مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور

سورة حم عسق
وتسمى: عسق، والشورى.
مكية.
قال ابن الجوزي وغيره: عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقاله الحسن
وعكرمة ومجاهد وقتادة والجمهور.
وحكى عن ابن عباس وقتادة، أنهما قالا: إلا أربع آيات من قوله:
(قل لا أسألكم عليه أجراً) إلى آخر الأربع،، فنزلن بالمدينة.
وتبعه عليه أبو حيان.
عدد آياتها وفواصلها
وآيها خمسون آية فيما سوى الكوفي.

(2/449)


وتزيد ثلاث آيات عند الكوفي لانفراده بعدِّ (حم) ، وبعدِّ
(عسق) وبعدِّ (كالأعلام) .
فاختلافها هذه الثلاث، انفرد بعدهن الكوفي، ولم يعدهن الباقون.
وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع، ستة مواضع:
(أن أقيموا الدين) ، (كَبُر على المشركين) ، (من كتاب) (طرف خفي) ، (عليهم حفيظا) ، (من يشاء عقيماً) .
ورويها تسعة أحرف: قدم، لصب، نزر
مقصودها
ومقصودها: الاجتماع على الدين، الذي أساسه الإيمان، وأمُّ دعائمه
الصلاة، وروح أمره الألفة بالمشاورة، المقتضية لكون أهل الدين كلهم فيه
سواء، كما أنهم في العبودية لشارعه سواء.

(2/450)


وأعظم نافع في ذلك الِإنفاق، والمواساة فيما في اليد، والعفو والصفح
عن المسيء والِإذعان للحق، والخضوع للأمر، وإن صعب وشق، وذلك كله هو الداعي إليه هذا الكتاب الذي هو روح جسد هذا الدين، المعبر عما دعا إليه من محاسن الأعمال، وشريف الخلال بالصراط المستقيم.
وتسميتها بالشورى واضح المطابقة لذلك لما في آياتها، وكذلك بالأحرف
المقطعة فإنها جامعة للمخارج الثلاثة: الحلق، والشفة، واللسان، وكذا جمعها لصنفي المنقوطة والعاطلة، ووصفي المجهورة والمهموسة.
وكذا تسميتها ببعضها، بدلالة الجزء على الكل، على أن هذه الحروف
يجوز أن تكون إشارة إلى كلمات منتظمة من كلام عظيم، يشير إلى معنى هذا
الجمع، نحو أن يقال: حكمة محمد عَلَتْ وعمت، فشفت سقام القلوب.
ويجوز أن تعتبر مفردة، فتكون إشارة إلى أسرار تملأ الأقطار، وتشرح
الصدور والأفكار.
فإن نظرت إلى مخارجها، وجدتها قد حصل الابتداء فيها باد في وسط
الحلق إلى اللسان باسم الحاء، وثنى بأوسط حروف الشفة وهي الميم. وحصل الرجوع إلى وسط الحلق بأقصاه من اللسان في اسم العين، وهو جامع للحلق واللسان.
وقصد ثالثاً إلى اللسان بالسين، الذي هو مع كونه أوسط حروف
اسمه من أدق ما يخرج منه إلى الشفتين وهو رأسه، وله التصاق بالثنيتين
السفليين، واتصال بأعلى الفم، ففيه بهذا الاعتبار "حم" ثُمَّ حصل بعد هذا
الظهور بطون إلى أصل اللسان، وهو أقصاه من الشفة بالقاف.
ولاسم هذا الحرف جمع بالابتداء بأصل اللسان مع سقف الحلق.
والاختتام بأصل الشفة العليا، والثنيتين السفليين.
ففي هذه الحروف ثلاثة وهي أكثرها لها نظر، بما فيها الجمع إلى

(2/451)


