مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور سورة الصافات
وتسمى: الزينة.
مكية كلها إجماعاً. قاله ابن الجوزي.
عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها
وآيها مائة وثمانون وآية في البصرى، وأبي جعفر من المدني،
وآيتان في
عدد الباقين.
اختلافها آيتان:
(وما كانوا يعبدون) . لم يعدها البصرى وحده.
(وإن كان ليقولون) وهو الثاني، لم يعدها أبو جعفر، وعدها
الباقون. وشيبة من المدنيين.
لقوله تعالى فيها: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) .
(2/408)
وفيها مما يشبه الفواصل. وليس معدوداً
بإجماع، ستة مواضع:
(الملأ الأعلى) ، (أم من خلقنا) ، (ماذا ترى) .
(ما تؤمر) . (وعلى إسحاق) . (وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) .
وعكسه ثلاثة:
(وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) . (أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) .
(كيف تحكمون) .
ورويها سبعة أحرف: فقد منبر.
مقصودها
ومقصودها: الاستدلال على آخر يس من التنزه عن النقائص.
اللازم منه رد العباد للفصل بينهم بالعدل، اللازم منه
الوحدانية مطلقاً في
الإِلهية وغيرها، وذلك هو المعنى الذي أشار إليه تسميتها
بالصافات.
لأن الصف يلزم منه الوحدة في الحشر. باجتماع التفرق، وفي
المعنى باتحاد
الكلمة.
مع أن المراد منه هنا: الاتحاد في التنزيه
(2/409)
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
(2/410)
فضائلها
وأما فضائلها: فتقدم في الأعراف حديث في فضل عشر آيات من
أولها.
وروى صاحب الفردوس عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قاله: من قرأ يس والصافات ليلة الجمعة، ثم
سأل الله تعالى، أعطاه سؤله.
وفي الترغيب بصيغة "روى" عند الطبراني، عن عبد الله بن أرقم.
عن أبيه رضي الله عنه قال: من قال دبر كل صلاة: سبحان ربك ربِّ
العزة
عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين "،
فقال اكتال
بالجريب الأوفى من الأجر.
والجريب - بفتح الجيم، وآخره موحدة -: مكيال ضخم، هو بمقدار
أردبين، وذلك أربعة أخماس وسق، والوسق: ستون صاعاً، والصاع:
أربعة
أمداد، والمد: رطل وثلث، وهو ملء كفى الإِنسان المعتدل إذا
ملأهما ومد
يده وبه سمي مُدًّا.
(2/411)
قال صاحب القاموس: وقد جربت ذلك فوجدته
صحيحاً.
ولابن السني في اليوم والليلة، وعبد بن حميد في المسند،
والبيهقي في
الدعوات، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من صلاته لا أدري قبل أن يسلم أو
بعده، يقول:
ولفظ البيهقي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير
مرة، ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف.
ولفظ عبد: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول دبر
الصلاة، لا أدري قبل التسليم، أو بعد التسليم.
وفي روايته: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من
صلاة قال: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا
يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) .
وروى عبد الرزاق في تفسيره وأبو نعيم في الحلية، والبغوي في
تفسيره
عن علي رضي الله عنه قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من
الأجر
يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه، أو حين يقوم: (سُبْحَانَ
رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ
عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (182) .
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسند صحيح إلى الشَعْبِى مرسلاً
بهذا
اللفظ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن
يكتال بالمكيال الأوفى من
(2/412)
الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه، أو حين
يريد أن يقوم: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا
يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) .
(2/413)
سورة ص
وتسمى: سورة داود.
مكية. قال الجعبري: لذكر الآلهة. وقيل: مدنية، انتهى.
فلا يغتر بقول أبي حيان: مكية بلا خلاف.
وكذا قال ابن الجوزي: مكية بإجماعهم.
عدد آياتها وفواصلها
وآيها - قال الِإمام أبو عمرو الداني -: ثمانون وخمس، آيات في
البصرى.
وهو عدد أيوب ابن المتوكل. وست في عدد المدنيين والمكي
والشامي،
(2/414)
وعاصم الجحدري وثمان في الكوفي.
اختلافها ثلاث آيات:
(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) عدها الكوفي وحده.
(كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) ، لم يعدها البصري، وعدها
الباقون.
