معاني القراءات للأزهري

سورة بَرَاءَة
قول الله جلَّ وعزَّ: (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ... (12) .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب (أيْمَة) بهمزة واحدة
مقصورة، بعدها ياء ساكنة.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي (أَئِمَّةَ) بهمزتين.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (أيمَة) بهمزة واحدة وياء بعدها فإنه كَرِه
الجمع بين همزتيِن، فجعل الأخيرة ياء، و (أيمَة) كان في الأصل (أُأْمِمَة)
مثل: أُعْمِمَة، فاستثقلوا الجمع بين الميمين متحركتين، فأسكنوا الميم
الأولى، وَأدغموها في الأخرى، فصارت ميمًا شديدة، وعَوض الذين
همزوا همزتين من الميم المدغمة همزة، فصارت ياء شديدة، وعَوض
الآخرون إحدى الهمزتين ياء.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (لَا أَيْمَانَ لَهُمْ ... (12) .

(1/447)


قرأ ابن عامر وحده (لَا إِيْمَانَ لَهُمْ) بكسر الألف،
وقرأ الباقون (لَا أَيْمَانَ لَهُمْ) بفتح.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (لَا إِيْمَانَ لَهُمْ) بالكسر فمعناه: لا تصديق لهم.
وقيل: معناه: لا إجِارَة لهم، من آمَنَه إيمانًا، إذ أجارَهُ،
وَمَنْ قَرَأَ (لَا أَيْمَانَ لَهُمْ) فهي جمع يمين، المعنى: لا عهد لهم إذا أقسموا وحلفوا؛ لأنهم لا يدينون دين الحق.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ... (17) .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (أَنْ يَعْمُرُوا مَسْجِدَ اللَّهِ) على واحِد.
و (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ) " جماعة،
وقرأ الباقون (مَسَاجِدَ اللَّهِ) جميعًا.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (أن يعمرُوا مَسْجِدَ الله) فهو المسجد
الحرام، وَمَنْ قَرَأَ (مَسَاجِدَ اللَّهِ) فهو كل موضع يتخذ مسجدًا يُصلى فيه
لله، وجائز في اللغة، أن يكون المعنى في قوله: (مسجد الله) يعني به
الجمع، ويقال فلان يعمر مسجدَ الله، أي: يصلي فيه ويعبد الله.

(1/448)


وقوله جلَّ وعزَّ: (وَعَشِيرَتُكُمْ ... (24) .
روى أبو بكر عن عاصم (وَعَشِيرَاتُكُمْ)
وفي المجادلة (أو عَشِيراتُهُمْ) على الجميع فيهما،
هذه رواية الأعشى عن أبي بكر.
وفي رواية يحيى (وَعَشِيرَاتُكُمْ) بالألف على الجميع في هذه وحدها.
وقرأ الباقون (وَعَشِيرَتُكُمْ) ، (أو عشيرتهُمْ) موحدتين.
قال أبو منصور: العشيرة: اسم جامع لأهل البيت من قَرُب أو بعُد.
وقال أبو العباس: عشيرة الرجل: أهل بيته الأدنون، سُمُّوا عشيرة
لمعاشرة بعضهم بعضًا، والقراءة بالتوحيد.
قال أبو منصور: ولما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) .
أنذر النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم الأدنى والأبعَد، - فيما حدثنا السعدي قال: حدثنا ابن عفان قال حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن عمرو بن مُرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) .
أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفَا فصعد عليه، ثم نادى:

(1/449)


