معاني القرآن للفراء

ومن سورة المحرّم «4»
قوله جلّ وعز. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ (1) .
نَزَلَتْ فِي مَارِيَّةَ الْقِبْطِيَّةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه يَجْعَلُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ يَوْمًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَائِشَةَ زَارَتْهَا حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ، فَخَلا بَيْتُهَا، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه إِلَى مَارِيَّةَ الْقِبْطِيَّةِ، وَكَانَتْ «5» مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه فِي مَنْزِلِ حَفْصَةَ، وَجَاءَتْ حَفْصَةُ إِلَى مَنْزِلِهَا فَإِذَا السِّتْرُ مُرْخًى، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَتَكْتُمِينَ عَلَيَّ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ يَعْنِي مَارِيَّةَ، وَأُخْبِرُكِ: أَنَّ أَبَاكِ وَأَبَا بَكْرٍ سَيَمْلِكَانِ مِنْ بَعْدِي، فَأَخْبَرَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ الْخَبَرَ، وَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَدَعَا حَفْصَةَ فَقَالَ: مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا فَعَلْتِ؟ قَالَتْ لَهُ: وَمَنْ أَخْبَرَكَ أَنِّي قُلْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ؟ قَالَ: «نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» ثُمَّ طَلَّقَ حَفْصَةَ تَطْلِيقَةً، وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. ونزل عليه: «لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» مِنْ نِكَاحِ مَارِيَّةَ، ثُمَّ قَالَ:
«قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ «6» تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ» (2) يَعْنِي: كَفَّارَةَ أَيْمَانِكُمْ، فَأَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَبَةً، وَعَادَ إِلَى مَارِيَّةَ.
__________
(1) قرأ (مثلهن) بالرفع المفضل عن عاصم وعصمة عن أبى بكر. (البحر المحيط: 8: 287) .
(2) فى ش: شيئا تحريف.
(3) فى ش: فى الآخر. [.....]
(4) الأرجح أن (المحرم) تحريف المتحرم، فهى سورة التحريم والمتحرم، كما فى ح، ش، وبصائر ذوى التمييز: 1: 471، وفى الإتقان (2: 69) أنها تسمى أيضا: (لم تحرم) .
(5) فى ح ش: فكانت.
(6) فى ش: الله تحلة، سقط.

(3/165)


قال [الفراء] «1» : حَدَّثَنِي بِهَذَا التَّفْسِيرِ حِبَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَالَ: «عَرَّفَ بَعْضَهُ» [يَقُولُ: عَرَّفَ حَفْصَةَ] «2» بَعْضَ الْحَدِيثِ وَتَرَكَ بَعْضًا، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ «عرف» «3» خفيفة «4» .
[حدثنا محمد بن الجهم] «5» حدثنا الفراء قال: حدثني مُحَمَّد بْن الفضل المروزي عنْ عطاء عنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَن السلمي «عَرَف» خفيفة.
حدثنا «6» الفراء، وحدثني شيخ من بني أسد يعني الكِسَائِيّ عنْ نعيم عنْ «7» أَبِي عَمْرو عنْ عطاء عنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَن قَالَ: كَانَ إِذَا قرأ عليه الرجل: «عرّف بعضه» بالتشديد حصبه بالحصباء «8» ، وَكأن الَّذِينَ يقولون: عرَف خفيفة يريدون: غضب من ذَلِكَ وَجازى عَلَيْهِ، كما تَقُولُ للرجل يسيء إليك: أما والله لأعرفن «9» لَكَ ذَلِكَ، وَقَدْ لعمري جازى حفصة بطلاقها، وهو وجه حسن، [وذكر عَنِ الْحَسَن الْبَصْرِيّ أَنَّهُ قَرَأَ] «10» عرف بالتخفيف «11» كأبي عَبْد الرحمن.
وقوله: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ (4) .
يعني: عَائِشَةَ وحفصة، وذلك: أن عَائِشَةَ قَالَتْ: يا رَسُول اللَّه، أما يوم غيري فتتمه «12» ، وأمَّا يومي فتفعل فِيهِ ما فعلت؟ فنزل: إن تتوبا إلى الله من تعاونكما عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» زاغت ومالت وإن تظاهرا عليه» تعاونا عليه، قرأها عاصم والأعمش بالتخفيف،
__________
(1) زيادة من ح ش.
(2) سقط فى ح ش.
(3) وهى أيضا قراءة الكسائي (الاتحاف 419) وعلى وطلحة بن مصرّف، والحسن، وقتادة، والكلبي والأعمش عن أبى بكر (تفسير القرطبي: 18/ 187) .
(4 و 7) سقط فى ش.
(5) زيادة من ب، وفى ش: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حدثنا الفراء:
(6) فى ب ش: قال.
(8) فى ا، ش بالحصى.
(9) فى ش: لأعرفك تحريف.
(10) فى ح، ش كما يأتى: وقد ذكر أن الحسن البصري قرأ.
(11) فى ح، ش: بالتخفيف عرف.
(12) فى ب: فتتممه. [.....]

