معاني القرآن للنحاس

تفسير سورة المائدة

مدنية وآياتها 120 آية

(2/246)


بسم الله الرحمن الرحيم سورة المائدة وهي مدنية روي عن علقمة أنه قال كل ما كان في القرآن (يا أيها الذين
أمنوا) فنزل بالمدينة وكل ما كان في القرآن (يا أيها الناس) فنزل بمكة 1 من ذلك قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) قال مجاهد العقود العهود وذلك معروف في اللغة يقال عهدت إليه إذا أمرته بأمر وعقدت عليه وعاقدته بين إذا أمرته واستوثقت منه

(2/247)


وقيل يراد بالعقود ها هنا الفرائض 2 ثم قال جل وعز (أحلت لكم بهيمة الانعام الا ما يتلى عليكم) قال الحسن الانعام الابل والبقر والغنم وروى عوف عن الحسن (بهيمة الانعام) الشاة والبعير والبقرة وروى زهير بن معاوية عن قابوس بن أبي ظبيان قال ذبحنا بقرة فأخذ الغلمان من بطنها ولدا ضخما قد أشعر فشووه ثم أتوا به أبا ظبيان فقال حدثنا عبد الله بن عباس أن هذا بهيمة

(2/248)


الانعام قال أبو جعفر الاول أولى لان بعده (الا ما يتلى عليكم) وليس في الاجنة ما يستثنى وقيل لها بهيمة الانعام لانها أبهمت عن التمييز 3 ثم قال جل وعز (غير محلي الصيد وأنتم حرم ان الله
يحكم ما يريد) واحد الحرم حرام وحرام بمعنى محرم قيل له محرم وحرام لما حرم عليه من النكاح وغيره يقال أحرم إذا دخل في الحرم كما يقال أشتى إذا دخل

(2/249)


في الشتاء وأشهر إذا دخل في الشهر 4 وقوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) قال أبو عبيدة الشعائر الهدايا الواحدة شعيرة وقال غيره شعيرة بمعنى مشعرة وقال الاصمعي أشعرتها أهل أعلمتها وروى الاسود بن يزيد عن عائشة قالت انما أشعرت ليعلم أنها بدنة وقال مجاهد شعائر الله الصفا والمروة والحرم والمعنى على هذا القول لا تحلوا الصيد في الحرم والتقدير لا تحلوا لانفسكم شعائر الله

(2/250)


ومن قال بأنها البدن فالآية عنده منسوخة قال الشعبي ليس في المائدة آية منسوخة الا (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) وكذلك قال قتادة وقال نسختها (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وكانوا قبل قد منعوا من قتالهم في الشهر إذا كانوا آمين البيت الحرام 5 ثم قال جل وعز (ولا الشهر الحرام) وهو رجب
6 ثم قال جل وعز (ولا الهدي) واحد الهدي هدية 7 ثم قال جل وعز (ولا القلائد) قال الضحاك وعطاء كانوا يأخذون من شجر الحرم فلا يقربون إذا رئي عليهم 8 ثم قال جل وعز (ولا آمين البيت الحرام) الام القصد

(2/251)


أي لا تستحلوا منع القاصدين البيت الحرام ويجوز أن يكون المعنى لا تحلوا قصد الآمين ثم حذف 9 ثم قال جل وعز (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا) قال ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد يبتغون الاجر والتجارة 10 ثم قال جل وعز (وإذا حللتم فاصطادوا) وهذا اباحة بعد حظر وليس بحتم 11 ثم قال تعالى (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا)

(2/252)


قال أبو عبيدة (ولا يجرمنكم لا يكسبنكم وأنشد ولقد طعنت أبا عيينه طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا وقال الاخفش ولا يحقنكم وقال الفراء ولا يحملنكم وهذه المعاني متقاربة لان من حمل رجلا على ابغاض رجل فقد
أكسبه ابغاضه حديث فإذا كان الامر كذلك فالذي هو أحسن أن يقال ما قاله ابن عباس وقتادة قالا أي لا يحملنكم شنآن قوم على العدوان

(2/253)


وقرأ الاعمش (ولا يجرمنكم) بضم الياء قال الكسائي جرم يجرم وأجرم يجرم بمعنى واحد الفتح في هذا أكثر والضم في الجناية أكثر والشنآن الابغاض عند ويقرأ شنئان باسكان النون وليس بالحسن لان المصادر لا تكاد تكون على فعلان وقرأ أبو عمرو ان صدوكم بكسر الهمزة بمعنى الشرط وروي عن الاعمش أنه قرأ ان يصدوكم وهو لحن عند النحويين لان ان إذا جزمت لم يتقدم

(2/254)


جوابها والمعنى على قراءة من فتح (ولا يجرمنكم شنآن قوم) لان صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ومن كسر فالمعنى عنده ان فعلوا هذا والمعنى على الغتح لانه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قتل رجل من أصحابه رجلا من أهل مكة كان يقتل حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية 12 وقوله جل وعز (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير)
يقال ميتة وميتة بمعنى واحد هذا قول من يوثق به من أهل اللغة وقيل الميتة ما لم تمت بعد والميتة التي قد ماتت وروي أنهم كانوا يجعلون الدم في المباعر ثم يشوونها ويأكلونها فحرم الله جل وعز الدم المسفوح وهو المصبوب 13 ثم قال جل وعز (وما أهل لغير الله به)

(2/255)


أي ذبح لغير الله وذكر عليه غير اسمه وأصل الاهلال الصوت ومنه سمي الاهلال بالحج وهو الصوت بالتلبية وايجاب الحج ومنه استهلال المولود ومنه أهل الهلال لان الناس إذا رأوه أومأوا إليه بأصواتهم 14 ثم قال جل وعز (المنخنقة) قال قتادة هي التي تموت في خناقها 15 ثم قال جل وعز (والموقوذة) قال الضحاك كانوا يأخذون الشاة أو غيرها من البهائم فيضربونها عند آلهتم حتى تموت ثم يأكلونها ويقال وقذه وأقذه لأنه فهو موقوذ وموقذ أخبرنا إذا ضربه حتى يشفى على الهلاك ومنه قيل فلان وقيذ 16 ثم قال جل وعز (والمتردية)

(2/256)


قال الضحاك المتردية أن تتردى في ركية أو من جبل ويقال تردى إذا سقط ومنه (وما يغني عنه ماله إذا
تردى) والنطيحة المنطوحة 17 ثم قال جل وعز (وما أكل السبع) أي ما افترسه فأكل بعضه وقرأ الحسن السبع وهو مسكن استثقالا للضمة 18 ثم قال جل وعز (الا ما ذكيتم) والتذكية أن تشخب الاوداج دما ويضطرب اضطراب المذبوح وأصل التذكية في اللغة التمام وقال زهير

(2/257)


يفضله إذا اجتهدا عليه تمام السن منه والذكاء ومنه لفلان ذكاء أي هو تام الفهم وذكيت النار أي أتممت ايقادها وذكيت الذبيحة أتممت ذبحها على ما يجب 19 ثم قال جل وعز (وما ذبح على النصب) وقرأ طلحة (على النصب) قال مجاهد هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها وربما استبدلوا منها ويجوز أن يكون جمع نصاب 20 ثم قال جل وعز (وأن تستقسموا بالازلام) قال قتادة كان أحدهم إذا أراد أن يخرج كتب على
قدح يعني السهم تأمرني بالخروج وعلى الآخر لا تأمرني بالخروج وجعل بينهما سهما منيحا لم يكتب عليه شيئا فيجيلها يا فان خرج

(2/258)


الذي عليه تأمرني بالخروج خرج وان خرج الذي عليه لا تأمرني بالخروج لم يخرج وان خرج المنيح رجع فأجالها وانما قيل لهذا الفعل استقسام لانهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون كما يقال الاستسقاء في الاستدعاء للسقي ونظير هذا الذي حرمه الله قول المنجم لا تخرج من أجل نجم كذا أو اخرج من أجل نجم كذا وقال جل وعز (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت) قال أبو جعفر وذكر محمد بن جرير أن ابن وكيع حدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الازلام

(2/259)


حصى بيض كانوا يضربون بها قال محمد بن جرير قال لنا سفيان بن وكيع هي الشطرنج 21 ثم قال جل وعز (ذلكم فسق) والفسق الخروج أي الخروج من الحلال الى الحرام وقوله جل وعز (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) قال ابن عباس (يئس الذين كفروا من دينكم) المعنى يئس الذين كفروا أن تعود الجاهلية وقال ورقاء المعنى لآن يئس الذين كفروا من دينكم
وهذا معروف عند أهل اللغة كما تقول أنا اليوم قد كبرت عن هذا

(2/260)


22 وقوله جل وعز (اليوم أكملت لكم دينكم) روي أن أناسا من اليهود قالوا لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال عمر رضي لله عنه نزلت في يوم جمعة يوم عرفة وروي عن على رضي الله عنه أنه قال نزلت يوم عرفة أو عشية عرفة وفي معنى الآية قولان أحدهما الآن أكملت لكم دينكم بأن أهلكت عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك ويجوز أن يكون المعنى اليوم أكملت لكم دينكم فوق ما تحتاجون إليه من الحلال والحرام في أمر دينكم

(2/261)


وروى اسرائيل عن أبي اسحاق عن أبي ميسرة أنه قال في المائدة ثماني عشرة فريضة ليست في غيرها تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب والاستقسام بالازلام وتحليل طعام الذين أوتوا الكتاب والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب والجوارح مكلبين وتمام الطهور (إذا قمتم الى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم) وقوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وقوله تعالى (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) ويروى أنها آخر سورة أنزلت 23 وقوله جل وعز (فمن اضطر في مخمصة) المخمصة ضمور البطن من الجوع

(2/262)


24 ثم قال جل وعز (غير متجانف لاثم) قال قتادة الاثم ها هنا أن تأكل منها فوق الشبع 25 ثم قال جل وعز (فان الله غفور رحيم) أي رحمكم فأباح لكم هذه الاشياء عند الضرورة 26 وقوله عز وجل (يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين) وقرأ عبد الله بن مسعود والحسن وأبو رزين (مكلبين) ومعنى مكلبين أصحاب كلاب يقال كلب فهو مكلب وكلاب ويقال أكلب فهو مكلب إذا كثرت عنده الكلاب كما يقال أمشى فهو ممش لو إذا كثرت ماشيته وأنشد الاصمعي

(2/263)


وكل فتى وان أمشى فأثرى ستخلجه يكون عن الدنيا منون وروي عن أبي رافع أنه قال لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل
الكلاب سألوه ما يحل من هذه الامة التي أمرت بقتلها فنزلت (يسئلونك ماذا أحل لهم) وقرأ الى آخر الآية والجوارح في اللغة الكواسب يقال ما لفلانة جارح أي كاسب وقال مجاهد في قول الله عز وجل (ويعلم ما جرحتم بالنهار) قال ما كسبتم

