معاني القرآن للفراء ومن سورة الممتحنة
قوله عز وجل: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ (1) دخول
الباء فِي: المودة، وسقوطها سواء، هَذَا بمنزلة قولك: أظن أنك
قائم، وأظن [بأنك] «5» قائم، وأريد بأن تذهب، وأريد بأن تقوم.
وقد قال الله جلّ وعز:
«وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ» «6» فأدخل الباء،
والمعنى: ومن يرد فِيهِ إلحادًا.
أنشدني أَبُو الجراح:
فلمّا رَجَت بالشُّرب هَزّلها العصا ... شحيح له عند الإزاء
نهيم «7»
__________
(1) سقط فى ش.
(2) فى ح: وأصحاب الجنة مكان ولا أصحاب النار، وهو تحريف.
(3) فى غير ح: أنشد.
(4) لم أعثر على قائله.
(5) سقط فى ح.
(6) سورة الحج الآية: 25.
(7) الإزاء: مصب الماء فى الحوض، أو حجر أو جلد أو جله يوضع
على فم الحوض. والنهيم: صوت يشبه الأنثيين.
(3/147)
معناه: فلما رجت أن تشرب. ونزلت هَذِهِ
السُّورة فِي حاطب بْن أَبِي بلتعة، لما أراد رسول الله صلّى
الله عليه أن يغزو أهل مكَّة، قدمت عَلَيْهِ امْرَأَة من موالي
بني المطلب، فوصلها المسلمون، فلما أرادت الرجوع أتاها حاطب
بْن أَبِي بلتعة، فَقَالَ: إني معطيك عشرة دنانير، وكاسيك بردا
عَلَى أن تبلغي أهل مكَّة كتابًا، فكتب معها، ومضت تريد مكَّة،
فنزل جبريل عَلَى النبي صلّى الله عليهما «1» بالخبر، فأرسل
عليًّا والزبير فِي إثرها، فَقَالَ: إن دفعت إليكما الكتاب
[وإلا فاضربا] «2» [197/ ا] عنقها فلحقاها، فقالت: تنحيا عني،
فإني أعلم أنكما لن تصدقاني حتَّى تفتشاني، قَالَ: فأخَذَت
الكتاب، فجعلته بين قرنين من قرونها، ففتشاها، فلم يريا شيئًا،
فانصرفا راجعين، فَقَالَ عليّ للزبير: ماذا صنعنا؟ يخبرنا «3»
رسول الله أن معها كتابا ونصدقها؟ فكرّا عليها «4» ، فقالا:
لتخرِجِنَّ كتابك «5» أَوْ لنضربن عنقك، فلما رأت الجد أخرجت
الكتاب.
وكان فِيهِ: من حاطب بْن أَبِي بلتعة إلى أهل مكَّة:
أما بعد، فإن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يريد إن
يغزوكم، فخذوا حذركم مَعَ أشياء كتب «6» بها، فدعا رَسُول
اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه بحاطب، فأقرّ لَهُ، وقَالَ: حملني
عَلَى ذَلِكَ أن أهلي بمكة وليس من أصحابك [أحد] «7» إلا وله
«8» بمكة من يذب عنْ أهله، فأحببت أن أتقرّب إليهم ليحفظونى
فِي عيالي، ولقد علمت أن لن ينفعهم كتابي، وأن اللَّه بالغ
فيهم أمره، فَقَالَ عمر بن الخطاب: دعنى فأضرب عنقه، قَالَ:
فسكت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وما
يدريك لعل اللَّه قَدْ «9» نظر إلى أهل بدر فَقَالَ: اعملوا ما
شئتم فقد غفرت لكم.
قَالَ الفراء: حدثني بهذا حبان بإسناده.
__________
(1) فى ب: فنزل جبريل صلّى الله عليه على النبي صلّى الله
عليه. [.....]
(2) التكملة من ح.
(3) سقط فى ح.
(4) كذا فى ح، وفى (ا) عليه، تحريف.