مقصود السورة وقد اتسق الابتداء فيها بما كان من حرفين، جمعهما مخرج
بالأعلى تْم بالأدنى، إشارة إلى أنه يكون لأهل هذا الدين بعد الظهور بطون، كما كان في أول الِإسلام، حيث حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقاربه في الشِّعب. وفي ذلك أيضاً إشارة إلى أنه من تحلية الظاهر ينتقل إلى تصفية الباطن: مَنْ زيَّن ظاهره بجميع الأعمال الصالحة، صحح الله باطنه بالمراقبة الخالصة الناصحة، على أن هذا التدلي بُشرى بأن الحال الثاني يكون أعلى من الأول، كما كان أعلى من الأول، كما كان عند الظهور من الشِّعب، بما حصل من نقض الصحيفة الظالمة، لأن الثاني من مراتب هذه الحروف أقوى صفة مما هو أعلى منه مخرجاً، فإن الحاء لها من الصفات: الهمس والرخاوة، والاستفال والانفتاح، والميم له من الصفات: الجهر والانفتاح، والاستفال، وبين الشدة والرخاوة.
والعين لها من الصفات ما للميم سواء.
والسين لها من الصفات: الهمس والرخاوة، والاستفال والانفتاح، والصفير. والقاف لها من الصفات: الجهر والشدة، والانفتاح والاستعلاء، والقلقلة. فالحرفان الأخيران لكل منهما خمس صفات، فتلك عشر كاملة، أغلبها قوة، هي بمنزلة ما بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه عشر سنين، أغلبها نصر وفتح.
والحرف الأخير منهما كله قوة، بمنزلة الخمس الأخيرة من سني الهجرة
من سنة الحديبية التي هي أول الفتح، إلى سنة الوفاة، فإنها كلها فتح.
والحرف الأول من أصل حروف هذا الاسم، أكثر صفاته الضعف.
ويزيد بالِإمالة التي قرأ بها كثير من القراء.
والثاني والثالث، هما على السواء في القوة والضعف، وهما إلى القوة

(2/452)


ارجَحَ قليلاً، وذلك كما تقدم من وسط الحال عند الخروج من الشِّعب.
والرابع فيه قوة وضعف، وضعفه أكثر، فإن فيه للضعف ثلاث
صفات، وللقوة صفتين. وذلك كما كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند آخر أمره بمكة الشرّفة حين مات الوزيران: خديجة رضي الله عنها، وعمه أبو طالب.
ولكن ربما كانت الصفتان القويتان غالبتين على الصفات الضعيفة، بما
فيهما بالانتشار بالصفير، والجمع الذي مضت الِإشارة إليه، من الإِشارة
إلى ضخامة تكون باجتماع أنصار كما وقع من بيعة الأنصار.
والخامس - وهو الأخير - كله قوة، كما وقع بعد الهجرة عند اجتماع
الكلمة وظهور العظمة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "فلما هاجرنا انتصفنا من القوم، وكانت سجال الحرب بيننا وبينهم ".
ثم تكاملت القوة عند تكامل الاجتماع، بعد قتال أهل الردة، بعد
موته: - صلى الله عليه وسلم -، لا جرم، انتشر - بعد الاجتماع - أهل هذا الدين في أقطار الأرض يميناً وشمالًا فما قام لهم مخالف، ولا واقفتهم أمة من الأمم على ضعف حالهم وقلتهم، وقوة غيرهم وكثرتهم، إلا ومروا عليهم، فجعلوها كأمس الذاهب. وقد جمعت هذه الحروف - كما مضى - وصفي المجهورة والمهموسة، وكانت المجهورة أغلبها، إشارة إلى ظهور هذا الدين على كل دين كما حققه شاهد الوجود، وصنفا المنقوطة والعاطلة.
وكانت كلها عاطلة - إلا حرفاً واحداً - إشارة إلى أن أحسن أحوال
المؤمن:

(2/453)


