معاني القرآن للفراء

ومن سورة الجن
قوله: عز وجل: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ (1) .
القراء مجتمعون [218/ ا] على (أوحى) وقرأها جوّية الأسدى «3» : (قل أوحى إلىّ) من وحيت، فهمز الواو لأنها انضمت كما قَالَ: (وَإِذَا الرُّسُلُ أقّتت «4» ) .
وقوله: اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ (1) .
ذكر: أن الشياطين لما رُجمت وحُرِست منها السماء قَالَ إبليس: هَذَا نبيٌّ قَدْ حدث، فبث جنوده فِي الآفاق، وبعث تسعة منهم من اليمن إلى مكَّة، فأتوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ببطن نخلة «5» قائمًا يصلي ويتلو القرآن، فأعجبهم ورقّوا لَهُ، وأسلموا، فكان من قولهم ما قَدْ قصّة الله فى هذه السورة.
__________
(1) فى ح: لم تصل بما.
(2) سورة البقرة الآية: 255.
(3) فى ح، ش: جوية بن عبد الواحد الأسدى إن شاء الله.
(4) سورة المرسلات الآية: 11.
(5) بطن نخلة: فى معجم البلدان (1: 449) : بطن نخل، جمع نخلة: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة.

(3/190)


وَقَدِ اجتمع القراء عَلَى كسر «إنا» فِي قوله: «فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» ، واختلفوا فيما بعد ذَلِكَ، فقرءوا: وإنّا، وأَنَّا «1» إلى آخر السُّورة، وكسروا بعضًا، وفتحوا بعضًا.
[حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ «2» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ] : حدثنا الفراء قال: فحدثنى الْحَسَن بن عيَّاش أخو أبي بَكْر بْن عياش، وقيس عَنِ الْأَعْمَش عنْ إِبْرَاهِيم عنْ علقمة بْن قيس أَنَّهُ قَرَأَ ما فِي الجنِّ، والنجم:
(وأنا) ، بالفتح «3» . قَالَ الفراء: وكان يَحيى وإبراهيم وأصحاب عَبْد اللَّه كذلك يقرءون. وفتح نافع الْمَدَنِيّ، وكسر الْحَسَن ومجاهد، وأكثر أهل المدينة إلا أنهم نصبوا: «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ» (18) [حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ «4» :] حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي حِبَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ اقْتِصَاصِ أَمْرِ الجن: «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا» (18) .
وكان [عاصم بكسر ما كَانَ] «5» من قول الجن، ويفتح ما كَانَ من الوحي. فأمَّا الَّذِينَ فتحوا كلها فإنهم ردّوا «أن» فى كل السورة على قوله: فآمنا به، وآمنا بكل ذَلِكَ، ففتحت «أن» لوقوع الْإِيمَان عليها، وأنت مَعَ ذَلِكَ تجد الْإِيمَان يحسن فِي بعض ما فتح، ويقبح فِي بعض، ولا يمنعك «6» ذَلِكَ من إمضائهن عَلَى الفتح، فإن الذي يقبح من ظهور الْإِيمَان قَدْ يحسن فِيهِ فعلٌ مضارعٌ للإيمان يوجب فتح أنَّ كما قَالَتِ العرب.
إِذَا ما الغانيات بَرَزْنَ يَوْمًا ... وزَجَجن الحَواجبَ والعُيونا «7»
فنصب العيون باتباعها «8» الحواجب، وهي لا تزجج إنما تكحّل، فأضمر لها الكحل،
__________
(1) جاء فى الإتحاف: 425: واختلف فى همز «وَأَنَّهُ تَعالى» وما بعده إلى قوله سبحانه «وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ» وجملته اثنا عشر فابن عامر وحفص وحمزة والكسائي وخلف بفتح الهمزة فيهن عطفا على مرفوع أوحى ... وقرأ أبو جعفر بالفتح فى ثلاثة منها، وهى: «وأنه تعالى، وأنه كان يقول، وأنه كان رجال» جمعا بين اللغتين. وافقهم الحسن والأعمش والباقون بالكسر فيها كلها عطفا على قوله: (إِنَّا سَمِعْنا) .
(2) زيادة فى ش.
(3) ما فى النجم (وأن) ، الآيات 39 وما بعدها.
(4) زيادة فى ب.
(5) سقط فى ح. [.....]
(6) فى ح، ش: فلا تمنعك تحريف
(7) سبق تخريج البيت انظر ص 136 من هذا الجزء.
(8) فى ش: باتباعنا.

