ظننت، وتبيّن الخطأ الذي توهمت.
وعلى ذلك، والله أعلم، قوله تعالى حكاية عن أمّ مريم رضي الله عنها: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36]، وكذلك قوله عز وجل حكاية عن نوح عليه السلام: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشعراء: 117]. وليس الذي يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق والأمور الخفيّة، بالشيء يدرك بالهوينا.
ونحن نقتصر الآن على ما ذكرنا، ونأخذ في القول عليها إذا اتّصلت بها «ما».