أن يكون الأغلب عليه المحو، لا يرى لنفسه صفة من الصفات، بل
يعدها في زمرة الأموات، وإلى أن المتحلى بالأعمال الصالحة الخالصة من أهل
القلوب من أرباب هذا الدين، قليل جداً.
وكان المنقوط آخرها، إشارة إلى أن نهاية المراتب عند أهل الحق: الجمع
بعد المحو والفرق.
وكان حرف الشفة من بين حروفها الميم، وهي ذات الدائرة المستوية
الاستدارة: إشارة إلى أن لأهل هذا الدين من الاجتماع، والانطباق عليه.
والِإطافة به، والِإسراع إليه، ما ليس لمن تقدمهم، وإلى أن لهم من القدم
الراسخ في القول، المقتطع من الفم، المختتم بالشفتين ما لا يبلغه غيرهم.
بحيث أنه لا نهاية له، مع حسن استنارته، بتناسب استدارته.
ثم إنك إذا بلغت نهاية الجمع في الأحرف، بأن جمعت أعداد
مسمياتها، وهو مائتان وثمانية وسبعون، إلى أعداد أسمائها، وهو خمسمائة
وأحد وثلاثون، بلغ تسعاً وثمانمائة سنة وفي السنة الموافقة لهذا العدد من
هجرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وُلدت.
فكان الابتداء في أصل هذا الكتاب حينئذ بالقوة القريبة من الفعل.
وسنة ابتدائي فيه بالفعل وهي سنة إحدى وستين، في شعبان منها، كان سني
إذ ذاك قد شارف أربعاً وخمسين سنة وهو موافق لعد حرفي "دن" أمراً من
الدين، الذي هو مقصود السورة.
فكأنه برز الأمر إذ ذاك بالشروع في الكتاب، لتحصيل مقصودها.
وسنة وصولي إلى هذه السورة وهي سنة إحدى وسبعين، في شعبان منها، كان سني قد شارف أربعاً وستين سنة. وهو موافق لعدد أحرف دين، الذي هو مقصود السورة.
فأنا أرجو بهذا الاتفاق الغريب، أن يكون ذلك مشيراً إلى أن الله تعالى
يجمع بكتابي "نظم الدرر" الذي خصني بإلهامه، وادخرُه إلى أهل الدين جمعاً

(2/454)


عظيماً، جليلَاَ جسيماً يظهر له أثر بالغ في اجتماعهم، وحسن تأسيهم برؤوس نقلته واتباعهم.
ومن الآثار الجليلة في لحظ هذه الأحرف للجمع، أنه لما كان مقصود
سورة مريم عليها السلام وصف الرحمن، المنزل لهذا القرآن، بشمول الرحمة
لجميع الأكوان، وكانت هذه السورة لرحمة خاصة هي الاجتماع على هذا
الدين، فكانت هذه الخاصة ثانية لتلك العامة، ومتشعبة منها، كانت بمنزلة
اليسار، وتلك بمنزلة اليمين.
فلذلك - والله أعلم - قال الأستاذ أبو الحسن الحِرَالِيِّ في كتاب له في
الحرف:
ولما كان ذلك - أي هذا الاسم - المجتمع من هذه الأحرف المقطعة.
أول هذه السورة، مما ينسب إلى أمر الشمال، كان متى وضع على أصابع
اليسار، ثم وضعت على هائجة ظلم أو جور استولى عليه بحكم إحاطة
حكمة الله، وكانت خمستها مضافة إلى خمس "كهيعص" المستولية على حكمة
اليمين، محيطاً ذلك بالعشر، المحيط بكل الحكمة التي مسندها الياء، الذي
هو أول العشر، ومحل الاستواء بما هو عائد وحدة الألف.

(2/455)


فضائلها
وأما فضائلها:
فروى الطبراني في الكبير - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، غير
شيخ الطبراني محمد بن عبدوس - عن ميمونة رضي الله عنها قالت: قرأ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حم عسق"، فقال: يا ميمونة نسيتُ ما بين أولها إلى آخرها، قالت: فقرأتها فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وروى الترمذي في القدر من جامعه وقال: حسن صحيح غريب.
والنسائي في التفسير، والبغوي من طريق الِإمام أحمد وهذا لفظه: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم قابضاً على كفيه ومعه كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ ، قلنا: لا يا رسول الله.
فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء
أهل الجنة، وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في

(2/456)


الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام، إذ هم في الطينة
منجدلون، فليس بزائد فيهم، ولا بناقص، إجمال من الله عليهم إلى
يوم القيامة، ثم قال للذي في يساره: هذا كتاب من رب العالمين، بأسماء أهل
النار، وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم، قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة.
فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ففيم العمل إذن يا رسول الله؟. فقال: اعملوا وسَدِّدوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيّ عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيّ
عمل. ثم قال: فريق في الجنة فضل من الله وفريق في السعير، عدل
من الله عز وجل.
وروى البغوي في تفسير قوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) الآية، بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن

(2/457)


النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل عليه السلام، عن الله عز وجل قال: من أهان لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحَرِد، وما تقرب إليَّ عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليها وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً، إن دعاني أجَبْتُه، وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله، تردُدِي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألتي الباب من العبادة فأكفُه عنها لا يدخله العجب فيفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانَه إلا الفقر، ولو أغنيتُه لأفسده ذلك.
وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانَه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك. وذلك أني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم وإني عليم خبير.
التردد له بداية ونهاية، فبدايته الجهل، وغايته اللطف والرفق.
فبدايته مما يتعالى الله سبحانه وتعالى عنه، والمراد هنا غايته، وهو أنه
فعل فعل المتردد فيما يكره حبيبه ولا بد له منه، وذلك أنه يتطلف حتى يكون ذلك المفعول على أرفق الوجوه بحبيبه كمن يريد أن يسقي من يعز عليه جداً دواءً، فهو يجتهد في أقل ما يجد من الأدوية كراهة حتى إنه إن قدر أن يجعله في مشموم أو ملموس لا يجد له كراهة أصلاً، فعل.