(3/191)


وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)

وكذلك يضمر «1» فِي الموضع الَّذِي لا يحسن فِيهِ آمنَّا، ويحسن: صدقنا، وألهمنا، وشهدنا، ويقوّى النصب قوله: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ» (16) فينبغي لمن كسر أن يحذف (أنْ) من (لو) لأنّ (أنْ) إِذَا خففت لم تكن فِي حكايةٍ، ألا ترى أنك تَقُولُ: أقول لو فعلتَ لفعلتُ، ولا تدخِل «2» (أنْ) .
وأمَّا الَّذِينَ كسروا كلها فهم فِي ذَلِكَ يقولون: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا» فكأنهم أضمروا يمينًا مَعَ لو، وَقطعوها عَنِ النسق عَلَى أول الكلام «3» ، فقالوا: والله إن لو استقاموا. وَالعرب تدخل أن فِي هَذَا الموضع مَعَ اليمين وتحذفها، قَالَ الشَّاعِر:
فأقسمُ لو شَيْء أتانا رَسولُه ... سواكَ، ولكن لم نجد لَكَ مدفَعا «4»
وأنشدني آخر:
أمَا واللهِ أنْ لو كنتَ حُرًّا ... وما بِالحرِّ أنتَ ولا العتيقِ»
ومن كسر كلها ونصب: «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ» خصَّه بالوحي، وجعل: وأنْ لو مضمرة فيها [اليمين عَلَى ما وصفت لَكَ «6» .
«7» وقوله تبارك وتعالى: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا (3) .
[حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ «8» :] حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إسرائيل عَنِ الحكم عنْ مجاهد فى قوله: «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا» قَالَ: جلال ربنا.
وقوله جل وعز: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) .
__________
(1) سقط فى ش.
(2) فى ش: تدخلن.
(3) فى ش: الكتاب.
(4) لم أعثر على قائله.
(5) استشهد به فى المغني على زيادة (أن) : 1: 30 وورد فى تفسير القرطبي (19/ 17) ولم ينسب إلى قائله فى الموضعين.
(6) سقط فى ا.
(7) يبدأ من هنا النقل من النسخة ب، لأنه ليس فى (ا)
(8) زيادة فى ش.

(3/192)


وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)

الظن هاهنا: شك.
وقوله تبارك وتعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ «1» اللَّهَ فِي الْأَرْضِ (12) .
عَلَى اليقين علمنا.
وَقَدْ قَرَأَ بعض القراء: «أَنْ لَنْ تَقُولَ «2» الْإِنْسُ وَالْجِنُّ» ولست أسميه.
وقوله عزَّ وجلَّ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ (9) . إذ بعث محمد صلى الله عليه يجد لَهُ شهابًا رصدًا قَدْ أرصد بِهِ لَهُ ليرجمه.
وقوله عزَّ وجلَّ: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ (10) .
هَذَا من قول كفرةِ الجن قَالُوا: ما ندري ألخير يراد بهم «3» فُعِلَ هَذَا أم لشر؟ يعني: رجم الشياطين بالكواكب.
وقوله عزَّ وجل: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) .
كُنَّا فرقا مختلفةً أهواؤنا، والطريقة طريقة «4» الرجُل، ويقال أيضا [109/ ا] للقوم هُمْ طريقة قومهم إِذَا كانوا رؤساءهم، والواحد أيضًا: طريقة قومه، وكذلك يُقال للواحد: هَذَا نظورةُ قومه للذين ينظرون إِلَيْه «5» منهم، وبعض العرب يَقُولُ: نظيرة قومه، ويجمعان جميعًا: نظائر.
وقوله عزَّ وجلَّ: فَلا يَخافُ بَخْساً (13) لا يُنْقَص من ثواب عمله وَلا رَهَقاً (13) .
ولا ظلما.
وقوله عز وجل: وَمِنَّا الْقاسِطُونَ (14) وهم: الجائرون الكفار، والمقسطون: العادلون المسلمون وقوله عزَّ وجلَّ: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) يَقُولُ: أمّوا الهدى واتبعوه.
وقوله عزَّ وجلَّ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ (16) : على طريقة الكفر «6» «لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً»
__________
(1) سقط فى ش.
(2) هى قراءة الحسن والجحدري ويعقوب وابن أبى بكرة بخلاف المحتسب 2/ 333 وانظر البحر المحيط 8/ 348.
(3) فى ش: يريد. [.....]
(4) سقط فى ح.
(5) فى ش: ينظر، تحريف.
(6) أي: لو كفر من أسلم من الناس، لأسقيناهم إملاء لهم واستدراجا، واستعارة الاستقامة للكفر قلقة لا تناسب (البحر المحيط 8/ 352) .

(3/193)


يكون زيادة فِي أموالهم ومواشيهم، ومثلها قوله: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ «1» » يَقُولُ: نفعل ذَلِكَ بهم ليكون فتنة عليهم فِي الدنيا، وزيادة فِي عذاب الآخرة.
وقوله عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) .
نزّلت «2» فِي وليد بْن المغيرة المخزومي، وذكروا أن الصَّعَدَ: صخرة ملساء فِي جهنم يكلَّف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حَدَر إلى جهنم، فكان ذلك دأبه، ومثلها فى سورة المدثر:
(سأرهقه صعودا) «3» :
وقوله عزَّ وجلَّ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا (18) فلا تشركوا فيها صنما ولا شيئا مما يعبد، وَيُقَال: هَذِهِ المساجد، وَيُقَال: وَأَنَّ المساجد لله. يريد:
مساجدَ الرجلِ: ما يسجد عَلَيْهِ من: جبهته، ويديه، وركبتيه، وصدور قدميه.
وقوله عزَّ وجلَّ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ (19) يريد: النبي صلى الله عليه ليلة أتاه الجن ببطن نخلة. «كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ [109/ ب] لِبَداً» (19) كادوا يركبون النبي صلّى الله عليه رغبةً فِي القرآن، وشهوة لَهُ.
وقرأ بعضهم «4» : «لِبَداً «5» » والمعنى فيهما- والله أعلم- واحد، يُقال: لُبدَةٌ، ولِبدة.
ومن قَرَأَ: «لِبَداً» «6» فإنه أراد أن يجعلها من صفة الرجال، كقولك: رُكّعًا، وركوعا [، وسجّدا، وسجودا] «7» .
__________
(1) سورة الزخرف الآية: 33.
(2) فى ح، ش: أنزلت.
(3) الآية 17.
(4) فى ش: بعض القراء.
(5) قرأ مجاهد، وابن محيصن، وابن عامر بخلاف عنه بضم اللام جمع: لبدة، وعن ابن محيصن أيضا تسكين الباء وضم اللام: لبدا.
وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو حيوة، وجماعة عن أبى عمرو بضمتين جمع: لبد كرهن ورهن، أو جمع لبود كصبور (البحر المحيط 8/ 353) .
(6) هى قراءة الحسن، والجحدري بخلاف عنهما (البحر المحيط 8/ 353) .
(7) سقط فى ح، ش.

