معترك الأقران في إعجاز القرآن (حرف اللام)
(لعنهم) : طردهم
وأبْعَدَهم.
وأما قوله تعالى: (ويَلْعَنُهم اللاَّعِنُون) ، فيراد به
الملائكة والمؤمنون.
وقيل المخلوقات إلا الثَّقَلَيْن.
وقيل البهائم لما يصيبهم من الجَدْب بسبب ذنوب بني آدم.
(لمستم، ولامستم) : بمعنى النكاح.
(لَغْو اليمين) : ساقطه، وهو: والله، ولا والله، الجاري على
اللسان من غير
قَصْد، هكذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: أن يحلف على الشيء يظنه على ما
حلف عليه، ثم يظهر خلافه.
وقال ابن عباس: اللغو: الحلف حين الغَضَب.
وقيل: اللغو اليمين على المعصية.
والمؤاخذة العقاب.
أو وجوب الكفارة.
واللَّغو أيضاً: الشيء المسقط الْمقى، تقول: ألقيت الشيء، أي
طرحته وأسقطته.
وأما قوله عز وجل: (وإذا مَرّوا باللّغْوِ مَروا كِرَاما) .
فمعناه الإعراض عن قبيح الكلام، والاستحياء من الدخول مع أهله،
تنزيهاً
لأنفسهم عن ذلك.
(لَبَسْنَا عَلَيْهم) : أي خلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم
وعلى ضُعفائهم، فإنهم إذا رأوا الملَك في صورة إنسان قالوا:
هذا إنسان، وليس بملك.
(لقضِيَ الأمْر ثم لا يُنْظَرون) ، قال ابن عباس: المعنى لو
أنزلنا مَلَكاً فكفروا بعد ذلك لعُجِّل لهم العذاب، ففي الكلام
على هذا حذف.
(2/252)
وقضي الأمر على هذا تعجيل أخْذِهم.
وقيل المعنى: لو أنزلنا مَلَكا لماتوا من
هَوْل رؤيته، فقضاء الأمر على هذا: موتهم.
(ليَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القيامة لا رَيْبَ فيه) : مقطوع
مما
قبله، وهو جواب لقسم محذوف.
وقيل: هو تفسير للرحمة المذكورة، تقديره إن يجمعكم، وهذا ضعيف
لدخول النون الثقيلة في غير موضعها، فإنها لا تدخل إلا
في القسم أو في غير الواجب.
وقيل (إلى) هنا بمعنى في، يعني في يوم القيامة.
وهو ضعيف، والصحيح أنها للغاية على بابها.
(لواقِحَ) : بمعنى ملاقح جمع ملْقَحة، أي تلقح الشجر
والسحاب، كأنها تنتجه.
ويقال لواقح حوامل، جمع لاقح، لأنها تحمل السحاب
وتقلبه وتصرفه، ثم تحلّه فينزل.
ومما يوضِّح هذا قوله تعالى: (يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا) ،
أي حملت.
(لَوْمَا تَأتينا بالملائكة) : لوما: عرض وتحضيض، والضمير
لكفّار قريش.
وذلك أنهم طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم
بالملائكة، فأخبر الحق بأنهم لو رأوا أعظم آية لقالوا: إنها
تحيّل أو سحر.
(لها سَبْعَة أبواب) : يعني جهنم.
روي أنها سبع طبقات في كل طبقةٍ بابٌ، فأعلاها للمذنبين من
المسلمين.
والثانية لليهود. والثالثة للنصارى. والرابعة للصابئين.
والخامسة للمجوس. والسادسة للمشركين. والسابعة للمنافقين.
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) : هذا
قسم.
والعمْر: الحياة.
وفيه كرامةٌ له - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أقسم بحياته ولم
يقسم بحياة غَيْره.
وقيل: هو من قول الملائكة لِـ لُوط، وارتفاعه بالابتداء، وخبره
محذوف.
تقديره: لعمرك قسمي، واللام للتوطئة.
وسكرتُهم: ضلالهم وجهلهم.
(لَنَسألَنَّهمْ أجمعين) : هذا السؤال المثبت على وجه الحساب،
(2/253)
والسؤال المنفي في قوله تعالى: (لَا
يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) ، على وجه
الاستفهام المحْض، لأن الله يعلم الأعمال، فلا يحتاج إلى
السؤال
عنها.
(لا يلبثون خِلَافَك إلا قَلِيلاً) ، أي لو أخرجوك لم يلبثوا
بعد خروجك من مكة إلاَّ قليلاً.
فلما خرج - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً من مكة لم يبقوا
بعد ذلك إلا قليلاً، وقتلوا بعد ذلك يوم بدر.
(لَيَسْتَفِزّونك) : الضمير لقريش، كانوا قد هَمّوا أن
يخرجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، وذلك قبل الهجرة،
فالأرض هنا يراد بها مكة، لأنها بلده.
(لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) : أي
ضعف
عذابهما، لو ركنْتَ إليهم، ولم يركن إليهم - صلى الله عليه
وسلم - قبل النبوءة، فكيف بعدها؟!
(لنذهبنَّ بالذي أوْحَيْنَا إليك) : أي إن شئنا ذهبنا
بالقرآن فمحَوناه من الصّدور والمصاحف، وهذه الآية متصلة
المعنى بقوله:
(وما أُوتِيتم مِنَ العِلْمِ إلا قليلاً) ، أي في قدرتنا أنْ
نذهب
بالذي أُوحي إليك، فلا يبقى عندكم شيء من العلم.
(لنْ نؤمِنَ لكَ حتى تفَجِّرَ لنا من الأرْضِ ينْبُوعا) .
الذين قالوا هذا القول هم أشراف قريش، طلبوا من رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أنواعاً من خوارق العادات، وضروباً من
المعجزات، وهي التي ذكرها الله في كتابه، وهذه منها.
واليَنبوع: العين، قالوا له: إن مكة قليلة الماء ففجِّرْ لنا
فيها عيناً من ماء.
وقيل: إن الذي قال عبدُ الله بن أبي أمية بن المغيرة، وكان ابن
عمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أسلم بعد ذلك.
(لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ
مُطْمَئِنِّينَ) :
(2/254)
معناها لو كان أهل الأرض ملائكةً لكان
الرسول إليهم مَلكاً ولكنهم بشر، فالرسول إليهم بشر من جنسهم.
(لو أنْتم تَمْلِكون خَزَائِنَ رحمةِ رَبِّي إذاً لأمسكْتمْ
خشْيَةَ الإنفاق) ، أي لو ملكتم الخزائن لأمسكتم عن العطاء
خشية الفقر.
فالمراد بالإنفاق عاقبة الإنفاق، وهو الفقر.
ومفعول (أمسكتم) محذوف.
وقال الزمخشري: لا مفعول له، لأن معناه بخلتم.
من قولهم للبخيل: ممْسك.
ومعنى الآية وصف الإنسان بالشح، وخوف الفقر، بخلاف وصف الله
تعالى
بالجود والغنى.
(لَفِيفاً) : جميعاً مختلطين.
(لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) : يعني
دروعا، تكون واحداً، وتكون جمعا، وأول من صنعها داود عليه
السلام.
وسببها أنه عليه السلام كان يتجسس عن أخباره وسيرته من الناس،
فلقي يوما ملكاً، فقال له: ما تقول في داود، فقال: نعْمَ الرجل
لو كان يأكل من كَدّ يده، فطلب من الله صنعة يتقوّت منها،
فألاَن له الحديد، وعلمه جبريل صنعة الدروع.
قال ابن عطية: اللبوس في اللغة السلاح.
وقال الزمخشري: اللبوس: اللباس.
وقرئ: لتحْصِنَكم - بالتاء والياء والنون، فالنون لله تعالى،
والتاء للصنعة.
والياء لداود.
واللبوس واللباس: الشدة.
(لَهْوَ الحديث) : باطله، وهو الغناء.
وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " شراء
المغَنّيَات وبيعهن حرام ".
وقيل نزلت هذه الآية في قرَشي اشترى جارية مغنّية تغني بهجاء
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فالشرا على هذا حقيقة.
وقيل: نزلت في النَّضْر بن الحارث، وكان قد تعلم أخبارَ فارس،
فذكر لَهْوَ الحديث، وشراء لهو الحديث استحبابه، وقوله،
وسماعه، فالشراء على هذا مجاز.
وقيل لهو الحديث الباطل.
وقيل: الشرك.
ومعنى اللفظ يعمّ ذلك كله.
وظاهر الآية أنه
(2/255)
لفظ إلى كبر واستخفاف بالدين، لقوله:
(ليضِلَّ عن سبيل الله ... ) الآية.
وأن المراد شخص معيّن لوصفه بعد ذلك بجملة أوْصاف.
(ليلةٍ مبَاركة) ، يعني ليلة القَدْرِ من رمضان.
وكيفية إنزال هذا القرآن العظيم فيها أنه أنزل إلى السماء جملة
واحدة، ثم نزل به جبريل مفَرَّقاً في عشرين سنة، أَو ثلاث
وعشرين، أو خمس وعشرين، على حسب الخلاف في مدة إقامته - صلى
الله عليه وسلم - بمكة بعد البعثة، قال تعالى: (وَقُرْآنًا
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) .
وأخرج الحاكم وابن أبي شيبة من طريق حسان بن حُريث عن سعيد بن
جبَيْر، عن ابن عباس، قال: فصِلَ القرآن من الذكر، فوضع في بيت
العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي - صلى
الله عليه وسلم.
أسانيدها كلها صحيحة.
وأخرج الطبراني من وجْهٍ آخر عن ابن عباس، قال: أنْزِل القرآن
في ليْلة
القَدْرِ في شهر رمضان إلى السماء الدنيا جملةً واحدة، ثم أنزل
نجوماً.
إسناده لا بَأْسَ به.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق السدّي
عن محمد
ابن أبي المجالد، عن مِقْسم، عن ابن عباس - أنه سأله ابن عطية
الأسود، فقال: وقع في قلبي الشك! قوله تعالى: (شهر رمضان الذي
أنزِل فيه القرآن) وقوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) .
وهذا نزّل في شوّال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة
والمحرّم وصفر وشهر ربيع، فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في
ليلة القَدْر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم، رَسَلاً
في الشهور والأيام.
قال أبو شامة: قوله: رسلا، أي رِفقاً، وعلى مواقع النجوم، أي
على مثل
مساقطها، يريد أنزل مفَرَّقاً يَتْلو بعضه بعضاً على تؤدة
ورفق.
وقيل: يعني بالليلة المباركة ليلة النصف من شعبان، وذلك باطل،
للآية:
(إنا أنزلناه ... ) .
وقوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
(2/256)
قيل: السرّ في إنزاله جملة إلى السماء
الدنيا تفخيم أمره وأمر مَنْ نزل عليه.
وذلك بإعْلام سكان السماوات السبع أنَّ هذا آخر الكتب المنزلة
على خاتم الرسل لِأشْرف الأمم.
وقد قربناه إليهم لننزله إليهم.
ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصولَه إليهم منجما بحسب
الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله،
ولكن الله باينَ بينه وبينها، فجعل له الأمْرَيْن: إنزاله
جملة، ثم إنزاله مفرَّقاً، تشريفاً للمنزل عليه.
ذكر ذلك أبو شامة في المرشد الوجيز.
وقال الحكيم التِّرْمذي: أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا
تسليما منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد - صلى
الله عليه وسلم -، وذلك أن بعثته كانت رحمة، فلما خرجت الرحمةُ
بفتح الباب جاءت بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن فوضع
القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حدِّ الدنيا،
وؤضعت النبوة في قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وجاء جبريل بالرسالة ثم الْوَحْي، كأنه أراد تعالى أن يسلّم
هذه الرحمة التي كانت حظَّ هذه الأمة مِنَ اللهِ إلى الأمة.
وقال السخاوي في جمال القراء: في نزوله إلى السماء جملة تكريمُ
بني آدم.
وتعظيمُ شأنهم عند الملائكة، وتعريفُهم عناية الله بهم ورحمته
لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفاً من الملائكة أن تشيِّعَ
سورةَ الأنعام، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمَرَ جبريل
بإملائه على السّفَرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له.
قال: وفيه أيضاً التسوية بين نبينا - صلى الله عليه وسلم -
وبين موسى ا@ في إنزاله كتابه جملة، والتفضيل لمحمد - صلى الله
عليه وسلم - في إنزاله عليه منجّماً ليحفظه.
قال أبو شامة: فإن قلت فقوله تعالى: (إنَّا أنْزَلْنَاه في
ليلة القَدْر) .
من جملة القرآن الذي أنزل جملة أم لا، فإن لم يكن منه فما نُزل
جملة، وإن
كان منه فما وَجْهُ صحة هذه العبارة؟
قلت له وجهان:
أحدهما: أن يكون معنى الكلام إنا حكمْنَا لإنزاله في ليلة
القَدْر، وقضينا به
وقدّرناه في الأزَل.