(3/166)


وقرأها أهل الحجاز: «تظَّاهرا» بالتشديد «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ» : وليه عليكما «وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» مثلُ أَبِي بَكْر وعمر الَّذِينَ ليس فيهم نفاق، ثُمَّ قَالَ: «وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ «1» ذلِكَ ظَهِيرٌ» بعد أولئك، يريد أعوان، ولم يقل: ظهراء، ولو قال قائل «2» : إن ظهيرًا «3» لجبريل، ولصالح المؤمنين، والملائكة «4» - كَانَ صوابًا، ولكنه حسن أن يجعل الظهير للملائكة خاصة، لقوله:
(والملائكة) بعد نصرة هَؤُلَاءِ ظهير.
وأما قوله: «وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» فإنه موحد فِي مذهب الجميع «5» ، كما تَقُولُ: لا يأتيني إلا سائس «6» الحرب، فمن كَانَ ذا «7» سياسة للحرب فقد أمر بالمجيء واحدًا كَانَ «8» أَوْ أكثر مِنْهُ، ومثله «9» :
«وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» «10» ، هذا عامّ [201/ ب] وليس بواحد ولا اثنين، وكذلك قوله: «وَاللَّذَانِ يأتيانها منكم فآذوهما «11» ، وكذلك: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» «12» ، و «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» «13» ، فِي كَثِير من القرآن يؤدي معنى الواحد عَنِ الجمع «14» .
وقرأ عاصم والْأَعْمَش: «أَنْ يُبْدِلَهُ» بالتخفيف، وقرأ أهل الحجاز: «أَنْ يُبْدِلَهُ» [بالتشديد] «15» وكلّ صواب: أبدلت، وبدّلت.
وقوله: سائِحاتٍ (5) .
هنّ الصائمات، قَالَ: ونرى أن الصائم إنَّما سمّي سائحًا لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد، فكأنه أخذ من ذلك «16» والله أعلم.
__________
(1) فى ش: والملائكة ذلك، سقط
(2) فى ب: ولو قال إن سقط.
(3) فى ش: ظهير، تحريف.
(4) فى ش: وصالح المؤمنين وللملائكة، تحريف.
(5) فى ش: جمع.
(6) فى ش: السايس.
(7) فى ش: فرا خطأ.
(8) سقط فى (ا) .
(9) فى ش: ومنه.
(10) سورة المائدة الآية 38.
(11) سورة النساء الآية: 16.
(12) سورة العصر الآية: 2.
(13) سورة المعارج الآية: 19.
(14) فى ش الجميع. [.....]
(15) التكملة من ب بين السطرين.
(16) فى ب: ذاك.

(3/167)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

والعرب تَقُولُ للفَرس إِذَا كَانَ قائمًا عَلَى غير علف: صائم، وذلك أن لَهُ قُوتَيْن [قُوتًا غدوة] «1» وقوتًا عشية فشبه بتسحر الآدمي وإفطاره.
وقوله: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ (6) .
علِّموا أهليكم ما يدفعون بِهِ المعاصي، علموهم ذلك.
وقوله: تَوْبَةً نَصُوحاً (8) .
قرأها بفتح النون أهلُ المدينة والْأَعْمَش، وذكر عنْ عاصم والحسن «نَصُوحاً» ، بضم النون، وكأن الَّذِينَ قَالُوا: «نَصُوحاً» أرادوا المصدر مثل: قُعودًا، والذين قَالُوا: «نَصُوحاً» جعلوه «2» من صفة التوبة، ومعناها: يحدّث نفسه إِذا تاب من ذَلِكَ الذنب ألّا يعود إِلَيْه أبدًا.
وقوله: يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا (8) .
لا يقوله كل من دخل الجنة، إنَّما يقوله أدناهم منزلة وذلك: أن السابقين فيما ذكر يمرون كالبرق عَلَى الصراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم كالفرس الجواد، وبعضهم حَبْوًا وَزحفًا، فأولئك «3» الَّذِينَ يقولون: «رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا» حتّى ننجو.
ولو قَرَأَ قارئ: «وَيُدْخِلَكُمْ «4» » جزمًا لكان وجهًا لأن الجواب فِي عسى فيضمر فِي عسى- الفاء، وينوي بالدخول أن يكون معطوفًا عَلَى موقع الفاء، ولم يقرأ بِهِ أحدٌ «5» ، ومثله: «فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» «6» .
ومثله قول الشَّاعِر:
فأبلوني بليتكُم لعلي ... أصالحكم، واستدرجْ نَوِيَّا «7»
فجزم [لأنَّه نوى الرد عَلَى لعلى] «8» .
__________
(1) سقط فى ش.
(2) فى ش: جعلوا تحريف.
(3) فى ش: أولئك.
(4) قبلها: «تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» .
(5) قرأ به ابن أبى عبلة (تفسير القرطبي: 18/ 20) .
(6) المنافقون: 10
(7) البيت لأبى دواد. أبلونى: أحسنوا صنيعكم إلى. والبلية: اسم منه. أستدرج: أرجع أدراجى.
نوى: نواى، والنوى: الوجه الذي يقصد. انظر الخصائص: 1/ 176.
(8) سقط فى ح ش.