(3/194)


إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)

وقوله عز وجل: قال إنّما ادعوا ربّى (20) قرأ الأعمش وعاصم «1» : «قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي» وقرأ عامة أهل المدينة كذلك، وبعضهم:
(قَالَ) ، وبعضهم: (قل) .
[حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ «2» :] حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ قَرَأَهَا:
(قَالَ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي) .
اجتمع القراء على: لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا (1) بنصب الضاد، ولم يرفع أحد منهم.
وقوله عزَّ وجلَّ: وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) ملجأ ولا سربًا الجأ إِلَيْه.
وقوله عزَّ وجل: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ (23) يكون استثناء من قوله: «لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً إلا أن أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» .
وفيها وجه آخر: قل إني لن يجيرنى من اللَّه أحد إنْ لم أبلغْ رسالته، فيكون نصب «3» البلاغ من إضمار فعل من الجزاءِ كقولك للرجل: إلا قيامًا فقعودًا، وإلا عطاء فردًا جميلًا [أي ألا تفعل إلا عطاء فردًا جميلًا] «4» فتكون لا منفصلة من إن- وهو وجه حسن، والعرب تَقُولُ: إن لا مال اليوم فلا مال أبدًا- يجعلون «5» (لا) عَلَى وجه التبرئة، ويرفعون أيضًا عَلَى ذَلِكَ المعنى، ومن نصب بالنون فعلى إضمار فعل، أنشدني بعض العرب:
فإن لا مَال أعطيه فإني ... صديق من غُدو أَوْ رَواح «6»
وقوله عزَّ وجلَّ: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ (27) فإنه يطلعه على [110/ ا] غيبه.
__________
(1) وهى أيضا قراءة حمزة وأبى عمرو بخلاف عنه (البحر المحيط 8/ 353) .
(2) زيادة فى ش.
(3) كذا فى ش، وفى غيرها: فتكون بنصب، تحريف.
(4) سقط فى ح، ش. [.....]
(5) فى ش تجعلون، تصحيف.
(6) لم أعثر على قائله.

(3/195)


قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)

وقوله عزَّ وجلَّ: يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) ذكروا أن جبريل- صلى الله عليه- كَانَ إِذَا نزل بالرسالة إلى النَّبِيّ صَلَّى الله عليه نزلت معه ملائكة من كل سماء يحفظونه من استماع الجن الوحيَ ليسترقوه، فيلقوه إلى كهنتهم، فيسبقوا بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، فذلك الرَّصَد من بين يديه ومن خلفه، ثم قال جل وعز: «لِيَعْلَمَ» (28) يعنى محمدا صلّى الله عليه «أن قد أبلغوا رسالات ربّهم» (28) يعني جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَالَ بعضهم: هو محمد صلّى الله عليه، أي: يعلم مُحَمَّد أَنَّهُ قَدْ «1» أبلغ رسالة ربه.
وَقَدْ قَرَأَ بعضهم «2» : «لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا» يريد: لتعلم الجنّ والإنس أن الرسلَ قَدْ أبلغت لا هُمْ بما رجوا «3» من استراق السمع.

ومن سورة المُزَّمّل «4»
اجتمع القراء عَلَى تشديد: المُزَّمِّل، والمُدَّثِّر، والمزمّل: الَّذِي قَدْ تزمّل بثيابه، وتهيأ للصلاة، وهو رسول الله صلّى الله عليه.
وقوله عزَّ وجلَّ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) .
يريد: الثلث الآخِر، ثُمَّ قَالَ: «نِصْفَهُ» (3) .
والمعنى: أَوْ نصفه، ثُمَّ رخص لَهُ فَقَالَ: «أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا» (3) من النصف إلى الثلث أَوْ زد «5» عَلَى النصف إلى الثلثين، وكان هذا قبل أن تفرض «6» الصلوات الخمس، فلما فرضت الصلاة «7» نسخَتْ هَذَا، كما نَسَخَتِ الزكاةُ كلَّ صدقة، وشهر رمضان كلَّ صوم.
وقوله عزَّ وجلَّ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) .
__________
(1) فى ح: أي لمحمد أنه قد.
(2) هى قراءة ابن عباس، وزيد بن على (البحر المحيط 8/ 357) .
(3) فى ح: رجعو، تحريف.
(4) سورة المزمل بأكملها ليست فى النسخة (ا) ، وهى منقولة من النسخة ب.
(5) فى ش: أو زد عليه.
(6) فى ب: يفرض.
(7) فى ش: الصلوات.

