معاني القرآن للفراء

ومن سورة الفتح
قوله «2» : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) .
يعني: فتح مكَّة «وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً» (2) .
يَقُولُ: ورأيت الأحياء يسلم الحي بأسره، وقبل ذَلِكَ إنَّما يسلم الرجل بعد الرجل.
وقوله عز وجلّ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ (3) .
يَقُولُ: فصلّ. وذكروا أَنَّهُ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نزلت هَذِهِ السُّورة: نُعيَتْ إلىّ نفسى.
__________
(1) سورة الشعراء: الآيتان 78، 79.
(2) سقط فى ب.

(3/297)


تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)

ومن سورة أبى لهب
قوله عزَّ وجلَّ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ (1) .
ذكروا أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام عَلَى المروة، فقال: يا آل غالب، فاجتمعت إِلَيْه، ثُمَّ قَالَ: يا آل لؤي، فانصرف ولد غالب سوى لؤي، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ حتَّى انتهى إلى قصي.
فَقَالَ أَبُو لهب: فهذه قصي قَدْ أتتك فما لهم عندك؟ فقال: إن اللَّه تبارك وتعالى قَدْ أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فقد أبلغتكم، فَقَالَ أَبُو لهب: أما دعوتنا إلَّا لهذا؟ تبًّا لَكَ، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» وفى قراءة عبد الله: «وقد تب» فالأول: دعاء، والثاني: خبر. قَالَ الفراء: «تَبَّ» : خسر، كما تَقُولُ للرجل: أهلكك اللَّه، وَقَدْ أهلكك، أو تقول: جعلك الله صالحا، وقد جعلك.
وقوله عز وجل: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) ، ترفع الحمّالةُ وتنصب «1» ، فمن رفعها فعلى جهتين:
يَقُولُ: سيصلى نار جهنم هُوَ وامرأته حمالةُ الحطب تجعله من نعتها، والرفع الآخر وامرأتهُ حمالةُ الحطب، تريد: وامرأته حمالة الحطب فِي النار، فيكون فى جيدها هُوَ الرافع، وإن شئت رفعتها بالحمالة، كأنك قلت: ما أغنى عَنْهُ ماله وامرأته هكذا. وأما النصب فعلى جهتين:
إحداهما [151/ ا] أن تجعل الحمالة قطعًا لأنها نكرة ألا ترى أنك تَقُولُ: وامرأته الحمالة الحطب «2» ، فإذا ألقيت الألف واللام كانت نكرة، ولم يستقم أن تنعت معرفة بنكرة.
والوجه الآخر: أن تشتمها بحملها الحطب، فيكون نصبها عَلَى الذم، كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيّد المرسلين سمعها الكِسَائِيّ من العرب. وَقَدْ ذكرنا [مثله] «3» فى غير موضع.
__________
(1) حمالة بالرفع قراءة الجمهور على أن يكون خبرا، وامرأته مبتدأ، ويكون فى جيدها حبل من مسد جملة فى موضع الحال من المضمر فى حمالة، أو خبرا ثانيا، أو يكون حمالة الحطب نعتا لامرأته، والخبر فى جيدها حبل من مسد، فيوقف على هذا- على ذات لهب. وقرأ عاصم حمالة بالنصب على الذم، كأنها اشتهرت بذلك فجاءت الصفة للذم لا للتخصيص كقوله تعالى: «مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا» (القرطبي 20/ 240) .
(2) فى ش: الحطب.
(3) زيادة من ش يطلبها الأسلوب. [.....]

(3/298)


قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)

وفي قراءة عَبْد اللَّه: «وامرأته حمالةً للحطب» نكرة منصوبة، وكانت تنمُ بين النَّاس، فذلك حملها الحطب يَقُولُ: تُحرِّش بين النَّاس، وتوقد بينهم العداوة.
وقوله جل وعز: فِي جِيدِها: فى عنقها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) .
وهي: السلسلة التي فِي النار، وَيُقَال: من مسد: هو ليف المقل «1» .

ومن سورة الإخلاص
قوله عزَّ وجلَّ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) .
سألوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما ربك؟ أيأكل أم يشرب؟ أم من ذَهب أم من فضة؟
فأنزل اللَّه جل وعز: «قُلْ هُوَ اللَّهُ» . ثُمَّ قَالُوا: فما هُوَ؟ فَقَالَ: «أَحَدٌ» . وهذا من صفاته:
أَنَّهُ واحد، وأحد «2» وإن كَانَ نكرة. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه: يعني فِي اللفظ، فإنه مرفوع بالاستئناف كقوله: «هَذا بَعْلِي شَيْخٌ «3» » . وَقَدْ قَالَ الكِسَائِيّ فِيهِ قولا لا أراه شيئًا. قَالَ: هُوَ عماد. مثل قوله:
«إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ «4» » . فجعل «أَحَدٌ «5» » مرفوعًا بالله، وجعل هُوَ «6» بمنزلة الهاء فِي (أَنَّهُ) ، ولا يكون العمادُ مستأنفًا بِهِ حتَّى يكون قبله إن أَوْ بعض أخواتها، أَوْ كَانَ أَوِ الظن.
قوله عز وجل: كُفُواً أَحَدٌ (4) .
يثقل ويخفف «7» ، وإِذا كَانَ فعل النكرة بعدها أتبعها فِي كَانَ وأخواتها فتقول: [لم يكن لعبد اللَّه أحد نظير، فإذا قدمت النظير نصبوه، ولم يختلفوا فِيهِ، فقالوا] «8» : لم يكن لعبد الله نظيرا أحد. وذلك أَنَّهُ إِذَا كَانَ بعدها فقد اتبع الاسم فِي رفعه، فإذا تقدم فلم يكن قبله شىء
__________
(1) المقل: حمل الدّوم، واحدته مقلة، والدّوم شجرة تشبه النخلة فى حالاتها (اللسان) .
(2) فى ش: واحد أحدا.
(3) سورة هود الآية: 73.
(4) سورة النمل الآية: 9
(5) فى ش: أحدا.
(6) سقط فى ش.
(7) خفف (أسكن الفاء) حمزة، ويعقوب، وخلف، وثقّل (ضم الفاء) الباقون، لغتان (الإتحاف 445) .
(8) سقط فى ش.