يا صباحاه، فاجتمع إليه الناس بين رجل يجيء وبين رجل يَبعثُ رسوله، فقال
رسول الله: يا بني عبد المطلب، يا بني فِهر، يا بني لؤي، لو أخبرتكم أن
خَيلاً بِسَفْح هذا الجبل تُرِيد أن تُغِير عليكم صدقتموني؟
قالوا: نعم.
قال: فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ.
فقال أبو لهب: تبًّا لكم سائر اليوم، أما جمعتنا إلا لهذا.
فأنزل الله تبارك وتعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) ، وقَد تَبَّ.
قال أبو منصور: فأنذر بني فهر وبني لؤي كما أنذر الأقربين، ومن
قرأ (أو عَشِيراتكم) فهو جائز في العربية، ويجمع العشيرة: عشائر
أيضًا، والجمع بالتاء قليل.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ... (30) .
قرأ عاصم والكسائي والحضرمي (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) منونًا،
وكذلك روى عبد الوارث عن أبي عمرو،
وقرأ الباقون بغير تنوين.
وقال الفراء: الوجه التنوين؛ لأن الكلام ناقص، و (ابن) موضع خبر
لِـ (عُزَيز) ، فوجه العمل في ذلك أن تُنَون ما رأيت من الكلام مُحتاجًا
إلى (ابن) ، فإذا اكتفى دون (ابن) فوجه الكلام أن لا تُنَوِّن، وذلك

(1/450)


مع ظهور اسم أب الرجل أو كنيته، فإذا جاوزتَ ذلك فأضفت (ابن)
إلى المكنى عنه مثل ابنك أو ابنه، أو قلت: ابن الرجل، أو ابن
الصالح، أدخلت النون في التام منه والناقص وذلك أن الحذف في
النون إنما كان في الموضع الذي يُجرى في الكلام كثيرًا فيستخف
طرحها في الموضع المستعمل، وقد ترى الرجل يذكر بالنسب إلى أبيه
كثيرًا، فيقال مِنْ فلان بن فلان إلى فلان فلا يجرى كثيرًا بغير ذلك، وربما
حُذفت النون وإن لم يتم الكلام لسُكون الباء من (ابن) فيستثقل النون إذا
كانت ساكنة لقيت ساكنًا فحذفت استثقالاً لتحريكها، من ذلك قراءة
القراء (عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ) بغير تنوين، وأنشدني بعضهم:.
لَتَجِدَنِّي بالأَمِيرِ بَرّا ... وبالقَناةِ مِدْعَساً مِكَرّا
إِذا غُطَيْفُ السُّلَميُّ فَرَّا
فحذف النون الساكن الذي استقبلها.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (يُضَاهِئُونَ ... (30) .
قرأ عاصم وحده (يُضَاهِئُونَ) مهموزًا، وقرأ الباقون (يُضَاهُون)
بغير همز.

(1/451)


قال أبو منصور: من العرب من يهمز ضاهأت، أقرأني الإيادي
لِشمر عن أبي عبيد عن أصحابه قال: ضاهأت الرجل، إذا دفعت به -
وأكثر العرب يقولون: ضاهيته، وقال أبو إسحاق: أصل المضَاهَاتِ - في
اللغة -: المشابهة.
قال: والأكثر ترك الهمز فيه.
قال: واشتقاقه من قولهم: امرأة ضهياء: وهي التي لا يظهر لها ثَدي.
وقيل: هي التي لا تحيض، ومعناها: أنها أشبهت الرجال؛ لأنها لا ثَدي لها يظهر وضهياء (فَعْلاء) .
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ... (37) .
روي عن ابن كثير أنه قرأ (إِنَّمَا النَّسِيُّ) مشددا بغير همز، ورُوى
عنه وجه آخر (إِنَّمَا النَّسَأ) بوزن (النسَع) .
وقرأ الباقون (إِنَّمَا النَّسِيءُ) بكسر السين بالمد والهمز.
قال الأزهري: مَنْ قَرَأَ (إِنَّمَا النَّسِيُّ) بتشديد الياء غير مهموز
فالأصل فيه: النسِيء، بالمد والهمز، ولكن القارئ به آثر ترك الهمز
على لغة من يخفف الهمز ويحذفه، والنسِيءُ اسم على (فَعِيل) ، من
قولك: أنسَاتُ الشيء، إذا أخَّرته، أنسَأ نَسِيئا.
قال أبو عبيد: قال أبو عبيدة: أنْسَأ الله فُلانًا: أجَّلهُ. ونَسَأ الله في
أجله - بغير ألف - والنسِيئة: التأخير، ومنه قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)