(3/196)


يَقُولُ: اقرأه عَلَى هِينتك ترسلا.
وقوله عزَّ وجل: سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) .
أي: ليس بالخفيف ولا السَّفْساف لأنَّه كلام ربنا تبارك وتعالى.
وقوله عزَّ وجلَّ. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً «1» (6) .
يقول: هى أثبت قياما. «وأقوم [110/ ب] قيلا» (6) يَقُولُ: إن النهار يضطرب فِيهِ النَّاس، ويتقلبون فِيهِ للمعاش، والليل أخلى للقلب، فجعله أقوم قيلا.
وقَالَ بعضهم. إن ناشئة الليل هِيَ أشد عَلَى المصلي من صلاة النهار لان الليل للنوم، فَقَالَ:
هِيَ، وإن كانت أشد وطئًا فهي أقوم قيلا، وَقَدِ اجتمع القراء عَلَى نصب الواو من وطئًا [وقرا بعضهم: «هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً» قَالَ] «2» : قَالَ الفراء: أكتب وطئًا بلا ألف «3» [وقرأ بعضهم: هِيَ أشد وِطَاء] «4» فكسر الواو ومده يريد: اشد «5» علاجًا ومعالجة ومواطأة. وأمّا الوطء فلا وِطء لم نروه عنْ أحد من القراء.
وقوله عزَّ وجلَّ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) .
يَقُولُ: لَكَ فِي النهار ما يقضي حوائجك. وَقَدْ قَرَأَ بعضهم «6» : «سبخا» بالخاء، والتسبيخ: توسعة «7» الصوف والقطن وما أشبهه، يُقال: سبِّخي قطنك. قَالَ أَبُو الفضل «8» : سمعت أبا عَبْد اللَّه يقول «9» : حضر أبو زياد الكلابي مجلس الفراء فى هذا اليوم، فسأله الفراء عنْ هَذَا الحرف فَقَالَ:
أهل باديتنا يقولون: اللهم سبّخ عنه للمريض والملسوع ونحوه.
__________
(1) فى ش: وطاء، وسيأتى أنها قراءة، فلا محل لها هنا.
(2) ساقط من ش، و (وطئا) بكسر الواو وسكون الطاء وقصر الهمزة قراءة قتادة وشبل عن أهل مكة، كما فى البحر: 8/ 363.
(3) بلا ألف، أي: قبل الهمزة للفرق بينها وبين القراءة التي تليها.
(4) هى قراءة أبى عمرو وابن عامر. انظر البحر المحيط: 8/ 363.
(5) ساقط فى ح. [.....]
(6) يعنى ابن يعمر وعكرمة وابن أبى عبلة، كما فى البحر: 8/ 363.
(7) توسعة الصوف: تنفيشه.
(8) فى ح، ش: أبو العباس.
(9) سقط (يقول) فى ح، ش.

(3/197)


يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)

وقوله عز وجل: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) .
أخْلِص لله «1» إخلاصًا، وَيُقَال للعابد إِذَا ترك كل شيء، وأقبل عَلَى العبادة: قَدْ تبتل، أي:
قطع كل شيء إلا أمر اللَّه وطاعته.
وقوله عز وجل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ (9) .
خفضها عاصم والْأَعْمَش، ورفعها أهل الحجاز، والرفع يحسن إِذَا انفصلت الآية من الآية، ومثله: «وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ» «2» [111/ ا] فِي هذين الموضعين «3»
يحسن الاستئناف والاتباع.
وقوله عز وجل: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) .
كفيلا بما وعدك. وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا (14) .
والكثيب: الرمل، والمهيل: الَّذِي تحرك «4» أسفله فينهال عليك من أعلاه، والمهيل: المفعول، والعرب تَقُولُ: مهيل ومهيول، ومكيد ومكيود «5» ، قَالَ الشَّاعِر «6» :
وناهزُوا البيعَ من تِرْعِيَّةٍ رَهِقٍ ... مُستَأْرَبٍ، عَضَّه السُّلطانُ مَديُونُ
قَالَ، قَالَ الفراء: المستأرَب الَّذِي قَدْ أُخذ بآرابه، وَقَدْ أُرِّب.
وقوله عزَّ وجلَّ: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً (17) .
معناه: فكيف تتقون يوما يجعل «7» الولدان شيبا إن كفرتم، وكذلك هِيَ فِي قراءة عبد الله سواء.
__________
(1) فى ح، ش إليه.
(2) الآيتان 125، 126 من سورة الصافات قرأ، (الله) بالنصب حفص وحمزة والكسائي وقرأ الباقون بالرفع، كما فى الإتحاف:
(3) فى ح، ش: فى مثل هذا الموضع.
(4) كذا فى ش، وفى ب، ح: يحرك، وما أثبتناه أنسب.
(5) فى ح، ش: مكيل ومكيول.
(6) البيت فى اللسان (أرب) : وفيه بعد تفسير المستأرب: وفى نسخة: مستأرب بكسر الراء قال: هكذا أنشده محمد بن أحمد المفجع. أي أخذه الدين من كل ناحية. والمناهزة فى البيع: انتهاز الفرصة. وناهزوا البيع:
أي بادروه. والرهق: الذي به خفة وحدة. وقيل: الرهق: السفه وهو بمعنى السفيه. وعضه السلطان: أي أرهقه وأعجله وضيق عليه الأمر. والترعية: الذي يجيد رعى الإبل ...
(7) فى ب: تجعل، تصحيف.