(2/257)
والثاني: أن لفظه لفظُ الماضي ومعناه
الاستقبال، أي نزل جملة في ليلة القدر.
قال أبو شامة: الظاهر أن نزولَه جملة إلى السماء الدنيا بعد
ظهورِ نبوءته - صلى الله عليه وسلم -.
قال: ويحتمل أن يكون قبلها.
قلت: الظاهر هو الثاني، وسياقُ الآثار السابقة عن ابن عباس
صريح فيه.
وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد أخرج أحمد والبيهقي في
الشّعَب عن
واثلة بن الأسْقَع، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
أنزلت التوراة لستّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خَلَتْ
منه، والزبور لثمان عشرة منه. والقرآن لأربع وعشرين خلت منه.
وفي رواية: وصحف إبراهيم لأول ليْلة، قال: وهذا الحديث
مطابق لقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أُنْزِلَ فيه القرآن) .
ولقوله: (إنا أنْزَلنَاهُ في ليلة القَدْرِ) فيُحتمل أن تكون
ليلة القدر في تلك السنة
كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم
أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض: (اقرأ باسم ربك) .
قلت: لكن يُشْكِلُ على هذا ما اشتهر من أنه - صلى الله عليه
وسلم - بُعث في شهر ربيع.
ويُجَاب عن هذا بما ذكروه أنه نُبيء أولاً بالرؤيا في شهر
مولده، ثم كانت
مدتها ستة أشهر، ثم أوحي إليه في اليقظة.
ذكره البيهقي وغيره.
نعم، يشكل على الحديث السابق ما أخرجه ابن أبي شيبة في فضائل
القرآن عن أبي قِلابة، قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع
وعشرين من رمضان.
الثالث: قال أبو شامة: فإن قيل: ما السرُّ في نزوله منَجَّماً،
وهلاّ نزل كسائر الكتب جملة؟
قلنا: هذا سؤالْ قد تولى الله جوابَه، فقال تعالى: (وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) .
يعْنُون كما أنزل على مَنْ قبْله من الرسل، فأجابهم تعالى
بقوله: (كَذَلِكَ) - أي أنزلناه كذلك مفرّقا - (لِنُثَبِّتَ
بِهِ فُؤَادَكَ) ، أي لنقوِّيَ به قلبك، فإن الوحْي إذا كان
يتجدد في كل
(2/258)
حادثة كان أقوى للقلب، وأشدَّ عناية
بالمرسل إليه.
ويستلزم ذلك كثرة نزول
الملك إليه، وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من
ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة،
ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل.
وقيل معنى (لنثبِّتَ به فؤادَكَ) ، أي لنحفظه، فإنه - صلى الله
عليه وسلم - كان أمِّياً لا يقرأ ولا يكتب، ففرِّق عليه ليثبت
عليه حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه كان كاتباً قارئاً،
فيمكنه حفْظُ الجميع.
قال ابن فُورك: قيل أنزلت التوراة جملة، لأنها نزلت على نبي
يقرأ ويكتب
- وهو موسى - وأنزل الله القرآن مفرَّقاً، لأنه نزل غير مكتوب
على نبي أميّ.
وقال غيره: إنما لم ينزّل جملة واحدة، لأنَّ منه الناسخ
والمنسوخ، ولا يتأتَّى
ذلك إلا فيما نزل مفرقاً.
ومنه ما هو جواب لسؤال، ومنه ما هو إنكار على قول قِيل أو فعل
فُعِل.
وقد تقدّمَ ذلك في قول ابن عباس، ونزّله جبريل بجواب
كلام العباد وأعمالهم، وفَسّر به قوله: (ولا يأتونك بِمَثَل
إلاَّ جئْنَاك بالحقّ
وأحسنَ تفسيراً) .
أخرجه عنه ابن أبي حاتم.
فالحاصل أن الآية تضمّنت حكمتين لإنزاله مفرقاً.
تذنيب
ما تقدم في كلام هؤلاء من أنَّ سائر الكتب أنزلت جملة ً هو
مشهور في
كلام العلماء وعلى ألسنتهم، حتى كاد يكون إجماعا.
وقد رأيتُ بعض فضلاء العصر أنكر ذلك، وقال: إنه لا دليل عليه،
بل الصواب أنها نزلت مفرقات كالقرآن.
وأقول: الصواب الأول، والدليل على ذلك آيةُ الفرقان السابقة.
أخرج ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال:
قالت
(2/259)
اليهود: يا أبا القاسم، لولا أنزل هذا
القرآن جملة، كما أنزلت التوراة على
موسى. فنز لت.
وأخرجه من وجهٍ آخر عنه - بلفظ: قال المشركون.
وأخرج نحوه عن قَتَادة والسدّي.
فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، وإنما هو على تقدير
ثُبوت قَوْلِ
الكفار.
قلت: سكوتُه تعالى عن الرد عليهم في ذلك وعُدُوله إلى بيان
حكمته دليلٌ
على صحته، ولو كانت الكتبُ كلها مفرقة لكان يكفي في الرد عليهم
أن يقول: إن ذلك سنةُ الله في الكتب أنزلها على الرسل السابقة،
كما أجاب بمثل ذلك عن قولهم: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) ،
فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا
إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي
الْأَسْوَاقِ) .
وقولهم: (أبعثَ اللهُ بَشراً رسولاً) .
وقال: (وما أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك إلاَّ رجالاً نُوحي إليهم)
.
وقولهم: كيف يكون رسولا ولا له همٌّ إلا النساء، فقال: (ولقد
أرْسلنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وجعَلْنَا لهم أزواجاً وذُريّة
... ) . الآية.
إلى غير ذلك.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً قولُه تعالى - في إنزال التوراة على
موسى يوم
الصعقة: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
(144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ)
.
(وألْقَى الألْوَاحَ) .
(ولما سكتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ أخذ الألْوَاح، وفي نسختها
هُدًى ورحمةٌ) .
(وإذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فوقَهُمْ كأنه ظلَّةٌ وظنوا أنه
واقعٌ بهم خذُوا ما آتينَاكم بقوَّة) .
فهذه الآيات كلها دالّة على إتيانه التوراة جملة.
(2/260)
أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جُبير
عن ابن عباس، قال: أعطي
موسى التوراة في سبعة ألواح من زَبرْجد، فيها تِبْيان لكل شيء
وموعظة، فلما جاء بها ورأى بني إسرائيل عكوفا على عبادة
العِجْل رمى بالتوراة من يده فتحطمت، فرفع الله منها ستةَ
أسباع وأبقى سبعاً.
وأخرج من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده - رفعه، قال:
الألواحُ التي أنزلت على موسى كانت من سِدْر الجنة، كان طول
اللوح اثني عشر ذراعاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ثابت بن الحجاج، قال: جاءتهم التوراة
جملة واحدة
فكبُر عليهم فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل، فأخذوه
عن ذلك.
فهذه آثار صحيحة في إنزال التوراة جملة، يؤخذ من الأثر الأخير
منها
حكمةٌ أخرى لإنزال القرآن مفرّقاً، فإنه أدْعى إلى قبوله إذا
نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنه كان ينفر
من قبوله كثير من الناس، لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي.
ويوضّح ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة، قالت: إنما نزل أول ما
نزل
منه سورةٌ من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب
الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام.
ولو نزل أول شيء: " لا تشربوا الْخَمْرَ " - لقالوا: لا ندع
الخمر أبدا.
ولو نزل: " لا تَزْنوا " لقالوا لا نَدَع الزنى أبداً.
ثم رأيتُ هذه الحكمة مصرحا بها في الناسخ والمنسوخ لمكيّ.
وأخرج البيهقي في الشّعَب، من طريق أبي خَلَدة عن عمر، قال:
تعلَّمُوا
القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على
النبي - صلى الله عليه وسلم - خمساً خمساً.
ومعناه - إن صح - إلقاؤه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا
القَدْر حتى يحفظه، ثم يلقي إليه الباقي لا إنزاله خاصة بهذا
القدر.
ويوضح ذلك ما أخرجه البيهقي أيضاً عن خالد بن دينار، قال، قال
أبو
العالية: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كان يأخذه من جبريل خمساً خمساً.
(2/261)
تنبيه:
اتفق أهل السنّةِ والجماعة على أن كلام الله تعالى منزّل.
واختلفوا في معنى الإنزال، فمنهم من قال إظهار القراءة، ومنهم
من قال إن الله تعالى ألْهم كلامَه جبريل، وهو في السماء، وهو
عال من المكان.
وعلَّمه قراءته، ثم إن جبريل أدَّاه في الأرض، وهو يهبط في
المكان.
وفي التنزيل طريقان:
أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقل من صورة
البشرية إلى صورة الملكية، وأخذه من جبريل.
والثاني: أن الملك انخلع إلى البشريّة حتى يأخذ الرسول منه.
والأول أصعب الحالين.
وقال الطيبي: لعلّ نزول القرآن على الرسول - صلى الله عليه
وسلم - أن يتلقَّفه الملَك من الله تَلَقُّفاً رُوحانياً، أو
يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به إلى الرسول - صلى الله عليه
وسلم -، ويُلقيه عليه.
وقال القطب الرازي في حواشي الكشّاف: التنزيل لغة بمعنى
الإيواء، وبمعنى
تحريك الشيء من عُلْو إلى سفل، وكلاَهما لا يتحققان في الكلام،
فهو مستعمل فيه في معنى مجازي، فمن قال: القرآن معنى قائمٌ
بذات الله تعالى فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على
ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ.
ومَنْ قال القرآن هو الألفاظ فإنزاله مجرد إثباته في اللوح
المحفوظ.
وهذا المعنى مناسب لكونه منقولاً عن أول المعنيين اللغويين.
ويمكن أن يراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في
اللوح المحفوظ، وهذا يناسب المعنى الثاني.
والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله
تلقّفاً روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ، وينزل بها
فيلقيها عليهم.
وقال غيره: في المنزَّل على النبي - صلى الله عليه وسلم -
ثلاثة أقوال:
(2/262)
أحدها: أنه اللفظ والمعنى، وأن جبريل حفظ
القرآن من اللوح الحفوظ
ونزل به.
وذكر بعضهم أن أحْرفَ القرآن في اللوح المحفوظ، كل حرف منها
بقدر
جَبَل قاف، وأن تحت كلّ حرف منها معان لا يحيط بها إلا الله
تعالى.
والثاني: أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه - صلى الله
عليه وسلم - علم تلك المعاني، وعبَّر عنها بلغة العرب، وتمسَّك
قائل هذا بظاهر قوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ
(193) عَلَى قَلْبِكَ) .
والثالث: أن جبريل ألقى عليه المعنى، وأنه عبّر بهذه الألفاظ
بلغة العرب
وأن أهل السماء يقرؤونه بالعربية، ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك.
وقال البيهقي - في معنى قوله تعالى: (إنّا أنزلناه في ليلةِ
القَدْرِ) .
يريد - والله أعلم: إنا أسمعنا الملك وألهمناه إياه، وأنزلناه
بما سمع، فيكون
الملك منتقِلاً به من علو إلى سفل.
قال أبو شامة: هذا المعنى مطرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة
إلى القرآن أو
إلى شيء منه يحتاج إليه أهل السنة المعتقدون قِدَمَ القرآن،
وأنه صفة قائمة بذات اللَه تعالى.
قلت: ويؤيد أن جبريل تلقَّفه سماعاً من الله تعالى ما أخرجه
الطبراني من
حديث النَّواس بن سمعان مرفوعاً: إذا تكلم الله بالوحي أخذت
السماء رجفة
شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهلُ السماء صُعقوا وخَرُّوا
سجّدا، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما
أراد، فينتهي به إلى
الملائكة، كلما مرّ بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا، قال:
الحق.
فينتهي به حيث أمر.
وأخرج ابن أبي مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: إذا تكلم الله
بالوحي
(2/263)
سمع أهل السماوات صلصلةً كصلصلة السلسلة
على الصَّفْوان، فيفزعون، ويرون أنه مِنْ أمر الساعة
وأصل الحديث في الصحيح.
وفي تفسير علي بن سهل النيسابوري: قال جماعة من العلماء: نزل
القرآن جملة ً في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بَيْب يقال
له بيت العزة، فحفظه جبريل، وغشي على أهل السماوات من هيبة
كلام الله، فمرّ بهم جبريل، وقد أفاقوا، فقال: ماذا قال ربكم،
قالوا: الحق - يعني القرآن - وهو معنى قوله: (حَتَّى إِذَا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) - فأتى به جبريل إلى بيت العِزّة
فأمْلاه على السفَرة الكرام - يعني الملائكة، وهو معنى قوله:
(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) .
