معترك الأقران في إعجاز القرآن

 (حرف الميم)
نبينا ومولانا (محمد - صلى الله عليه وسلم -) : سمَّاه الله في القرآن بأسماء كثيرة، وقد قدمنا أن تعالى اشتق له من اسمه سبحانه نحو السبعين، واختلف هل تُحْصَى أسماؤه.
والصحيح: لا تحصى أسماء الله وأسماء رسوله، لأن كمالاتهما لا حَصْرَ لها.
ومِنْ أعظم معجزاته - صلى الله عليه وسلم - القرآن الْمعْجِز للخلْق عن الإتيان بمثله، فعلومه منه أجمع، ورثت أمته من علومه ما هو أوفر وأسطع، فأجورهم وأنوارهم مِنْ بركته - صلى الله عليه وسلم -
لامعة، وقد ستر الله عليهم ما لم يقبل من عملها، ولم تُعَاجل عصاتُها، فهم خير أمة وأقل عملاً، وصفوتهم كالملائكة، وهم ثلثا أهل الجنة، ويدخل الجنة منهم سبعون ألفاً بغير حساب، ومع كل واحد منهم سبعون ألفا وثلاثة حثَيَاتٍ تفضّلاً منه وامتناناً، وهذه لا يدْرَى ما عددها، وهم أوَّلُ مَنْ يقضى لهم، ويدخل الجنة، نسأل الله بجاهه أن يهب لنا الحياة بسنته والوفاة على مِلَّته.
واعلم أن كل كمال في الخلق ظاهرًا أو باطناً فقد جمعه - صلى الله عليه وسلم - بأكمل مزيد مع ما تفرَّد به، ورؤيته - صلى الله عليه وسلم - بمنام تعريف منه تعالى بمثال له شكلٌ ولَوْنٌ وصورةٌ، والروح منزَّه عن ذلك.
وكل من تراه في المنام إنما هو مثال محسوس لا رُوحه
وجسده، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: من رآني في المنام فقد رآني، أي كأنه.
وفي رواية في الصحيح: فكأنما رآني.
فالرؤيا واسطة بينه وبين أمَّته تعريفاً منه تعالى.
قيل للأرواح قوة التشكل كالملائكة والجن بما لا يخفى، نحو: (فتمَثَّلَ لها بَشَرًا
سَوِيّا) .
وكتمثّل جبريل عليه السلام بصورة دِحْية الكلبي، وهذا
للخاصة ولغيرهم تعريف بمثال، ولا يجب العمل بمنام لعدم ضبط الرائي، ومتى

(2/300)


صدقت الرؤيا فحقّ، وحقيقة تعبيرها هو نظر في المناسبات، كتمثيل السلطان في المنام بالشمس والسبع، والوزير بالقمر لنوع مناسبة، فافهم.
فإن قلت: أين تكون روح جبريل حين يَلْقَى نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، هل في الجسد الذي يشبه دِحْيَة، أو في الجسد الذي خُلق عليه، وله ستمائة جناح، فإن كانت في الجسد الأعظم فمن الذي أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أمن جهة روحه أو من جهة جسده، وإن كانت في الجسد المشبّه بجسد دِحْية فهل يموت الجسد الذي
له ستمائة جناح كموت الأجساد التي فارقتها الأرواح، أم يبقى خالياً من الروح المنتقل منه إلى الجسد المشبه بجسد دِحْية الكلبي؟
قلت: لا يبعد أن يكون انتقالها من الجسد الأول غير موجب لموته، فيبقى.
لأن موت الأجسام بمفارقة الأرواح ليس واجباً عَقْلاً كذلك الجسد، حتى لا
ينقص من معارفه وطاعاته شيء، ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح المؤمنين إلى أجْوَافِ الطير الخضر، إذ ليس موتُ الأجساد بمفارقة الأرواح واجباً في العقل، وإنما هو بعَادة مُطَّرِدة أجراها اللهُ تعالى في أرواح بني آدم، وانتقالُ أرواح الشهداء إلى أَجواف الطير الْخُضْر مشتبه بما يقوله أهل التناسخ.
والأرواح كلّها تنتقل يوم القيامة إلى هذه الأجساد، لكنها تعظم حتى
يصير ضِرْسُ الكافر مثل أحُد، وغِلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام، ومقعده كما بين مكة إلى المدينة، وأجساد المؤمنين على هيئة جسد آدم ستون ذراعاً في السماء، فما الديار الديار، ولا الخيام الخيام.
(موسى عليه السلام) : هو ابن عِمْران بن يصْهر بن فاهث بن لاوى بن
يعقوب عليه السلام، لا خلاف في نسبه، وهو اسم سُرْياني.
وأخرج أبو الشيخ، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: إنما سمي موسى لأنه ألْقِي بين شجر وماء، فالماء بالقبطية مُو، والشجر سا.
وفي الصحيح أنه وصف بأنه آدم طوال، كأنه مِنْ رجال شنوءة.
قال الثعلبى: عاش مائة وعشرين سنة.