(وَالْحَقَّ أَقُولُ) . عدها الكوفي وعاصم الجحدري من البصري.
ولم يعدها الباقون.
ولا أيوب بن المتوكل من البصري.
وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع، أربعة مواضع:
(من ذكرى) ، (قوم نوح وعاد) ، (وقوم لوط)
(لداود سليمان) .
ورويها عشرة أحرف: قطرب، صد، من، ولج.
مقصودها
ومقصودها: بيان ما ذكر في آخر الصافات، من أن جند الله هم
الغالبون، وإن رُئي أنهم ضعفاء، وإن تأخر نصرهم غلبة، أخرها
لهم سلامة
(2/415)
للفريقين، لأنه سبحانه واحد لكونه محيطاً
بصفات الكمال.
ومن الحكمة البالغة: جعلهم - أولا - ضعفاء، لأن نصرهم حينذاك
أدل على القدرة فإنهم لو كانوا أقوياء، لأسند النصر إلى قوتهم،
لا إلى قدرة
ربهم سبحانه.
وعلى ذلك دلت تسميتها بـ "ص"، لأن مخرجه من طرف اللسان وبين
أصول الثتيتين السفليين وله من الصفات: الهمس، والرخاوة،
والِإطباق.
والاستعلاء والصفير. ولأن ما له من الصفات العالية أكثر من
ضدها وأفخم، وأعلى وأضخم. ولذلك ذكر من فيها من الأنبياء الذين
لم يكن لهم على
أيديهم هلاك، بل ابتلوا وعوفوا، وسلمهم الله من أعدائهم من
الجن
والإِنس.
وإلى هذا المقصد الِإشارة بما روى عن ابن عباس - رضي الله
عنهما -
وغيره من أن معناه: الله صادق فيما وعد، أو صَادَ محمد قلوب
الخلق
واستمالها.
وتسمى سورة داود عليه السلام، كما قاله ابن الجوزي.
ولا شك أن حاله - صلى الله عليه وسلم - أدل أحوال منِ فيها من
الأنبياء على هذا المقصد لما كان فيه من الضعف أو لا، والملك
آخراَ، مع ما في ذلك من الإِشارة إلى جعل نبينا - صلى الله
عليه وسلم - خليفة الله في عباده، وأنه وأتباعه يملكون جميع
الأرض، بطولها والعرض، إلى أن يكون ذلك على يد أعظم هذه الأمة
عيسى ابن مريم،
(2/416)
الذي هو من نسل داود عليهما السلام.
فضائلها
وأما فضائلها: فروى البخاري، وأبو داود، والترمذي، عن ابن عباس
رضي الله عنهما أن مجاهداً قال له: أأسجد في "ص"؟.
فقرأ: (ومن ذريته داود وسليمان) - حتى أتى -: (فبهداهم اقتده)
.
فقال: نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ممن أمر أن يقتدي بهم.
(2/417)
وفي رواية عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله
عنهما: ليس من عزائم
السجود، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها.
وفي رواية للنسائي: أنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم -
سجد في "ص"، وقال: سجدها داود عليه السلام توبة، ونسجدها
شكراً.
ولأبي داود عن أبي سعيد رضي اللَه عنه قال: قرأ رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - سورة "ص" وهو على المنبر، فلما بلغ
السجدة نزل فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها،
فلما بلغ السجدة، تيسر الناس للسجود، فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تيسرتم
للسجود، فنزل فسجد، وسجدوا.
ومعنى "تَيَسرْتُمْ ": من اليسر، ضد العسر، تهيأتم.
وهو معنى قوله في رواية أخرى: "تشَزَنْتُم " بمثناة فوقانية،
ثم شين
معجمة، ثم زاي ثم نون.
(2/418)
ورواه الدارمي في الصلاة ولفظه: قال: خطبنا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقرأ "ص"، فلما مر
بالسجدة نزل فسجد، وسجدنا معه، وقرأها مرة أخرى، فلما بلغ
السجدة تيسرنا للسجود، فلما رآنا قال: إنما هي توبة نبي، ولكني
أراكم قد استعددتم للسجود فنزل وسجد وسجدنا.