(5) فى ش: الكتاب.
(6) فى ش: كنت وهو تصحيف.
(7) زيادة من ش يتطلبها الأسلوب.
(8) فى ش: له.
(9) فى ا: لعل الله نظر.
(3/148)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
وقوله: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ (1) . مِن صلة الأولياء، كقولك: لا تتخذنّه
رجلًا تلقي «1» إِلَيْه كلّ ما عندك.
وقوله: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا
(1) . إن آمنتم ولإن آمنتم، ثُمَّ قَالَ عزَّ وجلَّ: «إِنْ
كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي» (1) فلا تتخذوهم
أولياء.
وقوله: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ (3) . قرأها
يَحيى بْن وثاب: يُفصِّل. «2» بينكم، قَالَ: وكذلك يقرأ أَبُو
زكريا، وقرأها عاصم والحسن يَفْصل «3» ، وقرأها أهل المدينة:
يُفْصَل.
وقوله قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (4) . يعنى حاطبا،
«فِيهِمْ» فى إبراهيم. يقول:
فى فعل إبراهيم، والذين معه إذ تبروءا من قومهم. يَقُولُ: ألا
تأسيت يا حاطب بإبراهيم فتبرأ من أهلك كما برىء إِبْرَاهِيم؟
ثُمَّ قَالَ: «إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ» أي: قَدْ
كانت لكم أسوة فِي أفاعيلهم إلّا فى قول إبراهيم: لأستغفرن
فإِنه ليس لكم فِيهِ أسوة.
وقوله: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ (4) . إن تركت الهمز من برآء
أشرت إليه بصدرك، فقلت: بُرَاء. «4» وقَالَ «5» الفراء: مدّة،
وإشارة إلى الهمز، وليس يضبط إلّا بالسمع،
__________
(1) فى ش: يلقى.
(2) فى ش: يفصّل، وفى ب، ح: يفصّل.
(3) قرا نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: يفصّل. مبنيا
للمفعول. وقرأ ابن عامر: يفصّل بالصاد مشددة مبنيا للمفعول.
وقرأ عاصم ويعقوب: يفصل: بفتح الياء، وإسكان الفاء وكسر الصاد
مخففة مبنيا للفاعل. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: يفصّل، بضم
الياء وفتح الفاء وكسر الصاد المشددة مبينا للفاعل. (الاتحاف
414) .
(4) كذا فى ح، وفى غيرها برا، والأول الوجه، ففى اللسان: حكى
الفراء فى جمعه (برىء) : براء غير مصروف على حذف إحدى
الهمزتين. وفى المحتسب (2: 319) بعد أن أورد قول الحارث بن
حلزة: فإنا من حربهم لبراء قال الفراء: أراد برآء، فحذف الهمزة
التي هى لام تخفيفا، فأخذ هذا الموضع من أبى الحسن فى قوله: إن
أشياء أصلها أشيياء، ومذهبه هذا يوجب ترك صرف براء، لأنها عنده
همزة التأنيث.
(5) فى ش: قال.
(3/149)
عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ
مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
[ولم «1» يجرها «2» ] . ومن العرب من
يَقُولُ: إنا براء منكم، فيجرى، ولو قرئت كذلك كان وجها.
وقوله: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا (4)
. أي: فقولوا هَذَا القول أنتم، وَيُقَال:
إنه من قيل «3» إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلام وقومه.
وقوله «4» : لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً (5) . لا تظهَرنّ علينا
الكفار فيروا أنهم عَلَى حق، وأنّا عَلَى باطل.
وقوله: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ
الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً (7) .
يقول: عسى أن ترجع عدواة بينكم إلى المودة، فتزوج النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عليه أمّ حبيبة بِنْت أَبِي سُفْيَان، فكانت
المصاهرة مودة.
وقوله: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ (8) .