(2/264)


وقال مجاهد في معنى الجوارح انها الكلاب والطير وقال طاووس يحل صيد الطير لقوله تعالى مكلبين وليس في الآية دليل على تحريم صيد سوى الكلاب لان معنى مكلبين محرشون مع والاجماع يقوي قول طاووس على تحليل صيد الطير 27 وقوله جل وعز (فكلوا مما أمسكن عليكم) قال سعد بن أبي وقاص وسلمان وعبد الله بن عمر وأبو هريرة إذا أمسك عليك فكل وان أكل وهذا قول أهل المدينة

(2/265)


وروي عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن أمسك عليك ولم يأكل فكل) وهذا قول أهل الكوفة 28 وقوله جل وعز (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) قال مجاهد وابراهيم يعني الذبائح
29 وقوله جل وعز (والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم) روي عن ابن عباس أنه قال المحصنات العفيفات العاقلات وقال الشعبي هو أن تحصن فرجها فلا تزني وتغتسل من الجنابة

(2/266)


والقراءة على قول الشعبي والمحصنات بكسر الصاد وبه قرأ الكسائي والمحصنة تكون العفيفة والمتزوجة والحرة فالحرة ها هنا أولى ولو أريد العفيفة لما جاز أن تتزوج امرأة حتى يوقف على عفتها وقال مجاهد المحصنات الحرائر قال أبو عبيد نذهب الى أنه لا يحل نكاح اماء أهل الكتاب لقوله جل وعز (فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات)

(2/267)


وهذا القول الذي عليه جلة العلماء ويدل على أنهن الحرائر قوله جل ثناه (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) قال الحسن والزهري ويحيى بن سعيد وابراهيم ومكحول
وقتادة لا يحل نكاح اماء أهل الكتاب لقوله تعالى (من فتياتكم المؤمنات) 30 وقوله جل وعز (ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله) قال مجاهد وعطاء أي ومن يكفر بالله 31 وقوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم الى الصلاة) المعنى إذا أردتم القيام الى الصلاة وفي الكلام دليل على هذا

(2/268)


ومثله (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) المعنى وإذا أردت أن تقرأ وفي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم الى الصلاة) أقوال أحدها إذا توضأ من حدث ثم دخل عليه وقت الصلاة وهو على طهارة فليس عليه التوضؤ وهذا الذي عليه أكثر الناس وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمس صلوات بوضوء واحد وقال زيد بن أسلم أي إذا قمتم من المضاجع

(2/269)


والقول الثاني ان الوضوء قد كان واجبا بهذه الآية على كل مريد للقيام الى الصلاة ثم نسخ ذلك سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم والقول الثالث ان على كل قائم الى الصلاة مكتوبة الوضوء كما روى شعبة عن مسعود بن علي قال كان علي رضي الله عنه يتوضأ لكل صلاة ويتلو (إذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) 32 ثم قال جل وعز (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق) قال بعض أهل اللغة المعنى مع المرافق كما قال من أنصاري الى الله

(2/270)


أي مع الله وهذا القول خطأ لان اليد عند العرب من الاصابع الى الكتف وانما فرض غسل بعضها فلو كانت الى بمعنى مع لوجب غسل اليد كلها ولم يحتج الى ذكر المرافق والمرفق ويقال مرفق ما بعد الايدي مما يرتفق عليه أي يتكأ ومعنى الى ههنا الغاية هي على بابها الا أن أبا العباس قال إذا كان الثاني من الاول فما بعد الى داخل فيما قبله نحو قوله تعالى (الى المرافق) فالمرافق داخلة في الغسل وإذا كان ما بعدها ليس من الاول فليس بداخل فيه نحو (ثم أتموا الصيام الى الليل) وقال غيره ما بعد الى ليس بداخل فيما قبلها الا

(2/271)


أن المرافق غسلت اتباعا 33 ثم قال جل وعز (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم الى الكعبين) والمعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم على التقديم والتأخير ومن قرأ وأرجلكم ففي قراءته أقوال أحدها ان المسح والغسل واحد قال ذلك أبو زيد

(2/272)


ومنه قولهم تمسحت للصلاة والتقدير وأرجلكم غسلا ودل على هذا قوله الى الكعبين فحددها كما قال في اليدين الى المرافق ودل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (ويل للاعقاب من النار) فلو كان المسح كافيا لجاز المسح على البعض وروي عن الشعبي أنه قال نزل جبريل عليه السلام بالمسح والغسل سنة والقول الثالث روي عن علي رضي الله عنه أنه أجاز المسح قال أبو جعفر الا أن عاصم بن كليب روى عن ابن عبد الرحمن قال قرأ الحسن والحسين رحمة الله عليهما وعلى علي وأرجلكم فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال وارجلكم

(2/273)


هذا من المقدم والمؤخر من الكلام وروى أبو اسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال اغسلوا الاقدام أي الكعبين وكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس رحمهما الله أنهما قرأ وأرجلكم بالنصب والكعب العظم الناتئ في آخر الساق عند القدم وكل مفصل عند العرب كعب الا أنه لم يحتج أن يقال الكعب الذي من قصته كذا لانه ظاهر بين 34 وقوله جل وعز (أو جاء أحد منكم من الغائط) كناية والغائط في الاصل ما انخفض من الارض

(2/274)


35 ثم قال جل ذكره (أو لامستم النساء) في معناه قولان أحدهما رواه عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال القبلة من المس وكل ما دون الجماع لمس وكذلك قال ابن عمر ومحمد بن يزيد يميل الى هذا القول قال لانه قد ذكر في أول هذه السورة ما يجب على من جامع في قوله (وان كنتم جنبا فاطهروا) وقال عبد الله بن عباس اللمس والمس والغشيان الجماع ولكنه جل وعز كنى وقال مجاهد في قول الله عز وجل (وإذا مروا باللغو مروا
كراما) قال إذا ذكروا النكاح كنوا عنه

(2/275)


36 وقوله عز وجل (فتيمموا صعيدا طيبا) أي فاقصدوا والصعيد وجه الارض قال ابن عباس أطيب الصعيد الحرث 37 وقوله جل وعز (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) قال مجاهد أي من ضيق 38 ثم قال جل وعز (ولكن يريد ليطهركم) وقراء سعيد بن المسيب ليطهركم والمعنى واحد كما يقال نجاه وأنجاه 39 وقوله جل وعز (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به)

(2/276)


مذهب ابن عباس أنه قال الميثاق الذي واثق به المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا قال مجاهد الميثاق الذي أخذه على بني آدم يعني قوله (واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) 40 وقوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) القسط العدل
41 ثم قال جل وعز (ولا يجرمنكم شنآن قوم) أي لا يحملنكم وقد بيناه فيما تقدم وقرئ (ولا يجرمنكم) قال الكسائي هما لغتان قال أبو جعفر قال أبو اسحاق معنى لا يجرمنكم لا يدخلنكم في الجرم كما تقول آثمني أي أدخلني في الاثم

(2/277)


والشنآن البغض 42 وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا اليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم) قال مجاهد هذا في اليهود جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية فهموا بقتله فوقاه الله جل وعز منهم وروي عن الحسن أنه قال نزل هذا في رجل من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فاستقبل القبلة ليصلي صلاة الخوف فجاء هذا ليقتله فمنعه الله منه

(2/278)


43 وقوله جل وعز (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) النقيب في اللغة الامين الذي يعرف مداخل القوم كأنه يعرف ما ينقب عليه من أمرهم وروى سعيد عن قتادة قال (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) من كل سبط رجلا شاهدا على سبطه (وقال الله اني
معكم لئن أقمتم الصلاة) الى آخر القصة 44 وقوله جل وعز (وآمنتم برسلي وعزرتموهم) قال أبو عبيد (عزرتموهم) عظمتموهم وقال يونس أثنيتم عليها وأحسن من هذين القولين قول ابن أبي نجيح عن مجاهد أن معنى (عزرتموهم) نصرتموهم والتعظيم داخل في النصرة

(2/279)


والدليل على هذا قوله تعالى (وتعزروه وتوقروه) وأصل التعزير في اللغة المنع ومنه عزرت فلانا أي أنزلت به ما يمتنع من أجله من المعاودة كما تقول نكلت به أي أنزلت به ما ينكل به عن العودة وروي عن سعد أنه قال لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام الا الحبلة والسمر ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الاسلام أي تؤدبني وهو يرجع الى ما تقدم أي يمنعونني سعيد عما أنا عليه 45 وقوله جل وعز (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية)

(2/280)


وتقرأ (قسية) والقاسية كما تقول علية وعالية وعلي وعال بمعنى واحد والقول الآخر معنى (قسية) ليست بخالصة الايمان أي
فيها نفاق قال أبو جعفر وهذا قول حسن لأنه يقال درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره قال أبو جعفر وأولى ما فيه أن تكون (قسية) بمعنى قاسية مثل زكية وزاكية الا أن فعيلة أبلغ من فاعلة فالمعنى جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الايمان والتوفيق لطاعتي لان القوم لم يوصفوا بشئ من الايمان فتكون قلوبهم موصوفة فان ايمانها خالطه كفر كالدراهم القسية التي خالطها غش 47 ثم قال جل وعز (يحرفون الكلم عن مواضعه)

(2/281)


يجوز أن يكون معناه يبدلون حروفه ويجوز أن يكون معناه يتناولونه على غير معناه 48 وقوله جل وعز (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) فيه قولان أحدهما قاله قتادة قال على خيانة وهذا جائز في اللغة ويكون مثل قولهم قائلة بمعنى قيلولة والقول الآخر قاله ابن أبي نجيح عن مجاهد وهو أن هذا يراد به اليهود الذين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فيكون التقدير على هذا القول على فرقة خائنة ثم أقام الصفة مقام الموصوف

(2/282)


49 وقوله جل وعز (فنسوا حظا مما ذكروا به)
أي تركوا ومنه (نسوا الله فنسيهم) أي تركهم 50 ثم قال جل وعز (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة) ومعنى أغرينا في اللغة ألصقنا ومنه قيل الغراء للذي يغرى به قال ابن أبي نجيح يعني اليهود والنصارى وقال الربيع بن أنس يعني به النصارى خاصة أغريت بينهم العداوة والبغضاء أي مجازاة على كفرهم فافترقوا فرقا منهم النسطورية واليعقوبية والملكية وكل فرقة تعادي الاخرى

(2/283)


51 وقوله جل وعز (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) روي عن ابن عباس أنه قال زنى رجل من اليهود فجاءوا يستفتون النبي صلى الله عليه وسلم ليدرؤا بكر عنه الرجم والرجم عندهم في التوراة فأطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك 52 ثم قال جل وعز (قد جاءكم من الله نور) قيل نور يعني به النبي صلى الله عليه وسلم وهو تمثيل لان النور هو الذي تتبين به الاشياء 53 ثم قال جل وعز (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام)