(3/198)


وقوله «1» عز وجل: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ (18) .
بذلك اليوم، والسماء تذكر وتؤنث، فهى هاهنا فِي وجه التذكير، قَالَ الشَّاعِر:
فلو رَفع السماء إِلَيْه قومًا ... لحقنا بالنجومِ مَعَ السحابِ «2»
وقوله عز وجل: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) .
طريقا ووجهة إلى اللَّه.
وقوله عزَّ وجلَّ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ (20) .
قرأها عاصم والْأَعْمَش بالنصب، وقرأها أهل المدينة والحسن البصري بالخفض، فمر خفض أراد:
تقوم [أقل من الثلثين] «3» . وأقل من النصف. ومن الثلث. ومن نصب أراد: تقوم أدنى من الثلثين، فيقوم «4» النصف أَوِ الثلث «5» ، وهو أشبه بالصواب، لأنَّه قَالَ: أقل من الثلثين، ثُمَّ ذكر تفسير القلة لا تفسير أقل من القلة. ألا ترى أنك تقول للرجل: لى عليك أقل من ألف درهم ثمانى مائة أَوْ تسع مائة، كأنه أوجه فِي المعنى من أن تفسر «6» - قلة- أخرى [111/ ب] وكلّ صواب.
وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ (20) كان النبي صلّى الله عليه، وطائفة من المسلمين يقومون الليل قبل أن تفرض الصلاة، فشق «7» ذَلِكَ عليهم، فنزلت الرخصة. وَقَدْ يجوز أن يخفض النصف، وينصب الثلث لتأويل «8» قوم: أنّ صلاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه انتهت إلى ثلث الليل، فقالوا: «9»
__________
(1) كذا فى ش: وفى ب، ح، فقوله، وما أثبتناه هو المعتاد فى مثل هذا الموطن.
(2) فى تفسير القرطبي 19/ 51:
قال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل: منفطرة لأن مجازها السقف، نقول: هذا سماء البيت، ثم أورد البيت، ولم ينسبه وفيه: لحقنا بالسماء وبالسحاب ورواية البيت فى (البحر المحيط 8/ 365) .
فلو رفع السماء إليه قوم ... لحقنا بالسماء وبالسحاب
(3) سقط فى ح. [.....]
(4) فى ش فتقوم.
(5) فى ش: النصف والثلث، والأشبه (أو) .
(6) فى ش: يفسر.
(7) فى ح: فيشق.
(8) فى ش: لتأول.
(9) فى ش: فقال، وهو تحريف.

(3/199)


يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ الثلثين، ومن النصف، ولا تنقص من الثلث، وهو وجه شاذ لم يقرأ بِهِ أحد. وأهل القراءة الذين يُتَّبعون أعلم بالتأويل من المحدثين. وَقَدْ يجوز، وهو عندي:
يريد: الثلث.
وقوله عزَّ وجلَّ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ (20) .
أن لن تحفظوا مواقيت الليل «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ» (20) . المائة فما زاد. وَقَدْ ذكروا «1» : أَنَّهُ من قَرَأَ عشر آيات لم يكتب من الغافلين، وكل شيء أحياه «2» المصلي من الليل فهو «3» ناشئة.
وقوله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (20) يعنى: المفروضة.

ومن سورة المدّثّر
قوله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) .
يعني: المتدثر بثيابه لينامَ.
وقوله عزَّ وجل: قُمْ فَأَنْذِرْ (2) .
يريد: قم فصلّ، ومرْ بالصلاة.
وقوله تبارك وتعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) .
يَقُولُ: لا تكن غادرا فتدنس ثيابك، فإن الغادر دنِس الثياب، وَيُقَال: وثيابك فطهر، وعملك فأصلح. وقَالَ بعضهم: وثيابك فطهر: قصر «4» ، فإن تقصير الثياب طُهْرة «5» .
فقوله عزَّ وجلَّ: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) .
كسره «6» عاصم والْأَعْمَش والحسن، ورفعه السلمي ومجاهد وأهل المدينة فقرءوا: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ»
__________
(1) فى ش: ذكر.
(2) فى ش: أحصاه.
(3) فى ح: فهى، تحريف.
(4) فى ش: فقصر
(5) الطهرة: اسم من التطهير وفى ح، ش طهر
(6) كسره: يريد راء الرجز، والرفع أيضا وهى قراءة حفص وأبى جعفر ويعقوب، وافقهم ابن محيصن والحسن. (الإتحاف 427) .

