مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور

سورة الفتح
مدنية كلها إجماعاً.
نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راجع من عمرة الحديبية.
عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها
وآيها تسع وعشرون، ثلاثون إلا واحدة، بلا خلاف.
وفيها مما يشبه الفواصل، ولم يعد بإجماع، سبعة مواضع:
(بأس شديد) ، (أو يسلمون) ، (آية للمؤمنين) ، (وعلى المؤمنين) ، (آمنين) ، (ومقصرِّين) ، (لا تخافون) .

(2/491)


ورويها سبعة أحرف: لمزن برد.
مقصودها
ومقصودها: اسمها الذي يعم فتح مكة وما تقدمه من صلح الحديبية
وفتح خيبر ونحوهما. وما تفرع عنه من. إسلام أهل جزيرة العرب، وقتال
أهل الردة، وفتوح جميع البلاد، الذي يجمعه كله إظهار هذا الدين
على الدين كله.
وهذا كله في غاية الظهور، بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها، في مواضع
منها: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) .
وانتهاؤها: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - إلى
قوله: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) . أي بالفتح الأعظم، وما دونه من
الفتوحات.
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) .
كما كان للرسول - صلى الله عليه وسلم -.

(2/492)


(وَأَجْرًا عَظِيمًا) كذلك بسائر الفتوحات، وما حوت من الغنائم.
ثم الثواب الجزيل على ذلك في دار الجزاء.
ومن عجائب هذه السورة: أنها تسع وعشرون آية، وقد جمعت حروف
المعجم وهي تسع وعشرون حرفاً، في آخر آية فيها، وهي: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. إلى آخرها، إثر قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) .
ولم تجتمع هذه الحروف في آية إلا في هذه، وفي آية في أواخر سورة
التوحيد "آل عمران" إشارة إلى علو التوحيد على كل كفر، كما أشارت إليه الآية التي قبلها، وأشير في آية آل عمران إلى تمادي الوقت، كما ذكر في أصل هذا الكتاب.
وأشير في هذه إلى قربه.
وذلك أنه لما كانت هذه العمرة التي نزلت فيها هذه السورة، وهي
عمرة الحديبية، قد حصل لهم فيها كسر، لرجوعهم قبل وصولهم إلى
قصدهم، ولم يكن ذلك بسبب خلل أتى من قِبَلِهم، كما كانت في غزوة أحد، بشَّرهم سبحانه فيما في هذه السورة، من البشائر الظاهرة تصريحاً وبما في هذه الآية الخاتمة من جمعها لجميع حروف العجم تلويحاً، إلى أن أمرهم لا بد من تمامه وخفوق ألويته وأعلامه.
وافتتحها بميم محمد المضمومة، وختمها بميم "عظيما" المنصوبة، إشارة

(2/493)


بما للميم من الختام بمخرجها، إلى أن تمام الأمر قد دنا جدا إبانه، وحضر من
غير شك زمانه.
وبما في أوله من الضم إلى رفعة دائمة في حمد كبير. وبما في آخر من
النصب إلى تمام الفتح، وقربه على وجه عظيم.
فكان جمع الأحرف في آية واحدة على هذا الوجه، مشيراً إلى ما ذكر.
وكان كونها تسعا وعشرين، وكون عدد الآيات فيها مطابقاً لذلك، مشيراً إلى أن الفتوح من ذلك الحين، لا تزال في ازدياد إلى نهاية تسع وعشرين سنة، فيحصل هناك التمام، فيبدأ - كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند نزول آية المائدة بكمال الدين - النقص.
ولقد كان الأمر كذلك، فإن الله تعالى فتح بعد جميع بلاد العرب، بلاد
فارس بكمالها وقتل ملكها يزدجرد، ومزق ملكها، فلم يقم بعده لهم ملك
إلى اليوم، وفتح أكثر بلاد الروم والغرب وتواترت الفتوح، وارتفعت رايات الِإسلام براً وبحراً، إلى أن ظهر الدين، كما قال تعالى: (على الدين
كله) ، ثم قتل عند تمام ذلك أمير المؤمنين عثمان الشهيد رضي الله عنه.
ختام سنة خمس وثلاثين من الهجرة، وذلك لتسع وعشرين من نزول هذه

(2/494)