وقال الْجُوَيني: كلام الله المنَزل قسمان:
قسم قال الله لجبريل: قلْ للنبي الذي أنت مرْسل إليه: إن الله
يقول افعل
كذا وكذا، ومُرْ بكذا وكذا.
ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل على ذلك النبي، وقال له ما
قاله ربه.
ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به:
قل لفلان يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، واجمع جنْدَك
للقتال، فإن قال
الرسول يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي، ولا تترك الجند
يتفرّق، وحث على المقاتلة - لا ينسب إلى كذب، وتقصير في أداء
الرسالة.
وقسم آخر قال الله لجبريل: اقرأ على النبي هذا الكتاب، فنزل
جبريل بكلمة
الله من غير تغيير، كما يكتب الملك كتاباً ويسلمه إلى أمين،
ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغَيِّر منه كلمة ولا حرفاً.
قلت: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنّة، كما ورد
أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن.
(2/264)
ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى، لأن
جبريل أدَّاه بالمعنى، ولم تجز القراءة
بالمعنى، لأن جبريل أداه باللفظ، ولم يبَحْ له إيحاؤه بالمعنى.
والسرّ في ذلك أن المقصود منه التعبد بلفظه، والإعجاز به، فلا
يقدر أحد
أن يأتي بلفظٍ يقوم مقامه، وإنَّ تحتَ كل حرف منه معاني لا
يحيط بها كثرة.
فلا يقدر أحد أن يأتي ببدله بما يشتمل عليه، والتخفيف على
الأمة حيث جعل المنزّل إليهم على قسمين: قسم يَرْوونه بلفظه
الْموحَى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كلّه مما يرْوَى
باللفظ لشقّ، أو بالمعنى لم يؤْمن التبديل والتحريف، فتأَمل.
وقد رأيت عن السلف ما يعضّد كلام الجويني، فأخرج ابن أبي حاتم،
من
طريق عقيل، عن الزّهري - أنه سئل عن الوحي فقال: الوحي ما
يوحِي الله إلى نبي من أنبيائه، فيثبته في قلبه، فيتكلم به
ويكتبه، وهو كلام الله.
ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد، ولا يأمر بكتابته، ولكن
يحدِّث به الناس حديثاً، ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه
للناس ويبلغهم إياه.
فصل
وقد ذكر العلماء للوحي كيفيّات:
إحداها: أن يأتِيَه الملَك في مثل صلصلة الجرس، كما صح في مسند
أحمد عن
عبد الله بن عمرو: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل تحسّ
بالوحي، فقال: أسمع صلاصل.
ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي
تقْبض.
قال الخطابي: والمراد أنه صوت متداول يسمعه ولا يتبيّنه أولّ
ما يسمعه حتى
يفهمه بعد.
وقيل: هو صوت خَفْق أجنحة الملَك.
والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه للوحي، فلا يُبقي فيه مكاناً
لغيره.
وفي الصحيح أن هذه الحالة أشد حالات الوحي عليه.
(2/265)
وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية
وعيد أو تهديد.
الثانية: أن ينفُثَ في روعه الكلام نَفْثاً، كما قال - صلى
الله عليه وسلم -: " إن روحَ القُدس نَفث في روعي ".
أخرجه الحاكم، وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى أو التي بعدها.
بأن يأتي في أحد الكيفيتين وينفث في رُوعه.
الثالثة: أن يأتيه في صفة الرجل فيكلمه، كما في الصحيح:
وأحياناً يتمثَّلُ لي
الملك رجلا فيكلمني فأعِي ما يقول - زاد أبو عَوَانة في صحيحه:
وهو أهونُه
عليَّ.
الرابعة: أن يأتيه الملَك في النوم.
وعدّ قوم من هذا سورة الكوثر، كما رَوَى مسلم عن أنس قال: بينا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا إذ أغْفَى
إغفاءةً ثم رفع رأسه
متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله، فقال: أنزل عليَّ آنفا
سورة الكوثر ... الخ.
وقال الإمام الرافعي في أماليه: ففهموا من الحديث أنها نزلت في
تلك
الإغفاءة.
وقالوا: مِنَ الوحي ما كان يأتيه في النوم، لأن روْيا الأنبياء
وحي.
قال: وهذا صحيح، لكن الأشبه أن يقال: إن القرآن كله نزل في
اليقظة، وكأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزّلة في
اليقظة، أو عُرِض عليه الكوْثَر الذي وردت فيه السورة، فقرأها
عليهم، وفسرها لهم.
قال: وورد في بعض الروايات أنه أغمي عليه.
وقد يحمل ذلك على الحالة التي كانت تَعْتَريه عند نزول الوحي.
ويقال لها بُرَحاء الوحي.
قلت: الذي قاله الرافعي في غاية الاتجاه، وهو الذي كنتُ أميل
إليه قبل
الوقوف عليه.
والتأويل الأخير أصح من الأول، لأن قوله إنما يدفع في كونها
نزلت قبل ذلك، بل نقول: نزلت في تلك الحالة، وليست الإغفاءة
إغفاءةَ نوم، بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي، فقد ذكر
العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا.
(2/266)
الخامسة: أن يكلمه الله إما في اليقظة -
كما في ليلة الإسراء، أو في النوم.
كما في حديث معاذ: أتاني ربي، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى
... الحديث.
وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم، نعم، يمكن أن يعد
منه آخر سورة البقرة لما تقدم، وبعض سورة الضحى، و (ألم نشرح)
، فقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث عدي بن حاتم، قال، قال - صلى
الله عليه وسلم -: " سألتُ ربي مسألة، ووددت أني لم أكن سألته،
قلت: أي ربي، اتخذتَ إبراهيم خليلاً، وكلمتَ موسى تكليما.
فقال: يا محمد، ألم أجدك يتما فآويتك، وضالاً فهديتك، وعائلا
فأغنيتك.
وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وِزْرك، ورفعت لك ذكرك، ولا أُذكر
إلاَّ ذُكرتَ معي ".
فوائد:
الأولى: أخرج الإمام أحمد في تاريخه، من طريق داود بن أبي هند،
عن
الشعبي، قال: أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - النبوءة،
وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوءته إسرافيل ثلاث سنين، فكان
يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه.
فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوءته جبريل، فنزل عليه القرآن على
لسانه
عشرين سنة.
قال ابن عسكر: والحكمة في توكيل إسرافيل به أنه الملك الموكل
بالصُّور
الذي فيه هلاك الخلق وقيام الساعة، ونبوءته عليه الصلاة
والسلام مؤذنة بقرْب الساعة وانقطاع الوحي، كما وُكل بذي
القرنين رونيافل الذي يطوي الأرض، وبخالد بن سنان مالك خازن
النار.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن سابط، قال: في أمّ الكتاب كل شيء هو
كائن
إلى يوم القيامة، فوكل ثلاثة بحفظه من الملائكة، فوكل جبريل
بالوحي.
والكتب إلى الأنبياء، وبالنصر عند الحروب، وبالمهلكات إذا أراد
الله أن يهلك قوماً.
ووكل ميكائيل بالقَطْر والنبات، ووكل ملك الموت بقَبْض الأنفس،
فإذا
كان يوم القيامة وعارضوا بين حفظه وبين ما كان في أم الكتاب
فيجدونه سواء.
(2/267)
وأخرج أيضاً عن عطاء بن السائب، قال: أول
من يحاسب جبريل، لأنه كان أمينَ الله إلى رسله.
الثانية: أخرخ البيهقيّ والحاكم عن زيد بن ثابت أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل القرآن بالتفخيم كهيئة: (غذْرا
أو نُذْراً) .
و (الصَّدَفَيْنِ) ، (ألاَ لَه الْخَلْقُ والأمْر) ، وأشباه
هذا.
قلت: أخرجه ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء، فبيَّن أن
المرفوع
منه: أنزل القرآن بالتفخيم فقط، وأن الباقي مدرجٌ من كلام
عمّار بن عبد الملك أحد رواة الحديث.
الثالثة: أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثَّوْري، قال: لم ينزل
وحْيٌ إلا
بالعربية، ثم تَرْجم كلّ نبي لقومه.
الرابعة: أخرج ابن أبي سعد عن عائشة، قالت: كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي يغطّ في رأسه،
ويتربَّدُ وجهه، ويجد برداً في ثناياه، ويعرق حتى يتحدّر منه
مثل الْجُمان.
الخامسة: قال البغوي في شرح السنّة: يقال إن زيد بن ثابت شهد
العرضَة
الأخيرة التي بيّن فيها ما نُسخ وما بقي، وكتبها لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وقرأها عليه، وكان يقْرئ الناس بها حتى
مات.
وكذلك عليه اعتمد أبو بكر وعمر في جمعه، وولاَّه عثمان كتب
المصاحف.
(لَحْن القَوْل) ، أي مقصده وطريقته.
وقيل اللَّحْن هو الخفيّ المعنى، كالكناية والتعريض.
والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - سيعرفهم من دلائل كلامهم،
وإن لم يعرّفْه الله بهم على التعيين.
فانظر هذا اللطف العظيم في ستر الله عليهم، وعلى أقاربهم من
المسلمين.
(2/268)
وروي أن الله لم يذكر له واحداً منهم
باسمه، وهذا كما صح عن قوم مُوسى
أنهم خرجوا للاستسقاء فلم يسقوا، فقال موسى: يا ربّ، لِمَ لم
تجِبهم، فقال: يا موسى، إن فيهم نَمّاماً.
فقال: يا رب، مَنْ هو، فقال: أنهى عن النَّمِيمة وأكون
نماماً! ولكن ليتوبوا بأجمعهم، فتابوا، وسقاهم الله.
(لَذَّة للشاربين) : أي لذيذة، لا كلذَّةِ الدنيا.
(اللَّمَم) .
فيه أربعة أقوال:
الأول: أنه صغائر الذنوب، فالاستثناء على هذا في الآية منقطع.
الثاني: أنه الإلمام بالذنوب على وجه الفَلْتَة والسقْطَة دون
دوام عليها.
الثالث: أنه ما ألَمّوا به في الجاهلية من الشركِ والمعاصي.
الرابع: أنه الهمّ بالذنب، وحديث النفس به دون أن يفعل.
(ليس للإنْسان إلاَّ ما سعَى) : السعي هنا بمعنى العمل.
وظاهرُها أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره، وهي حجة لمالك في قوله:
لا يصوم
أحد عن وليه إذا مات وعليه صيام.
واتفق العلماء على أن الأعمال المالية كالصدقة والعِتْق يجوز
أن يفعلها الإنسان
عن غيره، ويصل نَفْعُها إلى مَنْ فُعِلَتْ عنه.
واختلفوا في الأعمال البدنيّة، كالصلاة، والصيام.
وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله: (ألْحَقْنَا بهم ذريتَهمْ) .
والصحيح أنها مُحْكَمة، لأنها خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ.
وفي تأويلها ثلاثة أقوال:
الأول - أنها إخبار عما كان في شريعة غيرنا، فلا يلزم في
شريعتنا.
الثاني: للإنسان ما عمل بحق، وله ما عمل له غيره بهبة العاملِ
له، فجاءت
الآية في إثبات الحقيقة دون ما زاد عليها.
(2/269)
الثالث: أنها في الذنوب.
وقد اتّفق على أنه لا يحمل أحد ذَنْبَ أحد، ويدل
على هذا قوله قبلها: (ألاَّ تَزِز وَازِرةٌ وِزْرَ أخرى) ،
كأنه يقول:
لا يؤخَذ أحد بذنب غيره، ولا يؤخذ إلا بذنب نفسه.
(لظَى) : اسم علم مشتقّ من اللظى بمعنى اللهب.
(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَر) : معنى اللَّوَّاحة مغَيِّرة.
يقال لاَحَهُ السّفَر: غَيَّره.
والبشَر جمع بَشَرة، وهي الجِلْدة.
فالمعنى أنها تحْرِق الجلود.
وقيل تسَوِّدها.
وقيل لوّاحة مِنْ لاح يعني ظهر، والبشر الناس، أي تلوح للناس.
قال الحسن: تلوح لهم من مَسِيرة خمسمائة عام لا يخافون الآخرة،
أي هذه العلة والسبب في إعراض مَنْ تقدَّم ذكرهم.
(لَوَّامَة) : هي التي تلوم نفسها على فعل الذنوب، أو التقصير
في الطاعة، فإن النفوس على ثلاثة أنواع، فخيرها النَّفْس
المطمئنة، وشَرُّها
النَّفْس الأمَّارة بالسوء، وبينهما النفس اللوَّامَة.
وقيل اللوّامة المذمومة الفاجرة، وهذا بعيد، لأن الله لا يقْسم
إلا بما يعظم من المخلوقات.
ويستقيم إن كان لا أقسم نفياً للقسم.