(2/458)


وهو موافق للأحاديث الأخر: "موت المؤمن بعرق الجبين ".

(2/459)


"من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه ".
فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه عند الغَرْغَرَة، يرى مقعده من الجنة، فيهون ذلك عليه ما يلقى من الألم، ويُحبُّ أن يموت ليصل إلى ما رأى من الخير

(2/460)


مثل ما يجد الشهيد من ألم القتل، إلا ما يجد غيره من ألم القرصة.
وإذا علم هذا وحفظ، دفع كل إشكال يمكن أن يورد في هذا المقام.
والله أعلم.
وهذه اللفظة التي أزيل إشكالها، وحل - ولله الحمد - عقالها، رواها
البخاري في الرقاق من صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تبارك وتعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه، ولئن استعادني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته.
وهذا الحديث انفرد به البخاري، وهو وإن كان من رواية خالد بن
مخلد القطواني وقد قال الِإمام أحمد: إن له مناكير. فهذا الحديث ليس
منها، كما قال شيخنا الحافظ أبو الفضل ابن حجر، في مقدمة شرح

(2/461)


البخاري: إن أبا أحمد بن عدي تتبعها وأوردها في كامله، وليس فيها
شيء مما أخرجه البخاري.
قال: وروى له الباقون، سوى أبي داود.
وروى البغوي، والإِمام أحمد، وأبو يعلى - قال الهيثمي: وفيه أزهر بن
راشد وهو ضعيف - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال:
ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله، حدثنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) ، وسأفسرها لك يا علي، ما أصابكم من مرض، أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، فبما كسبت أيديكم، والله عز وجل أكرم من أن يثني عليكم - وفي رواية أحمد: عليهم - العقوبة في الآخرة، وما عفى الله عنه في الدنيا، فالله أجل من أن يعود بعد عفوه ".
ونقله ابن رجب من تفسير سفيان بن عيينة عنه بلفظ: ألا أخبركم
بأرجى آية؟. والباقي بنحوه.
وروى الترمذي، واللفظ له وقال: حسن، وابن ماجة، وابن حبان
في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الِإسناد، والبيهقي في الزهد،

(2/462)


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) الآية، ثم قال: يقول الله عز وجل: ابن آدم تفرغ لعبادتي، أملأ صدرك غني، وأسد فقرك، وإن لا تفعل، ملأت صدرك شغلًا، ولم أسد فقرك.

(2/463)


سورة الزخرف
مكية.
قال ابن الجوزي: بإجماعهم.
قال: وقال مقاتل: هي مكية إلا آية، قوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا) .
عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها
وآيها ثمان وثمانون في الشامي، وتسع في الباقين.
اختلافها آيتان:
(حم) عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون.

(2/464)


(فإنه سيهدين) ولم يعدها الكوفي والشامي، وعدها الباقون.
وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يُعَدُّ بإجماع، موضع:
(عن السبيل) .
وعكسه موضعان:
(مقرنين) ، (قرين) .
ورويها ثلاثة أحرف: ملن.
مقصودها
ومقصودها: البشارة بإعلاء هذه الأمة بالعقل والحكمة، حتى يكونوا
أعلى الأمم شأناً، لأن هدايتهم بأمر لدني هو من غريب الغريب، الذي هو
للخواص، فهو من المرتبة الثانية من الغرابة، وأن ذلك أمر لا بد لهم منه.
وإن اشتدت نفرتهم منه، وإعراضهم عنه.
قال تعالى شاهداً لذلك: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
، أي تكونون أهلاً لأن يسألكمِ العلماء من جميع الأمم عن
دقائق الأحكام والحكم، وحتى تكونوا أهلاً للجنة لما قال تعالى:

(2/465)


(وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) .
وغير ذلك من الدلالات في آيات هذه السورة، كما يشهده أهل البصائر.
وعلى ذلك دلت تسميتها بالزخرف، كما في آيتها، من أنه لو أراد أن
يعم الكفر جميع الناس لعمهم بسبوغ النعم، ولكنه لم يعمهم بذلك، بل
فاوت بينهم، فأفقر بعضهم وأكثر بؤسهم وضرهم وفرق أمرهم، ليسهل
ردهم عن الكفر الذي أدتهم إليه طبائعهم ونقائصهم، لما يشهدون من
قباحة الظلم والعدوان، إلى ما يرونه من مجالس العرفان، واجتماع كلمة
الدين والإيمان، ولذة الخضوع للملك الديان، فيخضع لهم الملوك والأعيان.
ويصير لهم الفرقان على جميع أهل العصيان.

(2/466)


فضائلها
وأما فضائلها: فروى أبو داود، والترمذي، والنَّسائي - قال النووي في
الأذكار: بالأسانيد الصحيحة - والبيهقي في الدعوات، عن علي بن ربيعة
قال: شهدت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أُتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) .
ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات - قال البيهقي ثم قال: سبحان
الله، يعني ثلاث مرات - ثم قال: لا إله إلا أنت سبحانك، إني ظلمت
نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل: يا
أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت؟
قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما فعلتُ ثم ضحك فقلت: يا رسول الله، من أي شيء ضحكت؟
قال: إن ربك سبحانه وتعالى يعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي.
يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري.
وقال البيهقي: قال: علم عبدي أنه لا رب له غيري.
ورواه البغوي في التفسير، وفي روايته: فلما وضع رجله في الركاب
قال: بسم الله، فلما استوى قال: الحمد لله، ثم قال:

(2/468)


(سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) .
ثم حمد ثلاثاً، وكبر ثلاثاً.
وروى البيهقي في الدعوات عن عبد الله بن ربيعة أيضاً قال: خرج علي
رضي الله عنه من باب القصر، فوضع رجله في غرز السرج فقال: بسم
الله، فلما استوى على الدابة قال:
الحمد لله الذي حملنا في البر والبحر، ورزقنا من الطيبات، وفضلنا على
كثير ممن خلق تفضيلا (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) .
وسبح ثلاثاً، وحد ثلاثاً ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع. ثم قال: رب اغفر لي لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع.
ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
إن الله ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب
إلا أنت.
والعجب - كما مضى في التردد - له بداية هي الجهل، ونهاية هي
الِإكرام، وهي المراد هنا، فإن الِإنسان إذا أعجبه شيء فعله من يحبه.
أكرمه غاية الِإكرام، والله (تعالى) الموفق.
ولمسلم في المناسك، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذ استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبَّر، ثم قال: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) .

(2/469)


سورة الدخان
مكية كلها إجماعاً.
قال ابن الجوزي: وقال الزمخشري، وأبو حيان، قيل: إلا قوله: (إنَا كاشفوا العذاب)
عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها
وآيها خسون وتسع في الكوفي، وسبع في البصرى، وست فيما عداهما.
اختلافها أربع آيات:

(2/470)


(حم) عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون.
(إن هؤلاء ليقولون) ، عدها الكوفي أيضاً، ولم يعدها الباقون.
(إن شجرة الزقوم) ، لم يعدها المدني الأخير والمكي، وعدها
الباقون.
(في البطون) ، لم يعدها المدني الأول والمكي والشامي، وعدها الباقون.
وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، موضعان:
(يحي ويميت) ، (بني إسرائيل) .
ورويها حرفان: من.
مقصودها
ومقصودها: الِإنذار بالهلكة لمن لم يقبل ما في الذكر الحكيم من
الخير والبركة رحمة جعلها بين عامة خلقه مشتركة.
وعلى ذلك دل اسمها "الدخان" إذا تؤملت آياته، فإنه تعالى هددهم
بآيتان العذاب لهم من جهة السماء، في صورة الدخان.
وهددهم بالانتقام منهم بالبطشة الكبرى لكذبهم، ومرتكبهم.

(2/471)


فضائلها
وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: غريب. والدارقطني، والبغوي في
التفسير، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ حم الدخان، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك.