(3/168)


الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)

وقوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا (10) .
هَذَا مثل أريد بِهِ عَائِشَةَ، وحفصة فضرب لهما المثل، فَقَالَ: لم ينفع امْرَأَة نوح وامرأة لوط إيمانُ زوجيهما، ولم يضر «1» زوجيهما نفاقُهما، فكذلك لا ينفعكما نُبوة النَّبِيّ- صَلَّى الله عليه- لو لم تؤمنا، ولا يضره ذنوبكما، ثُمَّ قال: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ» فأمرهما أن تكونا «2» : كآسية، وكمريم ابنة عمران «3» التي أحصنت فرجها. والفرج هاهنا:
جيب درعها، وذكر: أن جبريل- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفخ فِي جيبها، وكل ما كَانَ فِي الدرع من خَرْق أَوْ غيره يقع عَلَيْهِ اسم الفرج. قَالَ الله تَعَالى: «وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ» «4» يعني السماء من فطور ولا صدوع.

ومن سورة الملك
قوله عزَّ وجلَّ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (2) لم يوقع البلوى عَلَى أيّ لآن فيما بين [أي، وبين البلوى] «5» إضمار فعل، كما تَقُولُ فِي الكلام: بلوتكم لأنظر أيُّكم أطوع، فكذلك، فأعمل فيما تراه قبل، أي مما يحسن فِيهِ إضمار النظر فِي [قولك: اعلم أيّهم ذهب] «6» [202/ ا] وشبهه، وكذلك قوله: «سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ» «7» يريد «8» : سلهم ثُمَّ انظر أيهم يكفل بذلك، وَقَدْ يصلح مكان النظر القولُ فِي قولك: اعلم أيهم ذهب «9» لأنَّه يأتيهم فيقول. أيكم ذهب؟ فهذا شأن هَذَا الباب، وَقَدْ «10» فسر فى غير
__________
(1) فى ب، ح، ش: يضرر.
(2) كذا فى ش، وفى غيرها يكونا، تحريف.
(3) فى ش: بنت.
(4) سورة ق الآية 6، وفى ش: وما لنا، تحريف. [.....]
(5) فى ح، ش: بين البلوى، وبين أي.
(6) سقط فى ب، ح، ش.
(7) سورة القلم الآية 40.
(8) زيادة من ح، ش.
(9) فى ح: ذنب، تحريف.
(10) سقط فى ح،

(3/169)


تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)