(1/452)


إنما هو تأخيرهم تحريم المحرَّم إلى صفرَ
وَمَنْ قَرَأَ (النسيءُ) فهو مصدر نَسَاتُ نَسْأً، على فَعَلتُ فَعلا.
القراءة الجيدة (النسيءُ) بالهمز والمد، وبها قرأ أكثر القراء.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (37) .
قرأ حفص عن عاصم وحمزة والكساني (يُضَلُّ) بضم الياء وفتح الضاد.
وقرأ الحضرمي (يُضِلُّ) بضم الياء وكسر الضاد،
وقرأ الباقون (يَضِلُّ) بفتح الياء وكسر الضاد.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (يُضَلُّ) فهو على ما لم يُسَم فاعله،
و (الذين) في موضع الرفع، لأنه مفعول لم يسم فاعله.
وَمَنْ قَرَأَ (يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) فمعناه أن الكفَارَ يُضِلون بالنسيء
أتبَاعهم في إِحْلالِهم المحَرَّم مرة، وتحريمِهم إياه أخرى.
وَمَنْ قَرَأَ (يَضِلُّ) فالفعل للكفار الضالين،
و (الذين) في موضع الرفع على قراءة مَن قَرَأ (يَضِلُّ) .
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قرأ يعقوب وحده (وَكَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) نصبًا.

(1/453)


وقرأ الباقون (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) رفعًا.
قال أَبو منصور: مَنْ قَرَأَ (وَكَلِمَةَ اللَّهِ) نصبا فالمعنى: وجعل اللهُ
كلمتهُ العليا.
وقال الفراء: لا أشتَهِي هذه القراءة؛ لظهور (الله) ، لأنه إذا نصبها
- والفعلُ فعله - كان أجود الكلام أن يقال: وكلمتَهُ هي العليا.
قال أَبو منصور: القراءة بالرفع لأن القراء عليه، وهُو في الكلام
أوجه، و (كَلِمَةُ اللَّهِ) مرفوعة بالابتداء، وخبر الابتدا (هِيَ الْعُلْيَا)
سَدَّا معًا مسَدَ الخبر.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ... (49) .
اتفقوا علىْ تَسكين الياء من (تَفْتِنِّي) ، ونافع وأبو عمرو لا يكادان
يحركان ياء الإضافة تلي فعلاً مجزومًا، كقوله: (وَلَا تَفْتِنِّي)
و (فاذكُرونِي أذكُركُم) ، ونحوها.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ ... (54) .
قرأ حمزة والكسائي (أَنْ يُقْبَلَ) بالياء.
وقرأ الباقون بالتاء.

(1/454)


قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ بالياء فلتقدم فعل الجماعة،
ومن قرأ بالتاء فلأنَّ النفَقَات مؤنثة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) .
قرأ الحضرمي وحده (أَوْ مَدْخَلًا) بفتح الميم،
وقرأ الباقون (مُدَّخَلًا) بضم الميم وتشديد الدال.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (مَدْخَلًا) فهو موضع الدخول.
ومَنْ قرأ (مُدَّخَلًا) فإنه كان في الأصل (مُدْتخَلًا) فأدغمت التاء في الدال،
وجُعِلتا دالاً مشددة، وهو (مُفتَعَلا) من الدخول.
يقال: ادَّخَلَ يدَّخِل ادِّخالا ومُدَّخَلًا، وهذا مُدَّخل القوم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ... (58) .
قرأ يعقوب (يَلْمِزُكَ) ، و (الذين يَلمُزون) و (لا تَلمُزوا)
كله بضم الميم.
وقرأ الآخرون "بكسر الميم في كل - هذا، إلا ما رَوَى محمد بن صالح
عن شبل عن ابن كثير (يَلمُزمكَ) ، و (يَلمُزون) بضم الميم،
وأما قوله (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) فلم يُختلف فيه عنه أنه بالكسر.