السورة سنة ست من الهجرة، فنقص بقتله رضي الله عنه كثيراً، وتفرقت
الكلمة، وانحل - بعد - النظام، فقام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في جمع شمله، فكان كلما رتق رتقا، فتُقِ من ناحية أخرى فَتْقُ، واستمر الأمر
متماسكاً، ألى أن مضت خلافة النبوة ثلاثون سنة، لنزول أمير المؤمنين
الحسين بن علي رضي الله عنهما عن الأمر للِإصلاح بين الناس في ربيع
الأول، سنة إحدى وأربعين، ثم ظهر النقصان، وجاء الملك العضوض كما
أخبر به الصادق، وحكم به الخلائق، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
فضائلها
وأما فضائلها: فروى القعنبي، وأبو مصعب، في موطأيهما.
والبخاري في الصحيح من رواية القعنبي عن مالك، عن زيد بن أسلم عن
أبيه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فسأله عن شيء فلم يجبه، فقال عمر رضي الله عنه ثكلتك أمك يا عمر، نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك

(2/495)


قال عمر رضي الله عنه: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس، فخشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت، فقال: لقد أنزلت في الليلة سورة، لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) .
وروى الإِمام أحمد في المسند عن مخفَع بن جارية الأنصاري رضي الله
عنه وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن، قال: شهدنا الحديبية، فلما
انصرفنا عنها، إذ الناس ينفرون - ولا رواية: يوجفون - الأباعر، فقال
الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟.
قالوا: أوحى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرجنا مع الناس نوجف، حتى وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته عند كراع الغميم، واجتمع الناس إليه، فقرأ عليهم: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) .
فقال رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي رسول الله أو فتح هو؟.
قال: أي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح.

(2/496)


وللنسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقبلنا مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية، فذكر أنهم نزلوا دهاساً من الأرض - يعني بالدهاس: الرمل - فذكر قصة نومهم عن الصبح، وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين استيقظوا، ثم قال: فركب، فسرنا وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أنزل الوحي، اشتد عليه وعرفنا ذلك منه، فتنحى منتبذاً خلفنا.
فجعل يغطي رأسه، فيشتد عليه، حتى عرفنا أنه قد أنزل عليه، فأتانا فأخبرنا أنه قد أنزل عليه: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) ..
وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب "قيام الليل" عن هشام بن
عروة عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوحى إليه وهو على ناقة وضعت جرانها (1) فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه.
وقد مضى في سورة المائدة ما يشبهه.
وللشيخين - وهذا لفظ مسلم - وأحمد، والترمذي، والنَّسائي، عن
أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) .
إلى آخر الآية مرجعه من الحديبية، وأصحابه مخالطوا الحزن والكآبة، قد
حيل بينهم وبين مناسكهم ونحروا الهدى بالحديبية، فقال: نزلت عليّ آية
__________
(1) قال في النهاية. 1 / 263: الجران: باطن العنق.

(2/497)


هي أحب إليَّ من الدنيا، فلما تلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رجل من أصحابه: قد بين الله عز وَجَل لك ما يفعل بك - وفي رواية: هنيئاً مريئاً لك يا رسول الله، هذا لك - فماذا يفعل بنا؟.
فأنزل الله عز وجل الآية التي بعدها:
(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) .
وروى البيهقي في الدلائل، من طريق ابن إسحاق، عن المسور
ومروان في قصة الحديبية قالا: ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعاً، فلما كان بين مكة والمدينة، نزلت عليه سورة الفتح من أولها إلى آخرها: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) .
وروى عبد الرزاق عنِ معمر، عن ابن إسحاق، عن أبي برزة رضي
الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الصبح: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) .

(2/498)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الجزء الثالث: مَصَاعِدُ النَّظَرِ للإشْرَافِ عَلَى مَقَاصِدِ السِّوَرِ
ويُسَمَّى: "المَقْصِدُ الأَسْمَى في مُطَابَقَةِ اسْمِ كُلِّ سُورَةٍ لِلمُسَمَّى"

(3/4)


سورة الحجرات
مدنية إجماعاً.
وشذَّ من قال: مكية.
عدد آياتها
وآيها ثماني عشرة باتفاق العادِّين، وأجمعوا - أيضاً - على أن نظيرتها:
التغابن. وليس فيها اختلاف، ولا ما يشبه الفواصل.
ورويها ثلاثة أحرف: نمر.
مقصودها
ومقصودها: توقير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر ليكون

(3/5)


دليلاً على الباطن فيسمى إيماناً، كما أن الِإيمان بالله تعالى يشترط فيه تقبل
الأعمال الظاهرة، والِإذعان لفعلها بشرائطها وأركانهاوحدودها، لتكون بينة
على الباطن، وحجة شاهدة له (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) .
واسمها "الحجرات" واضح الدلالة على ذلك، بما دلت عليه آيته، من
ذم المنادين والتلويح لهم إلى الِإقبال على ما يحصِّل المغفرة، بأنهم قد
ارتكبوا ما كانوا به من المذنبين.