قال بعضهم: ليس من نفس بَرَّة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها
يوم
القيامة، إن كانت عملت خيرا: هَلاَّ ازدادت منه، وإن كانت عملت
سوءاً: لم عملته.
(لَيَال عَشْرٍ) : هي عشر ذي الحجة عند الجمهور.
وقيل: العشر الأول من المحرم.
وفيها يوم عاشوراء.
وقيل العشر الأخر من رمضان.
وقيل العشر الأول منه.
(لَمًّا) : الجمع، واللّفّ، فالتقدير أكْلاً ذا لَمّ، وهو أن
يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره، لأن العرب كانوا لا يُعْطون
من الميراث
أنْثَى ولا صغيراً، بل ينفرد به الرجال.
(2/270)
(لا يُنَازِعُنَّكَ في الأمْرِ) ، ضمير
المنازعة للكفار، والمعنى أنهم
لا ينبغي لهم منازعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الحق
قد ظهر بحيث لا ينازع أحد فيه.
فجاء الفعل بلفظ النهي، والمراد غير النهي.
وقيل المعنى: لا تنازعهم فيُنَازِعُوك، فحذف الأول لدلالة
الثاني عليه.
ويحتمل أن يكون نَهيْاً لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ.
والمراد بالأمر الدين والشريعة، أي في الدين والذبائح.
(لُدًّا) : جمع ألدّ، وهو الشديد الخصومة والمجادلة.
والمرادُ بذلك قُرَيش. وقيل معناه فُجَّاراً.
(لوط) : قال ابن إسحاق: هو لوط بن هاران بن آزر. وفي المستدرك
عن
ابن عباس قال: لوط ابن أخي إبراهيم.
(لُقْمان) :: قيل إنه كان نبياً. والأكثر على خلافه.
أخرج ابنُ أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: كان لقمان
عبداً
حبشياً اختار الحكمة على النبوءة، فأعطاها الله له، فكان ينطق
بها.
لم يكن لقمان نبيئاً، ولكن عبدا أحسن اليقين، أحبَّ الله فأحبه
فمنّ عليه
بالحكمة.
وروي أنه ابنُ أخت أيوب، أو ابن خالته.
وروي أنه كان قاضيا لبني إسرائيل.
واختلف في صنعته، فقيل: كان نجارا.
وقيل خياطاً. وقيل راعي غنم.
وكان ابنه كافراً، فما زال يوصيه حتى أسلم.
(لُجيٍّ) : منسوب إلى اللجّ، وهو معظم الماء.
وذهب بعضهم إلى أنَّ أجزاء هذا المثال قوبلت به أجزاء المثَّل
به، فالظلمات أعمال الكافر، والبحرُ اللجيّ صَدْره، والموجُ
جهله، والسحابُ الغطاء الذي على قلبه.
وذهب بعضهم إلى أنه تمثيلٌ بالجملة من غير مقابَلة.
وفي وصف هذه الظلمات بهذه الأوصاف مبالغةٌ، كما أن في وصف
النور، المكرر قبلها مبالغة.
(2/271)
(لُغُوب) : الإعياء والتعب.
ورُوِي أن اليهود أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقالوا: أخبرنا عما خلق الله في الأيام السبعة:
فقال - صلى الله عليه وسلم -: " خلق الله السماوات والأرض يوم
الأحد، والجبال يوم الإثنين، والدوابَّ يوم الثلاثاء، والنور
يوم الأربعاء، والجنةَ والنار يوم الخميس، وآدم وحواء يوم
الجمعة "، فقالوا: أصَبْتَ لو أتممت، فقال - صلى الله عليه
وسلم -: " ما إتْمَامُها، "
فقالوا: لما فرغ الله مِنْ خَلْق السماوات والأرض استَلْقَى
على قَفَاه، ووضع
إحدى رجليه على الأخرى واسَتراح، وكان ذلك يوم السبت الذي
اتخذناه عِيدا واستراحة.
فاغْتمّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غَمّاً شديداً،
فأنزل الله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ
لُغُوبٍ (38) .
وإنما يَلْغُب مَنْ يعمل بالآلات والجوارح، وإني أخلق الشيء
إذا أردتُ وجودَه، أقول له كنْ فيكون.
فظنَّ اليهود أن السبتَ لهم يوم الراحة، فصار يوم المحنة،
وظنوا أنه يوم
فَرَح، فصار يوم ترَح، فقال عليه السلام: السبت لليهود،
والجمعة لكم، فلا تخالفوا فيها أمر الله تعالى كما خالف اليهود
والنصارى، فصار المخالفون منهم قِرَدة.
نكتة:
إن اليهود لما خالفوا في يومهم مسخَهُم الله تعالى وغَيَّر
شخصهم، والمؤمنون
إذ أطاعوا الله وأدّوا صلاة الجمعة غيّرت صورة ذنوبهم حسنات،
كما قال تعالى: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَاتٍ) .
إن اليهود لم يُمسخوا لصيْد السَّمكة، بل لتركهم تعظيم أمْر
الله وارتكابهم لنَهْيه، ألاَ ترى أن آدم وحوّاء أكَلا من شجرة
الخُلْد فبدَتْ لها سوءاتها.
والنَحْل أكل من ورق أشجار الجنّة فصار في بطنه عسلاً، لأن آدم
أكل بغير إذن، والنحل أكل بإذن.
(2/272)
وأعجب من هذا أن الدودة التي أكلت جسم أيوب
عليه السلام فصار لحمه
في بطنها إبْريسماً (1) ، يا عجباً، إن آدميّاً يأكلُ سمكة
فيغضب عليه الربُّ فيجعله قرداً، ودودة تأكل النبي فيرضى عنها
الربّ، فيجعل رَوْثها إبْرَيْسماً، لأن هذه أكلَتْ بأمره، وذلك
أكل بغير أمره.
دودة أطاعت الرب فاستحقت الخِلْعَة.
والمؤمن المخلص إذا أطاع أمر الله فكيف لا يستحق الرحمة
والقُربَة والكرامة.
(لبَداً) : كثيراً، من التلبيد، كأنه بعضه على بعض.
(لمَزَة) : هو الذي يَعِيب الناس باللّسان.
واختلف هل الهمَزة واللّمَزة سواء، واشتقاقه من الهمْزِ
واللمز، وصيغة فُعلَة للمبالغة.
ونزلت السورة في الأخنس بن شَرِيق، لأنه كان كثير الوقيعة في
الناس.
وقيل في أميّة بن خلف.
وقيل في الوليد بن المغيرة.
ولفظها مع ذلك على العموم في كل مَنِ اتَّصَفَ بهذه الصفات.
(لِيوَاطِئُوا عِدَّةَ ما حرّمَ اللَهُ) ، أى ليوافقوا عددَ
الأشهر
الحرم، وهي أربعة.
يقول: إذا حرموا من الشهور عدد الشهور المحرمة لم يبالوا أن
يحلّوا الحرام ويحرموا الحلال.
(لِوَاذًا) ، يعني الذين ينصرفون عن حَفْر الخندق.
واللّوَاذ: الروغان والمخالفة.
وقيل الانصراف في خِفْية.
وفي هذا وعيد وتهديد لمن خالف أمر الله ورسوله.
(لِسَانَ صِدْق) : ثناء حسناً.
(لِيْنَة) : نخلة، وجمعها لِيْن، وهي ألْوَانُ النَّخْل ما لم
تكن
العَجْوَة والبَرْنيّ.
قال الكلبي: لا أعْلَمها إلا بلسان يهود.
وسبب الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل على
حصون بني النضير قَطَع المسلمون بعض نخلهم، وأحرقوا بعضها،
فقال بَنُو النَّضِير: ما هذا الإفساد يا محمد، وأنت تنهى عن
الفساد، فنزلت الآية معلمة أن كل ما جرى من قطع وإحراق، فإن
الله أذن للمسلمين في ذلك.
__________
(1) ما روي من أكل الدود لجسد نبي الله أيوب - عليه السلام -
أثناء مرضه من الإسرائيليات المنكرة.
(2/273)
(لِيُخْزِي الْفَاسِقين) : بني النَّضِير.
واستدل بعض الفقهاء
بهذه الآية على أن كل مجتهد له مصيب، فإن الله قد صوّب فعل من
قطع
النخل، ومن تركها.
واختلف العلماء في قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم، فأجازه
الجمهور.
لهذه الآية، ولإقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على
تحريق نخل بني النضير، وكرهه قَوْمٌ لوصية أبي بكر الصديق
الجيشَ الذي وجّهَهم إلى الشام ألاَّ يَقْطَعوا شجَراً
مُثْمِرا.
(لله خمسَهُ وللرّسُولِ ولِذي القرْبَى ... ) ، الآية.
اختلف في قسم الخمس وهو خمس المغانم، فقال قوم: يصرف على ستة
أسهم: سَهْم للَه في عمارة الكعبة، وسهم للنبي - صلى الله عليه
وسلم - في مصالح المسلمين.
وقيل للوالي بعده.
وسهم لِذَوِي القربى الذين لا تحل لهم الصدقة.
وسهم لليتامى.
وسهم للمساكين.
وسهم لابن لسبيل.
وقال الشافعي: على خمسة أسهم، ولا يجعل لله سهماً مختصاً،
وإنما بدأ عنده
باللَه، لأن الكل ملكه.
وقال أبو حنيفة: على ثلاثة أسهم: لليتامى، والمساكين، وابن
السبيل خاصة.
وقال مالك: الخمس إلى اجتهاد الإمام يأخذ منه كفايته، ويصرف
الباقي في
المصالح.
(ليَميزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطيّب) : الخبيث: الكفَّار،
والطيب: المؤمنون.
وقيل: الخبيث ما أنْفَقَه الكفَّار، والطيّب: ما أنفقه
المؤمنون.
واللام في (ليميز) - على هذا يتعلق ب (يغْلبون) وعلى الأول
ب (يحْشَرون) .
ومعنى يميز: يَفْرق بين الخبيث والطيب.
(لله الأسماءُ الحسْنَى) ، لا لغيره، ولا نهاية لعددها،
(2/274)
وإنما أخبر الشارع بالتسعة والتسعين في
قوله: إن للهِ تسعة وتسعين اسماً مَنْ
أحصاها دخل الجنة.
وسبب نزول الآية أن أبا جهل سمع بعض الصحابة يقرأ، فيذكر الله
مرة
والرحمن أخرى، فقال: يزعم محمد أن الإله واحد، وها هو يعبد
آلهة كثيرة، فنزلت الآية، مبيّنةً أن تلك الأسماء الكثيرة هي
لمسمّى واحد.
والحسنى: مصدر وصف بها، وتأنيث أحسن.
وحسْن أسماءَ الله أنها صفات مَدْحٍ وتعظيم وتحميد، فمنها ما
هو للتعلّق، ومنها ما هو للتخلق، فينبغي الاعتناء بتبين
معانيها، وبأخذ كل واحد منها حظاً ونصيباً.
(لِلَّذينَ أحْسَنوا الحسْنى وزِيادة) : الحسنى الجنة، والنظر
إلى وجه الله.
وقيل الحسنى جزاء الحسنة بعَشْرة أمثالها، والزيادة التضعيف
فَوْق
ذلك إلى سبعمائة.
والأول أصح، لوروده في الحديث، وكثرة القائلين به.
(لولا نزلت سؤرة) ، بالهمز، من أسأرت أي أفضلت من
السؤر، وهو ما بقي من الشراب في الإناء، كأنها قطعةٌ من
القرآن.
ومَنْ لم يهمزها جعلها من المعنى المتقدم، وسهَّل همزتها.
ومنهم من شبهها بسورة البناء، أي القطعة منه، أي منزلة بعد
منزلة.
وقيل من سور المدينة لإحاطتها بآياتها
واجتماعها كاجتماع البيوت في السور.
ومنه السِّوَار لإحاطته بالساعد.
وقيل: لارتفاعها، لأنها كلام الله.
والسورة المنزلة الرفيعة، وكان المؤمنون يقولون هذا الكلام على
وجه
الحِرصِ على نزول القرآن والرغبة فيه، لأنهم كانوا يفرحون
ويستوحشون من إبطائه.
تنبيه:
قال الجَعْبَري: حَدّ السورة قرآن يشتمل على آي ذي فاتحة وذي
خاتمة.
وأقلها ثلاث آيات.
(2/275)
وقال غيره: السورة الطائفة المترجمة
توقيفاً، أي المسمّاةُ باسم خاصّ بتوقيف
من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ثبتت جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار،
ولولا خشية
الإطالة لبيًنْتُ ذلك.
ومما يدل لذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: كان
المشركون
يقولون: سورة البقرة، وسورة العنكبوت - يستهزئون بها، فنزل:
(إنا كفَيْناكَ المستَهْزِئين) .