(1/455)


قال أبو منصور: هما لغتان: لمَزَهُ يَلمزُه ويَلمُزه، إذا عَابهُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ... (60) .
روى الأعشى عن أبي بكر عن عاصم (وَالْمُوَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ)
بغير همز، وتبين الواو، وكذلك (مَوطِيا) ، و (مُوَجَّلا) و (مِاية)
و (مِايَتَين) و (فِيَة) و (فيتَين) و (ليِن أتَيتنا) ،
و (ليِن أخرْتنِ) و (ليِنْ سألتَهم) ، (لِيُواطِيُوا) ،
(ليُبطيَن) غير مهموز في كل القرآن،
ولا يهمز (اطمَانَئتُم) و (يطمَيِن قَلبِي) و (تَطمَيِن قُلوبُنا)
و (كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ)

(1/456)


و (يَابى) و (يَاتي) و (ياكلونَ) و (ياخُذُونَ)
و (يامرُونَ) و (يُوَخركُم) ونظائر هذه الحروف كلها.
قال أبو منصور: هذه الحروف كلها عند أكثر العرب مهموزة، ومنهم
من يخفف همزها، والهمز أفصح اللغتين.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ... (61)
قرأ عاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر عنه (قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ)
منونة رفعًا،
وقرأ الباقون بالإضافة.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ)
فمعناه: قل يا محمد: هو يستمع منكم، ويكون قريبًا منكم، قابلاً بعذركم (خَيْرٌ لَكُمْ) .
وذلك أن المنافقين قالوا: إن محمد أذُن، ومتى بلغه عنَّا أمرٌ حلفنا له

(1/457)


يقبله منَّا؛ لأنه أذُن، أي: يسمع ما يقال فيصدق به.
فكان الجواب لهم على ما قالوا: قل يا محمد: إن كان أذُنًا كما تقولون فهو خيرٌ لكم، ولكنه يصدق المؤمنين. ويكذبكم.
وَمَنْ قَرَأَ (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) فهو نَفي لما قالوا، والمعنى: أنه
مستمع خَيْر لكم، وهو يصدِّق الله جلَّ وعزَّ، ويصدِّق المؤمنين
فيما يخبرونه به، ولا يصدق الكافرين، ولا يستمع إلى كذب المنافقين
استماع المصدِّق لهم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ... (61) .
قرأ حمزة وحده (وَرَحْمَةٍ) خفضًا، وكذلك روى أبو عمارة عن
يعقوب عن نافع (وَرَحْمَةٍ) خفضًا، مثل حمزة،
وقرأ الباقون (وَرَحْمَةٌ) رفعًا.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (وَرَحْمَةٍ) عطفه علي أذُنُ خير وأذُنُ رحمة
للمؤمنين.
وَمَنْ قَرَأَ (وَرَحْمَةٌ) رفعًا فالمعنى: وهو رحمة للذين آمنوا؛ لأنه كان
سبب إيمان المؤمنين.

(1/458)


وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنْ يُعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ تُعَذَّبْ طَائِفَةٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قرأ عاصم وحده (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ. . . نُعَذِّبْ طَائِفَةً) بالنون
فيهما، ونصب (طَائِفَةً) .
وقرأ الباقون بالياء الأولى (إِنْ يُعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ تُعَذَّبْ طَائِفَةٌ) .
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ بالنون فالله يقول: إن نعف نحن عن طائفة
نُعذب طائفة.
وَمَنْ قَرَأَ (إِنْ يُعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ) فهو على ما لم يسم فاعله،
و (إِنْ) شرط، وجوابه (تُعَذَّبْ طَائِفَةٌ) .
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ... (63) .
اجتمع القراء على فتح الألف من قوله (فَأَنَّ لَهُ) عطفًا على قوله
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ) ، ولو قرأ قاريء بالكسر (فَإِنَّ لَهُ) ، فهو في العربية
جائز على الاستئناف بعد الفاء، كما يقول: له نار جهنم،
ودخلت (إنَّ) مؤكدة، كقوله في سورة الجن: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) .