(2/472)


وفي رواية للترمذي: من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة، غفر له.
وفي رواية للدارقطني: من قرأ يس في ليلة، أصبح مغفوراً له، ومن
قرأ الدخان في ليلة الجمعة، أصبح مغفوراً له.
ورواه الأصبهاني في ترغيبه، والقاضي أبو عبد الله المحاملي في الثاني
عشر من فوائده ولفظه: "من صلى بسورة الدخان في ليلة، بات يستغفر له
سبعون ألف ملك حتى يصبح ".
وروى الدارمي عن عبد الله بن عيسى قال: أخبرت أنه من قرأ حم

(2/473)


الدخان ليلة الجمعة إيماناً وتصديقاً، أصبح مغفوراً له.
وله أيضاً عن يحي بن الحارث - هو الذماري عن أبي رافع قال:
من قرأ الدخان في ليلة الجمعة، أصبح مغفوراً له، وزوج من الحور
العين.
وله حكم الرفع، لأن مثله لا يقال من قبل الرأي.
وللطبراني والأصبهاني، عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة، أو يوم الجمعة، بنى الله له بيتاً في الجنة.
وتقدم في التوبة حديث علي رضي الله عنه في فضلها.

(2/474)


سورة الجاثية
وتسمى الشريعة.
مكية إجماعاً.
وقال ابن الجوزي: رواه العوفي وابن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي
الله عنهما، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد ومقاتل وقتادة والجمهور.
وحكى عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: هي مكية إلا آية، وهي قوله:
(قل للذين آمنوا يغفروا) .
وتبعه على ذلك الأصفهاني.
عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها
وآيها ثلاثون وسبع في الكوفي، وست في عدد الباقين.
لقوله تعالى فيها: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) .

(2/475)


اختلافها آية واحدة:
(حم) عدها الكوفي، ولم يعدها الباقون.
وفيها مما يشبه الفاصلة موضع:
(أهواء الذين) .
ورويها حرفان: (من) ، كالتي قبلها سواء.
مقصودها
ومقصودها: الدلالة على أن منزل هذا الكتاب - كما دل عليه ما في
الدخان - ذو العزة لا يغلبه شيء، وهو يغلب كل شيء، والحكمة لأنه لمِ
يصنع شيئاً إلا في أحكم مواضعه، فعلم أنه المختص بالكبرياء، فوضع شرعا
هو في غاية الاستقامة، لا تستقل العقول بإدراكه، أمر فيه ونهى، ورغب
ورهب، ثم بطن حتى إنه لا يعرف، وظهر حتى إنه لا يجهل.
فمن المكلفين من حكم عقله وجانب هواه، فشهد جلاله، فسمع
وأطاع، ومنهم من اتبع هواه فضل عن نور العقل فزاغ.
فاقتضت الحكمة - ولا بد - أن يجمع سبحانه الخلق، ويظهر كل
الظهور، وبدين عباده ليشهد رحمته المطيع، وكبرياءه العاصي المضيع، وينشر العدل، ويظهر الفضل، ويتجلى في جميع صفاته لجميع خلقه يوم
الفصل.
وعلى ذلك دل اسمها "الشريعة".

(2/476)


واسمها "الجاثية" واضح الدلالة فيه، إذا تؤمل كل من آيتيهما، والله الهادي.
فضائلها
وأما فضائلها: فاختصاصها بما اختص الله به من الكبرياء (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
روى مسلم عن أبي سعيد، وأبي هريرة، رضي الله عنهما، وأبو داود.
وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله

(2/477)


عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما.
أدخلته النار.
وفي رواية: عذبته.
وفي رواية: قصمته.
ولأبي عبيد عن تيمم الداري رضي الله عنه أنه أتى المقام ذات ليلة.
فقام يصلى، فافتتح السورة التي يذكر فيها الجاثية، فلما أتى على هذه الآية: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) .
فلم يزل يرددها حتى أصبح.
وروى البيهقي عن الخليل بن مره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع، تجيء كل حميم تقف على باب من هذه الأبواب فتقول: اللهم لا يدخل هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني.
ثم قال: هكذا بلغنا بهذا الِإسناد المنقطع.