هَذَا الموضع. ولو قلت: اضرب أيّهم ذهب. لكان نصبًا لأن الضرب لا يحتمل أن يضمر «1» فِيهِ النظر، كما احتمله العلم والسؤال والبلوى.
وقوله: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ «2» (3) [حدثنى مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ قَالَ «3» ] حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الجعفي عن أبى إسحق: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَرَأَ. «مِنْ تفوّت» .
حدثنا محمد بن الجهم، حدثنا الفراء قال: وحدثني حِبان عَنِ الْأَعْمَش عنْ إِبْرَاهِيم عنْ علقمة:
أَنَّهُ قَرَأَ: «تفوّت» «4» وهي قراءة يَحيى «5» ، وأصحاب عَبْد اللَّه، وأهل المدينة وعاصم «6» .
وأهل البصرة يقرءون: «تَفاوُتٍ» وهما «7» بمنزلةٍ واحدة، كما قَالَ «8» : «ولا تُصَاعِرْ، وتُصَعِّرْ» «9» وتعهّدت فلانًا وتعاهدته، والتفاوت: الاختلاف، أي: هَلْ ترى فِي خلقه من اختلاف، ثم قال: فارجع البصر، وليس قبله فعل مذكور، فيكون الرجوع عَلَى ذَلِكَ الفعل، لأنَّه قَالَ: ما ترى، فكأنه قَالَ: انظر، ثُمَّ ارجع، وأمَّا الفطور فالصدوع والشقوق.
وقوله: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً (4) .
يريد: صاغرًا، وهو حسير كليل، كما يحسَر البعيرُ والإبلُ إِذَا قوّمت «10» عنْ هزال وكلال فهي الحسرى، وواحدها: حسير.
وقوله: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ (8) تقطع عليهم غيظا.
وقوله: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ (11) .
__________
(1) فى ش: يضرب، تحريف.
(2) فى ش: تفوت، وسيأتى أنها قراءة.
(3) زيادة من ب، وفى ح، ش: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ...
(4) وهى أيضا قراءة حمزة والكسائي، وهما لغتان: مثل التعاهد والتعهد، والتحمل والتحامل، (تفسير القرطبي 18/ 208) .
(5) وفى ح: وهى فى قراءة يحيى.
(6) وهى قراءة حمزة والكسائي، ووافقهما الأعمش. (الاتحاف 420)
(7) فى ش: فهما.
(8) فى ش: يقال. [.....]
(9) فى ش: لا تصاعر، ولا تصعّر.
(10) كذا فى النسخ، ولم نتبين لها وجها.

(3/170)


هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

ولم يقل: «بذنوبهم» لأنّ فِي الذنب فعلا، وكل واحد أضفته إلى قوم بعد أن يكون فعلا أدّى عن جمع أفاعيلهم»
، ألا ترى أنك تَقُولُ: قَدْ أذنب القوم إذنابًا، ففي معنى إذناب: ذنوب، وكذلك تَقُولُ: خرجَتْ أعطيته النَّاس وعطاء النَّاس فالمعني واحد والله أعلم.
وقوله: فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) . اجتمعوا عَلَى تخفيف السُّحْق، ولو قرئت: فسُحُقًا كانت لغة حسنة «2» .
وقوله: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها (15) فى جوانبها.
وقوله: أَأَمِنْتُمْ «3» (16) يجوز فِيهِ أن تجعل بين «4» الألفين ألفا غير مهموزة «5» ، كما يُقال: أأنتم «6» ، أإِذَا مِتْنا «7» كذلك، فافعل بكل همزتين تحركتا فزد بَيْنَهُما مدة، وهى من لغة بني تميم.
وقوله: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ (22) .
تَقُولُ: قَدْ أكبَّ الرجل: إِذَا كَانَ فعله غير واقع عَلَى أحد، فإذا وقع الفعل أسقطت الألف، فتقول: قَدْ كبّه اللَّه لوجهه، وكببتُه أَنَا لوجهه.
وقوله: وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) .
يريد: تَدْعُونَ، وهو مثل قوله: تَذْكُرون، وتَذَّكّرون، وتخبرون وتختبرون، والمعنى واحد والله أعلم.
وَقَدْ قَرَأَ بعض القراء: ما تَدَّخِرُونَ، يريد «8» : تدّخرون «9» ، فلو قَرَأَ قارئ: «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ» «10» كان صوابا.
__________
(1) فى ح،، ش: أقاويلهم.
(2) قرأ الكسائي وأبو جعفر: فسحقا بضم الحاء. ورويت عن على. والباقون بإسكانها. وهما لغتان مثل:
السّحمت، والرّعب (تفسير القرطبي 18/ 213) .
(3) فى ش: أمنتم، تحريف.
(4) سقط فى ش.
(5) فى ح: غير مهموز.
(6) سورة المنازعات: 24.
(7) سورة الرعد الآية 5.
(8) فى ح: ويريد.
(9) سورة آل عمران 49.
(10) قرأ يعقوب بسكون الدال مخففة من الدعاء أي تطلبون وتستعجلون، وافقه الحسن، ورواها الأصمعى عن نافع (الإتحاف 420)

(3/171)


ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)

وقوله: فسيعلمون (29) .
قراءة العوامّ «فَسَتَعْلَمُونَ» «1» بالتاء.
[حدثنا محمد بن الجهم «2» قال: سمعت الفراء «3» وذكر محمد بن الفضل [202/ ب] عن عطاء عن أبي عبد الرحمن عن على (رحمه الله) فسيعلمون بالياء، وكل صواب.
وقوله: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً (30) .
العرب تَقُولُ: ماء غور، وبئر غور، وماءان غور، ولا يثنون ولا يجمعون: لا يقولون: ماءان غوران، ولا مياه أغوار، وهو بمنزلة: الزَّوْر يُقال: هَؤُلَاءِ زور فلان، وهؤلاء ضيف فلان، ومعناه: هَؤُلَاءِ أضيافه، وزواره. وذلك أَنَّهُ مصدر فأُجرى عَلَى مثل قولهم: قوم عدل، وقوم رضا ومقنع «4» .