(3/6)


فضائلها
وأما ما ورد في بعض أمرها:
فروى الِإمام أحمد - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - والطبراني عن الحارث
بن ضرار الخزاعي - وقال الطبراني: ابن سرار رضي الله عنه قال: قدمت
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني إلى الِإسلام فدخلت فيه وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة فأقررت بها.
وقلت: يا رسول الله، أأرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإِسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته فيرسل إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رسولاً لإِبان كذا وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة؟.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإِبان الذي أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليه، احتبس الرسول فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وقّت وقتاً يرسل إليَّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة.
وليس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة
ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض

(3/7)


الطريق، فرق فرجع، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه إذا استقل البعث وفصل من المدينة، فلقيهم الحارث فقالوا:
هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى أين بعثتم؟.
قالوا: إليك قال: ولم؟.
قالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله.
قال: والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته ولا أتاني.
فلما دخل الحارث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي؟
قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته، ولا أتاني. وما أقبلت
إلا حين احتبس عليَّ رسولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خشيت أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل ورسوله.
قال: فنزلت الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)
إلى هذا المكان: (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) .
والحارث هذا: هو الحارث بن أبي ضرار المصطلقي، أبو جويرية أم
المؤمنين رضي الله عنها. وبنوا المصطلق بطن من خزاعة.
وقد سقط من هذه الرواية أداة الكنية.
واسم أبي ضرار: حبيب بن الحارث.
وعن علقمة بن ناجية رضي الله عنه قال: بعث إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة بن أبي معيظ يصدق أموالنا، فسار حتى كان قريباً منا، وذلك

(3/8)


بعد وقعة المريسيع، فرجع فركبت في أثره، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أتيت قوماً في جاهليتهم، أخذوا اللباس، ومنعوا الصدقة، فلم يغير النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت الآية: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ. . .) الآية. فأتى المصطلقيون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إثر الوليد بطائفة من
صدقاتهم يسوقونها، وبنفقات يحملونها، فذكروا ذلك له، وأنهم خرجوا
يطلبون الوليد بصدقاتهم فلم يجدوه، فدفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان معهم قالوا: يا رسول الله، بلغنا مخرج رسولك فسررنا بذلك وقلنا: نتلقاه، فبلغنا رجعته، فخفنا أن يكون ذلك من سخطة علينا، وعرضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشتروا منه ما بقي، وقبل منهم الفرائض، وقال: ارجعوا بنفقاتكم، لا نبيع شيئاً من الصدقات حتى نقبضه فرجعوا إلى أهليهم، وبعث إليهم من يقبض بقية صدقاتهم.
وفي رواية عن علقمة: أنه كان في وفد بني المصطلق على رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - في أمر الوليد بن عقبة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: انصرفوا غير محبوسين، ولا محصورين.
رواه الطبراني بإسنادين.
قال الهيثمي: في أحدهما يعقوب بن حميد بن كاسب، وثقه ابن حبان.
وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات.

(3/9)


وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوليد ابن عقبة إلى بني وليعة، وكانت بينهم شحناء في الجاهلية، فلما بلغ بني وليعة استقبلوه، لينظروا ما في نفسه، فخشى الْقَوْمَ فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:
والله بني وليعة أرادوا قتلي ومنعوني الصدقة، فلما بلغ بني وليعة الذي قال
الوليد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله لقد كذب الوليد، ولكن كان بيننا وبينه شحناء، فخشينا أن يعاقبنا بالذي كان بيننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لينتهين بنوا وليعة، أو لأبعثن إليهم رجلاً
كنفسي، يقتل مقاتلهم، ويسبي ذراريهم، وهو هذا، ثم ضرب بيده على
كتف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: وأنزل الله في الوليد (يا أيها
الذين إن جاءكم فاسق بنبأ) الآية.
رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن عبد القدوس التميمي.
وقد ضعفه الجمهور ووثقه ابن حبان، وبقية رجاله ثقات.
وعن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انصرف إلى بيتها فصلى فيه ركعتين بعد العصر، فأرسلت عائشة إلى أم سلمة رضي الله عنهما: ما هذه الصلاة التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتك؟.
فقالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الظهر ركعتين فقدم عليه وفد بني المصطلق فيما صنع بهم
عاملهم الوليد بن عقبة، ولم يزالوا يعتذرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جاء المؤذن يدعوه إلى صلاة العصر، فصلى المكتوبة، ثم صلى عندي في بيتي تلك الركعتين. ما صلاهما قبل ولا بعد.