(2/284)


السبل الطرق والسلام يحتمل معنيين
أحدهما أن يكون السلام بمعنى السلامة كما يقال اللذاذ قد واللذاذة والمعنى الآخر أن السلام اسم من أسماء الله جل وعز فالمعنى على هذا يهدي به الله سبله أي من اتبعها نجاه 54 وقوله عز وجل (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل) قال قتادة يعني محمدا صلى الله عليه وسلم قال وبلغنا أن الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ست مائة عام والمعنى عند أهل اللغة على انقطاع من الرسل لان الرسل

(2/285)


كانوا متواترين بين موسى وعيسى صلى الله عليهما ثم انقطع ذلك الى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم 55 ثم قال جل وعز (أن تقولوا ما جاءنا من بشر ولا نذير) قال الكوفيون المعنى أن لا تقولوا ثم حذفت لا كما قال جل وعز (يبين الله لكم أن تضلوا) ولا يجوز حذف لا عند البصريين لانها تدل على النفي والمعنى عندهم كراهة أن تقولوا 56 وقوله جل وعز (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا) روي عن ابن عباس أنه قال يعني الخادم والمنزل

(2/286)


قال قتادة لم يملك أحد قبلهم خادما وقال الحكم بن عتيبة ومجاهد وعكرمة (وجعلكم ملوكا) المنزل والخادم والزوجة وكذلك قال زيد بن أسلم الا أنه قال فيما يعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم (من كان له بيت أو قال منزل يأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك (57 ثم قال جل وعز (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) قال مجاهد يعني المن والسلوى وانفراق البحر وانفجار الحجر والتظليل بالغمام 58 ثم قال جل وعز (يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم)

(2/287)


قال قتادة يعني الشام والمقدسة في اللغة المطهرة ومنه سمي بيت المقدس أي الموضع الذي يتطهر فيه من الذنوب 59 ثم قال جل وعز (قالوا يا موسى ان فيها قوما جبارين) الجبار عند أهل اللغة المتعظم الذي يمتنع من الذل والقهر 60 وقوله جل وعز (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما) روي عن مجاهد أنه قال الرجلان من الاثني عشر نقيبا
الذين بعثوا وهما يوشع بن نون وكلاب بن قاينا ويقال يوقنا وقال الضحاك هما رجلان مؤمنان كانا في مدينة الجبارين والدليل على هذا أنهما قالا (ادخلوا عليهم الباب فإذا

(2/288)


دخلتموه فانكم غالبون) وقد علمنا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب كان لهم الغلب وقرأ سعيد بن جبير (من الذين يخافون) بضم الياء يذهب الى أنهما كانا من الجبارين وأنعم الله عليهما بالاسلام 61 ثم قال جل وعز (قالوا يا موسى انا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها) أي ليس نقبل مشورة فأعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الكتاب لم يزالوا يعصون الانبياء وأن له في ذلك أسوة

(2/289)


قال أبو عبيدة معنى (فاذهب انت وربك فقاتلا) أي اذهب فقاتل وليعنك ربك 62 ثم قال جل وعز (قال رب اني لا أملك الا نفسي وأخي) ويجوز أن يكون المعنى وأخي لا يملك إلا نفسه ويجوز أن يكون المعنى وأملك أخي لانه إذا كان يطيعه فهو مالك في الطاعة 63 ثم قال جل وعز (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين)
قال الضحاك المعنى فاقض بيننا وبين القوم الفاسقين 64 وقوله جل وعز (قال فانها محرمة عليهم) أي هم ممنوعون من دخولها ويروى أنه حرم عليهم دخولها أبدا

(2/290)


فالتمام على هذا عند قوله (عليهم) ثم قال تعالى (أربعين سنة يتيهون في الارض) وقد ذهب بعض أهل اللغة الى أن المعنى (فانها محرمة عليهم أربعين سنة) ثم ابتدأ فقال (يتيهون في الارض) 65 ثم قال جل وعز (فلا تأس على القوم الفاسقين) يجوز أن يكون هذا خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم أي فلا تأس على قوم هذه صفتهم ويجوز أن يكون الخطاب لموسى صلى الله عليه وسلم

(2/291)


يقال أسي يأسى أسى إذا حزن ويقال أسى الشئ يأسو أسوا إذا أصلحته والمعنى أنه أزال ما يقع الغم من أجله ولك في فلان اسوة وأسوة أي إذا رأيته مثلك نفض عنك الغم 66 وقوله جل وعز (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق) قال مجاهد هما ابنا آدم لصلبه هابيل
وقابيل وكان من علامة قربانهم إذا تقبل أن يسجد أحدهم ثم تنزل نار من السماء فتأكل القربان والقربان عند أهل اللغة فعلان مما يتقرب به الى الله جل وعز

(2/292)


قال الحسن هما من بني اسرائيل لان القربان كان فيهم 67 ثم قال عز وجل (قال لاقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين) المعنى قال الذي لم يتقبل منه للذي تقبل منه (لأقتلنك) ثم حذف هذا لعلم السامع ويروى أن القتل كان ممنوعا في ذلك الوقت كما كان ممنوعا حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ووقت عيسى عليه السلام فلذلك قال (ما أنا بباسط يدي اليك لاقتلك اني أخاف الله رب العالمين)

(2/293)


68 وقوله جل وعز (اني أريد أن تبوء باثمي واثمك فتكون من أصحاب النار) قال الكسائي يقال باء بالشئ يبوء به بوء وبواء إذا انصرف به قال البصريون يقال باء بالشئ إذا أقر به واحتمله ولزمه
ومنه تبوأ فلان الدار أي لزمها وأقام بها يقال البواء التكافؤ والقتل بواء وأنشد فان تكن القتلى بواء فانكم فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر قال أبو العباس محمد بن يزيد في قوله تعالى (اني أريد أن تبوء باثمي واثمك) وهو مؤمن لما كان المؤمن يريد الثواب ولا يبسط يده إليه بالقتل كان بمنزلة من يريد هذا

(2/294)


وسئل أبو الحسن بن كيسان كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار فقال انما وقعت الارادة بعدما بسط يده بالقتل فالمعنى لئن بسطت الي يدك لتقتلني لامتنعن وفي من ذلك مريدا الثواب فقيل له فكيف قال بإثمي وإثمك وأي اثم له إذا قتل فقال فيه ثلاثة أوجه أحدها أن تبوء باثم قتلي واثم ذنبك الذي من أجله لم يتقبل من أجله قربانك ويروى هذا الوجه عن مجاهد والوجه الآخر أن تبوء باثم قتلي وإثم اعتدائك علي لانه قد يأثم في الاعتداء وان لم يقتل والوجه الثالث أنه لو بسط يده إليه أثم فرأى أنه إذا

(2/295)


أمسك عن ذلك فانه يرجع على صاحبه وصار هذا مثل قولك
المال بينه وبين زيد أي المال بينهما فالمعنى أن تبوء باثمنا كل قال أبو جعفر ومن أجل ما روي فيه عن ابن مسعود وابن عباس أن المعنى باثم قتلي واثمك فيما تقدم من معاصيك فان قيل أفليس القتل معصية وكيف يريده قيل لم يقل أن تبوء بقتلي فانما المعنى باثم قتلي ان قتلتني فانما أراد الحق 69 ثم قال جل وعز (وذلك جزاء الظالمين) يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله عن ابن آدم أنه قال هذا

(2/296)


ويجوز أن يكون منقطعا مما قبله 70 وقول جل وعز (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله) قال قتادة أي زينت وقال مجاهد أي شجعته يريد أنها ساعدته على ذلك وقال أبو العباس طوعت فعلت من الطوع والطواعية وهي الاجابة الى الشئ 71 ثم قال جل وعز (فأصبح من الخاسرين) أي ممن خسر حسناته والخسران النقصان 72 - ثم قال جل وعز (فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوأة أخيه)

(2/297)


قال مجاهد بعث الله جل وعز غرابين فاقتتلا حتى قتل
أحدهما صاحبه ثم حفر فدفنه وكان ابن آدم هذا أول من قتل ويروى أنه لا يقتل مؤمن الى يوم القيامة الا كان عليه كفل من ذنب من قتله 73 وقوله جل وعز (من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفس بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا) وقرأ الحسن (أو فسادا في الارض فكأنما قتل الناس جميعا) والمعنى على قراءته أو عمل فسادا

(2/298)


وقال ابن عباس في قوله جل وعز (فكأنما قتل الناس جميعا) أوبق نفسه فصار بمنزلة من قتل الناس جميعا أي في استحقاقه العذاب ويستحق المقتول النصر وطلب الثأر من القاتل على المؤمنين جميعا قال ابن عباس إحياؤها ألا يقتل نفسا حرمها الله عز وجل وقال قتادة عظم الله أمره فألحقه من الاثم هذا وقيل هو تمثيل أي الناس جميعا له خصماء ومعنى (أو فساد في الارض) وفساده الحرب واخافة السبيل

(2/299)


وفي حديث حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال سمعت عثمان بن عفان رحمه الله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يحل دم امرئ مسلم الا باحدى ثلاث زنى بعد احصان أو كفر بعد ايمان أو قتل نفس بغير حق) ومعنى (فكأنما أحيا الناس جميعا) على قول قتادة أنه يعطى من الثواب على قدر ذلك وقيل وجب شكره على الناس جميعا فكأنما من عليهم جميعا يروى هذا عن مكحول وقول ابن عباس أولاها وأصحها 74 وقوله جل وعز (انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) قال الحسن السلطان مخير أي هذه الاشياء شاء فعل وكذلك روى ابن نجيح عن عطاء وهو قول مجاهد وابراهيم والضحاك وهو حسن في اللغة لان أو تقع للتخيير كثيرا

(2/300)


وقال أبو مجلز الآية على الترتيب فمن حارب فقتل وأخذ المال صلب ومن قتل قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن لم يقتل ولم يأخذ المال نفي وروى هذا القول حجاج بن أرطاة عن عطية عن ابن عباس
مثله غير أنه قال في أوله فمن حارب وقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف ثم صلب وليس في قول أبي مجلز قبل الصلب ذكر شئ واحتج أصحاب هذا القول بحديث رواه عثمان وعائشة وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يحل دم امرئ مسلم الا باحدى ثلاث وذكر الحديث قالوا فقد امتنع قتله الا أن يقتل فوجب أن تكون الآية على المراتب

(2/301)


وقال الزهري في قوله تعالى (أو ينفوا من الارض) كلما علم أنه في موضع قوتل حتى يخرج منه وقال أهل الكوفة النفي ها هنا الحبس وروى هذا عن ابن عباس باسناد ضعيف وقال سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز ينفى من بلدته الى بلدة أخرى غيرها 75 وقوله جل وعز (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) يقال خزي يخزى خزيا إذا افتضح وتحير وخزي يخزى خزاية إذا استحيا كأنه تحير كراهة أن يفعل القبيح