(3/200)


فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)

وفسر مجاهد: والرجز: الأوثان، وفسره الكلبي: الرجز: العذاب، ونرى أنهما لغتان، وأن المعنى فيهما [112/ ا] واحد.
وقوله عزَّ وجلَّ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) .
يَقُولُ: لا تُعط فِي الدنيا شيئًا لتصيب أكثر مِنْهُ، وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه: «وَلا تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ» فهذا شاهد عَلَى الرفع فى «تَسْتَكْثِرُ» ولو جزمه جازم على هذا المعنى كان صوابًا «1» ، والرفع وجه القراءة والعمل.
وقوله عزَّ وجل: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) .
يُقال: إنها أول النفختين.
وقوله عزَّ وجلَّ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) .
[الوحيد «2» ] فِيهِ وجهان، قَالَ بعضهم: ذرني ومن خلقته وحدي، وقَالَ آخرون: خلقته وحده لا مال له ولا بنين، وهو أجمع الوجهين.
وقوله تبارك وتعالى: وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) :
قال الكلبي: العروض والذهب والفضة، [حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ:»
] حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي قيس عنْ إِبْرَاهِيم بْن المهاجر عنْ مجاهد فِي قوله: (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُوداً) ، قَالَ: ألف دينار، ونرى أن الممدود جُعل غاية للعدد لأن الألف غايةُ العدد، يرجع فِي أول العدد من الألف. ومثله قول العرب: لَكَ عَلَى ألف أقدع، أي: غاية العدد.
وقوله: وَبَنِينَ شُهُوداً (13) كَانَ لَهُ عشرة بنين لا يغيبون عنْ عينيه «4» فِي تجارة ولا عمل، والوحيد: الوليد بْن المغيرة المخزومي.
وقوله: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) .
__________
(1) الجزم قراءة الحسن. المحتسب: 2: 237.
(2) التكملة من ح، ش. [.....]
(3) الزيادة من ش.
(4) فى ب: عينه.

(3/201)


ثُمَّ نَظَرَ (21)

فذكروا أَنَّهُ جمع رؤساء أهل مكَّة فَقَالَ: إن الموسم قددنا، وَقَدْ فشا أمر هَذَا الرجل فِي النَّاس، ما أنتم قائلون فِيهِ للناس؟ قَالُوا: نقول: مجنون. قَالَ: إذًا يؤتي فيكلّم، فيُرى عاقلًا صحيحًا، فيكذبوكم، قَالُوا: نقول: شاعر. قَالَ: فهم عرب قَدْ رووا الأشعار وعرفوها، وكلام مُحَمَّد لا يُشْبِهُ الشِّعرَ، قَالُوا: نقول: كاهن، قَالَ: فقد عرفوا الكهنة [112/ ب] ، وسألوهم، وهم لا يقولون:
يكون كذا وكذا إن شاء اللَّه، ومحمد لا يَقُولُ لكم شيئًا إلا قَالَ: إن شاء اللَّه، ثُمَّ قام، فقالوا:
صبأ الوليد. يريدون أسلم الوليد. فَقَالَ ابْنُ أخيه أَبُو جهل: أَنَا أكفيكم أمره، فأتاه فَقَالَ: إن قريشًا تزعم أنك قَدْ صبوت «1» وهم يريدون: أن يجمعوا لَكَ مالًا يكفيك مما تريد أن تأكل من فضول أصحاب محمد- صلّى الله عليه- فَقَالَ: ويحك! والله ما يَشبعون، فكيف ألتمس فضولهم مَعَ أني أكثر قريش مالًا؟ ولكني فكرت فِي أمر مُحَمَّد «2» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ-، وماذا نَرُد عَلَى العرب إِذَا سألتنا، فقد عزمْت عَلَى أن أقول: ساحر. فهذا تفسير قوله: «إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ» القول فى محمد صلّى الله عليه.
وقوله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) .
قتل «3» أي: لُعن، وكذلك: «قاتَلَهُمُ اللَّهُ «4» » و «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ «5» » ، ذكِر أنهن اللعن.
وقوله: ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) .
ذكروا: أَنَّهُ مرَّ عَلَى طائفة من المسلمين فِي المسجد الحرام، فقالوا: هَلْ لَكَ إلى الْإِسْلَام يا أبا المغيرة؟ فَقَالَ: ما صاحبكم إلا ساحر، وما قوله إلَّا السحر تعلَّمه من مسيلمة الكذاب، ومن سحرة بابل، ثُمَّ قَالَ «6» : ولَّى عَنْهُمْ مستكبرًا قَدْ عبَس وجهه وبسر: كلح مستكبرا عن «7»
__________
(1) كذا فى النسخ، كأنه ملت وفتنت.
(2) فى ح، ش: فى محمد.
(3) التكملة من ح، ش.
(4) سورة التوبة الآية: 30.
(5) سورة عبس الآية: 17.
(6) فى ب: قال ثم.
(7) فى ش: على.