وقد كره بعضهم أن يُقال سورة كذا لما رواه الطبراني والبَيْهقي
مرفوعاً، عن
أنس: لا تقولوا سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة
النساء، وكذا القرآن كله، ولكن قولوا: السورة التي تذكر فيها
البقرة، والتي يذكر فيها آل عمران، وكذلك القرآن كله.
وإسناده ضعيف، بل ادَّعَى ابن الجَوْزي أنه موضوع.
وقال البيهقي: إنما يُعرف موقوفاً عن ابن عمر، ثم أخرجه عنه
بسند
صحيح.
وقد صح إطلاق سورة البقرة وغيرها عنه - صلى الله عليه وسلم -.
وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه
سورة
البقرة.
ومن ثَمَّ لم يكرهه الجمهور.
وقد يكون للسورة اسمٌ واحد وهو كثير، وقد يكون لها اسمان
فأكثر، من
ذلك: الفاتحة، وقد وقفت لها على نيِّفٍ وعشرين اسماً، وذلك يدل
على شرفها، فإن كثرة الأسماء دالة على شرف المسمى.
قال بعضهم: وكما سمِّيت السورة الواحدة بأسماء سمِّيَت سورة
باسم واحد.
كالسور المسماة بـ الم والر، على القول بأن فواتح السور أسماء
لها.
قال الزركشي في البرهان: ينبغي البحث عن تعداد الأسماء، هل هو
توقيفيّ
(2/276)
أو بما يظهر من المناسبات، فإن كان الثاني
فلن يعدم الفَطِن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة يقتضي
اشتقاقها اسماً لها، وهو تعبيد.
قال: وينبغي النظر في اختصاص كل سورة بما سُمِّيَتْ به.
ولا شكَّ أنَّ العرب ترَاعِي وكثير من المسميات أخْذَ أسمائها
من نادر أو
مستغرب يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصه أو يكون معها أحكم أو
أكثر أو أسبق لإدراك الرأي للمسمى.
ويسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة
بما هو أشهر فيها، وعلى ذلك جَرَتْ سور الكتاب العزيز كتسمية
سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة قصة البقرة المذكورة فيها،
وعجيب الحكمة فيها.
وسميت سورة النساء بهذا الاسم لما تردَّد فيها شيء كثير من
أحكام النساء.
وتسمية سورة الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها، وإن كان
قد ورد
لفظ الأنعام في غيرها، إلا أن التفصيل الوارد في قوله تعالى:
(ومِنَ الأنْعَام
حَمُولَةً وفَرْشاً ... ) ، إلى قوله: (أمْ كنْتم شهَداءَ إذْ
وَصّاكم اللة بهذا) .
لم يردْ في غيرها، كما ورد ذِكْر النساء في سور، إلا أن ما
تكرر وبسط من أحكامهن لم يرد في غير سورة النساء، وكذا سورة
المائدة لم يرد ذكر المائدة في غيرها، فسميت بما يخصها.
فإن قيل: في سورة هود ذكر نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب
وموسى.
فلم خصَّتْ باسم هود وَحْدَه، مع أن قصة نوح فيها أوعب وأطول؟
قيل: تكررت هذه القصص في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء
بأوْعَب
مما ورد في غيرها، ولم يتكرر في واحدة من هذه السور اسم هود
كتكرّره في
سورته، فإنه تكرر فيها في أربعة مواضع، والتكرار من أقْوَى
الأسباب التي
ذكرنا.
فإن قيل: فقد تكرر اسم نوح فيها في ستّةِ مواضع.
قيل: لما أفْرِدت لذكر نوح وقصته مع قومه سورة بِرَأسِها فلم
يقع فيها غير
ذلك، كانت أوْلى بأن تسمَّى باسمه من سورة تضمّنَتْ قصتَه وقصة
غيره.
(2/277)
قلت: فلك أن تسأل وتقول: قد سميت سورة
جَرَتْ فيها قصص أنبياء
بأسمائهم، كسورة نوح، وسورة هود، وسورة إبراهيم، وسورة يونس،
وسورة آل عمران، وسورة طس سليمان، وسورة يوسف، وسورة محمد صلى
الله على جميع الأنبياء، وسورة مريم، وسورة لقمان، وسورة
المؤمن.
وسورة أقوام: كسورة بني إسرائيل، وسورة أصحابِ الكَهْف، وسورة
الحِجْر، وسورة سبأ، وسورة الملائكة، وسورة الجِن، وسورة
المنافقين، وسورة المطَفّفين.
ومع هذا لم يفْرَدْ لموسى سورة تسمّى به، مع كثرة ذكره في
القرآن، حتى قال بعضهم: كاد القرآن أن يكون كله موسى، وكان
أولى سورة تسمى به سورة طه أو القصص أو الأعراف لبسط قصته في
الثلاثة مما لم تبْسط في غيرها.
وكذلك قصة آدم ذكرَتْ في عِّدةِ سوَر، ولم تسمّ به سورة كأنه
اكتفي
بسورة الإنسان.
وكذلك قصة الذَّبيح من بدائع القصص، ولم تسَمّ به سورة
الصافات.
وقصة داوود ذكرت في (ص) ولم تسم به، فانظر في حكمة ذلك.
على أني رأيت بعد ذلك في جمال القراء للسخَاوي أن سورة طه تسمى
سورة
الكلِيم، وسماها الهُذَلي في كماله سورة موسى.
وأن سورة ص تسمى سورة داود.
ورأيت في كلام الجعبري أن سورة الصافّات تسمى سورة الذبيح،
وذلك يحتاج إلى مستند من الرأي.
(ليس على الأعْمى حَرَج) : اختلف والمعنى الذي رفع الله
به الحرج عن الأعرج والأعمى والمريض هذه الآية، فقيل: هو في
هذه الآية
الغزو، أي لا حَرَجَ عليهم في تأخرهم عنه، وحكمهم عام في كل
جهاد إلى يوم القيامة إلا أن يحزب حازب في حصرةٍ ما، فواجب
عليهم بحسب الوسْع.
فإن قلت: أما رَفْع الحرج عن هؤلاء في هذه الآية فمفهوم تعقيبه
به في عَتْب
المتخلّفين من القبائل، وأما ذكرهم في سورة النور، فلم أفهم له
معنى؟
فالجواب: إنما ذكرهم في سورة النور لأنهم كانوا إذا نهضوا إلى
الغَزْو
(2/278)
وخلّفوا أهلَ هذه الأعذار في بيوتهم،
فكانوا يتجنّبون أكل مال الغائب، فنزلت في ذلك.
وقيل: إن الناس كانوا يتجنبّون الأكل معهم تقذَّرا، فنزلت
الآية.
وهذا ضعيف، لأن رفع الحرج عن أهل الأعذار لا عن غيرهم.
والصواب أن يقال: إن الحرج مرفوع عن هؤلاء الثلاثة في كل ما
يمنعهم منه
أعذارهم من الجهاد وغيره، ألا ترى أنه أباح الأكل للإنسان في
هذه البيوت
المذكورة في الآية، من الآباء والأبناء والأخوات وغيرهم.
فإن قلت: إذا رفع الحرج عن هؤلاء فما معنى الآية: (انْفِرُوا
خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ) .
فالجواب: أنه اختلف في الخفيف والثقيل، من هو، على أقوال: فقيل
الخفيف الغنيّ، والثقيل الفقير.
وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ.
وقيل الخفيف النشيط، والثقيل الكسلان.
وهذه الأقوال أمثلة في الثقل والخفّة.
وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (ليس على الضّعَفَاء
ولا عَلَى المرْضَى) .
وعلى كلِّ تقديرٍ فجائز لأصحاب الأعذار الغَزْو، وأجرهم فيه
مضاعف، لأن الأعرج قد يكون أجرأ الناس بالصبر وألاَّ يفر.
وقد غزا ابن أمِّ مكتوم، وكان يمسك الراية في بعض حروب
القادسية، وقد خرّج النسائي في بعض هذا المعنى.
وذكر ابن أم مكتوم رحمه الله.
(للفقراء) : هذا بدل من قوله (لذي القربى واليتامي
والمساكين وابن السبيل) ، ليبين أن المراد بذلك (المهاجرين) ،
ووصفهم بأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، لأنهم هاجروا من
مكة وتركوا فيها ديارهم وأمْوالهم.
(لقد زَيّنّا السماء الدّنيا بِمَصابِيح) .
السماء الدنيا -: هي القريبة منا.
والمصابيح يراد بها النجوم، فإن كانت النجوم كلها في السماء
الدنيا فلا
إشكال.
وإن كانت في غيرها من السماوات فقد زينت السماء الدنيا، لأنها
ظاهرة
فيها لنا.
(2/279)
ويحتمل أن يريد أنه زيّن السماء الدنيا
بالنجوم التي فيها دون التي في
غيرها، على أن القَوْلَ بمواضع الكواكب وفي أي سماء هي لم
يَرِدْ في الشريعة.
(لَطيف) : اسم الله تعالى.
قيل معناه رفيق، وقيل: خبير بِخَفِيَّات الأمور.
(لؤلؤ) : كبار الجَوهَر.
(لِمَنْ خافَ مقامَ رَبه جنَّتَان) : مقام ربه: القيام بين
يديه
للحساب.
ومنه: (يوم يقُوم النَّاس لرَبِّ العَالَمين) .
وقيل قيام الله عليه بأعماله.
ومنه: (أفَمَنْ هو قائم على كلِّ نَفْس بما كَسبَتْ) .
وقيل لمن خاف مقام ربه، وأبهم المقام، كقولك: خفت جانب فلان.
واختلف هل الجنتان لكل خائف على انفراد، أو لصنْفِ الخائفين،
وذلك
مبني على قوله: لمن خاف، هل يراد به واحد أو جماعة.
وقال الزمخشري: إنما قال جنتان، لأنّه خطاب الثَّقَلين، فكأنه
قال جنة
للإنسان وجنة للجن.
(لب) : عقل، من قولهم: لب في المكان إذا أقام به.
ومنه: لأولي الألباب.
(ليس له اليوم هاهنا حَمِيم.
ولا طعام إلاَّ من غِسْلين) ، أي ليس له صديق.
وقيل ليس له شراب ولا طعام إلاَّ من غِسْلين، فإنّ
الحميم الماء الحار، والغسلين صديد أهل النار عند ابن عباس.
وقيل شجر يأكله أهل النار.
وقال اللغوِيّون: هو ما يجري من الجراح إذا غسلت، وهو فعلين من
الغسل.
فإن قلت: قد قال في الغاشية: (ليس لهم طَعَام إلا مِن ضَرِيع)
، وهو مناقض لما هنا؟
فالجواب: أن الضريع لقوم والغسلين لقوم، أو يكون أحدهما في حال
والآخر
في حال.
(2/280)
(لقَوْل رَسولٍ كَرِيم) : هذا جواب قوله:
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ
(39) .
والضمير للقرآن.
والرسول الكريم قيل جبريل.
وقيل محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأقْسَمَ تعالى بجميع الأشياء، لأنها تنقسم
إلى ما يبْصَر وإلى ما لا يبصر، كالدنيا والآخرة، والإنس
والجنّ، والأجسام
والأرواح، وغير ذلك.
(لأخَذْنَا مِنْه باليَمِين) : أي بالقوة.
ومعناه لو تقوّلَ علينا محمد ما لم نَقلْه، أو نسب إلينا قولاً
لأخذناه بقوّتنا.
وقيل هي عبارة عن الهوان، كما يقال لمن يسجن: أُخِذ بيده
وبيمينه.
وقَال الزمخشري: معناه لو تقوّل علينا لقتلناه، ثم صوّرَ صورة
القَتْلِ ليكون
أهول.
وعبَّر عن ذلك بقوله: لقطعنا منه الوَتين، وهو العِرْق الذي في
عنقِ
الإنسان.
والسيَّاف إذا أراد أن يضرب المقتول في جيده أخذه بيده اليمين
ليكون ذلك أشدّ عليه لنظره إلى السيف.
(لِلشَّوَى) : هي أطراف الجسد، وقيل جِلْد الرأس.
والمعنى أن النار تنزعها ثم تعاد.
(لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ) :
هذا تهديد
للكفّار بإهلاكهم وإبدال مَنْ هوَ خير منهم.
(لا تَرْجون للهِ وَقارا) : فيه أربعة تأويلات:
أحد ها: أن الوقار بمعنى التوقير والكرامة، فالمعنى ما لكم لا
تَرْجون أن يوقركم الله في دَارِ ثَوَابِه.
قال ذلك الزمخشري.
وقوله: "لله" على هذا بيان للموقر، ولو تأخّر لكان صفة لوقار.
الثاني: أن الوقار بمعنى التؤدة والتثبّت، والمعنى ما لكم لا
ترجون لله تعالى
متثبتين حتى تتمكنوا من النظر بوقاركم.
وقوله " للَه " على هذا مفعول دخلت عليه اللام، كقولك: ضربت
لزيد.