وللترمذي واللفظ له - وقال: غريب - من حديث ابن عباس رضي الله
عنهما - قال النووي في شرح المهذب: قال الحاكم: هو حديث صحيح -
قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا
رسول الله رأيتني وأنا نائم، كأني أصلي خلف شجرة فسجدت، فسجدت
الشجرة لسجودي.
وفي رواية ابن حباد: فرأيت كأني قرأت سجدة فسجدت فسجدت
الشجرة كأنها سجدت بسجودي، فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها
أجراً، وحُطَّ عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها
مني كما تقبلتها من عبدك داود.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قرأ سجدة ثم سجد. فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول
الشجرة.
ورواه أبو يعلى والطبراني عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: رأيت
فيما يرى النائم كأني تحت شجرة، وكأن الشجرة تقرأ "ص"، فلما
أتت على
السجدة سجدت، فقالت في سجودها: اللهم اغفر لي بها، اللهم حط
بها
عني وزراً، وأحدث لي بها شكراً وتقبلها مني كما تقبلتها من
عبدك داود.
فغدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال:
أسجدت يا أبا سعيد؟ قلت: لا
(2/419)
قال: فأنت أحق بالسجود من الشجرة ثم قرأ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة "ص"، ثم أتى على
السجدة، وقال في سجوده، ما قالت الشجرة في سجودها.
قال المنذري: وفي إسناده يمان بن نصر لا أعرفه.
وروى الِإمام أحمد - قال المنذري: ورواته رواة الصحيح - عن أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه رأى رؤيا أنه يكتب "ص"، فلما
بلِغ
إلى سجدتها، رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجداَ.
قال: فقصصتها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يزل يسجد
بها.
وروى النسائي في السنن، والبيهقي في الدعوات عن عائشة رضي الله
عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تعارَّ
من الليل قال: لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات
والأرض وما بينهما العزيز الغفار.
وفي كتاب "الاستغناء بالقرآن" لابن رجب عن ابن أبي الدنيا: أنه
روى
عن مقاتل بن حيان قال: صليت خلف عمر بن عبد العزيز
فقرأ: (وقفوهم إنهم مسئولون) ، فجعل يكررها لا يستطيع أن
يجاوزها، يعني من البكاء.
(2/420)
سورة الزمر
وتسمى: الغرف.
مكية. قال ابن الجوزي: رواه العوفي، وابن أبي طلحة، عن ابن
عباس رضي الله عنهما -
وبه قال الحسن ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وجابر بن زيد.
وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إلا آية نزلت
بالمدينة:
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية. وإلا ثلاثاً في
وحشي قاتل حمزة - رضي الله عنه -
(2/421)
عنهما: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الآية، إلى آخر الآيات
الثلاث إلى -: (وأنتم لا تشعرون) .
وقال مقاتل: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
حَسَنَةٌ) مدنية. وكذا: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) .
ذكر ذلك ابن الجوزي وغيره.
عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها
وآيها خمس وسبعون فيالكوفي، وثلاث في الشامي - واثنتان في عدد
الباقين.
اختلافها سبع آيات:
(فيه يختلفون) ، لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون.
(مخلصاً له الدين) الثاني، عدها الكوفي والشامي، ولم يعدها
الباقون.
والأول لا خلاف فيه، أنه رأس آية.
(له ديني) عدها الكوفي، لم يعدها الباقون.
(فبشر عباد) لم يعدها المدني الأول والمكي، وعدها الباقون.
(من تحتها الأنهار) عدها المدني الأول والمكي، ولم يعدها
الباقون.
(2/422)
(من هادٍ) الثاني. و (فسوف تعلمون) . عدها
الكوفي، ولم يعدها الباقون.
وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، ستة مواضع:
(الدين الخالص) (ما يشاء) بعده (بما كنتم تعملون) ، بعده: إنه
عليم، (كلمة العذاب) (متشاكسون) ، (وجيء بالنبيين) .
ورويها ستة أحرف: من لبدر.
مقصودها
ومقصودها: الدلالة على أنه سبحانه صادق الوعد، وأنه غالب لكل
شيء، فلا يعجل، لأنه لا يفوته شيء ويضع الأشياء في أوفق
محالها.
وعلى ذلك دلت تسميتها بالزمر، للإِشارة بها إلى أنه سبحانه
أنزل كلا
من المحشورين داره المعدة له، بعد الإِعذار في الإِنذار،
والحكم بينهم بما
استحقه أعمالهم عدلا منه سبحانه يا أهل النار، وفضلًا على
المتقين الأبرار.