(2/302)


76 وقوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) قال ابن عباس يعني القربة وكذلك قال الحسن
وروى موسى بن وردان عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الوسيلة درجة عند الله جل وعز وليس فوقها درجة) 77 وقوله جل وعز (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها) قال يزيد الفقير قيل لجابر بن عبد الله أنتم يا أصحاب محمد تقولون ان قوما يخرجون من النار والله يقول (وما هم

(2/303)


بخارجين منها) فقال جابر انكم تجعلون العام خاصا والخاص عاما انما هذا في الكفار خاصة فقرأت الآية من أولها الى آخرها فإذا هي في الكفار خاصة 78 وقوله جل وعز (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) قال سيبويه المعنى وفيما فرض عليكم السارق والسارقة 79 ثم قال جل وعز (جزاء بما كسبا نكالا من الله) يقال نكلت به إذا فعلت به ما يجب أن ينكل به عن ذلك الفعل 80 وقوله جل وعز (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فان الله يتوب عليه ان الله غفور رحيم)

(2/304)


المعنى غفور له وجعل الله توبة الكافرين تدرأ عنهم الحدود لان ذلك أدعى الى الاسلام وجعل توبة المسلمين عن السرقة والزنا
لا تدرأ عنهم الحدود لان ذلك أعظم لاجورهم في الآخرة وأمنع لمن هم أن يفعل مثل فعلهم وقال مجاهد والشعبي قرأ عبد الله بن مسعود (والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما) 81 وقوله جل وعز (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) أي لا يحزنك مسارعتهم الى الكفر لان الله جل وعز قد وعدك النصر

(2/305)


82 ثم قال جل وعز (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) قال مجاهد يعني المنافقين 83 ثم قال جل وعز (ومن الذين هادوا سماعون للكذب) قال مجاهد يعني اليهود فأما معنى سماعون للكذب والانسان يسمع الخير والشر ففيه قولان أحدهما أن المعنى قابلون للكذب وهذا معروف في اللغة أن يقال لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه ومنه سمع الله لمن حمده معناه قبل لان الله جل وعز سامع لكل شئ

(2/306)


والقول الآخر أنهم سماعون من أجل الكذب كما تقول
أنا أكرم فلانا لك أي من أجلك 84 ثم قال جل وعز (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) أي هم عيون لقوم آخرين لم يأتوك 85 ثم قال جل وعز (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) أي من بعد أن وضعه الله مواضعه فأحل حلاله وحرم حرامه 86 ثم قال جل وعز (يقولون ان أوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا) أي تقول اليهود ان أوتيتم هذا الحكم المحرف فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا أن تعملوا به ومعنى هذا أن رجلا منهم زنى وهو محصن وقد كتب الرجم على من زنى وهو محصن في التوراة فقال بعضهم أئتوا محمدا لعله

(2/307)


يفتيكم بخلاف الرجم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالرجم بعد أن أحضرت التوراة ووجد فيها فرض الرجم وكانوا قد أنكروا ذلك 87 ثم قال جل وعز (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) قيل معنى الفتنة ها هنا الاختبار وقيل معناها العذاب 88 ثم قال جل وعز (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي)
أي فضيحة وذل حين أحضرت التوراة فتبين كذبهم وقيل خزيهم في الدنيا أخذ الجزية والذل

(2/308)


89 ثم قال جل وعز (سماعون للكذب أكالون للسحت) روى زر عن عبد الله بن مسعود أنه قال السحت الرشوة وقال مسروق سألت عبد الله عن الجور في الحكم قال ذلك الكفر قلت فما السحت قال أن يقضي الرجل لاخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها والسحت في كلام العرب على ضروب يجمعها أنه ما يسحت دين الانسان يقال سحته وأسحته إذا استأصله ومنه وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال الا مسحتا أو مجلف

(2/309)


90 وقوله جل وعز (فان جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) في هذا قولان أحدهما روي عن ابن عباس أنه قال هي منسوخة نسخها (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) وكذا قال مجاهد وعكرمة قال الشعبي ان شاء حكم وان شاء لم يحكم وكذلك
قال ابراهيم وقال الحسن ليس في المائدة شئ منسوخ والاختيار عند أهل النظر القول الاول لانه قول ابن عباس ولا يخلو قوله عز وجل (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) من أن يكون ناسخا لهذه الآية أو يكون معناه وأن احكم بينهم بما أنزل الله ان حكمت فقد صار مصيبا أن حكم بينهم باجماع وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقويه

(2/310)


روي عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب (أن يهوديا مر به على النبي صلى الله عليه وسلم وقد حمم وجهه فسأل عن شأنه فقيل زنى وهو محصن) وذكر الحديث وقال في آخره فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أنا أول من أحيا ما أماتوا من أمر الله فأمر به فرجم) ويبين لك أن القول هذا قوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) 91 وقوله جل وعز (فاحكم بينهم بالقسط) أي بالعدل

(2/311)


92 وقوله جل وعز (انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) أي فيها بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما جاءوا يستفتون فيه
93 ثم قال جل وعز (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) يجوز أن يكون المعنى فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون ويجوز أن يكون المعنى يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وعليهم ثم حذف وقد قيل ان لهم بمعنى عليهم وتأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر بريرة حين قال (اشترطي لهم

(2/312)


الولاء) أن معناه (عليهم) لانه صلى الله عليه وسلم لا يأمرها بشئ لا يجب وقال الله جل ذكره (وان أسألتم فلها) و (الذين أسلموا) ههنا نعت فيه معنى المدح مثل بسم الله الرحمن الرحيم 94 ثم قال جل وعز (والربانيون والاحبار) قال أبو رزين الربانيون العلماء الحكماء والرباني عند أهل اللغة معناه رب العلم أي صاحب العلم وجئ بالالف والنون للمبالغة ويقوي هذا أنه يروى أن ابن الحنفية رحمة الله عليه قال لما مات ابن عباس مات رباني العلم

(2/313)


وقال مجاهد الربانيون فوق الاحبار والاحبار العلماء لانهم يحبرون لشئ وهو في صدورهم محبر
وقال ابن عباس سمي الحبر الذي يكتب به حبرا لانه يحبر به أي يحقق به وقال الثوري سألت الفراء لم سمي الحبر حبرا فقال يقال للعالم حبر وحبر والمعنى مداد حبر ثم حذف كما قال تعالى (واسأل القرية) فسألت الاصمعي فقال ليس هذا بشئ انما سمي حبرا لتأثيره يقال على أسنانه حبرة أي صفرة أو سواد 95 ثم قال جل وعز (بما استحفظوا من كتاب الله) أي استودعوا

(2/314)


96 وقوله جل وعز (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال ابن عباس هو به كافر لا كفرا بالله وملائكته وكتبه وقال الشعبي الاولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى وقال غيره من رد حكما من أحكام الله فقد كفر قلت وقد أجمعت الفقهاء على أنه من قال لا يجب الرجم على من زنى وهو محصن أنه كافر لانه رد حكما من أحكام الله جل وعز ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بني اسرائيل فقال نعم هي فيهم ولتسلكن سبيلهم حذو النعل
بالنعل

(2/315)


وقال الحسن أخذ الله جل وعز على الحكام ثلاثة أشياء أن لا يتبعوا الهوى وأن لا يخشوا الناس ويخشوه وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا وأحسن ما قيل في هذا ما رواه الاعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء قال هي في الكفار كلها يعني (فأولئك هم الكافرون) فأولئك هم الظالمون) فأولئك هم الفاسقون) والتقدير على هذا القول والذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون

(2/316)


97 وقوله جل وعز (فمن تصدق به فهو كفارة له) قال ابن عباس فهو كفارة للجارح وكذلك قال عكرمة والمعنى فمن تصدق بحقه وقال عبد الله بن عمرو فهو كفارة للمجروح أي يكفر عنه من ذنوبه مثل ذلك وكذلك قال ابن مسعود وجابر بن زيد رحمهما الله 98 وقوله جل وعز (ومهيمنا عليه) قال ابن عباس أي مؤتمنا عليه وقال سعيد بن جبير القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب
وقال قتادة أي شاهد

(2/317)


وقال أبو العباس محمد بن يزيد الاصل مؤيمن عليه أي أمين فأبدل من الهمزة هاء كما يقال هرمت الماء وأرمت الماء وقال أبو عبيد يقال هيمن على الشئ يهيمن إذا كان له حافظا وهذه الاقوال كلها متقاربه المعاني لانه إذا كان حافظا للشئ فهو مؤتمن عليه وشاهد وقرأ مجاهد وابن محيص (ومهيمنا عليه) بفتح الميم وقال مجاهد أي محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمن على القرآن 99 وقوله جل وعز (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) قال ابن عباس سبيلا وسنة

(2/318)


وقال قتادة الدين كله واحد والشرائع مختلفة وشرعة وشريعة عند أهل اللغة بمعنى واحد وهو ما بان ووضح ومنه طريق للشارع أي ظاهر بين ومنه (هما في الامر شرع) أي ظهورهما فيه واحد والمنهاج في اللغة الطريق البين وقال أبو العباس محمد بن يزيد الشريعة ابتداء الطريق والمنهاج الطريق المستمر

(2/319)


100 وقوله جل وعز (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) قال ابن عباس على دين واحد 101 ثم قال جل وعز (ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) أي ليختبركم 102 وقوله جل وعز (أفحكم الجاهية يبغون) روي عن الحسن وقتادة والاعرج والاعمش أنهم قرءوا (أفحكم الجاهلية يبغون) الحكم والحاكم في اللغة واحد وكأنهم يريدون الكاهن وما أشبهه من حكام الجاهلية وصذا * في قرأة من قرأ (أفحكم (ومعنى يبغون يطلبون وقال مجاهد يراد بهذا اليهود يعني في أمر الزانيين حين جاءوا الى النبي صلى الله عليه وسلم يتوهمون أنه يحكم عليهما بخلاف الرجم

(2/320)


103 ثم قال جل وعز (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) أي من أيقن تبين أن حكم الله جل وعز هو الحق 104 وقوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) هذا في المنافقين لانهم كانوا يمالئون المشركين ويخبرونهم بأسرار المؤمنين 105 وقوله جل وعز (فترى الذين في قلوبهم مرض)
أي نفاق (يسارعون فيهم) المعنى يسارعون في معاونتهم ثم حذف كما قال جل وعز (واسأل القرية) 106 ثم قال جل وعز (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) في معناه قولان

(2/321)


أحدهما روي عن ابن عباس قال يقولون نخشى أن لا يدوم الامر لمحمد والقول الآخر نخشى أن يصيبنا قحط فلا يفضلوا علينا والقول الاول أشبه بالمعنى كأنه من دارت تدور أي نخشى أن يدور أمر ويدل عليه قوله جل وعز (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) لان الفتح النصر قال ابن عباس فأتى الله بالفتح فقتلت مقاتلة بني قريظة وسبيت ذراريهم وأجلي بنو النضير وقيل معنى (أو أمر من عنده) أي بأمر النبي صلى الله عليه السلام أن يخبر بأسماء المنافقين (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم

(2/322)


نادمين) 107 ثم قال جل وعز (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم)
أي أهؤلاء الذين اجتهدوا في الأيمان أنهم لا يوالون المشركين ثم قال تعالى (حبطت أعمالهم) وهذا مثل قوله تعالى (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) 108 وقوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) في معنى هذا قولان قال الحسن هو والله أبو بكر رضي الله عنه وأصحابه

(2/323)


حدثنا أبو جعفر قال نا الحسن بن عمر بن أبي الاحوص الكوفي قال نا أحمد بن يونس السري يعني ابن يحيى قال قرأ الحسن هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) حتى قرأ الآية فقال الحسن فولاها الله والله أبا بكر وأصحابه وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عياض الاشعري قال لما نزلت (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) أوما النبي صلى الله عليه وسلم الى أبي موسى الاشعري رحمه الله فقال هم قوم هذا 109 ثم قال جل وعز (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) قال أبو جعفر سمعت أبا اسحاق وسئل عن معنى هذا فقال ليس يريد أذلة من الهوان وانما يريد أن جانبهم لين للمؤمنين وخشن على الكافرين
110 ثم قال جل وعز (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) أي ذلك اللين للمؤمنين والتشديد على الكافرين تفضل

(2/324)


من الله جل وعز منحهم اياه 111 وقوله تبارك اسمه (انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) قال أبو عبيد أخبرنا هشيم ويزيد عن عبد الملك بن سليمان عن أبي جعفر محمد بن علي في قوله جل وعز (انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) قال يعني المؤمنين فقلت له بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي من المؤمنين قال أبو عبيد وهذا يبين لك قول النبي صلى الله عليه وسلم من كنت مولاه فعلي مولاه فالمولى والولي واحد والدليل على هذا قوله جل وعز (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور)

(2/325)


ثم قال في موضع آخر (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) فمعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ولاية الدين وهي أجل الولايات وقال غير أبي عبيد من كنت ناصره فعلي ناصره 112 وقوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار
أولياء) وقرأ الكسائي (والكفار أولياء) والمعنى من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار قال الكسائي في حرف أبي رحمه الله ومن الكفار وروي عن ابن عباس رحمه الله أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله تعالى

(2/326)


(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا) الى آخر الآيات 113 وقوله جل وعز (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله) وفي هذا قولان روي عن ابن عباس أنه قال قالت اليهود في أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم أقل الناس حظا في الدنيا والآخرة فأنزل الله جل وعز (قل هل أنبئكم بشر من ذلك)

(2/327)


والقول الآخر وهو المعروف الصحيح أن المعنى قل هل أنبئكم بشر من نقومكم فلا علينا ثوابا لان قبله (هل تنقمون منا الا أن آمنا بالله) قال الكسائي يقال نقمت على الرجل أنقم نقوما منه ونقمة
وقد حكي نقمت أنقم إذا كرهت الشئ أشد الكراهية 114 ثم قال جل وعز (من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) قال مجاهد يعني اليهود مسخ منهم

(2/328)


115 ثم قال جل وعز (وعبد الطاغوت) وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو والكسائي وقرأ أبو جعفر (وعبد) مثل ضرب ولا وجه لهذا وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ (وعبدوا الطاغوت) وروي عن أبي بن كعب وعن ابن مسعود من طريق آخر أنهما قرءا (وعبدت الطاغوت) وقرأ ابن عباس (وعبد الطاغوت) وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه يجوز (وعابد الطاغوت) وروي عن الاعمش ويحيى بن وثاب (وعبد الطاغوت) وقرأ أبو واقد الاعرابي (وعباد الطاغوت) وقرأ حمزة (وعبد الطاغوت)

(2/329)


فمن قرا (وعبد الطاغوت) فالمعنى عنده من لعنه الله ومن عبد الطاغوت وحمل الفعل على لفظ من
ومن قرأ (وعبدوا الطاغوت) فهو عنده بذلك المعنى الا أنه حمله على معنى من كما قال جل وعز (ومنهم من يستمعون اليك) ومن قرأ (وعبدت الطاغوت) حمله على تأنيث الجماعة كما قال جل وعز (قالت الاعراب) ومن قرأ (وعبد الطاغوت) فهو عنده جمع عابد كما يقال شاهد وشهد وغائب وغيب ومن قرأ (وعابد) فهو عنده واحد يؤدي عن جماعة

(2/330)


ومن قرأ (وعبد) فهو عنده جمع عباد أو عبيد كما يقال مثال ومثل ورغيف ورغف وقال بعض النحويين هو جمع عبد كما يقال رهن ورهن وسقف وسقف ومن قرأ (وعباد) فهو جمع عابد كما يقال عامل وعمال ومن قرأ (وعبد الطاغوت) فأكثر أهل اللغة يذهب الى أنه لحن وهي تجوز على حيلة وذلك أن يجعل (عبدا) واحدا يدل على جماعة كما يقال رجل حذر وفطن وندس فيكون المعنى وخادم الطاغوت وعلى هذا تتأول هذه القراءة يقال عبده يعبده إذ ذل له أشد الذل ومنه بعير معبد أي مذلل بالقطران ومنه طريق معبد ومنه يقال عبدت أعبد إذا أنفت كما قال

(2/331)


(وأعبد أن تهجى تميم بدارم) والمعنى على هذا وخادم الطاغوت وقد قيل الفرد بمعنى الفرد وينشد النابغة من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد ويروى الفرد وقيل الطاغوت ها هنا يعنى به الشيطان وكذا روي عن بريدة الاسلمي أنه قرأ (وعابد الشيطان) وأجاز بعض العلماء (وعبد الطاغوت) بالخفض على معنى عبدة مثل كاتب وكتبة والهاء تحذف من مثل هذا في الاضافة 116 وقوله عز وجل (وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به)

(2/332)


أي لم ينتفعوا بشئ مما سمعوا فخرجوا بكفرهم 117 وقوله جل وعز (لولا ينهاهم الربانيون والاحبار) وقرأ أبو الجراح (لولا ينهاهم الربيون) قال مجاهد (الربانيون والاحبار) العلماء والفقهاء والربانيون فوق الاحبار قال أبو جعفر والربيون الجماعات وهو مأخوذ من الربة والربة الجماعة فنسب إليها فقيل ربي ثم جمع فقيل ربيون
قال أبو جعفر والمعنى بئس الصنع ما يصنع هؤلاء الربانيون والاحبار في تركهم نهي هؤلاء

(2/333)


قال الضحاك ما في القرآن آية أخوف عندي منها أننا لا ننهى وفي هذه الآية حكم في أمر العلماء في النهي عن المنكر 118 وقوله عز وجل (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم) في هذه الآية ثلاثة أقوال أحسنها ما روي عن ابن عباس أنه قال قالت اليهود ان الله عز وجل بخيل والمعنى عند أهل اللغة على التمثيل أي قالوا هو ممسك عنا لم يوسع علينا حين أجدبوا كما قال تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك) فهذا نظير ذاك والله أعلم

(2/334)


وقيل اليد ها هنا النعمة وقيل هذا القول غلط لقوله (بل يداه مبسوطتان) فنعم الله جل وعز أكثر من أن تحصى فكيف يكون بل نعمتاه مبسوطتان فقال من احتج لمن قال انهما نعمتان بأن المعنى النعمة الظاهرة والباطنة والقول الثالث أن المعنى أنه لا يعذبنا أي مغلولة عن
عذابنا 119 وقوله عز وجل (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء الى يوم القيامة) أي جعل بأسهم بينهم فهم متباغضون غير متفقين فهم أبغض خلق الله الى الناس

(2/335)


وقال مجاهد هم اليهود والنصارى والذي قال حسن ويكون راجعا الى (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) 120 ثم قال جل وعز (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) هذا تمثيل أي كلما تجمعوا شتت الله أمرهم وقال قتادة أذلهم الله جل وعز بمعاصيهم فلقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وهم تحت أيدي المجوس 121 ثم قال جل وعز (ويسعون في الارض فسادا)

(2/336)


أي يسعون في إبطال الاسلام 122 وقوله جل وعز (ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل) أي لو أظهروا ما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم (وما أنزل إليهم من ربهم) يعني به القرآن والله أعلم 123 ثم قال جل وعز (لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) فهذا يدل على أنهم كانوا في جدب
(ومن فوقهم) على قول ابن عباس ومجاهد والسدي يعني المطر (ومن تحت أرجلهم) يعني النبات وقيل يجوز أن يكون تمثيلا أي لوسعنا عليهم كما يقال

(2/337)


فلان في خير من قرنه الى قدمه أي قد شمله الخير والاول قول أهل التأويل 124 وقوله عز وجل (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالاته) في معناه قولان أحدهما بلغ كل ما أنزل اليك ويقوي هذا أن مسروقا روى عن عائشة أنها قالت (من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب والله يقول (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته) والقول الآخر وعليه أكثر أهل اللغة ان المعنى أظهر ما أنزل اليك من ربك أي بلغه ظاهرا

(2/338)


ودل على هذا قوله تعالى (والله يعصمك من الناس) أي يمنعك منهم أن ينالوك بسوء مشتق من عصام القربة وهو ما تشد به وقوله جل وعز (وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل اليك طغيانا وكفرا)
أي يكفرون به فيزدادون كفرا على كفرهم 125 ثم قال جل وعز (فلا تأس على القوم الكافرين) أي فلا تحزن عليهم 126 وقوله جل وعز (ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى) في هذا قولان أحدهما أنه يعني بالذين آمنوا ها هنا المنافقون

(2/339)


والتقدير ان الذين آمنوا بألسنتهم ودل على هذا قوله تعالى (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) 127 ثم قال جل اسمه (من آمن بالله) فالمعنى على هذا القول من حقق الايمان بقلبه والقول الآخر ان معنى (من آمن بالله) من ثبت على ايمانه كما قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) 128 وقوله جل وعز (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) قال اليهود والنصارى يشتركون في التكذيب واليهود تنفرد بالقتل خاصة وكانت الرسل منها من يأتي بالشرائع والكتب والاحكام نحو محمد صلى الله عليه وسلم وموسى وعيسى وهؤلاء

(2/340)


معصومون ومنهم من يأتي بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر والتمسك بالدين نحو يحيى وزكريا عليهما السلام 129 وقوله عز وجل (وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا) قال الحسن يعني بالفتنة البلاء وقال غيره معنى (فعموا وصموا) تمثيل أي لم يعملوا بما سمعوا ولا انتفعوا بما رأوا فهم بمنزلة العمي الصم 130 ثم قال جل وعز (ثم تاب الله عليهم) أي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله عز وجل يتوب عليهم ان تركوا الكفر