(2/301)


(الْمَغضُوبِ عليهم) : هم اليهود.
(ولا الضالين) : النصارى.
بهذا فسّره - صلى الله عليه وسلم -.
وسيأتي ذِكْرُ ذلك.
وتكرار (لا) في قوله: (ولا الضالين) - دليل على تغاير الطائفتين.
وإن الغضبَ صفة اليهود في مواضع من القرآن، كقوله تعالى: (وَبَاؤوا بغَضب مِنَ اللهِ) .
والضلال صفة النصارى، لاختلاف أقوالهم الفاسدة
في عيسى ابن مريم عليهما السلام، ولقول الله فيهم: (قد ضَلَّوا من قَبْلُ وأضَلوا كثيراً وضَلّوا عن سَواء السبيل) .
(مرض) : يحتمل أن يكون حقيقة، وهو الألم الذي يجدونه
من الخوف وغيره، وأن يكون مجازاً للشكّ أو الحسد.
ويقال أصل المرض الفتور، فالمرض في القَلْبِ فُتُورٌ عن الحق.
وفي الأبدان فتورُ الأعضاء.
وفي العيون فُتور عن النَّظَر.
(مَنّ) : شِبْه العَسَل.
وقيل خُبْز النَّقِيّ.
والسلوى طائر.
وقيل: إنه كان يسقط في السحر على شجَرِهم فيَجْتَنونه
ويَأْكلونه.
وقيل: المن التَّرَنْجَبِين.
والمنّ أيضاً ذِكْرُ الإنعام والعطية.
ومنه: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) .
والمنّ أيضاً: القطع.
ومنه: (لهم أجْر غَيْرُ مَمْنُون) .
(مَسْكنَة) : الفاقة، وقيل الجزية.
وقيل: المسكنة فَقْرُ النَّفْسِ، لا يوجد يهودي مُوسِر ولا فقير غنيّ النفس أبداً، وإن تعمل لإزالة ذلك عنه
(مَجُوس) : هم الذين يعبدون النارَ، ويقولون: إن الخير من النور والشرّ
من الظلمة، تعالى الله عن قولهم.
وذكر الجواليقي أنه أعجمي.
(مَتَ - صلى الله عليه وسلم -: أي ما يتمتَّع به إلى حين الموت.

(2/302)


(مَثُوبَة) : من الثواب، وهو جواب (لو أنهم) ، وإنما جاء
جوابها بجملة اسمية، وعدل عن الفعلية لما في ذلك من الدلالة على إثبات الثواب واستقراره.
وقيل الجواب محذوف.
(مَثَابة) : اسم مكان، من قولك: ثاب، إذا رجع، لأنَّ
الناس يرجعون إليه عاماً بعد عام.
ويقال: ثاب جسم فلان إذا رجع بعد نحولِه.
(مَنَاسِكَنَا) : أي شعائرنا، واحدها مَنْسِك، ومَنْسَك.
وأصل المنسك من الذّبح، ويقال: نسكت، أي ذبحت.
والنسيكة الذَّبيحة الْمتَقَرَّبُ بها إلى الله تعالى، ثم اتسعوا فيه حتى جعلوه لموضع العبادة والطاعة.
ومنه قيل للعابد: ناسك.
(مَشْعَر) : مَعْلم لتعبّد من متعبداته، وجمعه مشاعر.
والْمَشْعَر الحرام: هو مزْدلفة، ويسمى أيضاً جمع، والوقوف بها سنّة.
(مَيْسر) .: قمار، وكان ميسر العرب بالقِدَاح في لحم الْجَزُور، ثم يدخل في ذلك النَّرْد، والشِّطْرَنْج، وغيرهما.
وروي أن السائل عنه حمزة بن عبد الطلب.
(مَحِلَّه) : مَنْحره، يعني الوضع الذي يحلّ فيه نَحره.
(مَحِيض) ، وحيض واحد.
والسائل عن ذلك عبّاد بن بشر وأسَيْد بن حضَير، قَالا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألاَ نجامِع نساءَنا في الْمَحِيض
خلافاً لليهود، فأخبر الله رسوله بأنه أذًى يجْتَنَب، وعليهم اجتنابه، وقد فسر ذلك في الحديث بقوله: لتشدّ عليها إزارها وشأنك بأعلاها.
(مَنْ ذَا الذِي يقْرِضُ اللهَ) : استفهام يرادُ به الطَّلَب
والحضّ على الإنفاق.
وذكر لفظ القرض تقريبا للأفهام، لأن المنفق ينتظر
الثواب كما ينتظِر المسلف ردَّ ما أسلف.
وروي أن الآية نزلت في أبي الدَّحْدَاح
حين تصدق بحائط لم يكن له غيره.