وعلى مثل ذلك دلت تسميتها بالغرف، ولا سيما مع ملاحظة ختم
الآية
بقوله تعالى: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ
الْمِيعَادَ) .
(2/423)
فضائلها
وأما فضائلها: فتقدم في سورة الِإسراء حديث:
أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ بني إسرائيل
والزمر.
(2/424)
وروى الطبراني في الكبير - قال الهيثمي:
بأسانيد، رجال الأول رجال
الصحيح غير تمام بن بهدلة، وهو ثقة وفيه ضعف - عن أبي الضحى
قال اجتمع مسروق وشتير ابن شكل في المسجد، فتقوص إليهما حلق
المسجد فقال مسروق: ما أرى هؤلاء جلسوا إلينا إلا ليسمعوا منا
خيراً، فإما أن تحدث عن عبد الله وأصدقك، وإما أن أحدث عن عبد
الله وتصدقُني.
فقال: حدث يا أبا عائشة فقال مسروق: أسمعت عبد الله بن مسعود
رضي
الله عنه يقول: إنَ أجمع آية في القرآن: حلال وحرام، أمر ونهي:
(إن الله
يأمر بالعدل والإحسان) إلى آخر الآية؟
قال: نعم.
قال: وأنا قد سمعته.
قال: فهل سمعت عبد الله بن مسعود يقول: إن أكبر آية في كتاب
الله تفويضا: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث
لايحتسب) ؟. قال: نعم. قال: وأن قد سمعته.
قال: فهل سمعت عبد الله بن مسعود يقول: إن أشد آية في القرآن
فرحاً: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) إلى آخر
الآية؟
قال: نعم. قال: وأنا قد سمعته.
وفي رواية: أن شتيرا هو الذي حدث وقال فيه:
حدثنا عبد الله بن مسعود: إن أعظم آية في كتاب الله:
(2/425)
(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ) .
قال مسروق: صدقت.
والباقي بنحوه.
ورواه أبو عبيد في كتاب الفضائل ففال: حدثنا عمر بن عبد
الرحمن.
عن منصور بن المعتمر عن الشعبي قال: قال: التقى مسروق بن
الأجدع
وشتير بن شكل، فقال شتير لمسروق: إما أن تحدث عن عبد الله رضي
الله
عنه وأصدقك وإما أن أحدثك وتصدقني، فقال مسروق: حدث وأصدقك
قال شتير: سمعت عبد الله يقول: ما خلق الله من سماء ولا أرض،
ولا جنة
ولا نار أعظم من آية في سورة البقرة (اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
ثم قرأها حتى أتمها، فقال مسروق: صدقت.
قال: وسمعت عبد الله رضي الله عنه يقول: ما في القرآن آية أجمع
لخير
ولا لشر، من آية في سورة النحل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) .
قال: صدقت.
قال: وسمعت عبد الله رضي الله عنه يقول: ما في القرآن أعظم
فرحاً
من آية في سورة الغرف: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) .
قال: صدقت.
(2/426)
قال: وسمعت عبد الله يقول: ما في القرآن
أكثر وأكبر تفويضاً من آية
في سورة النساء القصري: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ
اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) .
قال: صدقت.
قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن
محمد بن المنكدر وصفوان بن سليم قالا: التقى ابن عباس وعبد
الله بن عمرو، رضي الله عنهم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما:
أي آية في كتاب الله أرجى؟ فقال عبد الله بن عمرو رضي الله
عنهما: قول الله تبارك وتعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ) .
فقال ابن عباس: لكن قول الله تبارك وتعالى: (وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي) .
قال ابن عباس: فرضي منه بقوله: بلى.
قال: فهذا لما يعترض في الصدر فيما يوسوس به الشيطان.
وروى أبو الشيخ والبيهقي، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله
عنه قال: كنا جلوساً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت
الشجرة، فهاجت ريح، فوقع ما كان فيها من ورق نخر وبقي ما كان
من ورق أخضر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(2/427)
ما مثل هذه الشجرة؟. فقال القوم: الله
ورسوله أعلم، فقال: مثل المؤمن
إذا اقشعر من خشية الله وقعت عنه ذنوبه، وبقيت حسناته.
