مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور سورة براءة
وهي من المثين، والأنفال من المثاني، وهي ما دون المئة، وقد
بين ذلك
في أصل هذا الكتاب.
واسمها أيضاً: التوبة، والفاتحة، والبحوث، والمبعثرة، والمثيرة
والحافرة، والمخزية، والمهلكة، والمشردة، والمرشدة، والمنكلة
والمدمدمة.
وسورة البعوث، وسورة العذاب، والمقشقشة.
وهي مدنية إجماعاً.
قال الجعبري: وقيل: هي آخر المدني.
وقال أبو حيان: إلا آيتين من آخرها نزلتا بمكة، وهذا قول
الجمهور.
(2/151)
عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها
وآيها مائة وتسع وعشرون في المكي، وثلاثون في عدد الباقي.
اختلافها ثلاث آيات:
(أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، عدها البصري
وحده.
(إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً) وهو الأول، عدها الشامي
وحده.
(وعاد وثمود) ، عدها المدنيان والمكي، ولم يعدها الباقون.
وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع: خمسة عشر موضعاً:
(إلا الذين عاهدتم من المشركين) بعده: (ثم لم ينقصوكم) .
قال أبو عمرو الداني: على أن أهل البصرة قد جاء عنهم خلاف فيه.
وفي قوله: (برىء من المشركين) ، والصحيح عندهم ما قدمناه.
(وقاتلوا المشركين) ، (برحمة منه ورضوان) ، (وقَلَّبوا لك
الأمور)
(وفي الرقاب) ، (ويؤمن للمؤمنين) ، (الذين يلمزون المطوعين من
المؤمنين في الصدقات) ، (ويعذبهم الله عذاباً أليما) وهو
الثاني
(2/152)
(ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون) ، (ما
على المحسنين من سبيل) .
(من المهاجرين والأنصار) ، (وتفريقاً بين المؤمنين) ، (فيقتلون
ويقتلون) .
(أن يستغفروا للمشركين) ، (أنهم يفتنون) .
وعكسه موضع:
(ويشف صدور قوم مؤمنين) .
رويها خمسة أحرف: برنمل.
اللام: قليل. والباء: الغيوب.
مقصودها
ومقصودها: معاداة من أعرض عما دعت إليه السور الماضية، من
اتباع
الداعي إلى الله في توحيده، واتباع ما يرضيه، ومولاة من أقبل
عليه.
وأدل ما فيها على الإبلاع في هذا المقصد: قصة المخلفين، فإنهم
-
(2/153)
لاعترافهم بالتخلف عن الداعي بغير عذر في
غزوة تبوك المحتمل على وجه
بعيد منهم رضي الله عنهم للإعراض بالقلب - هجروا وأعرض عنهم
بكل
اعتبار، حتى بالكلام، حتى بالسلام، إلى أن تيب عليهم، فذلك
معنى
تسميتها بالتوبة، وهو يدل على البراءة. لأن البراءة منهم
بهجرانهم حتى في رد السلام، كان سبب التوبة، فهو من إطلاق
المسبب على السبب. وتسميتها ببراءة واضح أيضاً فيما ذكر من
مقصودها.
وكذا الفاضحة: لأن من افتضح كان أهلًا للبراءة منه.
والبحوث: لأنه لا يبحث إلا عن حال البغيض.
والمبعثرة، والنفرة، والمثيرة، والحافرة، والمخزية، والمهلكة
والمشردة.
والمدمدمة. لأنه لا يبعثر إلا حال العدو. وكذا ما بعده.
والمشردة: عظيمة المناسبة مع ذلك، لما أشارت إليه الأنفال في:
(فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) .
وكذا سورة البعوث سواء.
وسورة العذاب أيضاً: واضحة في مقصودها، وكذا المقشقشة: لأنهم
قالوا: إن معناه: المبرئة من النفاق، من تقشقشت قروحه: إذا
تقشرت
للبراء.
وتوجيهه: أن من عرف أن الله برىء منه ورسوله والمؤمنون لأمر،
فهو
جدير بأن يرجع عن ذلك الأمر.
وعندي: أنه مضاعف القش الذي معناه الجمع، لأنها جمعت أصناف
المنافقين، وعليه خرّج ما ورد في وصف أبي جهم بن حذيفة رضي
الله عنه
(2/154)
لمن أراد نكاحها: "أخاف عليك قشقاشته"، أي
تتبعه لمداق الأمور أخذا من
القش الذي هو تطلب المأكول من ههنا وههنا، أو عصاه التي هي
غاية
ذلك.
ومادة " قش "، ومقلوبها "شق"، ومضاعفها " قشقش، وشقشق": تدور
على الجمع وتلازمه الفرقة، فإنه لا يجمع إلا ما كان مفرقاً،
ولا يفرق إلا ما
كان مجتمعا.
وقد برهنت على تطبيق ذلك على الجزئيات المذكورة في كتب اللغة،
في
كتاب "نظم الدرر" الذي هذا الكتاب فرع منه.
(2/155)
فضائلها
وأما فضائلها: فروى أبو عبيد في الفضائل، وأبو عمرو الداني في
كتاب
العدد وهذا لفظه، عن حذيفة رضي الله عنه قال: أنكم تسمعون هذه
السورة سورة التوبة، وإنها سورة العذاب، والله ما تركت أحداً
إلا نالت
منه.
أهل المدينة يسمونها، التوبة، وأهل مكة: الفاضحة.
ورواه الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - ولفظه:
قال: التي تسمون التوبة، هي سورة العذاب، وما تقرأون منها مما
كنا نقرأ
إلا ربعها.