(2/303)


(مَلَأ) : اشتقاقه من ملأت الشيء، وفلان مليء إذا كان متكثرا.
ومعنى الملأ حيثما ورد في القرآن هم الأشراف والوجوه الذين يملأون العيْن والقَلْب.
ومنه الحديث: أولئك الملَأ من قُريش.
وأما قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) - فالمراد بها رؤية قلب، وكانوا قوماً قَدْ نَالَتْهم الذِّلة من أعدائهم، فطلبوا الإذن في القتال، فلما أمروا به كرهوه.
(مَسّ) : جنون.
يقال رجل ممسوس، أي مجنون.
والمسُّ باليد أيضاً.
(موعظة) : تخويف سوء العاقبة.
والمعنى أن من أخذ الربا قبل نزول
التحريم فانتهى وتاب فله ما سلف، وأمره إلى الله.
، والضمير عائد على صاحب الربا، يعني أن الله يحكم فيه يوم القيامة فلا يؤاخذ به في الدنيا.
وقيل الضمير عائد على الربا، والمعنى أمر الربا أتى الله في تحريمه أو غير ذلك.
(مَوْلانا) : وَلِيُّنَا وناصرنا.
والولى على ثمانية أوجه: المعتِق، والْمعْتَق، والوليّ، والأوْلى بالشيء، وابن العم، والصهر، والجار، والحليف.
(أمَانيّ) : جمع أمنية، ولها ثلاثة معان: ما تتمناه النفس، والتلاوة، والكذب.
وكذلك تمنَّى لها هذه المعاني الثلاثة.
(مَآب) مرجع.
(مَفَازة) : مَنْجَاة، مَفْعلة من الفَوْز، يقال: فاز، أي نجا، والفوز أيضاً:
الظفر.
ومنه: (إنَّ للمتَّقين مَفَازا) ، يعني الجنة، لأنهم يظفرون
فيها بما يريدون.
(مَثْنَى وثُلاَث ورُبَ - صلى الله عليه وسلم -: لا ينصرف للعدل والوصف، وهي
حالٌ من (ما طاب) .
وقال ابن عطية: بدل، وهي معدولة عن أعداد مكررة.
ومعنى التكرار فيها أنَّ الخطابَ لجماعة، فيجوز لكل واحد منهم أن ينكح ما
أراد من تلك الأعداد، فتكررت الأعداد بتكرر الناس.
والمعنى انكحوا اثنين

(2/304)