وروى الطبراني في الكلبي - قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه
أبين
بن سفيان، ضعفه الذهبي - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وحشي بن حرب قاتل حمزة،
رضي الله عنهما يدعوه إلى الإِسلام، فأرسل إليه: يا محمد كيف
تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زنا، يلق
أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً. وأنا
قد فعلت ذلك كله، فهل تجد لي من رخصة؟.
فأنزل الله تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
(70) .
فقال وحشي: هذا شرط شديد، لعلي لا أقدر عليه فهل لي غير ذلك؟.
فأنزل الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
فقال وحشي: أراني بعد ذلك في شبهة، فلا أدري أيغفر لي، أم لا،
فهل غير هذا؟ فأنزل الله عز وجل:
(2/428)
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) .
فقال وحشي: هذا، فجاء فأسلم، فقال المسلمون: هذا له
خاصة، أم المسلمين عامة؟.
فقال: بل للمسلمين عامة.
قال البغوي: وروى ابن عمر رضي الله عنهما، أن هذه الآيات نزلت
في عياش أبي ربيعة والوليد بن الوليد، ونفر من المسلمين كانوا
قد
(2/429)
أسلموا ثم فُتِنُوا، وكنا نقول: لا يقبل
الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً.
فأنزل الله هذه الآيات، فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه
بيده، ثم
بعثها إليهم، فأسلموا وهاجروا. فأخبرهم بالذي أبكاهما.
وقال ابن رجب: وروى الجوزجاني، وابن أبي الدنيا، والطبراني، عن
عباد المنقري. قال: قرأت على محمد بن المنكدر آخر الزمر، فبكى
الشيخ
بكاء غير متباك.
ثم قال: حدثني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قرأ رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - آخر الزمر وهو على المنبر، فتحرك
المنبر من تحته مرتين.
ورواه العقيلي فقال: آخر سورة الرحمن.
قال ابن رجب: والرواية الأولى أصح.
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان إذا قام من الليل افتتح صلاته فقال: اللهم رب جبريل
وميكائيل وإسرافيل، (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، اهدني لما
اختلفت فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي إلى
(2/430)
صراط مستقيم.
وفي كتاب "الاستغناء بالقرآن" لابن رجب: أن أبا نعيم روى عن
يحيى
بن الفضل الأنيسي قال: سمعت بعض من يذكر عن محمد بن
المنكدر، أنه بينما هو ذات ليلة قائم يصلي، إذا اشتد بكاؤه
فكثر، حتى
فزع له أهله وسألوه: ما الذي أبكاه، فاستعجم عليهم وتمادي في
البكاء.
فأرسلوا إلى أبي حازم، فأخبروه، فجاء أبو حازم إليه فإذا هو
يبكي فقال: يا بن أخي ما الذي أبكاك حتى رُعت أهلك؟.
أفمن علة، أم ما بك؟.
فقال: إنه مرت بي آية من كتاب الله.
قال: وما هي؟.
قال: قول الله عز
وجل: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا
يَحْتَسِبُونَ (47) .
قال: فبكى أبو حازم معه فاشتد بكاؤهما - فقال بعض أهله لأبي
حازم: جئنا بك لتفرج عنه، فزدته.
(2/431)
سورة غافر
وتسمى: الطَّول، والمؤمن.
مكية إجماعاً.
قال الزمخشري: قال الحسن: إلا قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ)
لأن الصلوات نزلت بالمدينة. انتهى.
وتقدم رد مثل هذا في لقمان.
وقال ابن الجوزي والأصبهاني: وحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما
وقتادة: أن فيها آيتين نزلتا بالمدينة، وهما قوله: (إِنَّ
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ) والتي بعدها.
وقال الزجاج: ذكر أن الحواميم كلها نزلت بمكة.
(2/432)
وقال أبو حيان: الحواميم مكيات. قالوا:
بإجماع.
ونقله الزمخشري وأتباعه عن ابن عباس وابن الحنفية - رضي الله
عنهما -.
عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها
وآيها ثمانون وآيتان في البصرى، وأربع في المدنيين والمكي،
وخمس في
الكوفي، وست في الشامي.
اختلافها تسع آيات:
(حم) عدها الكوفي، ولم يعذها الباقون.