ومن سورة القلم
قوله عز وجل: ن وَالْقَلَمِ (1) .
تخفى النون الآخرة «5» ، وتظهرها، وإظهارها أعجب إليَّ لأنها هجاء، والهجاء كالموقوف عَلَيْهِ وإن «6» اتصل، ومن أخفاها «7» بني عَلَى الاتصال. وَقَدْ قرأت القراء بالوجهين كَانَ الْأَعْمَش وحمزة يبينانها، وبعضهم يترك التبيان «8» .
وقوله: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) .
__________
(1) فى ش. فتعلمون، تحريف.
(2) الزيادة من ب. [.....]
(3) فى ح: قال الفراء وذكر إلخ.
(4) قوم مقنع: مرضيون.
(5) سقط فى ش.
(6، 7) فى ش: بناء.
(8) أدغم ن فى واو: والقلم- ورش، والبزي، وابن ذكوان، وعاصم بخلف عنهم، وهشام، والكسائي، ويعقوب، وخلف عن نفسه وافقهم ابن محيصن والشنبوذى. والباقون بالإظهار (الاتحاف 421) .

(3/172)


وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)

مقطوع، والعرب تَقُولُ: ضعُفت مُنَّتِي عَنِ السفر، وَيُقَال للضّعيف: المنينُ، وهذا من ذَلِكَ، والله أعلم.
وقوله: وَإِنَّكَ «1» لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) أي: «2» دين عظيم.
وقوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بأيّكم المفتون (6) .
المفتون هاهنا بمعنى: الجنون، وهو فِي مذهب الفتون، كما قالوا: ليس له معقول رأى، وإن شئت جعلته بأيكم: فِي أيكم أي: فِي أي الفريقين المجنون، فهو حينئذ اسم ليس «3» بمصدر.
وقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ (9) .
يُقال: ودوا لو تلينُ فِي دينك، فيلينون فِي دينهم، وقَالَ بعضهم: لو تكفر فيكفرون، أي:
فيتبعونك عَلَى الكفر.
وقوله: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) . المهين «4» ، هاهنا: الفاجر. والهماز: الذي يهمز الناس.
وقوله: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) نميم ونميمة من كلام العرب.
وقوله: عُتُلٍّ (13) .
فِي هَذَا الموضع «5» هُوَ الشديد الخصومة بالباطل، والزنيم: الملصق بالقوم، وليس منهم وهو:
الدعي.
وقوله: أَنْ «6» كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) .
قرأها الْحَسَن الْبَصْرِيّ وأبو جَعْفَر الْمَدَنِيّ بالاستفهام. «أأن كَانَ» ، وبعضهم. «أَنْ كانَ» بألف واحدة بغير استفهام، وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه: ولا تطع كلّ حلّاف مهين أن كَانَ:
لا تطعه أنْ كَانَ- لِأنْ كان ذامال.
__________
(1) فى ب، ح، ش على.
(2، 3، 4) : سقط فى ش.
(5) فى ب: وهو، تحريف.
(6) فى ا: أأن

(3/173)