هَؤُلَاءِ خزاعة كانوا عاقدوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه
ألا [197/ ب] يقاتلوه، ولا يخرجوه، فأمر النَّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عليه ببرهم، والوفاء لهم إلى مدة أجلهم، ثُمَّ قَالَ:
«إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ «5» قاتَلُوكُمْ
فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى
إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ» (9) أن تنصروهم، يعني
الباقين من أهل مكَّة.
وقوله: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَّ (10) .
يعني: فاستحلفوهن، وذلك أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه لما
صالح أهل مكَّة بالحديبية فلما ختم الكتاب خرجت إِلَيْه
سُبَيْعة بِنْت الحارث الأسلمية مُسْلِمَةً، فجاء زوجها فقال:
ردَّها عليّ فإِن ذَلِكَ فِي الشرط لنا عليك، وَهذه طينة
الكتاب لم تجفف، فنزلت هَذِهِ الآية «فَلا تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ
لَهُنَّ» (10)
__________
(1، 2) مقدمه على: وقال الفراء. [.....]
(3) فى ح: من قبل، تحريف.
(4) فى ب: قوله.
(5) فى الأصل «إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ.. أَنْ
تَوَلَّوْهُمْ»
(3/150)
فاستحلفها رسول الله صلّى الله عليه: ما
أخرجكِ إلينا إلا الحرص عَلَى الْإِسْلَام «1» والرغبة فيه «2»
، ولا أخرجك حدث أحدثتِه، ولا بغض لزوجك، فحلفتْ، وأعطى رسول
الله صلّى الله عليه زوجها مهرها، ونزل التنزيل: «وَلا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» (10) من كانت لَهُ امْرَأَة
بمكة أبت أن تُسلم فقد انقطعت العصمة فيما بينها وبين زوجها،
ومن خرج إلى المسلمين من نسائهم مُسْلمةً، فقد انقطعت عصمتها
من زوجها الكافر، وللمسلمين أن يتزوجوها بغير عدة.
وقوله: وَسْئَلُوا «3» ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا «4» ما
أَنْفَقُوا (10) .
يَقُولُ: اسألوا «5» أهل مكَّة أن يردوا عليكم مهور النساء
اللاتي يخرجن إليهم منكم مرتدات «6» ، وليسألوا مهور من خرج
إليكم من نسائهم.
وقوله: وَلا تُمْسِكُوا (10) .
قرأها يَحيى بْن وثاب والأعمش وحمزة مخففة، وقرأها الحسن:
تمسّكوا «7» ، ومعناه متقارب.
والعرب تقول: أمسكت بك، ومسكت بك، وتمسّكت بك «8» .
وقوله: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ (11) أعجزكم. وهي فِي قراءة
عَبْد اللَّه:
«وَإِن فاتكم أحد مِنْ أَزْوَاجِكُمْ» ، وأحدٌ يصلح فِي موضع-
شيء، وشيء يصلح فِي موضع أحد «9» فِي النَّاس، فإذا كانت شيء
فِي غير النَّاس، لم يصلح أحد فِي موضعها.
وقوله: وَإِنْ فاتَكُمْ (11) :
يَقُولُ: أعجزكم إن ذهبت امْرَأَة فلحقت بأهل مكَّة كافرة،
وليس بينكم وبينهم عهد فعاقبتم، يَقُولُ: فغنمتم، فأعطوا زوجها
مهرها من الغنيمة قبل الخمس.
__________
(1، 2) زيادة فى ح.
(3) فى ا، ب: وسلوا.
(4) فى ب: وليسلوا، ولا نعرف قراءة بالتخفيف فى الكلمتين.
(5) فى ب، ح: سلوا.
(6) فى ش: من ندات وهو تحريف، وفيها: وليسألوكم.
(7) زاد فى ب، ح، ش: وقرأها بعضهم تمسكوا، وضبطت تمسكوا بضبط
قراءة الحسن، وهو تكرار.
(8) فى ش: به.
(9) سقط فى ح، ش.