وإعراب وقاركم على هذا مصدر في موضع الحال.
(2/281)
الثالث: أن الرجاء على هذا بمعنى الخوف،
والوقار بمعنى العظمة والسلطان.
فالمعنى ما لكم لا تخافون عظمة الله وسلطانه.
(ولله) على هذا صفة للوقار في المعنى.
الرابع: أن الرجاء بمعنى الخَوْف، والوقار بمعنى الاستقرار، من
قولك: وَقَر
في المكان إذا استقرّ فيه، والمعنى ما لكم لا تخافون الاستقرار
في دار القرار، إما في الجنة وإما في النار.
(لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا
شَدِيدًا وَشُهُبًا) : هذا إخبار عما حدث عندْ مبعث النبي -
صلى الله عليه وسلم - من مَنعِْ الجنّ من استراق السمعْ في
السماء ورَجْمهم بالنجوم.
واللمس: المسّ.
واستعِير هنا للطلب.
والحَرَس: اسم مفرد في معنى الحرّاس كالخدم في معنى الخدام.
ولذلك وصف بشديد، وهو مفرد.
ويحتمل أن يريد به الملائكة الحراس أو النجوم الحارسة.
وكرر الشهب لاختلاف اللفظ.
(لِنَفْتِنَهم فيه) : يحتمل أن يكون الضمير للمسلمين، أو
للقاسطين المذكورين قبل، أو لجميع الجنّ، أو الجن الذين
استمعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لجميع الخَلْق.
ومعنى الفتنة الاختبار، هل يشكرون أم لا، هذا إن كانت الطريقة
المذكورة، بمعنى الإيمان، وإن كانت الطريقة الكفر فمعنى الفتنة
الاستضلال والاستدراج.
(لِبَدًا) : جماعة واحدها لِبْدَة.
والمعنى يكاد الكفار من الناس يجتمعون على الرد عليه وإبطال
أمره، أو يكاد الجنّ الذين استمعوا هذا القرآن يجتمعون عليه
لاستماعه والتبرك به.
ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفْرَش بعضها على بعضها.
(لِيَسْتَيْقِنَ الذين أوتوا الكتاب) : أي يعلم أهل التوراة
والإنجيل أن ما أخبر به نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه
وسلم - عن عدد ملائكة النار حق، لأنه
(2/282)
موافق لما في كتبهم.
ولما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش: أيعجز عشرةٌ
منكم عن واحد من هؤلاء التسعة عشر أن يبطشوا به، فنزلت الآية.
ومعناها أنهم ملائكة لا طاقةَ لكم بهم.
ورُوِي أن الواحد منهم يرمي بالجبل على الكفار، فجعل الله هذا
العدد لفِتْنَةِ الكفَّار ولئلا يشكّ المؤمنون والذين أوتوا
الكتاب.
فإن قلت: كيف نفى عنهم الشكّ بعد أن وصفهم باليقين، والمعنى
واحد
فهو تكرار؟
فالجواب: أنه لما وصفهم باليقين نفَى عنهم أن يشكّوا فيما
يستقبل بعد يقينهم الحاصل الآن، فكأنه وصفهم باليقين في الحال
والاستقبال.
وقال الزمخشري: ذلك مبالغة وتأكيد.
(ليَقولَ الَّذِين في قلوبهم مَرَض) : المرض عبارة عن الشكّ،
وأكثر ما يُطلق الذين في قلوبهم مرض على المنافقين، كقوله: (في
قلوبهم مَرَضٌ) .
فإن قلت: هذه السورة مكيّة، ولم يكن حينئذ منافقون بالمدينة؟
فالجواب من وجههين:
أحدهما أن معناه يقول المنافقون إذا حدّثوا، ففيه إخبار
بالغيب.
والآخر أن يريد من كان بمكة من أهل الشك، وقولهم: (ماذا أرادَ
اللَهُ بهذا مَثَلاً) ، فهو استبعاد لأن يكون هذا من عند الله.
(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) .
فيه توقيف يراد به تعظيم ذلك اليوم، ثم بينه بقوله: (وما
أدْرَاك ما يَوْم الفَصْلِ) .
(اللام) : على أربعة أقسام:
جارّة، وناصبة، وجازمة، ومهملة غير عاملة.
فالجارةُ مكسورة مع الظاهر، وأما قراءة بعضهم: الحمد لله،
فالضمة عارضة
للاتباع، مفتوحة مع المضمر إلا الياء.
ولها معان:
الاستحقاق، وهي الواقعة بين معنى وذات، نحو: (الحمد لله) .
(2/283)
(الملك لله) .
(للهِ الأمر) . الروم: 4.
(ويل لِلمطفِّفين) .
(لهم في الدنيا خِزْيٌ) .
(وللكافرين النارُ) ، أي عذابها.
والاختصاص، نحو: إن لَه أباً، كان له إخوةٌ.
والملك، نحو: (لَه ما في السماوات وما في الأرض) .
والتعليل، نحو: (إنه لِحبِّ الخَيْرِ لَشَدِيد) ، أي وإنه من
أجل حبِّ المال لَبَخِيل.
(وإذْ أخذَ اللَّهُ مِيثاقَ النبيين لِمَا آتيْتكم من كتابِ
وحِكْمَة ... ) .
في قراءة حمزة، أي لأجل إيتائي إياكم بعضَ الكتاب والحكمة، ثم
لمجيء محمد - صلى الله عليه وسلم - مصدِّقاً لما معكم لتؤمِننّ
به، ولتنصرنه، فما
مصدرية واللام تعليلية.
وقوله: (لإيْلاَفِ قريش) .
وتعلقها بـ (يعبدوا) .
وقيل بما قبله، أي فجعلهم كعَصْف مأكول، لإيلاف قريش.
ورجَح بأنههما في مصحف عثمان سورة واحدة.
وموافقة إلى، نحو: (بأن ربَّك أوحى لها) .
(كلّ يَجْرِي لأجَلٍ مسَمًّى) .
وعلى، نحو: (ويَخرّون لِلأذْقَان) .
(دَعَانَا لِجنبِهِ) .
(وَتَلّهُ لِلْجَبين) .
(وإن أسَاتم فَلها) .
(لهم اللعنة) ، أي عليهم، كما قال الشافعي.
وفي، نحو: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ) .
(لاَ يُجَلِّيهَا لوَقْتِها إلاَّ هو) .
(يا لَيْتَنِي قدّمْت لِحَياتي) ، أي في حياتي.
وقيل هي فيها للتعليل، أي لأجل حياتي في الآخرة.
و (عند) في قراءة الجَحْدَري: (بل كذّبوا بالحقّ لما جاءهم) .
وبعد، نحو: (أقِم الصلاةَ لدلوكِ الشمس) .
وعن، نحو: (قال الذين كفروا للذِين آمَنوا لو كَان خيراً ما
سبَقونا إليه) .
(2/284)
أي عنهم وفي حقّهم، لأنهم خاطبوا به
المؤمنين.
وإلا لقيل ما سبقْتمونا.
والتبليغ، وهي الجارّة لاسم السامع لقول أو ما في معناه،
كالإذْن.
والصيرورة، وتسمى لام العاقبة، نحو: (فالْتَقَطَه آل فِرْعَوْن
ليكون لهم
عَدواً وحَزناً) ، فهذا عاقبة التقاطهم لا علّته، إذ هي
التبني.
ومنع قوم ذلك، وقالوا: هي للتعليل مجازاً، لأن كونه عدوا لما
كان ناشئاً عن الالتقاط وإن لم يكن غَرَضاً لهم، فنزّل منزلة
الغرض على تقدير المجاز.
وقال أبو حيان: الذي عندي أنها للتعليل حقيقة، وأنهم التقطوه
ليكون لهم عدواً، وذلك على حذف مضاف تقديره لمخافة أن يكون،
كقوله: (يتيِّن الله لكم أنْ تَضِلوا) ، أي كراهة أن تضلوا.
والتأكيد، وهي الزائدة أو القوية للعامل الضعيف لفرعية أو
تأخير، نحو:
(رَدِفَ لَكم) .
(يريد الله ليبيِّن لكم) .
(وأمِرْنا لِنسْلِمَ) .
(فَعّال لِمَا يريد) .
(إن كنْتم للرؤيا تَعْبرون) .
(وكنّا لِحكْمِهم شاهِدين) .
والتبيين للفاعل أو المفعول، نحو: (فَتعْساً لهم) .
(هيهات لِما توعدون) .
(هَيْت لك) .
والناصبة هي لام التعليل، وادعى الكوفيون النصب بها.
وقال غيرهم بأن مقدرة في محل جر باللام.
والجازمة هي لام الطلب، وحركتها الكسر.
وسُلَيم يفتحونها، وإسكانها بعد الواو والفاء أكثر من تحريكها،
نحو، (فلْيَستَجِيبوا لي وليؤمِنوا بي) .
وقد تسكن بعد ثمّ، نحو: (ثمّ ليقْضوا تفَثَهم) .
وسواء كان الطلب أمراً، نحو: (لِينْفِقْ ذو سَعَةٍ) .
أو دعاء، نحو: (ليَقْضِ علينا ربّك) .
(2/285)
وكذا لو خرجت إلى الخبر، نحو: (فَلْيَمْددْ
له الرَّحْمن مَدًّا) .
(ولْنَحْمِل خطاياكم) .
أو التهديد، نحو: (فمَنْ شاء فليؤمِنْ ومَنْ شاء فَلْيَكْفر) .
وجزمها فعلَ الغائب كثير، نحو: (فَلْتَقُمْ طائفةٌ منهم معكَ
وليَأخذوا
أسلحتَهم) .
(فليكونوا من وَرَائكم ولتأت طائفةٌ) .
فلْيُصَلوا معك) .
وفعل المخاطب قليل، ومنه: (فبذلك فلْتَفْرَحوا) - في قراءة
التاء.
وفعل التكلم أقل، ومنه: (ولنَحْمِلْ خطاياكم) .
***
وغير العاملة أربع:
لام الابتداء، وفائدنها أمران: توكيد مضمون الجملة، ولهذا
زَحْلقوها في
باب إن من صدر الجملة كراهة توالي مؤكَدين.
وتخليص المضارع للحال.
وتدخل في المبتدأ، نحو: (لأنْتمْ أشدُّ رَهْبَةً في صدورهم من
الله) .
وفي خبر إن، نحو: (إنّ رَبي لسميع الدعاءَ) .
(إنّ ربك ليَحْكم بينهم) .
(وإنّكَ لعَلَى خلق عظيم) .
واسمها المؤخر، نحو: (إنّ علينا لَلْهدَى وإن لنا للآخِرَة) .
واللام الزائدة في خبر أن المفتوحة، كقراءة سعيد بن جبير:
(إلاَّ أنهم
ليَأكلونَ الطعامَ) .
والمفعول، كقوله تعالى: (يَدْعو لمن ضرَّه أقْرَبُ مِنْ
نَفْعِه) .
ولام الجواب للقسم أو "لو" أو لولا، نحو: (تَاللَهِ لَقَدْ
آثركَ الله عَلَيْنَا) .
(تَاللهِ لأكِيدَنّ أصنامَكم) .
(لو تَزَيَّلوا لعذَّبْنَا)
(ولولا دفْع اللهِ الناسَ بعضَهم ببعض لفسدت الأرْض) .
(2/286)
واللام الموطّئة، وتسمى المؤذِنة، وهي
الداخلة على أداة شرط للإيذان بأن
الجواب بعدها مبنيّ على قَسم مقدَّر، نحو: (لَئِنْ أُخْرِجُوا
لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا
يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ
الْأَدْبَارَ) .
وخرّج عليه قراءة قوله تعالى: (لَمَا آتيْتُكمْ مِنْ كتابٍ
وحِكمة) .
(لا) : على أوجه: أحدها أن
تكون نافية، وهي أنواع:
أحدها: أن تعمل عمل إنَّ، وذلك إذا أريد بها الجنس على سبيل
التنصيص، وتسمى حينئذ تبرئة، وإنما يظهر نصبها إذا كان اسمها
مضافاً أو
شبهه، وإلا فيركّب معها، نحو، لا إله إلّا الله.
(لا ريب فيه) .
فإن تكرّرَتْ جاز التركيب والرفع، نحو: (فلا رَفَثَ ولا فُسوقَ
ولا جدَال) .
(لا بيْعٌ فيه ولا خُلّة ولا شَفَاعة) .
(لا لغْو فيها ولا تاثيم) .
ثانيها: أن تعمل عمل ليس، نحو: (ولا أصغر من ذلك ولا أكبْرَ
إلّا في
كتابٍ مُبِين) .
ثالثها ورابعها: أن تكون عاطفة أو جوابية.
ولم يقَعَا في القرآن.