(1/459)


بالكسر، لم يختلف القراء فيه.
وقد قرأ بعض في سورة براءة (فَإِنَّ لَهُ) بالكسر، غير أن قُراء
الأمصار لما اجتمعوا على الفتح كان المختار.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ ... (90) .
قرأ يعقوب وحده (وَجَاءَ الْمُعْذِرُونَ) ساكنة العين خفيفة.
وقرأ الباقون (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ) بتشديد الذال.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (الْمُعْذِرُونَ) بالتخفيف فهم الذين أعذَروا،
أي: جاءوا بعذر، يقال: أعذَرَ الرجلُ، إذا جاء بعُذر ولم يُقَصر.
وَمَنْ قَرَأَ (الْمُعَذِّرُونَ) بتشديد الذال فله وجهان:
أحدهما: المتعذرون، أدغمت التاء في الذال، كأنهم يَعتَذرون، كأنَّ لهم عذر ولم يكن.
وشبيهٌ أن يكون المعنى أن يكون لهم عذر، كما قال لبيد:
إِلى الحولِ ثم اسمُ السلامِ عليكما ... ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِلاً فقد اعْتَذَرْ
المعنى فقد أُعذر، أي: جاء بعذر.
وجائز أن يكون (الْمُعَذِّرُونَ) الذين تَوَهَّمُوا أن لهم عُذرًا ولا عُذر لهم. والعرب تقول للمقَصِّر: مُعَذِّر.
والله أعلم بما أراد.

(1/460)


وقوله جلَّ وعزَّ: (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (دَائِرَةُ السُّوْءِ) بضم السين والمد،
وكذلك في سورة الفتح.
وقرأ الباقون بفتح السين في السورتين.
قال الفراء: مَنْ قَرَأَ (دَائِرَةُ السَّوْءِ) بفتح السين فإنه أراد المصدر،
من سُؤتُه سَوءًا ومَسَاءة.
ومن رفع السين جعله اسمًا كقولهم: عليهم دائرة البلاء والعذاب.
قال: ولا يجوز ضم السين في قوله: (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) ،
ولا في قوله: (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) ؛ لأنه ضدٌّ لقولك:
هذا رجلٌ صدقٌ، وثوبُ صدقٍ.
فليس للسوءِ ها هنا معنى في البلاء ولا عذاب فيُضَمَ.
والقراء كلهم قرأوا (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) بفتح السين،
وكذلك (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) .
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ... (99) .
روى إسماعيل ويعقوب ابنا جعفر وورش والأصمعي عن نافع
(قُرُبَةٌ) مُثقلةً.
وروى قالون والمسيبي وأبو بكر بن أبي أويس (قُرْبَةٌ)
ساكنة الراء مثل سائر القراء، واتفقوا على تثقيل (قُرُبَاتٍ) .

(1/461)


قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (قُربة) فهو على بناء (فُعلة) ، وجمعها:
قُرُبات وقُرَبات.
وَمَنْ قَرَأَ (قُرُبَةٌ) مثقلة فهو على مثل الجُمُعة والجُمْعَة، والتخفيف
أجود الوجهين.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (مَعِيَ أَبَدًا ... (83) ،. . مَعِيَ عَدُوًّا ... (83) .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر (مَعِيَ أَبَدًا) محركة الياء.
وقرأ حفص عن عاصم (مَعِيَ أَبَدًا) و (مَعِيَ عَدُوًّا) متحركتين،
وأرسلهما الباقون.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ... (100) .
قرأ يعقوب وحده (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ) بالرفع،
وقرأ الباقون بالخفض.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (وَالْأَنْصَارُ) عطفه على قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) .
وَمَنْ قَرَأَ بالخفض عطفه على (الْمُهَاجِرِينَ) .
وهو أجود الوجهين، والأولى صحيحة في العربية، والله أعلم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ ... (100) .