أو ثلاثاً أو أربعاً.
وفي ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوّج ما زاد على الأربع.
وقال قوم: لا يعبأ بقولهم إنه يجوز الجمع بين تسع، لأن مثنى وثلاث
ورباع مجتمع منه تسعة، وهذا خطأ، لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا
الجمع.
ولو أراد الجمع لقال " تسع "، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه
وأقلّ بياناً.
وأيضاً قد انعقد الإجماع على تحريم ما زاد على الرابعة.
فإن قلت: هل الزيادة لحكمة أم لا؟
فالجواب أن الله تعالى أباح لمن تقدم من
اليهود ستا، وأباح للنصارى اثنتين، فجعل الله لهذه الأمة الأربع، لأنهم خيْر
الأمم، وخير الأمور أوساطها.
هذا لمن قَدَر على العدد، وأما من لم يقدر
فالاقتصار على الواحدة، وما ملكت اليمين أولى، رغبة في العدل، كما قال تعالى:
(ذَلِكَ أدْنَى ألاَّ تَعولوا) .
(مَقْتاً) : بغْضاً.
ومنه قوله تعالى: (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، فمقتوا أنفسهم، واعترفوا بذنوبهم.
وجعل كل واحد يلوم صاحبه، فتناديهم الملائكة وتقول: "لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ" اليوم، فقوله: لَمَقْتُ اللَّهِ - مصدرٌ مضاف إلى الفاعل، وحذف المفعول لدلالة مفعول مقتكم عليه، وقوله: (إذْ تدْعون) - ظرف للعامل فيه مقت الله من طريق المعنى، ويمتنع أن يعمل فيه من طريق قوانين النحو، لأن مقت الله مصدر، فلا يجوز أن يفصل بينه وبين بعض صلته، فيحتاج أن يقدّر للظرف عامل، وعلى هذا أجاز بعضهم الوقْف على قوله: أنفسكم، والابتداء بالظرف، وهذا ضعيف، لأن المراعى المعنى.
وقد جعل الزمخشري مَقْتَ اللهِ
عاملاً في الظرف ولم يعتبر الفصل.
وأما قوله تعالى: (إنّه كان فاحشةً ومَقْتاً وساءَ سَبِيلاً) .
فكانت العرب إذا تزوّج الرجل امرأة أبيهِ فأولدها يقولون للولد مَقْتِيّ، ولذا
زاد المقت في هذه الآية، لأن هذا المقت أقْبَح من الزنى.
(ما أصابكَ مِنْ حسنَةٍ فَمِنَ اللهِ وما أصابكَ مِنْ سيِّئةٍ فمِنْ نَفْسِك)

(2/305)


هذه الآية خطابٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به كل مخاطب على الإطلاق، فدخل فيه غيره من الناس، وفيه تأويلان:
أحدهما: نسبة الحسنة إلى الله والسيئة إلى النفس تأدباً مع الله، وإن كان كل
شيء منه في الحقيقة، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والخير كلّه بيدك، والشرّ ليس إليك ".
وأيضاً فنسبة السيئة إلى العَبْدِ لأنها بسبب ذنوبه، لقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، فإنها من العبد
بتسبّبه فيها، ومن الله بالخلقة والاختراع.
والثاني: أن هذا من كلام القوم المذكورين قبل.
والتقدير يقولون كذا، فمعناها كمعنى التي قبلها.
(ما قَد سلَف) ، المعنى إلا ما فعلتم من ذلك في الجاهلية
وانقطع بالإسلام، فقد عفا عنكم، ولا تؤاخذون به.
هذا في أرجح الأقوال.
(ما مَلكَتْ أيْمَانكم) : يريد السبايا في أشهر الأقوال.
والمعنى أن المرأة الكافرة إذا كان لها زَوْجٌ ثم سُبِيَتْ جاز لمن ملكها من المسلمين أن يطأها.
وسبب ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشاً إلى أوْطاس فأصابوا سبياً من العدوّ، ولهنّ أزواج من المشركين، فتأثَّم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مبِيحةً لذلك.
(مُدخَلاً كَرِيما) : اسم مكان، وهو هنا الجنة.
(مَغَانم) ، ومَغْنم، وغنْم: ما أصيب من أمْوَال المحاربين.
وفي هذه الآية وَعْد وتزهيد في مال من أعلنوا الإسلام.
وأما المحاربون فقد أباح الله لهذه الأمة أخْذَها.
وهي من خصائص نبيهم عليه الصلاة والسلام.
(مَوْقوتاً) : أي محدوداً بالأوقات.
وقال ابن عباس: فرضاً مفروضاً.

(2/306)