خامسها: أن تكون على غير ذلك، فإن كان ما بعدها جملة اسمية
صدرها
معرفةٌ أو نكرة ولم تعمل فيها، أو فعلاً ماضياً لفظا أو تقديرا
وجب تكرارها، نحو: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) .
(لا فيها غَوْل ولا هُمْ عنها يُنزَفون) .
(فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى) .
أو مضارعا لم يجب، نحو: (لا يُحِبّ الله الجَهْرَ بالسّوءَ
مِنَ القَوْلِ إلَّا منْ
ظلم) .
(قُلْ لا أسالُكم عليه أجراً) .
(2/287)
وتعترض (لا) هذه بين الناصب والمنصوب، نحو:
(لئلا يكون للناس) .
والجازم والمجزوم، نحو: (إلّا تَفْعَلوه) .
والوجه الثاني: أن تكون لطلب التّرْك، فتختص بالمضارع، وتقتضي
جَزْمه
واستقباله، سواء كان نهياً، نحو: (لا تتّخذوا عَدوي) .
(لا يَتّخِذِ المؤمنون الكافرين) .
(ولا تَنْسَوا الفَضْلَ بينكم) .
أو دعاء، نحو: (لا تؤاخِذنا) .
الثالث: التأكيد، وهي الزائدة، نحو: (ما مَنعكَ ألاَّ تسجد) .
(ما منعكَ إذ رأيتَهم ضَلُّوا ألَّا تَتّبِعَنِ) .
(لئلاّ يعْلم أهْل الكتاب) ، أي ليعلموا.
قال ابن جني: لا هنا مؤكّدة قائمة مقام إعادة الجملة مرة أخرى.
واختلف في قوله: (لا أقسِم بيَوْم القيامة) ، فقيل زائدة،
فائدتها مع التوكيد التمهيد لنفي الجواب، والتقدير: لا أقسم
بيوم القيامة لا
تتركون سدى.
ومثله: (فَلاَ وَربّكَ لا يؤمنون حتى يحَكَموك) ، ويؤيده قراءة
"لأقسم".
وقيل: لا نافية لا تقدم عنهم من إنكار البعث، فقيل لهم:
ليس الأمر كذلك، ثم استؤنف القسم.
قالوا: وإنما صح ذلك لأن القرآن كله
كالسورة الواحدة، ولذا يذْكر الشيء في سورة وجوابه في سورة
أخرى نحو:
: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ
إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) .
(مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) .
وقيل: منفيّها أقسم على أنه إخبار لا إنشاء.
واختاره الزمخشري، قال:
والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له، بدليل:
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ
لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) .
فكأنه قيل: إن إعظامه بالإقسام به كلا إعظام، أي أنه يستحق
إعظاماً فوق ذلك.
واختلف في قوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ، فقيل
نافية. وقيل ناهية. وقيل زائدة.
(2/288)
وفي قوله: (وحَرَامٌ على قَرْيةٍ أهلكناها
أنّهم لا يرجعون) ، فقيل: زائدة.
وقيل نافية والمعنى ممتنع عدم رجوعهم إلى الآخرة.
تنبيه:
تَرِد (لا) اسماً بمعنى غير، فيظهر إعرابُها فيما بعدها، نحو:
(غَيْرِ
المغضوب عليهم ولا الضالّين) ، (لا مقطوعة ولا ممنوعةٍ) ، (لاَ
فَارِضٌ ولا بِكرٌ) .
فائدة
قد تحذف ألفُها، وخرَّج عليه ابنُ جني: (واتقُوا فِتْنَةً
لَتُصِيبَنّ الذين ظَلَمُوا
منكم خَاصة) .
(لات) : اختلف فيها، فقال
قوم: فعل ماض بمعنى نقص.
وقيل أصلها ليس، تركت الياء فقُلبت ألفاً لانفتاح ما قبلها،
وأبدلت السين تاء.
وقيل هي كلمتان: لا النافية زيدت عليها التاء لتأنيث الكلمة،
وحركت لالتقاء الساكنين، وعليه الجمهور.
وقيل هي لا النافية والتاء زائدة في أول الحين.
واستدل له أبو عبيدة بأنه وجدها في مصحف عثمان مختلطة بحين في
الخط.
واختُلف في عملها، فقال الأخفش: لا تعمل شيئاً، فإن تلاها
مرفوع فمبتدأ
وخبر، أو منصوب فبِفِعْل محذوف، فقوله تعالى: (ولاتَ حينُ) -
بالرفع، أي كائن لهم.
وبالنصب أى لا أرى حيْنَ مناص.
وقيل تعمل عمل إن.
وقال الجمهور: تعمل عمل ليس، وعلى كل قول لا يُذكر بعدها إلا
أحد
المعمولين، ولا تعمل إلا في لفظ الحين.
قيل: أو ما رَادَفَهُ.
قال الفراء: وقد تستعمل حرف جر لأسماء الزمان خاصة.
وخرّج عليه - قراءة: ولات حينٍ - بالجر.
(2/289)
(لا جَرَم) : وردت في القرآن في خمسة
مواضع:
الأول في هود، وثلاثة في النحل، والخامس في غافر، متلوّة بأنّ
واسمها ولم يجئ بعدها فعلٌ.
واختلف فيها، فقيل: لا نافية لما تقدّم، و" جَرَم " فعل معناه
حق، وأن مع ما في حَيّزها فاعله.
وقيل: زائدة، و " جرم " معناه كسب، أي كسب لهم عملهم الندامة،
وما في حيّزها في موضع نصب.
وقيل: هما كلمتان، رُكِّبتَا وصار معناها حقاً.
وقيل معناها لا بد، وما بعدها في موضع نصب بها بإسقاط حرف
الجرّ.
(لكنَّ) - مشدّدة النون: حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر.
ومعناه الاستدراك، وفُسِّرَ بأن ينسب لما بعدها حكماً مخالفا
لحكم ما قبلها، ولذلك لا بد أن يتقدمها كلامٌ مخالف لما بعدها
أو مناقض له، نحو: (وما كفر سُلَيْمان ولكنَّ الشياطينَ
كفَروا) .
وقد ترد للتوكيد مجرداً عن الاستدراك، قاله صاحب البسيط، وفسر
الاستدراك برفع ما توهّم ثبوته، نحو: ما زيد شُجاع، لكنه كريم،
لأن الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان، فَنفي أحدهما يوهم
نَفْي الآخر.
ومثَّل للتوكيد بنحو: لو جاءني أكرمته، لكنه لم يجئ، فأكدت ما
أفادته (لو) من الامتناع.
واختار ابن عصفور أنها لهما معاً، وهو المختار، كما أن كأنَّ
للتشبيه المؤكد، ولهذا قال بعضهم: إنها مركبة من لكن أن
فطُرِحَت الهمزة للتخفيف ونون لكن للساكنين.
(لكنْ) - مخففة: ضربان:
أحدهما: مخفَّفة من الثقيلة، وهي حرف ابتداء لا تعمل، بل لمجرد
إفادة
الاستدراك، وليست عاطفة لاقترانها بالعاطف في قوله: (ولكنْ
كانُوا هُم
الظالمين) .
(2/290)
والثاني: عاطفة إذا تلاها مُفرد، وهي أيضاً
للاستدراك، نحو: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ
إِلَيْكَ) النساء: 1166.
(لكنِ الرسولُ) .
(لكنِ الذين اتَقوْا ربَّهم) .
ويأتي لدي، ولدن، عند حرف العين في (عند) .
(لَعلَّ) حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر.
وله معان، أشهرها التوقع، وهي
الترجي في المحبوب، نحو: (لعَلَّكم تفْلحون) .
والإشفاق في المكروه، نحو: (لعلّ الساعةَ قَرِيب) .
وذكر التَّنوخي أنها تفيد توكيد ذلك.
الثاني: التعليل، وخرّج عليه: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) .
الثالث: الاستفهام، وخرّج عليه: (لا تدْرِي لعلَّ اللهَ يحْدِث
بَعْدَ ذلك
أمْراً) .
(وما يُدْرِيكَ لعلهُ يزَّكى) ؛ ولذا علق (يدري) .
قال في البرهان: وحكى البغوي عن الواقدي أن جميع ما في القرآن
من
(لعلَّ) فإنها للتعليل، إلا قوله تعالى: (لعلكم تَخْلُدون) .
قال: وكونها للتشبيه غريب لم يذكره النحاة، ووقع في صحيح
البخاري في قوله: (لعلكم تَخْلُدون) - أن لعل للتشبيه.
وذكر غيره أنها للرجاء المحض، وهو بالنسبة إليهم.
قلت: أخرج ابن أبي حاتم من طريق السديّ عن أبي مالك، قال:
(لعلكم)
في القرآن بمعنى (كي) ، غير آية في الشعراء: (لعلكم تخْلُدون)
، بمعنى كأنكم تَخْلُدون.
وأخرج عن قتادة قال: كان في بعض القراءة: "وتَتخِذونَ مصانعَ
كأنكم
خالدون".
(2/291)
(لم) : حرف جزم لنفي المضارع وقلْبه
ماضياً، نحو: (لم يَلِدْ ولم يُولَدْ) .
والنصب بها لغة - حكاه اللحياني.
وخرَّج عليه قراءة: ألم نشرحَ.
(لمَّا) : على أوجه: أحدها: أن تكون حرف جزم، فتختصّ بالمضارع
وتنفيه وتقلبه ماضياً، كـ لم، لكن يفترقان من أوجه:
أحدها: أنها لا تقترن بأداة شرط، ونفيها مستمر إلى الحال أو
قريب منه.
ومتوقع ثبوته.
قال ابن مالك في: (لما يَذُوقُوا عَذَاب) : المعنى لم يذوقوه،
وذَوْقه لهم متوقع.
وقال الزمخشري في: (ولَمَّا يَدْخُل الإيمانُ في قلوبكم) ، -
ما في (لَمَّا) بمعنى التوقع، دالٌّ على أن هؤلاء قد آمنوا
فيما بعدُ، وأن نفيها
آكد من نفي لم، فهي لنفي قد فُعل، ولم لنفي فَعَل، ولهذا قال
الزمخشري في
الفائق تبعاً لابن جني: إنها مركبة من
(لم) و (ما) ، وإنهم لما
زادوا في
الإثبات (قد) زادوا في النفي (ما) ، وإن منفيّ لما جائز الحذف
اختياراً.
بخلاف لم، وهي أحسنُ ما يخرج عليه: (وإنْ كُلاًّ لمَا
ليُوَفيَنَّهُم ربك أعمالهم) ، أي لما يُهملوا أو يتركوا، قاله
ابن الحاجب.
قال ابن هشام: ولا أعرف وجهاً في الآية أشبه من هذا، وإن كانت
النفوسُ
تستبعده، لأن مثله لم يقع في التنزيل.
قال: والحق لا يُستبعد، لكن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم،
أي أنهم إلى الآن لم يوفوها وسيوفّوها.
الثاني: أن تدخل على الماضي، فتقتضي جملتين، وُجدت الثانية عن
وجود
الأولى، نحو: (فلما نَجّاكُمْ إلى البر أعْرَضْتُم) .
ويقال فيها حرف وجود لوجود.
وذهب جماعة إلى أنها حينئذ ظرف بمعنى حين.
وقال ابن مالك: بمعنى إذْ، لأنها مختصة بالماضي وبالإضافة إلى
الجملة.
(2/292)
وجواب هذه يكون ماضياً كما تقدم، وجلة
اسمية بالفاء أو بإذا الفجائية، نحو: (فلما نَجَّاهُمْ إلى
الْبَرِّ فمنهم مُقْتَصِد) .
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)
.
وجوّز ابن عصفور كونه مضارعاً، نحو: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا)
.
وأوّله غَيْره بـ (جادَلَنَا) .
الثالث: أن تكون حرف استثناء، فتدخل على الاسمية والماضية،
نحو: (إنْ
كُلّ نَفْسٍ لمَا عَلَيْهَا حافِظٌ) - بالتشديد، أي (إلَّا) .
(وإنْ كلّ ذلك لما متَاع الحياة الدنيا) .
(لن) : حرف نصب ونفْي
واستقبال.
والنفي بها أبلغُ من النفي بلا، فهي ْلتأكيد النفي، كما ذكره
الزمخشري وابن الخباز، حتى قال بعضهم: إن منعه مكابرة، فهي
لنفي (إني أفعل) ، و (لا) لنفي (أفعل) ، كما في (لم) ، و (لا)
.
قال بعضهم: العرب تنفي المظنون بِلن والمشكوك بلا.
ذكره ابن الزَّملكانيّ في التبيان، وادّعى الزمخشري أيضاً أنها
لتأبيد النفي، كقوله تعالى: (لن يخْلُفوا ذُبَابا) ، (ولن
تَفْعَلوا) .
قال ابن مالك: وحمله على ذلك اعتقاده في (لن تَرَاني) أنَّ
الله لا يُرى.