(3/202)


سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)

الْإِيمَان، فذلك قوله: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) يأثره «1» عنْ «2» أهل بابل.
قَالَ اللَّه جل وعز: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) .
وهي اسم من أسماء جهنم، فلذلك لم يجز، وكذلك «لَظى» .
وقوله: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) .
مردود عَلَى سقر بنية التكرير، كما قَالَ: «ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [113/ ا] فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «3» » وكما قَالَ فِي قراءة عَبْد اللَّه: «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً «4» » ولو كَانَ «لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ» كَانَ صوابًا.
كما قَالَ: «إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ» (36) . وفي قراءة أَبِي: «نذِيرٌ لِلْبشَر» وكل صواب.
وقوله: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) .
تسوِّد البشرة بإحراقها.
وقوله: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) .
فإن العرب تنصب ما بين أحد عشر إلى تسعة عشر فِي الخفض والرفع، ومنهم من يخفف العين فِي تسعة عشر، فيجزم العين فِي الذُّكران، ولا يخففها فِي: ثلاث عشرة إلى تسع عشرة «5» لأنهم إنَّما خفضوا فِي المذكر لكثرة الحركات. فأما المؤنث، فإن الشين من عشْرة ساكنة، فلم يخففوا العين منها فيلتقي ساكنان. وكذلك: اثنا عشر فِي الذكران لا يخفف العين «6» لأن الألف من:
اثنا عشر ساكنة فلا يسكن بعدها آخر فيلتقي ساكنان، وَقَدْ قَالَ بعض كفار أهل مكَّة وهو أَبُو جهل: وما تسعة عشر؟ الرجل منا يطبق «7» الواحد فيكفه عَنِ النَّاس. وقال رجل من بنى جمح
__________
(1) سقط فى ح.
(2) فى ش على، تحريف.
(3) سورة البروج الآية 16.
(4) سورة هود الآية: 72.
(5) فى ش: تسعة عشر، تحريف. [.....]
(6) فى ش: لا يخفف.
(7) سقط فى ش.

(3/203)


وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)

كَانَ يُكنى: أبا الأشدين «1» : أَنَا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني اثنين فأنزل اللَّه: «وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» (31) ، أي: فمن يطيق الملائكة؟ ثم قال: «وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ» فى القلة «إِلَّا فِتْنَةً» (31) على الذين كفروا ليقولوا ما قَالُوا، ثُمَّ قَالَ: «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» (31) يقينًا إلى يقينهم لأن عدة الخزنة لجهنم فى كتابهم: تسعة عشر، «وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً» (31) لأنها فِي كتاب أهل الكتاب كذلك.
وقوله: وَاللَّيْلِ [113/ ا] إِذْ أَدْبَرَ (33) .
قرأها ابن عباس: «والليل [113/ ا] إذَا دَبر» ومجاهد وبعض أهل المدينة كذلك «2» وقرأها كَثِير من النَّاس «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» :
[حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: «3» ] حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي بذلك مُحَمَّد بْن الفضل عنْ عطاء عنْ أَبِي عَبْد الرَّحْمَن عنْ زَيْد أَنَّهُ قراها: «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» وهي فِي قراءة عبد الله:
«والليل إذا أدبر» . وقرأها الْحَسَن كذلك: «إِذَا أدبر» كقول عبد الله.
[حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ حَدَّثَنَا «4» مُحَمَّدٌ] قَالَ حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: وَحَدَّثَنِي «5» قَيْسٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الأَقْمَرِ عَنْ رَجُلٍ- لا أَعْلَمُهُ إِلا الأَغَرَّ- عَنِ ابْنِ عباس أنه قرأ: «والليل إذا دبر» .
وقال: إنما أدبر ظهر البعير [حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ «6» ] قَالَ حدثنا الفراء قال:
وَحَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الأَقْمَرِ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ «أَدْبَرَ» [قَالَ الْفَرَّاءُ:
مَا أَرَى أَبَا عَطِيَّةَ إِلَّا الْوَادِعِيَّ بَلْ هُوَ هُوَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ قَيْسٍ إِذْ، وَلا أَرَاهُمَا إِلا لُغَتَيْنِ «7» ] . يُقَالُ: دَبَرَ النَّهَارُ وَالشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ وَأَدْبَرَ. وَكَذَلِكَ: قَبَلَ وَأَقْبَلَ، فَإِذَا قَالُوا: أَقْبَلَ الرَّاكِبُ وَأَدْبَرَ لَمْ يَقُولُوهُ إِلا بِأَلِفٍ، وَإِنَّهُمَا فِي الْمَعْنَى عِنْدِي لَوَاحِدٌ، لا أُبْعِدُ أَنْ يَأْتِيَ فِي الرَّجُلِ مَا أُتِيَ فى الأزمنة.
__________
(1) كذا فى النسخ، وفى الكشاف (2: 504) : أبو الأشد بن أسعد بن كلدة الجمحي، وكان شديد البطش
(2) فى الإتحاف (427) . اختلف فى «والليل إذا أدبر» ، فنافع وحفص وحمزة ويعقوب وخلف بإسكان الذال ظرفا لما مضى من الزمان، أدبر بهمزة مفتوحة، ودال ساكنة على وزن أكرم، وافقهم ابن محيصن والحسن.
والباقون بفتح الذال ظرفا لما يستقبل، وبفتح دال دبر على وزن ضرب. لغتان بمعنى، يقال: دبر الليل وأدبر.
(3، 4) ما بين الحاصرتين زيادة من ش.
(5) فى ش: حدثنى.
(6، 7) ما بين الحاصرتين من ح، ش، والعبارة فى ب مضطربة وبها سقط.

