فنون الأفنان في عيون علوم القرآن باب نزول القرآن على
سبعة أحرف
أخبرنا ابن الحصين، قال: أنا ابن المذهب، قال: أخبرنا
أبو بكر بن مالك، قال: أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: ثنا
أبي، قال: نا عبد الأعلى، عن معمر عن الزهري، عن
(1/196)
عروة، عن المسور بن مَخْرَمة: أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه
قال: "سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان فقرأ فيها
حروفاً لم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فأردتُ
أن
أُساوره وأنا في الصلاة، فلما فرغ قلت: من أقرأكَ هذه القراءة،
قال:
رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، قلت: كذبت! فأخذت بيده أقوده
إلى رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فقلت: إنك أقرأتني سورة
الفرقان، وإني سمعت هذا يقرأ حروفاً لم تكن أقرأتنيها! فقال
رسول الله
صلى الله عليه وسلم: اقرأْ يا هشام، فقرأ كما كان قرأ، فقال
رسول الله
(1/197)
صلى الله عليه وسلم: هكذا أُنزلت، ثم قال:
اقرأ يا عمر، فقرأت.
فقال: هكذا أُنزلت، ثم قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم:
"إِن
القرآن أُنزل، على سبعة أحرف ".
هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم.
(1/198)
وقد ذكر أبو حاتم بن حبَّان، الحافظ أن
العلماء اختلفوا في معناه
على خمسة وثلاثين قولاً، فذكرها. وفيها ما لا يصلح الاعتماد
عليه في
توجيه الحديث.
وذكر غيره غيرها. وأنا أنتخب من جميع الأقوال
ما يصلح ذكره وأُبين الأصوب إن شاء اللَّه تعالى.
القول الأول:
أخبرنا عبد الله بن علي المقري، قال: أنبأ عبد الواحد بن
(1/200)
علوان، قال: أنا أحمد بن محمد النرسي، قال:
أنبأ عبد الباقي بن
قانع، قال: حدثنا محمد بن العباس المؤذن، قال: نا سعيد بن
سليمان، قال: ثنا الليث بن سعد، قال: حدثنا عُقيل، عن
(1/201)
الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن
رسول الله صلى
الفَه عليه وسلم، قال لابن مسعود: "إن الكتب كانت تنزل من باب
واحد
على حرف واحد، وإن هذا القرآن ينزل من سبعة أبواب على سبعة
أحرف: حلالٌ وحرامٌ، وأمرٌ وزجرٌ، وضرب أمثال، ومحكم ومتشابه.
فأحِل حلال الله وحرم حرامه، وافعلْ ما أمر اللَّه وانتهِ عما
نهى الله
عنه، واعتبرْ بأمثاله، واعملْ بمُحْكمه، وآمنْ بمتشابهه، وقلْ:
(كُلٌ
مِن عند ربنا وما يذّكّرُ إلا أولوا الألباب) .
(1/202)
ومعنى هذا الحديث أن الكتب كانت تنزل من
باب واحد، أي:
إنها إنما كانت تحتوي على المواعظ فحسب، ونزل القران مشتملاً
على الوجوه المذكورة.
القول الثاني:
إِن الحروف السبعة: حلال وحرام، وأمر ونهي، وخبر ما كان
وخبر ما هو كائن، وأمثال.
القول الثالث:
إِنها حلال وحرام، ووعد ووعيد، ومواعظ وأمثال، واحتجاج
(1/203)
القول الرابع:
إنها محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخصوص وعموم.
وقصص.
القول الخامس:
إنها مقدم ومؤخر، وأمثال. وفرائض وحدود، ومواعظ، ومتشابه.
القول السادس:
إنها لفظة خاص يراد بها الخاص، ولفظة عام يُراد بها العام.
ولفظة عام يراد بها الخاص، ولفظة خاص يراد بها العام، ولفظة
يُستغنى بتنزيلها عن تأويلها، ولفظة لا يعلم فقهها إلا
العلماء، ولفظة
لا يعلم معناها إلا الراسخون في العلم.
القول السابع:
إنها آية في إثبات الصانع، وآية في إثبات وحدانيته، وآية في
إثبات صفاته، وآية في إثبات رسله، وآية في إثبات كتبه، وآية في
إثبات
الِإسلام، وآية في إبطال الكفر، أعاذنا الله منه.
(1/204)
القول الثامن:
إنها الإِيمان باللَّه، والِإيمان بمحمد، والإِيمان بالقرآن،
والِإيمان
بالرسل، والِإيمان بالكتب، والِإيمان بالملائكة، والِإيمان
بالبعث.