(2/341)


(ثم عمو وصموا) أي بعد وضوح الحجة 131 وقوله عز وجل (لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم) قال ابراهيم النخعي المسيح الصديق قال أبو جعفر ووجدنا للعلماء في تفسير معناه ستة أقوال سوى هذا روي عن ابن عباس سمي مسيحا لانه كان أمسح الرجل لا أخمص له وروى غيره عنه انما سمي مسيحا لانه كان لا يمسح بيده ذا عاهة الا برأ ولا يضع يده على شئ الا أعطي فيه مراده
وقال ثعلب لانه كان يمسح الارض أي يقطعها وقيل لسياحته في الارض وقيل لانه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن

(2/342)


وقال أبو عبيد أحسب أصله بالعبرانية مشيحا قال وأما قولهم المسيح الدجال فانما سمي مسيحا لانه ممسوح احدى العينين فهو مسيح بمعنى ممسوح كما يقال قتيل بمعنى مقتول 132 وقوله جل وعز (وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) من الصدق وفعيل في كلام العرب للتكثير كما يقال سكيت وقال جل وعز (وصدقت بكلمات ربها وكتبه) ومن هذا قيل لابي بكر رضي الله عنه صديق

(2/343)


ويروى أنه انما قيل له صديق لانه لما أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به الى بيت المقدس فقال ان كان قال فقد صدق 133 وقوله جل وعز (كانا يأكلان الطعام) في معناه قولان أحدهما كناية عن اتيان الحاجة كما يكنى عن الجماع بالغشيان وما أشبهه وقيل كانا يتغذيان كما يتغذى سائر الناس فكيف يكون
الها من لا يعيش الا بأكل الطعام 134 ثم قال جل وعز ذكره (انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) أي قد بينا لهم العلامات وأوضحنا الامر فمن أين يصرفون

(2/344)


يقال أفكه يأفكه إذا صرفه 135 وقوله جل وعز (يا اهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) الغلو التجاوز قال أبو عبيد كما فعلت الخوارج أخرجهم الغلو الى أن كفروا أهل الذنوب قال ويبين لك هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيهم (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) والمروق هو الغلو بعينه لان السهم يتجاوز الرمية 136 ثم قال جل وعز (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل)

(2/345)


قال ابن أبي نجيح عن مجاهد يعني اليهود وقال غيره لانهم اتبعوا شهواتهم وطلبوا دوام رياستهم وآثروا ذلك على الحق والهوى في القرآن مذموم والعرب لا تستعمله الا في الشر
فأما في الخير فيستعملون الشهوة والنية والمحبة 137 ثم قال جل وعز (وأضلوا كثيرا) قال ابن أبي نجيح يعني المنافقين وقال غيره ضلوا باتباعهم اياهم 138 ثم قال جل وعز (وضلوا عن سواء السبيل) أي قصده 139 وقوله جل وعز (لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم) قال أبو مالك الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة

(2/346)


والذين لعنوا على لسان عيسى صلى الله عليه وسلم مسخوا خنازير وروي عن ابن عباس أنه قال الذين لعنوا على لسان داود أصحاب السبت والذين لعنوا على لسان عيسى الذين كفروا بعد نزول المائدة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أول ما وقع النقص في بني اسرائيل أن أحدهم كان يرى أخاه على المعصية فينهاه ثم لا يمنعه ذلك من الغد أن يكون أكيله وشريبه فضرب الله قلوب بعضهم ببعض وأنزل فيهم القرآن (لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) ثم قال صلى الله عليه وسلم (كلا والذي نفسي بيده حتى

(2/347)


تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا 140 وقوله جل وعز (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا) قال مجاهد يعني المنافقين 141 وقوله جل وعز (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى) قال سعيد بن جبير هم سبعون رجلا وجه بهم النجاشي وكانوا أجل من عنده فقها وسنا فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم (يس) فبكوا وقالوا ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين

(2/348)


وأنزل الله فيهم أيضا (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) الى قوله (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) الى آخر الآية وروي عن ابن عباس أنه قال هم من الحبشة جاءوا الى النبي صلى الله عليه وسلم وكان معهم رهبان من رهبان الشام فآمنوا ولم يرجعوا 142 وقوله جل وعز (فاكتبنا مع الشاهدين) روى اسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويبين لك صحة هذا القول قوله جل وعز (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على
الناس) 143 وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم)

(2/349)


قال الضحاك هؤلاء قوم من المسلمين قالوا نقطع مذاكيرنا ونلبس المسوح وقال قتادة نزلت في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون قالوا نخصي أنفسنا ونترهب: وقال مجاهد نزلت في عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما قالوا نترهب غير ونلبس المسوح 144 وقوله جل وعز (ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين) الاعتداء في اللغة تجاوز ما له الى ما ليس له قال الحسن معناه ألا تأتوا ما نهيتم عنه 145 وقوله جل وعز (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) فيه قولان

(2/350)


أحدهما أنه قول الرجل لا والله وبلى والله وروي هذا القول عن عائشة قال الشافعي وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة
والقول الآخر أن يحلف الرجل على الشئ هو عنده على ما حلف ثم يكون على خلاف ذلك يروى هذا القول عن ابن عباس وأبي هريرة واللغو في اللغة المطرح فقيل لما لا حقيقة له من الأيمان لغو قال الكسائي يقال لغا يلغو لغوا أو لغي يلغى لغا 146 وقوله جل وعز (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) قال الكسائي معنى عقدتم أوجبتم

(2/351)


قال ابن جريج قلت لعطاء ما معنى (عقدتم) قال والله الذي لا إليه الا هو وقرأ أبو عمرو (عقدتم) قال معناه وكدتم وروى نافع أن ابن عمر كان إذا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين لكل مسكين مدا فإذا وكد اليمين أعتق رقبة قيل لنافع ما معنى وكد اليمين قال أن يحلف على الشئ مرارا 147 وقوله جل وعز (فكفارته اطعام عشرة مساكين) المعنى فكفارة اثمه أي الذي يغطي على اثمه قال أبو جعفر والهاء التي في فكفارته عائدة على ما التي في بما عقدتم الايمان

(2/352)


وهذا مذهب الحسن والشعبي لان المعنى عندهما فكفارة ما عقدتم منها وقيل الهاء عائدة على اللغو والاول أولى 148 ثم قال جل وعز (من أوسط ما تطعمون أهليكم) قال عبد الله بن عمر (من أوسط ما تطعمون أهليكم) الخبز والتمر والخبز والزيت وأفضل ما تطعمونهم الخبز واللحم وقال الاسود أوسط ما تطعمون أهليكم الخبز والتمر قال أبو اسحاق يحتمل هذا ثلاثة معان في اللغة يجوز أن يكون معنى (من أوسط ما تطعمون أهليكم) من أعدل ما تطعمونهم قال عز وجل (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) أي عدلا

(2/353)


ويحتمل أن يكون في القيمة ويحتمل أن يكون في الشبع وقرأ سعيد بن جبير (من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كإسوتهم) أي كإسوة أهليكم وروي أن رجلا قرأ على مجاهد (أو كإسوتهم) فقال له لا تقرأ الا (أو كسوتهم) وقال أرى ذلك ثوبا وفي قراءة عبد الله بن أبي بن كعب (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات)
149 ثم قال جل وعز (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) أي ذلك كفارة اثم أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم ثم حذف قال أبو جعفر وكان (محمد بن جرير) يختار في (أوسط) أن تكون بمعنى أعدل في القلة والكثرة قال فأعدل أقوات الموسع مدان وذلك أعلاه وأعدل أقوات المقتر مد وذلك ربع صاع وما مصدر فأما الكسوة

(2/354)


فقال الحسن وطاووس وعطاء ثوب ثوب وقال سعيد بن المسيب عباءة وعمامة وقال مجاهد كل ما كسا فهو مجزئ وهذا أشبه باللغة أن يكون كل ما وقع اسم كسوة مما يكون ثوبا فصاعدا لان ما دون الثوب لا خلاف في أنه لا يجوز 150 وقوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان) روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال الميسر القمار وقال عبيد الله بن عمر سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر وعن النرد أهو ميسر فقال كل ما صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر

(2/355)


قال أبو عبيد تأول قول الله عز وجل (ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة)
وزعم الاصمعي أن الميسر كان في الجزور خاصة كانوا يقتسمونها على ثمانية وعشرين سهما وقال أبو عمرو الشيباني كانوا يقتسمونها على عشرة أسهم ثم يلقون القداح ويتقامرون أحمد على مقاديرهم وهذا القول ليس بناقض لما تقدم لان الميسر إذا كان في الجزور خاصة فهو قمار ثم قيل ما كان مثله من اقمار ميسر كما أن الخمر لشئ بعينه ثم قيل لكل مسكر خمر لانه بمنزلتها وقد ذكرنا في أول السورة الانصاب والازلام والرجس النتن 151 ثم قال جل وعز (فاجتنبوه لعلكم تفلحون) أي كونوا في جانب غير جانبه

(2/356)


ويروى أن عمر رضي الله عنه لم يزل يقول (اللهم بين لنا في الخمر) حتى نزلت (فهل أنتم منتهون) فقال قد انتهينا 152 وقوله جل وعز (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات) قال ابن عباس والبراء لما حرمت الخمر قال المسلون يا رسول الله فكيف باخواننا المؤمنين الذين ماتوا وهم يشربونها فأنزل الله جل وعز (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الى آخر الآية وروى الزهري عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر لما أراد حد (قدامة بن مظعون) قال قدامة ما كان لكم أن تجلدوني
قال الله جل وعز (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية فقال عمر أخطأت التأويل انك إذا أيقنت اجتنبت ما حرم الله عليك ثم أمر به فجلد

(2/357)


قيل هذا أحسن من الاول لان فيها (إذا ما اتقوا وآمنوا) و (إذا) لا تكون للماضي فالمعنى على هذا والله أعلم للمؤمنين قبل وبعد على العموم وقد روي هذا أيضا عن ابن عباس قال أبو جعفر قيل (إذا ما اتقوا) الشرك (وآمنوا) وصدقوا (ثم اتقوا وآمنوا) ازدادوا ايمانا (ثم اتقوا) الصغائر حذرا (وأحسنوا) تنفلوا وقال محمد بن جرير الاتقاء الاول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالاحسان والتقرب بالنوافل 153 وقوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد) المعنى ليختبرن بعد طاعتكم من معصيتكم

(2/358)


154 ثم قال جل وعز (تناله أيديكم ورماحكم) قال مجاهد الذي تناله أيديكم البيض والفراخ والذي تناله الرماح ما كان كبيرا
155 وقوله جل وعز (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) روى شريك عن سالم (عن سعيد بن جبير) (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) قال قتله حرام في هذه الآية قال بعض العلماء أي أنه لما حرم قتل الصيد على المحرم كان قتله اياه غير تذكية 156 وقوله جل وعز (ومن قتله منكم متعمدا) أكثر الفقهاء على أن عليه الجزاء سواء كان متعمدا أو مخطئا