(3/151)
[حدثنا محمد بن الجهم] «1» حَدَّثَنَا
الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنِ
الْأَعْمَش عنْ أَبِي الضحى عنْ مسروق أَنَّهُ قَرَأَ:
«فَعاقَبْتُمْ» ، وفسرها: فغنمتم، وقرأها «2» حميد الأعرج:
فعقّبتم مشددة «3» ، وهي كقولك: تصعّر، وتصاعر فِي حروف قَدْ
أنبأتك بها فِي تآخي «4» : فعلت، وفاعلت.
وَقوله: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ (12) .
قرأها السّلمى وحده: ولا يقتّلن «5» أولادهن، وذكر أن النبي
صلّى الله عليه لَمَّا افْتَتَحَ مَكَّةَ قَعَدَ عَلَى
الصَّفَا وَإِلَى جَنْبِهِ عُمَرُ، فَجَاءَهُ النِّسَاءُ
يُبَايِعْنَهُ وَفِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ «6» عُتْبَةَ،
فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه: «لا
يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً» يَقُولُ: لَا تَعْبُدْنَ «7»
الْأَوْثَانَ، وَلَا تَسْرِقْنَ، وَلَا تَزْنِينَ. قَالَتْ
هِنْدٌ: وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ؟ قَالَ: فَضَحِكَ عُمَرُ،
ثُمَّ قَالَ: لَا، لَعَمْرِي «8» مَا تَزْنِي الْحُرَّةُ.
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ «9» : لَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ
«10» ، هَذَا فِيمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَئِدُونَ،
فَبُويِعُوا عَلَى أَلَّا يَفْعَلُوا، فَقَالَتْ هِنْدٌ: قَدْ
ربيناهم صغارا، وقتلتموهم كِبَارًا «11» .
وقوله: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ
أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ (12) .
كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هَذَا ولدي منك.
فذلك البهتان المفترى [198/ ا] .
وقوله: لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ (13) .
يَقُولُ: من نعيم الآخرة وثوابها، كما يئس الكفار من أهل «12»
القبور، يَقُولُ: علموا ألا نعيم لهم فِي الدنيا، وَقَدْ ماتوا
ودخلوا القبور.
وَيُقَال: كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ القبور: من
ثواب الآخرة ونعيمها.
__________
(1) زيادة فى ب.
(2) فى ش: فقرأها.
(3) وهى قراءة علقمة والنخعي (تفسير القرطبي 18/ 69) . [.....]
(4) فى ش: أتاخى، تحريف.
(5) وهى قراءة على والحسن أيضا (انظر البحر المحيط 8/ 258) .
(6) فى ش: ابنة.
(7) فى ش: لا تعبدون، تحريف.
(8) سقط فى ح، ش.
(9) فى ش: ولا.
(10) فى ح: أولادهن.
(11) انظر نصّ هذه المراجعة فى (تفسير القرطبي: 18/ 73) .
(12) فى ح: أصحاب.
(3/152)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
ومن سورة الصف
قوله عزَّ وجلَّ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) .
كَانَ المسلمون يقولون: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى اللَّه
لأتيناه، ولو ذهبَتْ فِيهِ أنفسنا وأموالنا، فلما كانت وقعة
«1» أحد فتولوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «2» حتَّى شُجّ وكسرت رباعِيَتُه فَقَالَ: «لِمَ «3»
تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ» «4» لذلك. ثُمَّ قَالَ: «كَبُرَ
مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [أَنْ تَقُولُوا» (3) فأن فِي موضع رفع
لأن (كَبُر) بمنزلة قولك: بئس رجلًا أخوك، وقوله: كَبُرَ
مَقْتًا عند الله] «5» : أضمر فِي كبر اسما «6» يكون مرفوعًا.