(1/205)
القول التاسع:
إنها ما يدخل، في اللغة، مثل الهمزة والفتح والكسر
والإمالة والتفخيم والمد والقصر.
القول العاشر:
إنها الألفاظ المختلفة بمعنى واحد، مثل قولهم: هلم، تعالَ،
أقبل،
(1/206)
ههنا، إلي، عندي، اعطفْ علي.
القول الحادي عشر: المراد بسبعة أحرف سبعة أوجه،:
إن أحد الوجوه: الجمع والتوحيد، كقوله: (بشهادتهم)
و (بشهاداتهم) .
(1/207)
والثاني: التذكير والتأنيث، كقوله:
(لتحصنكم)
و (ليحصنكم) .
والثالث: الِإعراب، كقوله: (ذو العرش المجيدِ)
و ( ... المجيدُ) ، (وفي لوح محفوظٍ) و (. . محفوط) .
والرابع: التصر يف، كقوله: (يعكُفون) و (يعكِفون) .
الخامس: الأدوات، كقوله: (ولكنَ الشياطين كفروا)
(ولكنِ) بالتخفيف، ومثله: (ولكن البر) (ولكن الله رمى) .
(1/208)
والسادس: اختلاف اللغات في المد والقصر،
والهمز وتركه.
والإمالة والتفخيم، والِإدغام والِإظهار، وضم الميمات في
الجمع.
وكسرها، والهاءات في الكنايات وكسرها.
والسابع: تغيير اللفظ من الحاضر إلى الغائب، كقوله تعالى:
(نؤتيه) و (يُؤتيه) ، و (ندخله) و (يُدخله) .
القول الثاني عشر: المراد بسبعة أحرف سبعة أوجه:
أحدها: اختلاف الِإعراب في الكلمة بحركة لا يزيلها عن
صورتها في الكتاب كقوله: (هن أطهرُ لكم) برفع الراء وبفتحها.
ومثله (وهل يجازى إلّا الكفور) بضم ياء (يُجازى) وبإثبات نون.
والوجه الثاني: اختلاف في إعراب الكلمة على وجه يتغير به
حركاتها، ويختلف به معناها، ولا يزيلها في الكتاب عن صورتها،
كقوله
(1/209)
تعالى: (إذْ تَلَقَونه بأَلسنتكم) وقرىء
(تَلْقَونه) .
(وادّكر بعد أمة) ، وقرىء (بعد أَمَهٍ) .
والثالث: اختلاف في تغيير حروف الكلمة بما يغير معناها دون
صورتها وإعرابها، كقوله: كيف ننشرها) وقرىء (ننشزها) (بالزايْ)
.
وكذلك (حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم) وقرىء (فرغ) بالغين.
والرابع: اختلاف في صورة الكلمة، في الكتاب دون المعنى.
كقوله: (إنْ كانتْ إلا صيحةً واحدة) وقرىء (إلا زقية) .
والخامس: الاختلاف بتقديم الكلمة وتأخيرها، كقوله:
(وجاءت سكرة الموت بالحق) وقرئت (وجاءت سكرة الحق
بالموت) .
(1/210)
والسادس: اختلافُ يُغير صورة الكلمة
ومعناها، كقوله:
(وطلح منضود) وقرىء (وطلع) .
والسابع: الزيادة والنقصان كقوله: (وما علمت أيديهم) وقرىء
(وما عملته أيديهم) ، وقوله: (إن الله هو الغني الحميد) ،
وقرىء
(إن الله الغني الحميد) .
القول الثالث عشر: المراد بسبعة أحرف سبعة أوجه،:
إن أحد الوجوه: التأنيث والتذكير، كقوله: (ولا تقبل منها
شفاعة) (ولا يقبل) ، و (لا يحل لك النساء) و (لا تحل) .
والثاني: الجمع والتوحيد: كقوله: (وصدقت بكلمات ربها وكتبه)
(وكتابه)
(1/211)
(ووالذين هم لأماناتهم) و (لأمانتهم) .
و (شهاداتهم) و (شهادتهم) .
والثالث: الخفض والرفع كقوله: (في لوح محفوظٍ) .
و (محفوظٌ) ، (هل من خالق غيرِ اللَّه) و (غيرُ الله) .
والرابع: الأدوات والآلات، كالنون إذا شدّدتها، والألف إذا
كسرتها أو فتحتها ونصبتَ ما بعدها، كقوله: (ولكن البر) (ولكن
البر) (ولكن الله رمى) .