(3/204)


إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)

وقوله: نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) .
كَانَ بعض النحويين يَقُولُ: إن نصبت قوله: «نذيرا» من أول السورة يا محمد قم نذيرًا للبشر «1» ، وليس ذَلِكَ بشيء وَالله أعلم لأنّ الكلام قَدْ حدث بَيْنَهُما شيء مِنْهُ كَثِير، ورفعه فِي قراءة أَبِيّ ينفي هَذَا المعنى. ونصبه «2» من قوله: «إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً» تقطعه من المعرفة لأن «إحدى الكبر» معرفةٌ فقطعته مِنْهُ، ويكون نصبه عَلَى أن تجعل النذير إنذارًا من قوله:
«لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ [113/ ب] » (28) لواحة [تخبر بهذا عنْ جهنم إنذارًا «3» ] للبشر، والنذير قَدْ يكون بمعنى: الإنذار. قَالَ اللَّه تبارك وتعالى: «كَيْفَ نَذِيرِ «4» » و «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ
«5» » يريد: إنذاري، وإنكاري.
وقوله عزَّ وجلَّ: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) .
الهاء «6» كناية عنْ جهنم.
وقوله: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) .
قال الكلبي: هم أهل «7» الجنة [حدثنا أبو العباس قال «8» ] حدثنا الفراء قال: وَحَدَّثَنِي «9» الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورِ «10» بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنِ الْمِنْهَالِ رَفَعَهُ إِلَى عَلِيٍّ قَالَ: «إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ» قَالَ: هُمُ الْوِلْدَانُ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالصَّوَابِ لأَنَّ الولدان لَمْ يَكْتَسِبُوا مَا يَرْتَهِنُونَ بِهِ وَفِي قوله:
«يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» (42) مَا يُقَوِّي أَنَّهُمُ الْوِلْدَانُ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الذنوب، فسألوا: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» .
__________
(1) كذا فى النسخ، وفى العبارة غموض، يوضحه قول الكشاف عن المراد بها: «وقيل: هو متصل بأول السورة، يعنى: قم نذيرا، وهو من بدع التفاسير» . الكشاف: 2: 505، ويمكن أن يقدر جواب إن.
(2) كذا فى ش، وفى غيرها: نصبها. ولفظ ش: أنسب.
(3) ما بين الحاصرتين زيادة من ح، ش.
(4) سورة الملك الآية: 17 فى الأصل «فكيف كان نذير» .
(5) سورة الملك الآية: 18، واجتزأ فى ح بلفظ (نكير) .
(6) سقط فى ش.
(7) فى ش: أصحاب. [.....]
(8) زيادة فى ش.
(9) فى ش: حدثنى.
(10) المنصور بن المعتمر هو أبو عتاب السلمى الكوفي، عرض القرآن على الأعمش، وروى عن إبراهيم النخعي، ومجاهد. وعرض عليه حمزة، وروى عنه سفيان الثوري وشعبة ت 133 (طبقات القراء 2/ 314) .

(3/205)


كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)

وقوله: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) .
قرأها عاصم والْأَعْمَش: «مُسْتَنْفِرَةٌ» بالكسر، وقرأها أهل الحجاز «مُسْتَنْفِرَةٌ» بفتح «1» الفاء «2» وهما جميعًا كثيرتان فِي كلام العرب، قَالَ الشَّاعِر «3» :
أمْسِكْ حِمارَكُ إنَّهُ مُسْتنفِرٌ ... فِي إثرِ أحْمِرَةٍ عَمْدنَ لِغُرّب
والقسورة يُقال: إنها الرماة، وقَالَ الكلبي بإسناده: هُوَ الأسد.
[حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ «4» ] حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: «5» حَدَّثَنِي أَبُو الأحوص عنْ سَعِيد بْن مسروق أَبِي سُفْيَان الثوري عنْ عكرمة قَالَ: قيل لَهُ: القسورة، الأسد بلسان الحبشة، فَقَالَ: القسورة، الرماة، والأسد بلسان الحبشة: عنبسة.
وقوله: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) .
قَالَتْ كفار قريش للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [114/ ا] : كَانَ الرجل يذنب فِي بني إسرائيل، فيصبح ذنبه مكتوبًا فِي رقعة، فما بالنا لا نرى ذَلِكَ؟ فَقَالَ اللَّه عزَّ وجلَّ: «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً» .
وقوله: إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) .
يعني هَذَا القرآن، ولو قيل: «إِنَّها تَذْكِرَةٌ «6» » لكان صوابًا، كما قَالَ فِي عبس، فمن قَالَ:
(إنها) أراد السُّورة، ومن قَالَ: (إنه) أراد القرآن.
__________
(1) سقط فى ش.
(2) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بفتح الفاء، أي: منفرة مذعورة (الإتحاف: 427) .
(3) غرب: جبل دون الشام فى بلاد بنى كلب، وعنده عين ماء يقال لها: الغربّه والغربّه، وقد أورد القرطبي البيت- فى تفسيره- ولم ينسبه (19/ 89) ، ورواية البحر المحيط: عهدن العرب، تحريف (البحر المحيط 8/ 380)
(4) الزيادة من ش.
(5) سقط فى ش: حدثنى.
(6) الآية: 11.

(3/206)