وأمَّا قوله «كَبُرَتْ كَلِمَةً» «7» فإن الْحَسَن قرأها رفعًا
«8» ، لأنَّه لم يضمر شيئًا، وجعل الفعل للكلمة، ومن نصب أضمر
«9» فِي كبرت اسمًا ينوي بِهِ الرفع.
وقوله: كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) بالرصاص، حثهم
عَلَى القتال.
وقوله: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ (8) .
قرأها يَحيى أَوِ «10» الْأَعْمَش شك الفراء: «وَاللَّهُ
مُتِمُّ نُورِهِ» «11» بالإضافة، ونونها أهل الحجاز: متمٌّ
نورَه. وكلٌّ صواب.
وقوله: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ
عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ (11) .
__________
(1) فى ب، ح، ش: كان يوم.
(2) فى ب: النبي.
(3، 4) سقط فى ح.
(5) ما بين الحاصرتين ساقط فى ش.
(6) فى ش: اسم. [.....]
(7) سورة الكهف الآية: 5.
(8) وهى أيضا قراءة ابن محيصن (الاتحاف 288) .
(9) النصب قراءة الجمهور.
(10) سقط فى ح، ش.
(11) وهى قراءة ابن كثير وحفص وحمزة والكسائي وخلف (الإتحاف
415) .
(3/153)
وفي قراءة «1» عَبْد اللَّه: آمنوا «2» ،
فلو قيل فِي قراءتنا: أن تؤمنوا لأنه ترجمة للتجارة. وإذا «3»
فسرْت الاسم الماضي بفعل جاز فِيهِ أن وطرحها تَقُولُ للرجل:
هَلْ لَكَ فِي خير تقوم بنا إلى المسجد فنصلي، وإن قلت: أن
تقوم إلى المسجد كَانَ صوابًا. ومثله «4» مما فسر ما قبله
عَلَى وجهين قوله:
«فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ» «5» : أنّا، وإنا
«6» ، فمن قال: أنا هاهنا فهو الَّذِي يدخل (أنْ) «7» فِي
يقوم، «8» ومن قَالَ: إنا فهو الَّذِي يلقى (أنْ) من تقوم،
ومثله: «عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا» «9» و (إنَّا) «10» .
وقوله: يَغْفِرْ لَكُمْ (12) .
جزمت فِي «11» قراءتنا فِي هَلْ «12» . وفي قراءة عَبْد اللَّه
للَأمر الظاهر، لقوله: (آمِنوا) ، وتأويل: هَلْ أدلكم أمر
أيضًا فِي المعنى، كقولك للرجل: هَلْ أنت ساكت؟ معناه: اسكت،
والله أعلم.
وقوله: وَأُخْرى تُحِبُّونَها (13) .
فِي موضع رفع أي: ولكم أخرى فِي العاجل مَعَ ثواب الآخرة،
ثُمَّ قَالَ: «نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» : مفسّر
للأخرى، ولو كَانَ نصرًا من اللَّه، لكان صوابًا، ولو قيل:
وآخر تحبونه يريد: الفتح، والنصر- كَانَ صوابًا.
وقوله: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ (14) .
__________
(1، 2) سقط فى ب.
(3) فى ش: وإن.
(4) سقط فى ح، ش.
(5) سورة عبس الآية: 24.
(6) قرأها عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح الهمزة فى الحالين
على تقدير لام العلة، وافقهم الأعمش.
وقرأ رويس بفتحها فى الوصل فقط، والباقون بكسرها مطلقا
(الاتحاف 433) .
(7) فى ش أي، تحريف.
(8) فى ش تقوم.
(9) سورة النمل الآية 51.
(10) قرأها عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بفتح الهمزة على
تقدير حرف الجر، وكان تامة، وعاقبة فاعلها، وكيف. حال. وافقهم
الأعمش والحسن والباقون بكسرها على الاستئناف (الإتحاف 328) .
[.....]
(11) فى ش: إلى تحريف.
(12) فى ب، ح: لعل.