ومن قرأ «1» : أأن كان ذامال وبنين، فإنه وبّخه: ألأن كان ذامال وبنين تطيعه؟ وإن شئت قلت: ألِأَن كَانَ ذامال وبنين، إِذَا تليت عَلَيْهِ آياتنا قَالَ: أساطير الأولين. وكلٌّ حسن.
وقوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) .
أي: سنسمه سِمَة أهل النار، أي سنسوّد وجهه، فهو وإن كَانَ الخرطوم قَدْ خص بالسمة «2» فإِنه «3» فِي مذهب الوجه [لأن بعض الوجه] «4» يؤدّى عنْ بعض.
والعرب تَقُولُ: أما والله لأسمنّك وسمًا لا يفارقك. تريد «5» : الأنفَ، وأنشدني بعضهم:
لَأعْلِطَنَّكَ وَسْمًا لا يفارقه ... كما يُحَزّ بِحُمى المِيسمِ البَحرُ «6»
فَقَالَ: الميسم ولم يذكر الأنف، لأنه موضع السمة، والبحر: البعير إذا أصابه البحر، هوداء يأخذ البعير فيوسم لذلك.
وقوله: بَلَوْناهُمْ (17) .
بلونا أهل مكة كما يلونا أصحاب الجنة، وهم قوم من أهل اليمن كَانَ لرجل منهم زرع، ونخل، وكرم، وكان يترك للمساكين من زرعه ما أخطأه المنجل، ومن النخل ما سقط عَلَى البسط، ومن الكرم ما أخطأه القطاف. كَانَ ذَلِكَ يرتفع إلى شيء كَثِير، ويعيش فِيهِ اليتامى والأرامل والمساكين فمات الرجل، وله بنون ثلاثة فقالوا: كَانَ أبونا يفعل ذَلِكَ، والمال كَثِير، والعيال قليل، فأمَّا إِذ «7» كثر العيال، وقلّ المال فإنا ندع «8» ذَلِكَ، ثُمَّ تآمروا «9» أن يصرموا
__________
(1) فى ش: قال.
(2) فى ش: السمة.
(3) سقط فى ش.
(4) سقط فى ح.
(5) فى ش: يريدون. [.....]
(6) علط البعير: وسمه بالعلاط، بكسر العين. وهو سمة فى عرض عنق البعير والناقة. والبحر بفتحتين:
أن يلهج البعير بالماء، فيكثر منه حتى يصيبه منه داء، فيكوى فى مواضع فيبرأ، بحر كفرح. والبيت فى اللسان (بحر) غير منسوب.
(7) فى ش: فإذا كثر، وفى (ا) إذا، وكل تحريف.
(8) كذا فى ب، ح، ش وفى ا: لا، تحريف.
(9) فى ا- يأمرو، تحريف.

(3/174)


فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)

فِي سَدَف: «1» فِي ظلمة- باقية من الليل لئلا يبقى للمساكين شيء، فسلط اللَّه عَلَى مالهم نارا فأحرقته، فغدوا على مالهم ليصرموه، فلم يروا شيئًا إلا سوادًا فقالوا: «إِنَّا لَضَالُّونَ» ، ما هَذَا بمالنا، ثُمَّ قَالَ بعضهم: بل هو مالنا حرمناه «2» بما صنعنا بالأرامل والمساكين، وكانوا قَدْ أقسموا ليصر منها «3» أول الصباح، ولم يستثنوا: لم يقولوا: إن شاء الله، فقال أخ لهم أو سطهم، أعدلهم قولًا: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ؟ فالتسبيح هاهنا فِي معنى الاستثناء «4» ، وهو كَقوله:
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذا نسيت) «5» .
وقوله: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ [مِنْ رَبِّكَ (19) .
لا يكون الطائف] «6» إِلَّا ليلا، ولا يكون نهارًا، وَقَدْ تكلم «7» بِهِ العرب، فيقولون: أطفت بِهِ نهارًا وليس موضعه بالنهار، ولكنه بمنزلة قولك: لو ترك القطا ليلا لنام «8» لأنَّ القطا لا يسري ليلًا، قَالَ أنشدني أَبُو الجراح العقيلي:
أطفت بها نهارًا غير ليلٍ ... وألهى ربَّها طلبُ الرّخال «9»
والرَّخِل [: ولد الضأن إذا كان أنثى] «10» .
وقوله: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) . كالليل المسود.
وقوله: فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ (24) .
وفى قراءة عبد الله: «لا يَدْخُلَنَّهَا» ، بغير أن، لأنّ التخافت قول، والقول حكاية، فإذا لم
__________
(1) فى ح: من.
(2) كذا فى ش وفى ا، ب، ح: حرمنا.
(3) فى ح: لنصر منها.
(4) فى اللسان: وقوله: ألم أقل لكم لولا تسبحون أي تستثنون، وفى الاستثناء تعظيم الله، والإقرار بأنه لا يشاء أحد إلا أن يشاء الله، فوضع لتنزيه الله موضع الاستثناء.
(5) سورة الكهف: 24.
(6) ساقط فى ح.
(7) فى ح، ش تتكلم
(8) مثل يضرب لمن حمل على مكروه من غير إرادته، قالته حذام بنت الريان: مجمع الأمثال 2: 110.
(9) الرخال جمع رخل ككتف، ويجمع أيضا على أرخمل.
(10) سقط فى ح، ش. [.....]