(2/478)


سورة الأحقاف
مكية.
قال النجم النسفي: إلا قوله: (والذي قال لوالديه) الآيتين.
فإنهما نزلتا بالمدينة.
وقال أبو حيَّان: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (قل أرأيتم إن كان
من عند الله) . و (فاصبر كما صبر أولو العزم) الآيتان مدنيتان.
وقال ابن الجوزي: وروى العوفي وابن أبي طلحة، عن ابن عباس
رضي الله عنهما: أنها مكية.
وبه قال الحسن ومجاهد، وعكرمة وقتادة، والجمهور.
وروى عن ابن عباس وقتادة أنهما قال: فيها آية مدنية:

(2/479)


(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) .
وقال مقاتل: نزلت بمكة غير آيتين: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) و، (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ، نزلتا بالمدينة.
عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها
وآيها ثلاثون وخمس في الكوفى، وأربع في عدد الباقين.
اختلافها كالتي قبلها: (حم) ، عدها الكوفي دون غيره.
وفيها مما يشبه الفواصل ولم يعد بإجماع، موضعان:
(عذاب الهون) ، (ما يوعدون) .
ورويها ثلاثة أحرف: نمر.
مقصودها
ومقصودها: إنذار الكافرين بالدلالة على صدق الوعد في قيام الساعة.
اللازم للعزة والحكمة الكاشف لها أتم كشف، بما وقع الصدق في الوعد به.
من إهلاك المكذبين، وأنه لا يمنع من شيء من ذلك مانع، لأنه لا شريك
له، فهو المستحق للإِفراد بالعبادة.
وعلى ذلك دلت تسميتها بالأحقاف، بما دلت عليه قصة قوم هود - عليه السلام -

(2/480)


من التوحيد وإنذارهم بالعذاب دنيا وأخرى، ومن إهلاكهم، وعدم
إغناء ما عبدوه عنهم، ودفنهم تحت أحقافهم، بما تحقق من إعراضهم
وخلافهم، ومباعدتهم للحكمة في عبادتهم حجراً، وإنكارهم أن يكون النبي
بشراً، فسلبت أرواحهم بالريح العقيم، ودمرت أشباحهم بالعذاب الأليم.
فدل ذلك قطعاً على أنه العزيز الحكيم.

(2/481)


فضائلها
وأما فضائلها: فروى أحمد بإسنادين - قال الهيثمي: رجال أحدهما
ثقات - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة (من الثلاثين) من آل حم - يعني: الأحقاف - قال: وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت الثلاثين.
وروى الطبراني - قال الهيثمي: برجال الصحيح - عن عوف بن
مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلًا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه، فأسكتوا فما أجابه منهم أحد. ثم رد عليهم فلم يجبه أحد (ثم ثلَّث فلم يجبه أحد) ، فقال: أبيتم؟. فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفى، آمنتم أو كذبتم، ثم انصرف وأنا معه، حتى كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل. فقال ذاك الرجل: أي رجل تعلموني منكم يا معشر اليهود؟. قالوا: والله ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب، ولا أفقه منك ولا من أبيك من قبلك، ولا من جدك قبل أبيك.
قال: فإني أشهد أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة، قالوا: كذبت، ثم

(2/482)


ردوا عليه وقالوا فيه شراً.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كذبتم لن يقبل منكم قولكم.
قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا، وابن سلام.
فأنزل الله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) . انتهى.
ويجمع بين هذا فيما يفهم: أن هذا أول إسلامه، وبين ما في
الصحيح: أنه كان في منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أسلم في بيته - صلى الله عليه وسلم -، فدعا أقاربه من اليهود وهم من بني قينقاع، فقالوا فيه ما قالوه، ثم أراد أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم -
كرامته في غير قومه، فذهب إلى طائفة أخرى في الحال قبل أن يعلموا
بإسلامه، فدخل إليهم ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثره، فكان ما تقدم.
ومعنى حط الغضب عن جميع اليهود بإسلام اثني عشر: إن إسلام
أولئك يستلزم إسلام بقية اليهود كما ذكر في حديث آخر، والله تعالى الموفق.
وروى أبو عمرو الداني في كتاب "البيان بعدد آي القرآن" من طريق
أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه قال: قلت لرجل: أقرئني من الأحقاف ثلاثين آية، فأقرأني - وفي
رواية، فقرأ - خلاف ما أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلت لآخر: أقرئني من "الأحقاف ثلاثين آية، فأقرأني خلاف ما أقرأني الأول، فأتيت بهما إلى

(2/483)


النبي - صلى الله عليه وسلم - فغضب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه جالس، فقال علي: قال لكم: اقرأوا كما علمتم.
وللطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن أحمد بن لبيد البيروق.
عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (حتى إذا بلغ أشده)
قال: ثلاث وثلاثون سنة وهو الذي رفع عليه عيسى بن مريم (عليه
السلام) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه صدقة بن يزيد، وثقة أبو زرعة.
وأبو حاتم، وضعفه أحمد وجماعة، وبقية رجاله ثقات.