(1/462)


قرأ ابن كثير وحده (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)
بزيادة (مِن) ، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة خاصة.
وقرأ الباقون (تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ) بغير (مِن) .
قال أبو منصور: (مِن) تزاد في الكلام توكيدًا، وتُخذَفُ اختصارًا،
والمعنى واحد.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
قرأ حمزة والكسائي (إِنَّ صَلَاتَكَ) ، وفي هود (أصلاتُكَ) ،
وفي المؤمنين (على صَلاتِهم) على التوحيد.
وقرأ حفص (إِنَّ صَلَاتَكَ) و (أصَلاتُكَ) على التوحيد،
و (على صَلواتِهِم) جماعة.
وقرأ الباقون كلهن على الجمع.
قال الأزهري: الصلاة في قولك (إن صلاتَك) دعاء،
أما قوله (أصلاتُك تأمركَ) فمعناها: أعبادتك، وكله جائز، صلاتك وصلواتك.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ. . . (106) و (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) .

(1/463)


قرأ نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ)
و (تُرْجِي) بغير همز، وقرأ الباقون بالهمز في الموضعين.
قال أبو منصور: هما لغتان: أرجأت الأمر، وأرجيته، إذا أخرته،
ورجل مُرجئ ومُرجٍ، وهم المرجئة والمرجية، فإذا نسبت إليهم قلت:
رَجلٌ مُرجَاءٍ. بفتح الجيم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ... (107)
قرأ نافع وابن عامر (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) بغير واوه وكذلك هي في
ْمصاحف أهل المدينة، وأهل الشام.
وقرأ الباقون (وَالَّذِينَ) بواو.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ بالواو عطفَ جملة على جملة،
وَمَنْ قَرَأَ بغير الواو فهو تابع لما قبله، نعتٌ له.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ ... (109) .

(1/464)


قرأ نافع وابن عامر (أَفَمَنْ أُسَّسَ بُنْيَانُهُ. . . خَيْرٌ أَمْ مَنْ أُسَّسَ بُنْيَانُهُ)
بضم الألف في الحرفين، ورفع البنيان.
وقَرأ الباقون بفتح الألف فيهما، ونصب البنيان.
قال أبو منصور: المعنى واحد في القراءتين، إلا أن الضم يَدل على
أنه لم يُسَم فاعله، والنصب يدل على الفاعل والمفعول،
وكل ذلك جائز.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ... (109) .
قرأ ابن عامر وحمزة ويحيى عن أبي بكر عن عاصم (عَلَى شَفَا جُرْفٍ)
بسكون الراء، وقرأ حفص والأعشى عن أبي بكر عن عاصم
(جُرُفٍ) مثقل، وكذلك قرأ الباقون (جُرُفٍ) بضمتين.
قال أبو منصور: هما لغتان: جُرُفٍ وجُرْفٍ.
والعرب تقول للرجل لا حَزْمَ له ولا عَقل: فُلانٌ جُرفَ مُنْهارَ.
ومن أمثالهم أيضًا: لا أحْفُر لك"جُرفًا، معناه: لا أغُشُّك.
والجُرفُ في كلام العرب: أن

(1/465)


يَجنِح مَاءُ السيل عُدْوَة الوادي فيأكل أصلها، فإذا وَطِئت دابة أو
إنسان الموضع الذي أكل السيل ما تحته انقطع فانهار به.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ ... (109) .
قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وحمزة ويعقوب (هَارٍ) مُفَخمًا،
وقرأ نافع وابن عامر ويحيى عن أبي بكر عن عاصم والكسائي
مُمَالاً.
قال الأزهري: هما لغتان، والتفخيم أفصح اللغتين، وفيه لغتان
أخريان لم يُقرأ بهما، يقال: جُرف "هَائِر، وهَارٌ.
كما يقال: كبش صائِفٌ، وصَافٌ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ... (110) .
قرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ) بفتح التاء،
وقرأ الباقون (إِلَّا أَنْ تُقَطَّعَ) بضم التاء.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ) فالأصل: إلا أن تتَقطع،
بالتاءين، فحذفت التاء الأولى استثقالاً للجمع بينهما.