(3/175)


فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)

يظهر القول جازت «أن» وسقوطها، كما قَالَ اللَّه: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» «1» ولم يقل: أنّ للذّكر، ولو كَانَ صوابًا.
وقوله: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ «2» (25) .
على جدّ وقدرة فى أنفسهم [203/ ب] والحرد أيضًا: القصد، كما يَقُولُ الرجل للرجل «3» : قَدْ أقبلت قِبلك، وقصدت قصدك، وحَرَدْتُ حَردك، وأَنشدني بعضهم:
وجاء سيلٌ كَانَ من أمر «4» اللَّه ... يحرِد حَرْدَ الجنة المُغِلَّه
يريد «5» : يقصد قصدها.
وقوله: فَأَقْبَلَ «6» بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) .
يَقُولُ بعضهم لبعض: أنت الَّذِي دللتنا، وأشرت علينا بما فعلنا. ويقول الآخر: بل أنت فعلت ذَلِكَ «7» ، فذلك تلاومهم.
وقوله: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ (39) .
القراء عَلَى رفع «بالِغَةٌ» إلّا الْحَسَن، فإنه نصبها عَلَى مذهب المصدر، كقولك: حقًا، والبالغُ فِي مذهب الحق يُقال: جيِّد بالغ، كأنه قَالَ: جيّد حقًا قَدْ بلغ حقيقة الجودة، وهو مذهب جيد «8» وقرأه العوام «9» ، أن تكون البالغة من نعت الْإِيمَان أحب إليَّ، كقولك ينتهي بكم «10» إلى يوم القيامة إيمان علينا «11» بأنَّ لكم ما تحكمون، فلما كانت اللام فى جواب إنّ كسرتها، ويقال:
__________
(1) سورة النساء: 11.
(2) فى ح، ش: وغدوا على حرد.
(3) سقط فى ش.
(4) سقط فى ح، ش. والبيت بدونها غير مستقيم الوزن. ويروى (أقبل) مكان (وجاء) والألف التي قبل هاء لفظ الجلالة مخلة للوزن: اللسان (حرد) ، والكشاف: 2: 481.
(5) فى ح: ويريد، تحريف.
(6) فى ا، ب، ش وأقبل، تحريف.
(7) زيادة من ح.
(8) فى ح، ش وهو فى مذهب جيد.
(9) فى ش، وقراءة العامة.
(10) فى ج: ينتهى إلى
(11) سقط فى ح، ش.

(3/176)


فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)

أئن لكم ما تحكمون «1» بالاستفهام، وهو عَلَى ذلك المعنى بمنزلة قوله: «أَإِذا كُنَّا تُراباً «2» » «أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ «3» » .
وقوله: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) .
يريد: كفيل، وَيُقَال لَهُ: الحميل والقبيل، والصبير، والزعيم فِي كلام العرب: الضامن والمتكلم عَنْهُمْ، والقائم بأمرهم:
وقوله: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ (41) .
وفي قراءة عَبْد اللَّه: «أم لهم شرك فليأتوا بشركهم» . والشّرك، والشركاء فِي معنى واحد، تَقُولُ: فِي هَذَا الأمر شِرْك، وفيه شركاء.
وقوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ (42) .
القراء مجتمعون على رفع الياء [حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ «4» ] قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي سفيان عن عمرو ابن دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: «يَوْمَ تَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ» يُرِيدُ: الْقِيَامَةَ وَالسَّاعَةَ لِشِدَّتِهَا قَالَ.
وأنشدني بعض العرب لجد أَبِي طرفة.
كشف لهم عنْ ساقها ... وبدا من الشرِّ البراحُ «5»
وقوله: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ (44) .
معنى فذرني «6» ومن يكذب أي: كِلْهم إليَّ، وأنت تَقُولُ للرجل: لو تركتك ورأيك ما أفلحت،: أي: لو وكلتك إلى رأيك لم تفلح، وكذلك قوله: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «7» » ، و (من) فِي موضع نصب، فإذا قلت: قَدْ تُرِكتَ ورأيَك، وخُليت ورأيك نصبت الرأي لأن المعنى: لو ترِكتَ إلى رأيك، فنصبت الثَّاني لحسن هَذَا المعنى فِيهِ، ولأنّ الاسم قبله متصل بفعل.
__________
(1) فى ب وج: إن لكم بدون همزة الاستفهام: أي هل.
(2) سورة الرعد: 5.
(3) النازعات الآية 10. [.....]
(4) الزيادة من ب، وفى ش: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حدثنا الفراء: -
(5) البيت لسعد بن مالك جد طرفة بن العبد وانظر ديوان الحماسة 1/ 198، والخصائص 3/ 252 والمحتسب 2/ 326. وفى رواية القرطبي (18: 248) وبدا من الشر الصّراح. والرواية مضطربة البحر المحيط: 8/ 316.
(6) فى ح: ذرنى.
(7) سورة المدثر: 11.