وردّه غيره بأنها لو كانت للتأبيد لم يقيّد منفيها باليوم في:
(فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ، ولم يصح التوقيت
في: (لن أبْرحَ الأرض حتى يأذن لي أبي) .
(لن نَبْرَح عليه عَاكِفين حتى يرجعَ إلينا موسى) .
ولكان ذكر الأبد في: (لن يتمنَوْه أبداً) - تكرار.
والأصل عدمه.
واستفادة التأبيد في: (لن يخْلُفوا ذُبَابا) .
ونحوه، من خارج.
ووافقه على إفادة التأبيد ابن عطية.
وقال في قوله: (لن تراني) : لو أبقينا على
هذا النفي لتضمن أن موسى لا يراه أبداً ولا في الآخرة، لكن ثبت
في الحديث المتواتر أن أهل الجنة يرونه.
(2/293)
وعكس ابن الزملكاني مقالة الزمخشري، فقال
إن (لن) لنفي ما قرب وعدم
امتداد النفي، و (لا) يمتد معها النفي.
قال: وسِرّ ذلك أن الألفاظ مشاكلةٌْ للمعاني، ولأن آخرها الألف
فاللام يمكن امتداد الصوت بها بخلاف النون، فطابق كلّ لفظ
معناه.
قال: ولذلك أتى بلن حيث لم يرد به النفي مطلقاً، بل في
الدنيا حيث قال: (لن تراني) ، وبلا في قوله: (لَا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصَارُ) حيث أراد
نفي الإدراك على الإطلاق.
وهو مغَاير للرؤية.
وتَرِد للدعاء، وخرج عليه: (ربِّ بما أنعمْتَ عليَّ فَلَنْ
أكونَ ظَهيراً
للمجْرِمين) .
(لو) : حرف شرط في المضي
تصْرِف المضارعَ إليه، بعكس (إن)
الشرطية.
واختلف في إفادتها الامتناع، وكيفية إفادتها إياه على أقوال:
أحدها: أنها لا تفيده بوجه، ولا تدل على امتناع الشرط ولا
امتناع
الجواب، بل هي لمجرد رَبْطِ الجواب بالشرط دالة على التعليق في
الماضي، كما دلت إن على التعليق في المستقبل، ولم تدل بالإجماع
على امتناع ولا ثبوت.
قال ابن هشام: وهذا القول كإنكار الضروريات: إذ فَهْم الامتناع
منها
كالبديهي، فإن كل من سمع " لو فعل " فَهمَ عدم وقوع الفعل من
غير تردد، ولهذا جاز استدراكه، فتقول: لو جاء زيد لأكرمته لكنه
لم يجئ.
الثاني: وهو لسيبويه، قال: إنها حرف لِمَا سيقع لوقوع غيره، أي
تقتضي
فعلاً ماضياً كان يتوع ثبوته لثبوت غيره، والمتوقع غير واقع،
فكأنه قال:
حرف يقتضي فعلاً امتنع لامتناع ما كان يثبت لثبوته.
الثالث: وهو المشهور على ألسنة النحاة ومشى عليه المعربون -
أنها حرف
امتناع لامتناع، أي يدل على امتناع الجواب لامتناع الشرط،
فقولك: " لو جئت لأكرمتك " دالٌّ على امتناع الإكرام لامتناع
المجيء.
(2/294)
واعترض بعدم امتناع الجواب في مواضع كثيرة،
كقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ
أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) .
(ولو أسمعهم لتَولَّوْا وهم معْرِضون) ، فإن عدم النفاد عند
فَقْد ما ذكر، والتولِّي عند عدم الإسماع أولى.
الرابع: وهو لابن مالك - أنها حرف يقتضي امتناع ما يليه
واستلزامه لتاليه
من غير تعرّض لنفي التالي، قال: فقيام زيد في قولك: لو قام زيد
لقام عمرو
محكوم بانتفائه، وبكونه مستلزماً ثبوته لثبوت قيام عَمْرو.
وهل لعمرو قيام آخر غير اللازم عن قيام زيد أو ليس له، لا
تعرّض لذلك.
قال ابن هشام: وهذه أجود العبارات.
فوائد
الأولى: أخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحّاك عن ابن عباس، قال:
كل
شيء في القرآن (لو) فإنه لا يكون أبداً.
الثانية: تختص (لو) المذكورة بالفعل.
وأما نحو: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ
رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) ، فعلى
تقديره.
قال الزمخشري: وإذا أوقعت أن بعدها وجب كَوْن خبرها فعلاً،
ليكون عوضاً عن الفعل المحذوف.
وردّه ابن الحاجب بآية: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ) .
وقال: إنما ذلك إذا كان مشتقاً لا جامداً.
ورده ابن مالك بقوله:
لو أنَّ حيّاً مدرك الفلاح ... أدركه ملاعِب الرّماح
قال ابن هشام: وقد وجدث آيةً في التنزيل وقع فيها الخبر اسماً
مشتقاً ولم
ينتبه لها الزمخشري، كما لم ينتبه لآية لقمان، ولا ابن الحاجب،
وإلا لما منع ذلك، ولا ابن مالك وإلّا لما استدل بالشعر، وهي
قوله تعالى: (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي
الْأَعْرَابِ) .
(2/295)
ووجدث آيةً الخبر فيها ظرف، وهي: لَوْ
أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ) .
وردّ ذلك الزركشي في البرهان وابن الدماميني - بأنّ (لو) في
الآية الأولى
للتمني، والكلام في الامتناعية.
وأعجب من ذلك أن مقالة الزمخشري سبقه إليها السِّيرافيّ.
وهذا الاستدراك وما استدرك به منقول قديما في شرح الإيضاح لابن
الخباز، لكن في غير مظنته، فقال في باب " إنَّ وأخواتها ": قال
السِّيرافي تقول: لو أن زيدا قام لأكرمته.
ولا يجوز لو أن زيداً حاضر لأكرمته، لأنك لم تلفظ بفعل يسد
مسدَّ ذلك الفعل.
هذا كلامه.
وقد قال الله تعالى: (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا
لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ) .
فأوقع خبرها صفة، ولهم أن يفرقوا بأن هذه للتمني فأجريت مجرى
ليت، كما تقول ليتهم بادون.
انتهى كلامه.
وجواب لو إما مضارع منفي، أو ماض مثبت أو منفي بما.
والغالب على المثبت دخول اللام عليه، نحو: (لو نشاء لجعلناه
حُطَاماً) .
ومِنْ تجرده: (لو نَشاء جعلناه أجَاجاً) .
والغالب على المنفي تجرّده، نحو: (ولو شاء رَبُّكَ ما فَعَلوه)
.
الثالثة: قال الزمخشري: الفرق بين قولك: لو جاءني زيد أكرمته.
ولو زيد جاءني لكسوته، ولو أن زيداً جاءني لكسوته - أن القصد
في الأول مجرد ربط الفعلين وتعليق أحدهما بصاحبه لا غير، مِنْ
غَيْرِ تعرض لمعنى زائد على التعلق الساذج.
وفي الثاني انضم إلى التعلق أحد معنَيين، إما نَفي الشك
والشبهة، وأن المذكور مكسو لا محالة.
وإما بيان أنه هو المختص بذلك دون غيره.
ويخرّج عليه آية: (قل لو أنتم تملِكون) .
وفي الثالث مع ما في الثاني زيادة التأكيد الذي تعطيه (أن) ،
وإشعار بأن زيدا كان حقه أن يجيء وأنه بتركه المجيء قد أغفل
حظّه.
ويخرج عليه: (ولو أنهم صَبَروا) .
ونحوه، فتأمل ذلك.
وخرج عليه ما وقع في القرآن من أحد الثلاثة.
(2/296)
تنبيه:
ترد (لو) شرطية في المستقبل، وهي التي يصلح موضعها إنْ، نحو:
(ولو
كَرِهَ المشركون) .
(ولو أعجبكَ حُسنُهُنَّ) .
ومصدرية، وهي التي يصلح موضعها أنَّ المفتوحة، وأكثر وقوعها
بعد
(ودَّ) ونحوه، نحو: (وَدّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم) ،
(يود أحَدهم لو يعَمَّرُ ألْفَ سنة) .
(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ
بِبَنِيهِ) .
أي يود التعمير والافتداء.
وللتمني، وهي التي يصلح موضعها ليْت، نحو: (فلو أنَّ لنا
كَرَّه فنكونَ) .
ولهذا نصب الفعل في جوابها.
والتعليل، وخرج عليه: (ولَوْ عَلَى أنفسكم) .
(لولا) على أوجه:
أحدها: أن تكون حرف امتناع لوجود، فتدخل على الجملة الاسمية
ويكون
جوابها فعلاً مقروناً باللام إن كان مثبتأ، نحو: (فلولا أنّه
كان من المسَبِّحِين.
للبث) .
ومجرداً منها إنْ كان منفياً، نحو: (لولا فَضْل اللَهِ عليكم
ورَحْمَته ما زَكَى منكم من أحدٍ أبداً) .
وإن وليها ضمير فحقّه أن يكون ضمير رَفْع، نحو: (لولا أنْتُم
لكنّا مؤمنين) .
الثاني: أن تكون بمعنى هلاّ، فهي للتحضيض والعَرْض في المضارع
أو ما في
تأويله، نحو: (لولا تستغفِرونَ اللهَ لعلّكم ترْحَفون) .
(لولا أخَّرْتَني إلى أجَلٍ قَرِيب) .
وللتوبيخ والتنديم في الماضي، نحو: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) ، (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً) .
(2/297)
(ولولا إذ سمِعْتُموه قلْتُم) .
(فلولا إذ جاءهم بَأْسنَا تَضَرَّعوا) .
(فلولا إذا بلغَت الحلْقوم) .
(فلولا إنْ كُنْتُم غَيْرَ مَدِينين) .
الثالث: أن تكون للاستفهام، ذكره الهروي، وجعل منه: (لولا
أخَّرْتَني) ، (لولا أُنْزِلَ عليه مَلَك) .
والظاهر أنها فيهما بمعنى هلاّ.
الرابع: أن تكون للنفي، ذكره الهروي أيضاً، وجعل منه: (فلولا
كانت
قريةٌ آمنَتْ فنفَعها إيمانُها) ، أي فما آمنت قرية، أي أهلها
عند
مجيء العذاب فنفَعَها إيمانها.
والجمهور لم يُثبتوا ذلك، وقالوا: المراد في الآية
التوبيخ على ترك الإيمان قبل مجيء العذاب.
ويؤيِّده قراءة أبيّ: فَهَلاَّ.
والاستثناء حينئذ منقطع.
فائدة
نقِل عن الخليل أن جميع ما في القرآن من (لولا) فهي بمعنى هلا،
إلا:
(فلولا أَنه كانَ مِنَ المسَبِّحين) .
وفيه نظر لما تقدّم من الآيات.
وكذا قوله: (لولا أنْ رأى برْهَانَ رَبّه) ، (لولا) فيه
امتناعية جوابها محذوف، أي لهَمَّ بها، أو لواقعها.
وقوله: (لولا أنْ مَنَّ اللَّهُ علينا لخسفَ بنا) .
وقوله: (لولا أنْ رَبطْنَا على قَلْبِها) ، أي لأبْدَتْ به، في
آيات أخرى.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى الْخَطْمِي، حدثنا هارون بن أبي
حاتم، حدثنا
عبد الرحمن بن أبي حماد، عن أسباط، عن السدي، عن أبي مالك،
قال: كل ما في القرآن (فلولا) فهو: (فهلاَّ) ، إلا حَرْفَين:
في يونس: (فلولا كانَتْ قريةٌ آمنَتْ فنفَعَها إيمانها) ،
يقول: فما كانت قرية.
وقوله: (فلولا أنَّه كان من المسبِّحين) .
(2/298)
وبهذا يتضح مراد الخليل، وهو أن مراده
(لولا) المقرونة بالفاء.
(لَوْمَا) : بمنزلة لولا.
قال تعالى: (لَوْمَا تَأتينا بالملائكة) .
المالقي: لم ترد إلاَّ للتحضيض.
(ليت) : حرف ينصب الاسم
ويرفع الخبر، معناه التمني.
وقال التنوخي: إنها تفيد تأكيده.
(ليس) : فعل جامد، ومن
ثَمَّ ادَّعى قوم حرفيته، ومعناه نفي مضمون
الجملة في الحال، وينفي غيره بالقرينة.
وقيل: هي لنفي الحال وغيره.
وقَوَّاة ابن الحاجب بقوله تعالى: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ
لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) ، فإنه
نفي للمستقبل.
قال ابن مالك: وترد للنفي العامّ المستغرق المراد به الجنس،
كلا التبرئة.
وهو مما يُغفل عنه، وخرَّج عليه: (ليس لهم طعامٌ إلاَّ مِنْ
ضَرِيع) .
(2/299)
|