(يوم التلاق) لم يعدها الشامي، وعدها الباقون.
(يوم هم بارزون) ، عدها الشامي، ولم يعدها الباقون.
(كاظمين) لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون.
(وأورثنا بني إسرائيل الكتاب) لم يعدها المدني الأخير والبصري.
وعدها الباقون.
(2/433)
(وما يستوي الأعمى والبصير) ، عدها المدني
الأخير والشامي، ولم
يعدها الباقون.
(والسلاسل يسحبون) ، عدها المدني الأخير والكوفي والشامي.
ولم يعدها الباقون.
(في الحميم) عدها المدني الأول والمكي، ولم يعدها الباقون.
(أينما كنتم تشركون) ، عدها الكوفي والشامي، ولم يعدها
الباقون.
وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع تسعة مواضع:
(شديد العقاب) ، (مخلصين له الدين) ، موضعان: الأول
بعده (ولو كره الكافرون) والثاني بعده (الحمد لله رب العالمين)
.
(لدى الحناجر كاظمين) ، (من حميم ولا شفيع) .
(وهامان وقارون) (تولون مدبرين) ، (يتحاجون في النار)
(والسلاسل) .
(2/434)
وعكسه موضعان:
(يطاع) ، (يقوم الأشهاد)
ورويها ثمانية أحرف، يجمعها، من عقل دبَّر.
مقصودها
ومقصودها: الاستدلال على آخر التي قبلها من تصنيف الناس في
الآخرة إلى صنفين، وتوفية كل ما يستحقه على سبيل العدل، فإن
فاعل ذلك له العزة الكاملة، والعلم الشامل.
فمن يسلم أمره كله إليه، وجادل في آياته الدالة على القيامة أو
غيرها.
بقوله فإنه يخزيه، فيعذبه ويرديه.
وعلى ذلك دلت تسميتها بغافر، إشارةً إلى الآية التي فيها هذه
الصفة.
فإنه لا يقدر على غفران ما يشاء، لكل من يشاء، إلا كامل العزة،
ولا يعلم
جميع الذنوب ليسمى غافراً لها إلا بالغ العلم.
وكذا في المتاب والعقاب، وكذا الدلالة بتسميتها بالطول بمثل
ذلك.
وبالمؤمن، فإن قصته تدل على هذا المقصد. ولا سيما أمر القيامة.
الذي هو جل المقصود والمدار الأعظم، لمعرفة المعبود.
(2/435)
فضائلها
وأما فضائلها: فروى أبو عبيد في كتاب الفضائل، عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال: إن لكل شيء لبابا ولباب القرآن آل حم. أو
قال
الحواميم.
وروى أيضاً، عن عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال:
إذا
وقعتُ في آل حم وقعت في روضات دمثات، أتأنَق فيهن.
وأيضاً عنه، أنه قال: حم ديباج القرآن.
(2/436)
وأيضاً عن مسعر أنه قال: بلغني أنَّه كُنَّ
يُسمَّيْنَ العرائس.
ورواه الدارمي في مسنده فقال: حدثنا جعفر بن عون، عن مسعر.
عن سعد بن إبراهيم قال: إن الحواميم يسمين العرائس.
وقال الأصفهاني: وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن
لكل شيء ثمرةً وإن ثمرة القرآن ذوات حم، هن روضات مخصبات
متجاورات، فمن أحب أن يرتفع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم.
وروى أبو عبيد عن محمد بن قيس قال: رأى رجل في المنام سبع نسوة
حسان في مكان واحد، فقال: من أنتن بارك الله فيكن؟.
فقلن: إن شئت كنا لك، نحن الحواميم أو قال: آل حميم.
وأيضاً عن ابن سيرين: أنه كان يكره أن يقول: الحواميم.
ويقول: آل حميم.
قال أبو عبيد: كما يقول: هؤلاء آل فلان، كأنك أضفتهم إليه.
وقال ابن الجوزي في: زاد المسير: قال ابن قتيبة: إن "حم" اسم
(2/437)
من أسماء الله تعالى، أضيفت هذه السور إليه
لشرفها، فقيل: آل حميم.