(3/177)


أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)

فإذا قَالَتِ العرب: لو تركت أنت ورأيُك، رفعوا بقوة: أنت، إذ ظهرت غير متصلة بالفعل.
وكذلك يقولون: لو ترك عَبْد اللَّه والأسدُ لأكله، فإِن كنوا عنْ عَبْد اللَّه، فقالوا: لو ترك والأسدَ أكله، نصبوا لأن الاسم لم يظهر، فإن قَالُوا: لو ترك هُوَ والأسد، آثروا الرفع فِي الأسد، ويجوز فِي هَذَا ما يجوز فِي هَذَا إلا أن كلام [204/ ا] العرب عَلَى ما أنبأتك «1» بِهِ إلا قولَهم: قَدْ ترك بعضُ القوم وبعض، يؤثرون فِي هَذَا الإتباعَ لأن بعضَ وبعضٌ لما اتفقتا فِي المعنى والتسمية اختير فيهما الإتباع والنصب فِي الثانية غير ممتنع.
وقوله: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) .
يَقُولُ: أعندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون «2» مِنْهُ، ويجادلونك بذلك.
وقوله: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ (48) .
كيونس صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لا تضجر بهم كما ضجر يونس حتَّى هرب من أصحابه فألقى نفسه فِي البحر «3» حتَّى التقمه الحوت.
وقوله: لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ (49) .
حين نبذ- وهو مذموم، ولكنه نبد عير مذموم، «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ» (50) .
وفي قراءة عَبْد اللَّه: «لولا أن تداركته «4» » ، وذلك مثل قوله: «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ «5» » «وَأَخَذَتِ» «6» فِي موضع آخر لأن النعمة اسم مؤنث مشتق من فعل، ولك فِي فعله إِذَا تقدم التذكير والتأنيث.
وقوله: لَنُبِذَ بِالْعَراءِ (49) . العراء الأرض.
[حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ «7» ] .
__________
(1) سقط فى ش.
(2) فى ح: يكتتبون.
(3) سقط فى ب، ش.
(4) وهى قراءة ابن عباس أيضا (تفسير القرطبي 18/ 253) .
(5) سورة هود الآية 67.
(6) سورة هود الآية 94.
(7) ما بين الحاصرتين زيادة فى ب.

(3/178)


الْحَاقَّةُ (1)

وَقوله: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ (51) .
قَرَأَهَا عَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ: (لَيُزْلِقُونَكَ) بِضَمِّ الْيَاءِ، مَنْ أزلقت، وقرأها أهل المدينة:
(ليزلقونك) بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ زَلَقْتُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلَّذِي يَحْلِقُ الرَّأْسَ: قَدْ زَلَقَهُ وَأَزْلَقَهُ. وَقَرَأَهَا ابْنُ عباس: «ليزهقونك بأبصارهم «1» » [حدثنا محمد «3» قال: سمعت الفراء قال] «2» : حَدَّثَنَا بِذَلِكَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْد اللَّه «4» بْن مَسْعُود كَذَلِكَ بِالْهَاءِ:
«لَيُزْهِقُونَكَ» ، أَيْ: لَيُلْقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَانَ الْمَالَ، أَيْ: يُصِيبُهُ بِالْعَيْنِ تَجَوَّعَ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَتَعَرَّضُ لِذَلِكَ الْمَالَ «5» فَيَقُولُ: تَاللَّهِ «6» مَالًا أَكْثَرَ وَلَا أَحْسَنَ [يَعْنِي مَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ «7» ] فَتَسْقُطُ مِنْهُ «8» الْأَبَاعِرُ، فَأَرَادُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ حُجَجِهِ، وَنَظَرُوا إِلَيْه لِيَعِينُوهُ، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» (52) . وَيُقَال: (وَإِنْ كَادُوا لَيُزْلِقُونَكَ) أَيْ: لَيَرْمُونَ بِكَ عَنْ مَوْضِعِكَ، وَيُزِيلُونَكَ عَنْهُ بِأَبْصَارِهِمْ، كَمَا تَقُولُ: كَادَ يَصْرَعُنِي بِشِدَّةِ نَظَرِهِ، وَهُوَ بَيِّنٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ، كَمَا تَقُولُ: أَزْهَقْتُ السَّهْمَ فزهق.