(2/484)


سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -
وتسمى: القتال، والذين كفروا.
مدنية.
وقال النجم النسفي: مكية، ويقال: مدنية وهو الصحيح، انتهى.
ويقال: فيها آية مدنية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى الغار في ابتداء الهجرة، وجعل ينظر إلى مكة، وهي: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) .

(2/485)


عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها
وآيها ثلاثون وثمان في الكوفي، وتسع في المدنيين والمكي والشامي.
وأربعون آية في البصرى.
اختلافها آيتان:
(أوزارها) ، لم يعدها الكوفي، وعدها الباقون.
(للشاربين) ، عدها البصري، ولم يعدها الباقون.
وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعد بإجماع، تسعة مواضع:
(فضرب الرقاب) ، (بعضكم ببعض) ، (تنصروا الله ينصركم)
(فتعسا لهم) ، (الذين من قبلهم) ، (دمَّر الله عليهم) .
(قال آنفاً) ، (لأريناكهم) ، (بسيماهم) .
رويها حرفان: "مل"
اللام: (أقفالها) ، (أمثالها)
وقيل: الميم كاف، أو هما مضمومتان.
مقصودها
ومقصودها: التقدم إلى المؤمنين في حفظ حظيرة الدين، بإدامة الجهاد

(2/486)


للكفار، حتى يلزموهم الصغار، أو يبطلوا ضلالهم، كما أضل الله
أعمالهم، لا سيما أهل الردة الذين فسقوا عن محيط الدين إلى أودية الضلال
المبين، والتزام هذا الخلق الشريف، إلى أن تضع الحرب أوزارها، بإسلام
أهل الأرض كلهم، بنزول عيسى عليه السلام.
وعلى ذلك دل اسمها "الذين كفروا" لأن من المعلوم: أن من صدك
عن سبيلك قاتلته، وأنك إن لم تقاتله كنت مثله.
واسمها "محمد" واضح في ذلك، لأن الجهاد كان خلقه - صلى الله عليه وسلم -، إلى أن توفاه الله تعالى، وهو نبي الملحمة، لأنه لا يكون حمد، وثم نوع ذم، كما تقدم تحقيقه في سورة فاطر وفي سبأ والفاتحة. ومتى كان كَفٌّ عن أعداء الله، كان ذم.
وأوضح أسمائها في هذا المقصد: "القتال"، فإن من المعلوم: أنه لأهل
الضلال.

(2/487)


فضائلها
وأما ما ورد فيها، ففي آية الساعة:
ما روى الترمذي، وأبو يعلى، عن أبي هريرة رضيِ الله عنه، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما ينتظر أحدكم، إلا غِنًى مُطغياً، أو فقرًا منسياً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال، والدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة، وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ.
ومن فضائلها: ما خصت به من سبب الترقي في مصاعد الكمال،

(2/488)


بالأمر بالاستغفار، في قوله تعالى: (واستغفر لذنبك) زيادة في الشرف.
روى مسلم في الدعوات وأبو داود في الصلاة، والنَّسائي في اليوم
والليلة، عن الأغَر المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه لَيُغانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة.
يعني: أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتقى من مقام أكمل، إلى مقام أكمل منه، رأى أن الأول بالنسبة إلى الثاني ذا غَيْن فيستغفر منه، فيرتقي إلى أكمل منه، وهكذا، والله أعلم.
وروى البغوي بسنده عن هشام بن عروة، عن أبيه - قال ابن رجب
والدارقطني في أفراده: بإسناد ضعيف - عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
وهذا لفظ عروة قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)
فقال شاب من اليمن: بل على قلوب أقفالها، حتى يكون الله
يفتحها، أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولى
فاستعان به.
وروى أبو نعيم عن إبراهيم بن الأشعث، أن فضيل بن عياض قرأ

(2/489)


سورة محمد، فشرع يبكي ويردد هذه الآية: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) .
وجعل يقول: إن بلوت أخبارنا (فضحتنا وهتكت أستارنا، إنك إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا، ويبكى.

(2/490)