قال الكميت:
وجدنا لكم في آل حميم آية. . . تأولها منا تقي ومعرب
وقد يجعل "حم" اسماً للسورة، ويدخل الِإعرابَ ولا ينصرف، ومن
قال هذا، قال في الجمع الحواميم. كما يقال: طس، والطواسين.
وقال محمد بن القاسم الأنباري: العرب تقول: وقع في
الحواميم، وفي آل حميم. وأنشد أبو عبيدة:
حلفت بالسبع اللواتي طولت. . . وبمئين بعدها قد أمبئت
(2/438)
وبمثاني ثنيت فكررت. . . وبالطواسين
اللواتي ثلثت
وبالحواميم اللواتي سبعت. . . وبالمفصل اللواتي فصلت
انتهى ما في زاد المسير.
وروى البغوي بسنده عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: إن مثل
القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلًا، فمر بأثر غيث،
فبينما هو يسير
فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات، فقال: عجبت من الغيث
الأول فهذا أعجب وأعجب فقيل له: إن مثل الغيث الأول، مثل عظم
القرآن، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القر
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ الدخان كلها، وأول حم
غافر، إلى: (إليه المصير) ، وآية الكرسي، حين يمسي حفظ بها حتى
يصبح، ومن قرأها حين يصبح حفظ بها حتى يمسي.
(2/439)
قال الترمذي: غريب، وقد تكلم بعضهم في عبد
الرحمن بن أبي بكر
بن أبي مليكة - يعني: أحد رواته - من قبل حفظه.
ورواه الدارمي، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
من قرأ آية الكرسي وفاتحة المؤمن - إلى قوله -: (إليه المصير)
لم ير شيئاً يكرهه حتى يمسي، ومن قرأها حين يمسي لم ير شيئاً
يكرهه حتى يصبح.
وقال النووي رحمه الله: وروى الترمذي وابن السني بإسناد ضعيف.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: من قرأ حم المؤمن - إلى قوله -: (إليه المصير) وآية
الكرسي حين يصبح، حُفظ بها حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ
بها حتى يصبح.
وروى أبو داود، والترمذي، والترمذي. واللفظ له وقال: حسن
صحيح، والنَّسائي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم
وقال:
صحيح الِإسناد، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: الدعاء هو العبادة، ثم قرأ:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) .
(2/440)
وروى أبو عبيد عن امرأة من أهل بيت عامر بن
عبد قيس، أن
عامر بن عبد قيس رحمه الله قرأ ليلة من سورة المؤمن، فلما
انتهى إلى:
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى
الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ)
قالت: فكظم، أي سكت مكروبا، سكوت من انسدت مجاري أنفاسه، حتى
أصبح. أو قالت: فلم يزل يرددها حتى أصبح.
(2/441)
سورة فصلت
(السجدة)
وتسمى: المصابيحِ، وفصلت.
مكية كلها إجماعاَ. قاله ابن الجوزي.
عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها
وآيها خمسون وآيتان في البصرى والشامي، وثلاث في المدنيين
والمكي.
وأربع في الكوفي.
اختلافها آيتان:
(حم) عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون.
(عاد وثمود) لم يعدها البصري والشامي، وعدها الباقون.
وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، موضعان:
(2/442)
(عذاباً شديداً) . (هدى وشفاء) .
ورويها عشرة أحرف: رز، طب، ظن، مض، ضد.
مقصود ها
ومقصودها: الإِعلام بأن العلم إنما هو ما اختاره المحيط بكل
شيء
قدره، وعلماً من علمه لعباده فشرعه لهم فجاءتهم به عنه رسله.
وذلك العلم هو الحامل على الإيمان بالله، والاستقامة على
طاعته.
المقترن بهما النافع في وقت الشدائد، كما تقدم تصريحاً في
الزمر في قوله:
(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ) .
وتلويحاً آخر غافر في قوله تعالى: (قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ) الآية.
فتكون عاقبة الكشف الكلي حين يكون سبحانه سمع العالم الذي يسمع
به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي
بها، إلى
آخر الحديث القدسي.
وعلى ذلك دل اسمها "فصلت " (بالإِشارة إلى ما في الآية
المذكورة فيها
(2/443)
هذه الكلمة من الكتاب المفصَّل لقوم
يعلمون.