(3/299)


يتبعه رجع إلى فعل كَانَ فنصب. والذي قرأ «أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ «1» » بحذف النون من (أحد) يَقُولُ:
النون نون الإعراب إِذَا استقبلتها الألف واللام حذفت. وكذلك إِذَا استقبلها ساكن، فربما حذفت وليس بالوجه قَدْ قرأت القراء: «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «2» » ، و «عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «3» » .
والتنوين أجود، وأنشدني بعضهم:
لَتجِدّني بالأميرِ بَرّا ... وَبالقناة مِدْعَسا مكرّا
إذا غطيف السُّلَميُّ فَرَّا «4» وأنشدني آخر «5» :
كيْفَ نَومي عَلَى الفراشِ ولَمَّا ... تشملِ الشامَ غارةٌ شعواءُ
تُذْهل الشيخَ عَن بَنيهِ وَتُبْدِي ... عَن خِدَامِ العَقِيلةُ العذراء
أراد عَن خدامٍ العقيلةُ العذراء، وليس قولهم عن خدام [عقيلة] «6» عذراء بشىء.
__________
(1) قرأ بحذف التنوين جماعة منهم زيد بن على، ونصر بن عاصم، وابن سيرين، والحسن، وابن أبى اسحق، والأصمعى (البحر المحيط: 8/ 528) .
(2) التوبة الآية: 30.
(3) انظر معانى القرآن 43111.
(4) المدعس: المطاعن، والمكر: الذي يكر فى الحرب ولا يفر. واقتصر فى المخصص 6: 89 على البيتين الأول والثاني ولم ينسبهما.
(5) لعبيد الله بن قيس الرقيات من قصيدة يمدح فيها مصعب بن الزبير، ويفتخر بقريش، ويريد بالغارة على الشام الغارة على عبد الملك بن مروان. والخدام: جمع واحده الخدمة، وهى الخلخال. ورواية الديوان؟ براها مكان خدام، والبرى جمع واحده البرة فى وزان كرة- الخلخال أيضا. (اللسان مادة: شعا- ومعانى القرآن 1/ 432)
(6) زيادة فى ش. [.....]

(3/300)


قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)

ومن سورة الفلق
[151/ ب]
قوله عزَّ وجلَّ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) .
الفلق: الصبح، يُقال: هُوَ أبين من فلق الصبح، وفرَق الصبح. وكان النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اشتكى شكوًا شديدًا «1» فكان يومًا بين النائم واليقظان، فأتاه ملكان فَقَالَ أحدهما:
ما علّته؟»
فَقَالَ الآخر: بِهِ طبٌّ فِي بئر تحت صخرة فيها، فانتبه النَّبِيّ صلّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعث عمار بْن ياسر فِي نفر إلى البئر، فاستخرج السحر، وكان وترًا فِيهِ إحدى عشرة عقدة، فجعلوا كلما حلوا عقدة وجد راحة حتَّى حلت العقد، فكأنه أُنشِط من عقال، وأمر أن يتعوذ بهاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية عَلَى عدد العقد. وكان الَّذِي سحره لبيد بْن أعصم.
وقوله عزَّ وجلَّ: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) .
والغاسق: الليل «إِذا وَقَبَ» إِذَا دخل فِي كل شيء وأظلم، وَيُقَال: غسق وأغسق.
وقوله عزَّ وجلَّ: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) .
وهن السواحر ينفثن سحرهن. ومِنْ شَرِّ «3» حاسدٍ إذا حسد، يعنى: الذي سحره لبيدا.
__________
(1) سقط فى ش.
(2) طب: سحر.
(3) سقط فى ش.

(3/301)


مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)

ومن سورة الناس
قوله «1» عز وجل: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) .
إبليس يوسوس فِي صدر الْإِنْسَان «2» ، فإذا ذكر اللَّه عزَّ وجلَّ خنس.
وقوله عزَّ وجلَّ: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) .
فالناس هاهنا قَدْ وقعت عَلَى الجنة «3» وعلى النَّاس كقولك: يوسوس فِي صدور النَّاس: جنتهم وناسهم، وَقَدْ قَالَ بعض العرب وهو يحدّث: جاء قوم من الجن فوقفوا، فقيل: من أنتم؟
فقالوا: أناس من الجن وَقَدْ قَالَ اللَّه جل وعز: (أنّه استمع نفر من الجن «4» ) فجعل النفر من الجن كما جعلهم من النَّاس، فَقَالَ «5» جل وعز: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ «6» » فسمّى الرجال من الجن والأنس والله أعلم.
[تمّ كتاب المعاني، وذاك من الله وحده لا شريك له والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمد وآله وسلم «7» ] [تمت هذه النسخة المباركة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلّى الله على من لا نبى بعده محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين آمين «8» ] .
__________
(1) فى ش: وقوله.
(2) فى ش: صدور الناس.
(3) فى ش: الجن.
(4) سورة الجن الآية: 1.
(5) فى ش: وقال.
(6) سورة الجن: 6.
(7) ما بين هاتين الحاصرتين آخر النسخة ب.
(8) ما بين هاتين الحاصرتين آخر ما جاء فى النسخة ش.

(3/302)