وتقدم في أواخر الفضائل العامة سر وضعها مع الأنفال.
وروى الطبراني - أيضاً - في الكبير عن سمرة بن جندب رضي الله
عنه
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال زمن الفتح: أن هذا
عام الحج الأكبر، قال: اجتمع حج المسلمين وحج المشركين في
ثلاثة أيام متتابعات واجتمع النصارى واليهود في ثلاثة أيام
متتابعات، فاجتمع حج المسلمين والمشركين، والنصارى
(2/156)
واليهود، العام في ستة أيام متتابعات، ولم
يجتمع منذ خلقت السماوات
والأرض كذلك قبل العام. ولا يجتمع بعد العام حتى تقوم الساعة.
قال الهيثمي: رجاله موثقون، ولكن متنه منكر.
وله فيه عن أبي راشد قال: رأيت المقداد فارس رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ورضى عنه - جالساً على تابوت من توابيت
الصيارفة بحمص، قد فضل عليها من عظمه، يريد الغزو، فقلت له:
لقد أعذر الله إليك.
قال: أتت علينا سورة البعوث: (انفروا خفافاً وثقالا) .
قال الهيثمي: وفيه بقية بن الوليد وفيه ضعيف، وقد وثق، وبقية
رجاله
ثقات.
وروى الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن إبراهيم بن عامر
الأصبهاني بسند - قال الهيثمي: فيه نهشل بن سعيد وهو متروك -
عن
علي، يعني ابن أبي طالب رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: لا يحفظ منافق سور: براءة، وهود، ويس،
والدخان، وعم يتساءلون.
وروى أبو عبيد، وأبو عمرو الداني، عن سعيد بن جبير قال: قلت
لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة. قال: تلك الفاضحة، ما
يزال
(2/157)
ينزل: ومنهم، ومنهم، حتى خشينا أن لا تدع
أحداً.
زاد أبو عبيد: قال: فقلت: فسورة الأنفال. قال: نزلت في بدر.
قال: فقلت: فسورة الحشر. قال: نزلت في بني النضير.
وروى أبو عبيد عن أبي عطية قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب
رضي الله عنه: أن تعلموا سورة التوبة، وعلموا نساءكم سور
النور.
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت
المسجد يوم الجمعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فجلست
قريباً من أبي بن كعب رضي الله عنه، فقرأ النبي - صلى الله
عليه وسلم - سورة براءة. فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة.
قال: فتجهمني ولم يكلمني، ثم مكثت ساعة ثم سألته فتجهمني ولم
يكلمني، ثم مكثت ساعة، ثم سألته فتجهمني ولم يكلمني فلما صلى
النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلت لأبي: سألتك فتجهمتني ولم
تكلمني؟ قال أبي رضي الله عنه: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت.
فذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا نبي
الله كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة، فسألته: متى نزلت هذه
السورة؟.
فتجهمني ولم يكلمني، ثم قال: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق أبي.
(2/158)
وقال ابن رجب: إن عبد الله بن الِإمام
أحمد، وسعيد بن منصور.
خرجا عن أبي رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قرأ براءة يوم الجمعة.
وروى ابن ماجة: أن هذه الواقعة في سورة تبارك.
ويجمع بأنه قرأ آيات من كل منهما.
وروى عبد الرزاق في جامعه - في وجوب الخطبة - عن أبي سلمة بن
عبد الرحمن قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - على
المنبر يوم الجمعة إذ قرأ آية، فسمعها أبو ذر رضي الله عنه،
فقال لأبي بن كعب رضي الله عنه: متى أنزلت هذه الأية؟.
فأنصت عنه أبيّ رضى الله عنه ثلاثا، كل ذلك ينصت عنه، حتى إذا
نزل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبي لأبي ذر رضي الله
عنهما: ليس من جمعتك إلا ما قد مضى منها، فسأل أبو ذر رضي الله
عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فقال: صدق أبي.
(2/159)
وروى عن الحسن: أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قرأ آية يوم الجمعة فقال ابن مسعود رضي الله عنه لأبي
بن كعب رضي الله عنه: أهكذا نقرؤها؟.
فصمت عنه أبي رضي الله عنه، وكانوا في الجمعة، فلما فرغ النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال أبي لابن مسعود - رضي الله عنهما
-: لم يُجمِّع اليوم، فأتى النبيً - صلى الله عليه وسلم -
فسأله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق أبي.
وروى عبد بن حميد في مسنده عن جابر رضي الله عنه قال: قال سعد
ابن أبي وقاص رضي الله عنه لرجل في يوم الجمعة: لا جمعة لك،
فذكر
الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
فقال: يا رسول الله، إن سعداً قال لي: لا جمعة لك.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لمَ يا سعد؟.
قال: إنه تكلم وأنت تخطب، قال: صدق سعد.
ولأبي عبيد، عن أبي عبد الرحمن الحبليِّ أنه سمع عقبة بن عامر
رضي الله عنه يقول: وكان عقبة أحسن الناس صوتاً بالقرآن. قال
عمر
رضي الله عنه: يا عقبة أعرض علي سورة، قال: فعرض عليه سورة
"براءة
من الله ورسوله".
ولابن السني عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: من قال في كل يوم حين يصبح، وحين يمسي:
(حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) سبع مرات،
كفاه الله ما همه - وفي نسخه: ما أهمه - (من أمر الدنيا
والآخرة.
(2/160)
ورواه أبو داود موقوفاً وقال: كفاه الله ما
أهمه صادقاً كان، أو كاذباً
قال المنذري، وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي
والاجتهاد، فسبيله سبيل المرفوع.
(2/161)
|