والمصابيح بالِإشارة إلي اعتبار ما فيها من لطف الصنع، فتكون
هدى للباطن، كما أنها هدى في الظاهر، والسجدة بالِإشارة إلى ما
فيها آيتها من الطاعة بالسجود الذي هو أقرب مقرب من الملك
الديان، والتسبيح الذي هو المدخل للإيمان.
(2/444)
فضائلها
وأما فضائلها: فروى الدارمي عن طاووس قال: فضلت حم السجدة
وتبارك على كل سورة في القرآن بستين حسنة.
وروى عبد بن حميد في مسنده، والبيهقي في الدلائل، عن جابر بن
عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال أبو جهل والملأ من قريش:
لقد انتشر
علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلًا عالماً بالسحر والكهانة
والشعر فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره؟ ، فقال عتبة: لقد سمعت
بقول السحر والكهانة والشعر، وعلمت من ذلك علماً، وما يخفي في
أن كان كذلك، فأتاه فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد أنت خير أم
هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله؟
فلم يجبه.
قال: فيم تشتم آلهتنا، وتضلل آباءنا، فإن كنت إنما بك
الرياسة، عقدنا ألويتنا لك، فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك
الباءة
زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك
المال.
جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك؟.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت لا يتكلم، فلما فرغ
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
(حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(3) .
حتى بلغ: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً
مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فأمسك عتبة على فيه وناشده
الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى
محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا
إليه فأتوه
(2/445)
فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حَسِبْنَا
إلا أنك قد صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن يَك بك حاجة جمعنا
لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد؟. فغضب
وأقسم بالله أنه لا يكلم محمداً أبدا، وقال لقد علمتم أني من
أكثر قريش
مالًا، ولكني أتيته - فقص عليهم القصة - فأجابني بشيء والله ما
هو بسحر، ولا شعر، ولا كهانة، قرأ:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، (حم (1) تَنْزِيلٌ
مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا "لقوم يعقلون" لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) .
قال يحيى: كذا قال: لقوم يعقلون - حتى بلغ: (فقل أنذرتكم صاعقة
مثل صاعقة عاد وثمود) .
فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً
إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
وروى البيهقي في الدلائل - أيضاً - من طريق ابن إسحاق قال:
حدثني
يزيد بن زياد مولى بني هاشم عن محمد بن كعب قال: حُدِّثتً أن
عتبة
ابن ربيعة - وكان سيداً حليماً قال ذات يوم وهو جالس في نادي
قريش.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وحده في المسجد: يا
معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأكلمه فأعرض عليه أموراً لعله أن
يقبل منا بعضها، ويكف عنا؟.
قالوا: بَلَى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث فيما قال له عتبة، وفيما
عرض عليه من المال والملك وغير ذلك حتى إذا فرغ عتبة
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفرغت يا أبا الوليد؟
قال نعم، قال فاستمع مني، قال: أفعل.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بسمِ الله الرحمن
الرحيم
(حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ
فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ، فمضى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يقرؤوها
(2/446)
عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى
بيديه خلف ظهره معتمداً عليها.
يستمع منه، حتى انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
السجدة، فسجد فيها ثم قال: سمعت أبا الوليد؟ قال: سمعت قال:
فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال " بعضهم لبعض: نحلف
بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي. ذهب به، فلما جلس
إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟.
قال: ورائي: أنِّي - والله - قد سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط،
والله
ما هو بِالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش
أطيعوني، واجعلوها بي، خَلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه،
واعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب،
فقد كفيتموه بغيركم، وأن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه
عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك - والله - يا أبا
الوليد بلسانه؟ ، فقال هذا رأي، فاصنعوا ما بدا لكم.
وروى البيهقي في الأسماء والصفات عن الحاكم، عن جبير بن نفير.
عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - تلا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ
خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنكم لن ترجعوا إلى
الله بشيء أحب إليه من شيء خرج منه يعني: القرآن.
(2/447)
ورواه أيضاً من هذا الوجه عن جبير، عن أبي
ذر الغفاري رضي الله
عنهما، وقال: قال أبو عبد الله: هذا حديث صحيح الإِسناد -
وقال البيهقي: ويحتمل أن يكون جبير رواه عنهما جميعاً، ورواه
غيره
عن أحمد بن حنبل، دون ذكر أبي ذر.
(2/448)
|