(1/466)


وَمَنْ قَرَأَ (إِلَّا أَنْ تُقَطَّعَ) فهو من: قُطِّعَت تُقَطَّع، والمعنى فيهما:
إلا أن يموتوا. وتَقَطع فعل لازم، وتُقَطَّعُ متعدٍّ، يقال: قطَّعته
فَتقطَّع.
* * *
وقوله جلْ وعزَّ: (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ... (117)
قرأ حفص عن عاصم وحمزة (كَادَ يَزِيغُ) بالياء،
وقرأ الباقون (تَزِيغُ) بالتاء.
قال أبو منصور: قد مَرَّ الجواب في مثل هذا في غير موضع.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ ... (126) .
قرأ حمزة ويعقوب (أَوَلَا تَرَوْنَ) بالتاء،
وقرأ الباقون (أَوَلَا يَرَوْنَ) بالياء.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ بالتاء فالخطاب للنبي صلى الله عليه وأصحابه،
وَمَنْ قَرَأَ بالياء فالفعل للمنافقين الذين جرى ذكرهم،
والمعنيان متقارلان.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ (127)

(1/467)


و (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) و (مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) و (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ)
و (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) و (تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ)
ونظائر هذه الحروف، كقوله: (لاَ أعْبُدُ) و (ما أعْبُدُ) و (مَا أرَى)
و (لاَ أقُولُ لكُم) .
فابن كثير ويعقوب لايَمُدان منها شيئًا، بل يَقصُرانها في جميع
القرآن، وكان نافع وأبو عمرو أيضًا لايَمُدان حَرفًا لِحَرفٍ إلا أنهما
يقرآنِها مشبعةً قليلاً لتظهر الهمزة التي تلي الحرف الذي لو سُكِتَ عليه
كان قَصرًا، مثل: (هَؤلاَ) و (يا بني إسرايل) ونحوهن، فإذا
وصلا هذه الحروف بما بعدها مَكَناها فقرآ (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ)
و (لاَ أقُولُ) ، و (لا أعبد) ، و (ولا أنتم عابدون) ،
و (يا بني إسرائيل) ، و (إني أراكُم) ، و (اتبِعُوني أهدِكُم) ،
وما كان من نحوهن قراءة متمكنة غير ممدودة. .

(1/468)


وأما ابن عامر والكسائي فَمَذْهبهما في هذه الحروف التوسط
والتمكين، قريبان من مذهب أبي عمرو.
وكان عاصم وحمزة يَمُدان حَرفًا لحرف مَدٍّ تامًا حَسَنًا غير خارج من
حقه إلى الإفراط، وكل مَنْ قَرَأَ لحمزة فأفرط في المد حتى يزول بإفراطه
من وجه الصواب فقد خرج من قراءة حمزة، وخالف مذهبه ومنهاجه،
فافهمه.
وقرأ يحيى عن أبي بكر عن عاصم في مَدِّ حرف لحرف ما يشبه
قراءة الذين مكنوا الحروف ولم يَمُدْوا المدَّ التام.
قال أبو منصور: الاختيار في هذه الحروف مذهب نافع وأبي عمرو
من التمكن دون المد،
وَمَنْ قَرَأَ بحرف ابن كثير فهو مصيب،
وأما من قرأ بحرف حمزة فأفرط في المدِّ فليس من كلام العرب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ... (123)
روى المفضل عن عاصم (غَلْظَةً) بفتح الغين،
وقرأ الباقون (غِلْظَةً) بكسر الغين.
قال أبو منصور: هما لغتان: (غِلْظَةً) ، و (غَلْظَةً) .
وأجودهما الكسر.
وفيه لغة ثالثة لم يُقرَأ بها (غُلْظَةً) بالضم.
فلا تقرأ بها.
* * *
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني ويبدأ بسورة يونس.

(1/469)