(3/10)


وعن أم سلمة - أيضاً - رضي الله عنها، أنه نزل في بني المصطلق، فيما
صنع، بهم عاملهم الوليد بن عقبة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ، الآية. قالت: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه إليهم يصدق أموالهم، فلما سمعوا به أقبل رَكْبٌ منهم، فقالوا: نسير مع رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحمله، فلما سمع بذلك، ظن أنهم ساروا إليه ليقتلوه فرجع، فقال: إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم يا رسول الله، وأقبل القوم حتى قدموا المدينة، وصفوا وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصف، فلما قضى الصلاة انصرفوا، فقالوا:
إنا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، سمعنا يا رسول الله برسولك
الذي أرسلت يصدق أموالنا، فسررنا بذلك وقرت به أعيننا، وأردنا أن
نلقاه، ونسير مع رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمعنا أنه رجع، فخشينا أن يكون رده غضب من الله ورسوله علينا، فلم يزالوا يعتذرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى نزلت فيهم هذه الآية.
رواه الطبراني، قال الهيثمي: وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف.
وفي الصحيح ما يتعلق بالركعتين بعد العصر فقط.
وروى الشيخان في: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أكرم؟. قال: أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال

(3/11)


فأكرم الناس يوسف نبي الله، بن نبي الله، بن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك.
قال: فعن معادن العرب تسألونني؟.
قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية، خياركم في الِإسلام إذا فقهوا.

(3/12)


سورة ق
قال الأصفهاني: وتسمى: الباسقات.
مكية.
قال الأصفهاني: رواه العوفي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة والجمهور.
وحكى عن ابن عباس وقتادة: أن فيها آية مدنية: (ولقد خلقنا
السماوات والأرض) .
عدد آياتها وما يشبه الفواصل فيها
وآيها خمس وأربعون بالِإجماع، ولا اختلاف فيها.
وفيها مما يشبه الفواصل ولم يعده أحد من العادِّين، أربعة مواضع:

(3/13)


(ق) ، (رزقا للعباد) ، (هذا ما توعدون) ، (عليهم بجبار)
وعكسه موضعان: (وثمود) ، (وإخوان لوط) .
ورويها سبعة أحرف: جد، صد، جظ، بطر.
الجظ - بالجيم والظاء المعجمة -: الضخم.
مقصودها
ومقصودها: تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرسالة، التي معظمها الِإنذار بيوم الخروج بالدلالة على ذلك، بعد الآيات المسموعة الغنية بإعجازنا عن تأييد الآيات المربية، الدالة قطعاً على الِإحاطة بجميع صفات الكمال.
وأحسن من هذا، أن يقال: مقصودها: الدلالة على إحاطة القدرة.
التي هي نتيجة ما ختمت به الحجرات، من إحاطة العلم لبيان أنه لا بد من
البعث ليوم الوعيد، لتنكشف هذه الِإحاطة بما يحصل من الفصل بين العباد
بالعدل، لأن ذلك سر الملك، الذي هو سر الوجود والذي تكفل بالدلالة على هذا كله، ما شوهد من إحاطة مجد القرآن بإعجازه في بلوغه في كل من جمع المعاني، وعلو التراكيب، وجلالة المفردات، وجزالة المقاصد وتلاؤم الحروف،

(3/14)