(2/359)


وذهبوا الى قوله تعالى (ومن قتله منكم متعمدا) مردود الى قوله جل وعز (ومن عاد فينتقم الله منه) واحتجوا في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم (سئل عن الضبع فقال هي صيد) وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ولم يقل عمدا ولا خطأ قال الزهري هو في الخطأ سنة وقال بعض أهل العلم انما عليه الجزاء إذا قتله متعمدا واحتجوا بظاهر الآية حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام نا محمد بن يحيى نا أبو الوليد نا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله جل وعز (ومن قتله منكم متعمدا) قال ليس عليه في الخطأ شئ انما هو في العمد يعني الصيد

(2/360)


157 وقوله جل وعز (فجزاء مثل ما قتل من النعم) قيل النعم في اللغة الابل والبقر والغنم وان انفردت الابل قيل لها نعم وان انفردت البقر والغنم لم يقل لها نعم وقرأ الاعمش (فجزاؤه مثل ما) والمعنى فعليه جزاؤه ثم أبدل مثلا من جزائه 158 وقوله جل وعز (أو كفارة طعام مساكين) (أو) هنا للتخيير وفي معناه أقوال وقيل الحاكم مخير وقيل أنه يعمل بالاول فالاول والقول الاول أحسن لان قاتل الصيد هو المخاطب ولان

(2/361)


المعروف أن أو للتخيير وقرأ طلحة والجحدري (أو عدل ذلك صياما) وأنكره جماعة من أهل اللغة وقالوا العدل الحمل وقال الكسائي العدل والعدل لغتان بمعنى واحد وقال الفراء عدل الشئ مثله من غير جنسه وعدله مثله من جنسه وأنكر البصريون هذا التفريق وقالوا العدل والعدل المثل كان من الجنس أو من غير الجنس لا يختلف كما أن المثل
لا يختلف وفي الحديث (لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) فالصرف التوبة والعدل الفدية

(2/362)


روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو حاتم ولا يعرف قول من قال انهما الفريضة والنافلة والذي أنكره أبو حاتم قال المازري 159 ثم قال جل وعز (ليذوق وبال أمره) أي شدته ومنه طعام وبيل إذا كان ثقيلا ومنه قوله (عقيلة شيخ كالوبيل يلندد) 160 ثم قال جل وعز (عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه) قال عطاء عفا الله عما سلف في الجاهلية وقال شريح وسعيد بن جبير يحكم عليه في أول مرة فإذا عاد لم يحكم عليه وقيل له اذهب ينتقم الله منك أي ذنبك أعظم من أن يكفر

(2/363)


كما أن اليمين الفاجرة لا كفارة لها عند أكثر أهل العلم لعظم اثمها قلت قول عطاء في هذا أشبه والمعنى ومن عاد بعد الذي سلف في الجاهلية فينتقم الله منه بأشياء تصيبه من العقوبة أو يكون مثل قوله (ليذوق وبال أمره) 161 وقوله جل وعز (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم
وللسيارة) روى عمر بن أبي سلمة (عن أبيه) عن أبي هريرة عن عمر قال صيد البحر ما صيد منه وطعامه ما قذف وكذلك روى سعيد بن جبير عن ابن عباس

(2/364)


وقيل طعامه ما زرع لانه به ينبت وقال سعيد بن جبير طعامه المليح منه وصيده ما كان طريا البين أن صيده أن تصيدوا وطعامه أن تأكلوا الصيد قال مجاهد (لكم) لاهل القرى) (وللسيارة) لاهل الامصار وقيل السيارة المسافرون وهذا أولى 162 وقوله جل وعز (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) فيه قولان أحدهما وهو أشبه بالمعنى أنهم يقومون بها ويأمنون قال سعيد بن جبير شدة للدين

(2/365)


والقول الآخر أنهم يقومون بشرائعها فأما قوله جل وعز بعد هذا (ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الارض) ومجانسة هذا الاول فقال أبو العباس محمد بن يزيد كانوا في الجاهلية يعظمون البيت الحرام
والاشهر الحرم حتى انهم كانوا يسمون رجبا وهو من الاشهر الحرم الاصم لانه لا يسمع فيه وقع السلاح فعلم الله عز وجل ما يكون منهم من اغارة بعضهم فألهمهم أن لا يقاتلوا في الاشهر الحرم ولا عند البيت الحرام ولا من كان معه القلائد فالذي ألهمهم هذا يعلم ما في السموات وما في الارض وقال أبو اسحاق وقد أخبر الله جل وعز النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة بأشياء مما يسره المنافقون واليهود فقال جل وعز

(2/366)


(سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) وما كان من أمر الزانيين وقوله جل وعز عن ذلك (لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الارض) متعلق بهذه الاشياء أي الذي أخبركم بها يعلم ما في السموات وما في الارض والدليل على صحة هذا القول قوله تعالى (ما على الرسول الا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) 163 وقوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم) معنى (ان تبد لكم) ان تظهر قال شعبة أخبرني موسى بن أنس بن مالك أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله من أبي فقال أبوك فلان فأنزل الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن

(2/367)


أشياء ان تبد لكم تسؤكم) روى ابراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله أفرض الحج في كل سنة فقال لو قلتها لوجبت ولو وجبت فتركتموها يقول لكفرتم وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يسألني انسان في مجلسي هذا عن شئ الا أنبأته به فقال رجل يا رسول الله من أبي فأخبره ونزلت (لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم)

(2/368)


وأن لا يكلفهم طلب حقائق الاشياء من عنده جل وعز وقيل انما ينهى عن هذا لان الله جل وعز أحب الستر على عباده رحمة منه لهم وأحب أن لا يقترحوا المسائل وقال النبي صلى الله عليه وسلم (اتركوني ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم لكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وروى عبد الكريم عن سعيد بن جبير قال نزلت (لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم) في الذين سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة ألا ترى أن بعده (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) قلت أحسن هذه الأقوال الثاني وأن الله جل وعز أحب الستر على عباده ورد أحكامهم الى الظاهر الذي يقدرون عليه

(2/369)


163 ودل على أن هذا الصحيح قوله جل وعز (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) قال مقسم فيما سألت الامم أنبياءهم صلى الله عليهم وسلم من الآيات أي فأروهم اياها ثم كفر فومهم الذي بها بعد واختلف أهل التفسير في (البحيرة والسائبة والوصيلة والحام) قال أبو جعفر ونذكر من قولهم ما وافقه قول أهل اللغة وهو معنى قول ابن عباس والضحاك البحيرة الناقة إذ نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا شقوا أذنها وخلوها لا تمنع من مرعى ولا يركبها أحد وفي رواية ابن عباس وعمدوا الى الخامس فنحروه وكان لحمه للرجال دون النساء وان كانت أنثى استحيوها وتركوها ترعى مع أمها بعد شقهم أذن الام وتركهم الانتفاع بها وان كانت ميتة

(2/370)


اشترك فيها الرجال والنساء وفي اشتقاقه قولان أحدهما أن يقال بحره إذا شقه والقول الآخر انه من الاتساع في الشئ مشبه بالبحر والسائبة أن ينذر أحدهم ان برأ من مرضه ليسيبن ناقة أو ما أشبه ذلك وإذا أعتق عبدا فقال هو سائبة لم يكن عليه ولاء
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (رأيت عمرو بن لحيي يجر قصبه في النار وهو أول من سيب السوائب

(2/371)


والوصيلة في الغنم خاصة إذا ولدت الشاة سبعة أبطن فان كان السابع ذكرا ذبحوه وكان لحمه للرجال دون النساء وإذا ولدت أنثى لم يذبحوها وقالوا وصلت أخاها وفي الرواية عن ابن عباس قالوا وصلت أخاها ولم يشرب من لبنها الا الذكور خاصة وان كانت ميتة أكلها الرجال والنساء وتلا ابن عباس (وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) الآية والحامي البعير إذا ولد له من صلبة عشرة أولاد قالوا قد حمى ظهره فلم يركب وخلي وكان بمنزلة البحيرة وفي الرواية عن ابن عباس (انه البعير إذا ركب أولاد أولاده قالوا قد حمى ظهره

(2/372)


فأعلم الله أن هذا افتراء منهم فقال (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون) قال الشعبي (الذين لا يعقلون) الاتباع والذين افتروا فعقلوا أنهم افتروا 164 وقوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) أي الزموا أنفسكم فأصلحوها وخلصوها من العقاب 165 ثم قال جل وعز (لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)
ليس في هذا دليل على الرخصة في ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والله عز وجل قد أمر بذلك وانما المعنى لا تؤاخذون بكفر من كفر وقد بين هذا في الحديث قال قيس بن أبي حازم سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه على المنبر يقول انكم تأولون (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) فاني سمعت رسول الله

(2/373)


صلى الله عليه وسلم يقول (ان الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ثم لم يغيروا أوشك الله جل وعز أن يعمهم بعقابه) وقال ابن مسعود في هذه الآية قولوها ما قبلت منكم فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم وقال سعيد بن جبير هي في أهل الكتاب وقال مجاهد هي في اليهود والنصارى ومن كان مثلهم يذهبان الى أن المعنى لا يضركم كفر أهل الكتاب إذا أدوا الجزية وهذا تفسير حديث أبي بكر فأما حديث ابن مسعود فعلى أن تأويل الآية على وقتين ففي أوقات من آخر الزمان يعمل بها كما قال أبو أمية الشعباني قلت لابي ثعلبة الخشني كيف أصنع بهذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)

(2/374)


فقال سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
(ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهو متبعا ودنيا مؤثرة واعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت الامر لا يدي لك به أو لا يد لك به فعليك بنفسك ودع العوام 166 وقوله جل وعز (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) وقرأ الاعرج (شهادة بينكم) وقرأ أبو عبد الرحمن (شهادة بينكم) فمن قرأ (شهادة بينكم) و (شهادة بينكم) فالمعنى عنده شهادة اثنين ثم حذف شهادة وأقام اثنين مقامها في الاعراب ويجوز أن يكون المعنى ليكن أن يشهد اثنان ومن قرأ (شهادة بينكم) فهو عنده بغير حذف والمعنى أن يشهد اثنان

(2/375)


167 فأما قوله تعالى (اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم) ففي هذا اختلاف كبير قال أبو موسى الاشعري وابن عباس (ذو عدل منكم) من أهل دينكم (أو آخران من غيركم) من أهل الكتاب وقال بهذا القول من التابعين عبيدة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح وابن سيرين والشعبي

(2/376)