(1/212)
والخامس: الإِعراب والتصريف، كقوله:
(يعرِشون)
و (يعرشون) و (يعكفون) و (يعكِفون) .
والسادس: تغيير اللفظ والنقط، كقوله: (كيف ننشزُها) و (ننشرها)
بالزاي المعجمة والراء.
والسابع: ما يدخل في اللفظ مما تُجوزه اللغة، كالقصر والمد.
والتفخيم والِإمالة؛ والكسر والفتح، والهمز.
(1/213)
القول الرابع عشر: المراد بسبعة أحرف
سبع لغات من لغات العرب.
إن المراد بالحديث أُنزل القرآن على سبع لغات، وهذا هو القول
الصحيح، وما قبله لا يثبت عند السبك. وهذا اختيار ثعلب
وابن جرير.
(1/214)
إلا أن أقواماً قالوا: هي سبع لغات متفرقة
لجميع العرب في
القرآن، وكل حرف منها لقبيلة مشهورة.
(1/215)
وقوماً قالوا: أربع لغات لهوازن وثلاثة
لقريش، وقوماً قالوا: لغة
لقريش، ولغة لليمن، ولغة لتميم، ولغة لجرهم، ولغة لهوازن، ولغة
لقضاعة، ولغة لطي. وقوماً قالوا: إنما هي لغة الكعبين، كعب بن
عمرو
وكعب بن لؤي. ولهما سبع لغات.
(1/216)
ذكر هذا التفصيل أبو حاتم بن حبان الحافظ
وغيره.
والذي نراه أن التعيين من اللغات على شيء بعينه لا يصح
لنا سنده، ولا يثبت عند جهابذة النقل طريقه.
بل نقول:
نزل القرآن على سبع لغات فصيحة من لغات العرب
وقد كان بعض مشايخنا يقول: كله بلغة قريش، وهي تشتمل على
(1/217)
أصول من القبائل هم أَرباب الفصاحة، وما
يخرج عن لغة قريش في
الأصل لم يخرج عن لغتها في الاختيار.
وقد استدل أبو جعفر الطبري على أن المراد سبع لغات بأَنه لما
تمارى القَرَأَةُ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - صوَّب
الجميع.
ولو كانت تلاوتهم، تختلف في تحليل وتحريم لما صوَّب ذلك. فدل
على أن الاختلاف في اللغات كان.
ويدل عليه قول ابن مسعود: "إني قد سمعتُ القَرَأَةَ فوجدتُهم
متقاربين، فاقرؤوا كما عُلِّمتم، وإياكم
(1/218)
والتَنطع "
(1/219)
باب في كتابة المصحف
وهجائه
قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: كل ما في القرآن من
(1/220)
ذكر "ألا" فهو في المصحف حرف واحد إلا عشرة
أحرف:
. في الأعراف: (أنْ لا أقولَ على اللَّه إلا الحق) ، وفيها:
(أنْ
لا يقولوا على الله إلا الحق) . .وفي التوبة: (وأنْ لا ملْجَأ
من الله إلا إليه) .
وفي هود: (وأنْ لا إله إلا هو) ، وفيها: (أنْ لا تعبدوا إلا
الله) . . وفي الحج: (أَن لاتشرك بي شيئاً) . . وفي يس: (أنْ
لا تعبدوا الشيطان) . . وفي الدخان: (وأَنْ لا تَعْلُوْا على
الله) . . وفي الممتحنة: (أنْ لا يشركن بالله شيئاً) .
(1/222)
وفي نون: (أنْ لا يدخلنها اليوم عليكم
مسكين) .
هؤلاء العشرة الأحرف مقطوعة كتبت على الأصل، لأن الأصل فيه
"أنْ لا".
والمواضع التي كتبت فيها موصولة بُني الخط فيه على
الوصل، لأن الأصلَ فيه "أنْ لا"، فأُدغمت النون في اللام لقرب
مخرجها منها. وذلك أن من الفم أحد عشر مخرجاً، فالمخرج
الخامس منها اللام، والسادس للنون، فلما اندغمت النون في اللام
صارتا لاماً مشدَّدة. وبُني الخط على اللفظ. ولا ينبغي أن يقف
على
"أنْ " قُطعتْ في الخط أوْ وُصلت، لأنها ناصبة للذي بعدها.
والناصب والمنصوب بمنزلة حرف واحد.
(1/223)
|