وتناسب النظم ورشاقة الجمع، وحلاوة التفصيل، إلى حد لا تطيقه القوى.
من إحاطة أوصاف الرسل، الذي اختاره سبحانه لِإبلاغ هذا الكتاب، في
الخلق والخلق، وما شوهد من إحاطة القدرة، بما هدى إليه القرآن من آيات
الإيجاد والِإعدام.
وعلى كل من الاحتمالين، دل اسمها "ق"، بما في آيته من المجد لهذا
الكتاب.
والمجد هو الشرف والكرم، والرفعة والعلو، وذلك لا يكون، إلا والآتي
به كذلك، وهو ملازم لصدقه في جميع ما أتى به.
وللقاف وحدها أتم دلالة على ذلك.
أولاً بمخرجها، فإنه من أصل اللسان، مما يلي الحلق ويحاذيه من الحنك
الأعلى، فإن ذلك إشارة إلى أن المقصود من السورة: الأصل والعلو.
وكل منهما دل على الصدق دلالة قوية.
فإن الأصل في وضع الخبر: الصدق، ودلالته على الكذب عقلية، لا
وضعية، وهي - أيضاً محيطة باسمها ومسماها بالمخارج الثلاث، والإِحاطة
بالحق لا تكون إلا مع العلو وهو لا يكون إلا مع الصدق.
ولِإحاطتها سمي بها الجبل المحيط بالأرض، هذا مخرجها.

(3/15)


وأما صفتها: فإنها عظيمة في ذلك، فإن لها الجهر، والشدة، والانفتاح.
والاستعلاء والقلقلة، وكل منها ظاهر الدلالة على ذلك جيداً.
وأدل ما فيها من المخلوقات على هذا المقصد: النَخل، لما انفردت به
عما شاركها من النبات، بالِإحاطة بالطول، وكثرة المنافع، فإنها جامعة للتفكه بالقلب، ثم الطلع، ثم البسر ثم الرطب، وبالاقتيات بالثمر، والخشب والحطب والعصى، والخوص النافع للافتراش وغيره، والليف النافع للحبال وغيرها، وما سوى ذلك من الخلال.
هذا مع كثرة ملابسة العرب - الذين هم أول مدعو بهذا الذكر - لها.
ومعرفتهم بخواصها وأدل ما فيها على العظمة والمجد: الطول، مع أنه ليس
لعروقها من الامتداد في الأرض ما لغيرها.
ومثل ذلك غير كاف في العادة في

(3/16)


الِإمساك عن السقوط، وفي كثرة الحمل، وعظم الاقتناء وتناضد الثمر.
ولذلك سميت السورة الباسقات، لا النخل.
فضائلها
وأما فضائلها: فإنها أول المفصل، كما مضى في الفضائل العامة في
تحزيب القرآن.
وقيل: أوله الحجرات.
قال الشيخ محي الدين في شرح المهذب: وحكى القاضي عياض:
أنه من الجاثية وهو غريب.

(3/17)


وقد روى الدارمي عن عبد الله رضي الله عنه موقوفاً عليه: إن لكل
شيء سناما، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لبابا، وإن لباب القرآن المفصَّل.
ويشبه أن يكون مرفوعاً حكماً.
قال أبو محمد: اللباب: الخالص.
وروى ابن أبي داود في كتاب "المصاحف" عن أبي سعيد الخدري رضي
الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر بأول المفصل، فقرأ ذات يوم بقصار المفصل فقيل له في ذلك، فقال: إني سمعت بكاء صبي فأحببت أن أفرغ أمه له.

(3/19)


وروى ابن أبي داود أيضاً، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مولى بني
أسد قال: لما دخل البصريون على عثمان رضي الله عنه، ضربوه بالسيف على يديه فوقعت على: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، فمد يده
وقال: والله إنها لأول يد خطت المفصل.
وروى عبد الرزاق عن عاصم بن عمر، أن عمر رضي الله عنه كان
يقول لبنيه: إن كان أحد منكم متعلماً، فليتعلم من المفصل فإنه أيسر
وروى مسلم، والدارمي واللفظ له، والترمذي وقال: حسن صحيح.
وعبد الرزاق، عن قطبة بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعة الأولى من الفجر: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) .
قال سعيد: وسألته مرة أخرى فقال: سمعته يقرأ بـ قاف.