وقال الحسن والزهري (ذوا عدل منكم) من أقربائكم لانهم أعلم بأموركم من غيرهم (أو آخران من غيركم) من غير أقربائكم من المسلمين وقال من احتج لهذا القول قد أجمع المسلمون على أن شهادة أهل الكتاب لا تجوز على المسلمين في غير الوصية واجماعهم يقضي على اختلافهم وقال جل وعز (ممن ترضون من الشهداء) فدل هذا على أن أحدا منهم ممن لا يرضى فالكافر يجب أن لا يرضى به أيضا فانه قال جل وعز (تحبسونهما من بعد الصلاة) فكيف يعظم الكافر الصلاة وقال ابراهيم النخعي الآية منسوخة نسخها (وأشهدوا

(2/377)


ذوي عدل منكم) وقال زيد بن أسلم كان ذلك والارض حرب والناس يتوارثون بالوصية وتوفي رجل وليس عنده أحد من أهل الاسلام فنزلت هذه الآية ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض ومعنى (تحبسونهما من بعد الصلاة) من بعد صلاة العصر ومعنى (لا نشتري به ثمنا) بما شهدنا عليه 168 ثم قال جل وعز (ولو كان ذا قربى) معناه وان كان ذا قربى كما قال سبحانه (ولو افتدى به)
169 ثم قال جل وعز (ولا نكتم شهادة الله انا إذا لمن الآثمين)

(2/378)


وقرأ عبد الله بن مسلم (ولا نكتم شهادة الله) وهو يحتمل معنيين أحدهما أن المعنى ولا نكتم الله شهادة والمعنى الآخر ولا نكتم شهادة والله ثم حذف الواو ونصب وقرأ الشعبي (ولا نكتم شهادة الله) هذا عند أكثر أهل العربية لحن وان كان سيبوبه قد أجاز حذف القسم والخفض وقرأ أبو عبد الرحمن (ولا نكتم شهادة الله) على الاستفهام 170 وقوله جل وعز (فان عثر على انهما استحقا اثما) قال ابراهيم النخعي المعنى فان اطلع 171 ثم قال جل وعز (فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان)

(2/379)


ان اطلع عليهما بخيانة فأمر اثنان من أولياء الميت فحلفا واستحقا وقال أبو اسحاق وهذا موضع مشكل من الاعراب والمعنى وقد قيل فيه أقوال منها أن المعنى من الذين استحق فيهم الاوليان فقامت (على)
مقام (في) كما قامت (في) مقام (على) في قوله تعالى (ولاصلبنكم في جذوع النخل) وقيل المعنى من الذين استحق منهم الاوليان وقامت (على) مقام من كما قال تعالى (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون) أي من الناس قال والقول المختار أن المعنى عندي ليقم الاولى بالميت فالاوليان لأن بدل من الالف في يقومان والمعنى من الذين استحق عليهم الايصاء

(2/380)


وأنكر ابن عباس هذه القراءة وقرأ (من الذين استحق عليهم الاولين) وقال أرأيت ان كان الاوليان صغيرين 172 وقوله جل وعز (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم) هذا السؤال على جهة التوبيخ لمن كذبهم وفي معنى الآية قولان أحدهما أنهم لما سئلوا فزعوا فزال وهمهم فقالوا لا علم لنا قال مجاهد لما قيل لهم ماذا أجبتم فزعوا فقالوا لا علم لنا فلما ثابت عقولهم خبروا بما علموا والقول الآخر أن المعنى لا علم لنا بما غاب عنا وقيل يدل على صحة هذا القول (انك أنت علام الغيوب

(2/381)


وهذا مذهب ابن جريج وروى حجاج عن ابن جريج في قوله عز وجل (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا) قال قيل لهم ما علمتم من الامم بعدكم قالوا لا علم لنا قال أبو عبيد ويشبه هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يرد الحوض أقوام فيختلجون فأقول أمتي فيقال انك لا تدري ما أحدثوا بعدك) 173 وقوله عز وجل (إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك) نعمته على مريم أنه جل وعز اصطفاها وطهرها

(2/382)


وقال جل وعز (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) 174 وقوله جل وعز (إذ أيدتك بروح القدس) أيدتك قويتك وروح القدس جبريل صلى الله عليه وسلم قيل قواه به حين هموا بقتله وقواه به في الحجة 175 وقوله جل وعز (واذ أوحيت الى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي) قيل معنى أوحيت ههنا ألهمت كما قال تعالى (وأوحى ربك الى النحل)
وقيل معناه أمرت كما قال الشاعر وحى لها القرار فاستقرت

(2/383)


وقيل معنى أوحيت ههنا بينت ودللت بالآيات والبراهين 176 وقوله جل وعز (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء) روى شيبة بن نصاح المقري عن القاسم بن محمد عن عائشة أنها قالت كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا (هل يستطيع ربك) ولكن قالوا (هل تستطيع ربك) وقرأ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ومعاذ وابن عباس (هل تستطيع ربك) وكذلك قرأ سعيد بن جبير

(2/384)


وقال سعيد انما هو هل تستطيع أن تسأل ربك والتقدير عند أهل العربية على هذه القراءة هل تستطيع سؤال ربك ثم حذف كما قال (واسأل القرية) و (هل يستطيع ربك) حسن بغير حذف معروف في كلام العرب أن يقال هل يستطيع أن يقوم بمعنى هل يستطيع أن يفعل ذلك بمسألتي وأنت تعرف أنه يستطيعه وفي سؤال الحواريين تنزيل المائدة قولان أحدهما أنهم سألوا ذلك ليتبينوا كما قال ابراهيم عليه
السلام (رب أرني كيف تحيي الموتى) والقول الآخر أن يكون سؤالهم هذا من قبل أن يعلموا أن عيسى يبرئ الاكمه والابرص

(2/385)


فأما قول عيسى لهم (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) فيعني أن لا تقترحوا الآيات ولا تسألوا ما لم يسأل غيركم من الامم قال أبو عبيدة (مائدة) من الطعام وهي فاعلة بمعنى مفعولة كما قال جل وعز (في عيشة راضية) وقال أبو اسحق (مائدة) عندي من ماد يميد إذا تحرك وقرأ عاصم الجحدري (تكون لنا عيدا لاولانا وقد وأخرانا) وقرأ الاعمش (تكن لنا عيدا)

(2/386)


وقيل انها أنزلت وقيل انها لم تنزل والصواب أن يقال انها أنزلت لقوله جل وعز (قال الله اني منزلها عليكم) وروى قتادة عن خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر وبعضهم يرفعه قال (أنزلت المائدة خبزا ولحما وأمروا أن لا يخزنوا علي ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا خنازير حدثنا القاسم بن زكريا المطرز نا الحسين بن قرعة قال نا ابن
حبيب عن سعيد بن قتادة عن خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنزلت المائدة خبزا ولحما فأمروا أن لا يدخروا ولا يرفعوا فادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير)

(2/387)


ويروى أن هذه محنة أمر الله جل وعز امتحانهم بها قال عبد الله بن مسعود أشد الناس عذابا أصحاب المائدة وآل فرعون والمنافقون وقال الحسن لما أو عدوا بالعذاب ان هم عصوا قالوا لا حاجة لنا بها فلم تنزل وقال مجاهد لما قيل لهم (فمن يكفر بعد منكم فاني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) امتنعوا من نزولها لم تنزل وقيل ان هذا العذاب في الآخرة 177 وقوله جل وعز (واذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت

(2/388)


للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله قال سبحانك) في معنى هذا قولان أحدهما أن هذا يقال له في الآخرة قال قتادة يقال له هذا يوم القيامة قال ألا ترى أنه قال (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) لا يكون الا يوم القيامة وقال السدي انه قال هذا حين رفعه لانه قال
(ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم) فانما هذا على أنهم في الدنيا أي ان تغفر لهم بعد التوبة واحتج لصاحب هذا القول بأن (إذ) في كلام العرب لما مضى

(2/389)


والقول الاول عليه أكثر أهل التفسير فأما حجة صاحب هذا القول الثاني بأن (إذ) لما مضى فلا تجب لان اخبار الله جل وعز عما يكون بمنزلة ما كان فعلى هذا يصح أنه للمستقبل وسنذكر قولهم في (ان تعذبهم فانهم عبادك) 178 وقوله جل وعز (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) قال أبو اسحق النفس عند أهل اللغة على معنيين أحدهما أن يراد بها بعض الشئ والآخر أن يراد بها الشئ كله نحو قولك قتل فلان نفسه فقوله عز وجل (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) معناه تعلم حقيقتي وما عندي

(2/390)


والدليل على هذا قوله (انك أنت علام الغيوب) وقال غيره تعلم غيبي ولا أعلم غيبك 179 وقوله جل وعز (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم)
قال قتادة الرقيب الحافظ وكذلك هو عند أهل اللغة 180 وقوله جل وعز (ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم) في هذا أقوال فمن أحسنها أن هذا على التسليم لله جل وعز وقد علم أنه لا يغفر لكافر ولا يدرى أكفروا بعد أم آمنوا ومن الدليل على صحة هذا القول أن سعيد بن جبير روى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة عزلا وقرأ صلى الله عليه وسلم (كما بدأكم تعودون) فيؤمر بأمتي ذات اليمين وذات الشمال فأقول أصحابي

(2/391)


فيقال انهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم بعدك فأقول كما قال العبد الصالح (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) وقرأ الى قوله (وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم) وروى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة يردد (ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم) وقيل انه معطوف على قوله (ما قلت لهم الا ما أمرتني به) والمعنى على هذا القول ما قلت في الدنيا الا هذا وقال أبو العباس محمد بن يزيد لا يراد بهذا مغفرة الكفر

(2/392)


وانما المعنى ولان تغفر لهم كذبهم علي وحكايتهم عني ما لم أقل وقال أبو اسحق قد علم عيسى صلى الله عليه وسلم أن منهم من آمن فالمعنى عندي والله أعلم ان تعذبهم على فريتهم وكفرهم فقد استحقوا ذلك وان تغفر لمن تاب منهم بعد الافتراء العظيم والكفر وقد كان لك أن لا تقبل توبته بعد اجترائه عليك فانك أنت العزيز الحكيم وأما قول من قال ان عيسى صلى الله عليه وسلم لم يعلم أن الكافر لا يغفر له فقول مجترء حتى على كتاب الله جل وعز لان الاخبار من الله جل وعز لا ينسخ وقيل كان عند عيسى صلى الله عليه وسلم أنهم أحدثوا معاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به الا أنهم على عمود دينه فقال (وان تغفر لهم) ما أحدثوا بعدي من المعاصي

(2/393)


وقوله جل وعز (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) سئل بعض أهل النظر عن معنى هذا فقيل له لو صدق الكافر وقال أسأت لم ينفعه ذلك والجواب عن هذا أن يوم القيامة يوم مجازاة وليس بيوم عمل فانما المعنى هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم في الدنيا وتركهم الافتراء على الله جل اسمه وعلى رسله وقيل ينفعهم صدقهم في العمل والله أعلم بما أراد (انتهت سورة المائدة بعونه تعالى

(2/394)