(3/154)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قرأها عاصم بْن أَبِي النَّجود مضافًا «1»
، وقرأها أهل المدينة: أنصارًا اللَّه. «2» ، يفردون الأنصار،
ولا يضيفونها، وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه: أنتم أنصار الله.
[198/ ب]
ومن سورة الجمعة
قوله عزَّ وجلَّ: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ (3) .
يُقال: إنهم ممن لم يسلم عَلَى عهد رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه، ثُمَّ أسلم، وَيُقَال: هُمُ الَّذِينَ يأتون من بعد.
(وآخرين) فِي موضع خفض بعث فِي الأميين وفي آخرين منهم. ولو
جعلتها نصبا بقوله: «وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ» ويعلم
آخرين فينصب «3» عَلَى الرد عَلَى الهاء فِي: يزكيهم، ويعلمهم
«4» .
وقوله: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (5) .
يحمل من صلة الحمار لأنَّه فِي مذهب نكرة، فلو «5» جعلت مكان
يحمل حاملًا لقلت: كمثل الحمار حاملًا أسفارًا. وفي قراءة
عَبْد اللَّه: كمثل حمار يحمل أسفارًا. والسِّفْر واحد
الأسفار، وهي الكتب العظام. شبه اليهود، ومن لم يسلم إِذ لم
ينتفعوا بالتوراة والإنجيل. وهما دليلان على النبي صلّى الله-
عليه- بالحمار الَّذِي يحمل كتب العلم ولا يدري ما عَلَيْهِ.
وقوله: قُلْ «6» إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ
فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ (8) .
أدخلت العرب الفاء فِي خبر (إنّ) لأنها وقعت عَلَى الَّذِي،
والذي حرف يوصل، فالعرب تدخل الفاء فِي كل «7» خبرٍ كَانَ اسمه
مما يوصل مثل: من، والذي وإلقاؤها صواب «8» ، وهي فِي
__________
(1) فى ش: مضافة.
(2) هى قراءة ابن كثير وأبى عمرو ونافع (تفسير القرطبي 18/ 89)
.
(3) فى ش: فتنصب.
(4) أي لكان صوابا، واقتصر العكبري فى إعراب القرآن على الوجه
الأول (إعراب القرآن 2/ 138) .
(5) فى ش: ولو.
(6) سقط فى ب: إن الموت.
(7) سقط فى ش.
(8) فى ح، ش: سواء.
(3/155)
قراءة عَبْد اللَّه: «إن الموتَ الَّذِي
تفرُّون مِنْهُ ملاقيكُم» ، ومن أدخل الفاء ذهب بالذي إلى
تأويل الجزاء إِذَا احتاجت إلى أن توصل، ومن ألقى الفاء فهو
عَلَى القياس لأنك تَقُولُ: إن أخاك قائم، ولا تَقُولُ: إن
أخاك فقائم. ولو قلت: إن ضاربك فظالم كَانَ جائزًا لأن تأويل:
إن ضاربك، كقولك: إن من يضربك فظالم، فقس عَلَى هَذَا الاسم
المفرد الَّذِي فِيهِ تأويل الجزاء فأدخل لَهُ الفاء.
وقَالَ «1» بعض المفسرين: إن الموت هُوَ الَّذِي تفرون مِنْهُ
«2» ، فجعل الَّذِي فِي موضع الخبر للموت. ثُمَّ قَالَ: ففروا
«3» أولًا تفروا فإنه ملاقيكم. ولا تجد هَذَا محتملًا فِي
العربية والله أعلم بصواب ذَلِكَ.
وقوله: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (9) .
خفضها الْأَعْمَش فَقَالَ: الجمعة «4» ، وثقلها عاصم وأهل
الحجاز، وفيها لغة «5» : جَمَعَة، وهي لغة لبني عقيل «6» لو
قرىء بها كَانَ صوابًا. والذين قَالُوا: الجمعة: ذهبوا «7» بها
إلى صفة اليوم أَنَّهُ يوم جُمَعَة كما تَقُولُ: رَجُل ضُحَكة
للذي يُكثر الضحك.
وقوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (9) .
وفي قراءة عَبْد اللَّه: «فامضوا إلى ذكر اللَّه» «8» ، والمضي
والسعي والذهاب فِي معنى واحد لأنك تَقُولُ للرجل: هُوَ يسعى
فِي الأرض يبتغي من فضل اللَّه، وليس «9» هَذَا باشتداد.
وَقَدْ قَالَ بعض الأئمة: لو قرأتها: «فَاسْعَوْا» لاشتددت
يَقُولُ «10» : لأسرعت، والعرب تجعل السعي أسرع من المضي،
والقول فيها القول الأول.
__________
(1) فى ش: قال.
(2، 3) سقط فى ش.
(4) وهى أيضا قراءة عبد الله بن الزبير (تفسير القرطبي 18/ 97)
(5) فى ش: لغلة، تحريف. [.....]
(6) وقيل إنها لغة النبي صلّى الله عليه وسلم (تفسير القرطبي
18/ 97) .
(7) سقط فى ب، ح، ش.
(8) وهى أيضا قراءة على وعمر وابن عباس وأبى وابن عمر، وابن
الزبير وأبى العالية والسلمى ومسروق وطاوس وسالم بن عبد الله
وطلحة بخلاف (المحتسب 2/ 321) .
(9) فى ح، ش: فليس.
(10) فى ش: لقول، تحريف.
(3/156)
وقوله تبارك وتعالى وَذَرُوا الْبَيْعَ (9)
.
إِذَا [أمر بترك البيع فقد] «1» أمر بترك الشراء لأن المشترِي
والبيِّع يقع عليهما البيِّعان، فإذا أذن المؤذن «2» من يوم
الجمعة حرم البيع والشراء [199/ ا] .
وقوله: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ (10) .
هَذَا: إِذْنٌ، وإباحةٌ، من شاء باع، ومن شاء لزم المسجد.
وقوله: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا
إِلَيْها (11) .
فجعل الهاء للتجارة دون «3» اللهو، وَفِي قراءة عَبْد اللَّه:
«وَإِذَا رأوا «4» لَهْوًا أَوْ تجارة انفضوا إليها» . وذكروا
أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ [عليه] «5» كَانَ يخطب يوم
الجمعة، فقدم دِحْيَة الكلبي بتجارة من الشام فيها كل ما يحتاج
إِلَيْه النَّاس، فضرب بالطبل «6» ليؤذن النَّاس بقدومه فخرج
جميع النَّاس إِلَيْه إلّا ثمانية نفر، فأنزل اللَّه عزَّ
وجلَّ «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً» يعني: التجارة التي قدِم بها،
«أَوْ لَهْواً» : يعني: الضرب بالطبل. ولو قيل: انفضوا
إِلَيْه، يريد: اللهو كان صوابا، كما قال: «وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً»
«7» ولم يقل: بها. ولو قيل:
بهما، وانفضوا إليهما كما قَالَ: «إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما» «8» ، كَانَ صوابًا وأجود
من ذَلِكَ فِي العربية أن تجعل الراجع من الذكر للآخرِ من
الاسمين وما بعد ذا فهو جائز.
وإنما اختير فِي انفضوا إليها- فِي قراءتنا وقراءة عَبْد
اللَّه لأن التجارة كانت أهم إليهم، وهم بها أسرٌ منهم بضرب
«9» الطبل لأن الطبل إنَّما دل عليها، فالمعنى كُلِّه لها.
__________
(1) سقط فى ح.
(2) فى ح: فإذا أذن من.
(3) سقط فى ح.
(4) سقط فى ش.
(5) زيادة يقتضيها المقام.
(6) فى ش: الطبل.
(7) سورة النساء الآية: 112.
(8) سورة النساء الآية: 135.
(9) فى ب، ح، ش: بصوت. [.....]
(3/157)
|