(3/20)


وللترمذي وقال: حسن صحيح، وعبد الرزاق، أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه، سأل أبا واقد الليثي رضي الله عنه: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ به في الفطر والأضحى؟
قال: يقرأ بـ قاف والقرآن المجيد، واقتربت الساعة وانشق القمر.
وسر ذلك: أن في ق الحث على الاستبصار بما جرت عادة أهل العيد
له من الانتشار لنظر البساتين، وفضول الدنيا، والإِقبال على الملاذ، وقبض
النفس عما تهيأت بالعيد للانبساط فيه من الشهوات، بذكر النار والحشر.
وغير ذلك من المواعظ، التي لا توجد في غيرها، مع الوجادة، وهو للقبض
عن الدنيا بالكلية، لأنها محل الكدر، والحث على الإِقبال على ما عند المليك
المقتدر، من دار الصفاء.
وذكر ابن رجب عن كتاب الزهد للِإمام أحمد، عن معتمر بن سليمان
التميمي قال: صلى بنا أبي فقرأ سورة ق في صلاة الفجر، فلما انتهى إلى

(3/21)


هذه الآية: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) غلبته عبرته، ولم يستطع أن
يجوزها، فركع.
وقال في مناسبة قراءتها في خطبة الجمعة: إن آخرها حاث عل أمر الله
بالتذكير بالقرآن.
وروى النسائي عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها
قالت: ما أخذت "ق والقرآن المجيد"، إلا من فيِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي بها في الصبح.
وروى مسلم وأبو داود عنها رضي الله عنها، أنها قالت: ما أخذت "ق
والقرآن المجيد" إلا عن لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقرؤها في كل جمعة على المنبر إذا خطب للناس.

(3/22)


ولفظ أبي داود: وكانت تنورنا وتنور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحداً.

(3/23)


سورة الذاريات
مكية إجماعاً.
وآيها ستون باتفاق العادين، ولا اختلاف فيها، ولا ما يشبه الفاصلة.
ولا عكسه.
ورويها ثمانية أحرف: قرَّ، من، وكفَّ.
مقصودها
ومقصودها: الدلالة على صدق ما أنذرت به سورة ق تصريحاً، وبشرت
به تلويحاً، ولا سيما من مصاب الدنيا، وعذاب الآخرة.

(3/24)


واسمها "الذاريات" ظاهر في ذلك، بملاحظة جواب القسم، فإنه -
لشدة الارتباط - كالآية الواحدة وإن كان خمسا.
وللتعبير عن الرياح بالذاريات، أتم إشارة إلى ذلك، فإن تكذيبهم
بالوعيد، لكونهم لا يشعرون بشيء من أسبابه، وإن كانت موجودة معهم.
كما أن يأتي من السحاب من الرحمة والنقمة، أسبابه موجودة، وهي الرياح، وإن كانوا لا يرونها، والريح من شأنها الذر، وهوالتفريق، فإذا أراد الله
جمعت، فكان ما أراد، فإنها تفرق الأبخرة، فإذا أراد سبحانه جمعتها فحملها
سبحانه ما أوجد فيها، فأوقرها به، فأجراها إجراءً سهلًا، فقسم منها ما
أراد، تارة برقاً، وأخرى رعداً، يصل صليل الحديد على الحديد، أو الحجر
على مثله، مع لطافة السحاب.
وكل ما نشاهد فيه من الأسباب: آونة مطراً، ومرة ثلجاً، أو برداً.
وحيناً صواعق ونيراناً ووقتاً جواهر ومرجاناً، فتكون مرة سروراً ورضواناً.
وأخرى غموماً وأحزاناً، وغبناً وخسرانا، على أنهم أخيل الناس في بعض
ذلك، يعرفون السحاب الذي يخيّل المطر، والذي لا يخيّله، والذي مطره
دان، والذي لم يأن له أن يمطر، إلى غير ذلك ذكرها أهل الأدب وحَمَلَة اللغة عنهم وكل ذلك بتصريف الملائكة عن أمر الله تعالى.
ولذلك - والله أعلم - سُنَّ أن يقال عند الرعد: سبوح قدوس، بياناً
لأن المصرف الحق هو الله رب الملائكة.
أي الذين أقيموا لهذا، والروح، أي الذي يحمله هذا الجسم من مطر.
أو نار، أو غيرهما والله الموفق.

(3/25)


فضائلها
وأما ما ورد فيها: ففي توله تعالى: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) .
روى البغوي من طريق البخاري عن عبادة رضي الله عنه، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تعارَّ من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد للهِ، وسبحان الله، والله أكبر ولا حول ولا توة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي - أو دعا - استجيب له، فإن توضأ، قبلت صلاته.
وتقدم في لقمان حديث في فضلها.

(3/26)