(مَرِيدًا) : يعني إبليس، ومعناه أنه قد عدم من الخير.
وظهر شرّه، من قولهم: شجرة مَرْدَاء إذا سقط ورَقها، وظهرت عيدانها.
ومنه غلام أمرد، إذا لم يكن في وجهه شَعر.
(مَحِيصا) : أي مَعْدَلا ومهرباً.
(مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) .
دخلت (من) للتبعيض رِفْقاً بالعباد، لأن الصالحات على الكمال لا يطيقها
البشر، واشترط مع فعلها الإيمان، لأنه لا يقبَل عملٌ إلا به.
(مَسِيح) - بالحاء الهملة: لقب لعيسى ابن مريم، ومعناه
الصديق، وقيل الذي لرجله أخْمَص.
وقيل الذي لا يمسح ذا عاهة إلا برئ.
وقيل الجميل.
وقيل الذي يمسح الأرْضَ، أي يقطعها.
وبالخاء المعجمة: الدجّال، لعنه الله.
وقيل بالحاء المهملة.
(موْقوذة) : هي المضروبة بعصا أو حجر وشبْه ذلك، ثم
تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة.
(مَخْمَصَةٍ) : مجاعة.
(مَكنَّاهمْ في الأَرْض) : ثَبَّتناهم فيها وملكناهم، والضمير
عائد على القَرْن، لأنه في معنى الجماعة.
(ما المسيح ابْن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسول) : في هذه الآية رَدّ على
النصارى الذين غَلوا فيه، وقالوا: إنه ابن الله.
فردَّ اللَّهُ عليهم بأنه عبده، وكلمته التي هي كنْ من غير واسطة أبٍ ولا نطفة.
(ورُوحٌ منه) ، أي ذو روح منه، فمِنْ هنا لابتداء الغاية.
والمعنى من عنده، وجعلَه من عنده، لأنه
أرسل به جبريل إلى مريم عليها السلام.
(مائدة) : هي التي عليها طعام، فإن لم يكن عليها طعام
فهي خِوَان.

(2/307)


فإن قلت: ظاهر سؤالهم نزول المائدة من عيسى عليه السلام يقتضي شكهم في قُدْرةِ اللهِ على إنزالها؟
والجواب أنهم لم يشكُّوا في قُدْرَةِ الله، لكنه بمعنى هل يفعل ربُّك هذا، وهل
تقع منه إجابة إلينا، لأن الله أثنى على الحواريّين في مواضع من كتابه، مع أن في اللفظ بشاعةً تُنْكر.
وقد قرئ: تستطيعُ ربَّك - بالنصب، أي هل تستطيع سؤال ربّك، وهذه
القراءة لا تقتضي أنهم شكّوا، وبها قرأت عائشة رضي الله عنها، وقالت: كان الحواريون أعرف بِرَبّهم من أن يقولوا: هل يستطيع ربك أن ينزِّلَ علينا مائدة من السماء، فموضع (أن) مفعول بقوله: يستطيع، على القراءة بالياء، ومفعول بالمصدر وهو السؤال المقدّر على القراءة بالتاء.
(وَمَا تأْتيهم مِنْ آيةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهم) : (مِنْ) الأولى زائدة، والثانية للتبعيض أو لبيان الجنس، وهذا الخطاب للكفار.
(مَلَكوتَ السَّمَواتِ والأرْضِ) : قال عِكْرِمة: هو الملك، ولكنّه بكلام النبطيّة ملكوت.
وقال الواسطي في الإرشاد: هو الملك بلسان
القبط، ومعناه أن الله فرج له السماوات والأرض حتى رأى ببصره الملك الأعلى والأسفل، وهذا يفتقر لصحة نَقْل.
وقيل: رأى ما يراه الناس من الملكوت، ولكنه وقع له بها من الاعتبار
والاستدلال ما لم يقَعْ لأهل زمانه.
وقيل إنما ابْتلِي بِذَبْحِ وَلَدِه، لأنه رأى في هذا الكَشْف عاصياً، فدعا الله
بهلاكه، وكذلك ثان وثالث، فقال الله: احجبوه.
وابتلاه بذبح ولده، فقال: يا ربّ صبِّرْني، فإنك ابتليتني بما لم تبتل به أحداً قبلي، فنزل عليه جبريل، وقال له: يا إبراهيم، أما تذكر يوم كَشفَ الله لك الملكوت، ودعوت على عباد الله بالهلاك، أهلكْتَ له ثلاثاً، وهو طلب منك واحداً، فقال: يا جبريل، وهل تبلغ

(2/308)


رحمته بعباده كرحمتي بولدي، فقال: الله أرحمُ بِعَبْدِه منك بولدك.
فبكى إبراهيم ففدَّاه الله بذبح عظيم (1) .
والواو والتاء في ملكوت زائدتان مثل الرَحموت من
الرحمة، والرَهبوت من الرهبة، تقول العرب رَهَبوت خَيْرٌ من رَحَموت، أي أن ترهب خير من أن ترحم.
(مَعْرُوشات) : مرفوعات على دعائم وشِبْهها.
وغير معروشات: متروكات على وجه الأرض.
وقيل: المعروشات ما غَرسه الناس في العمار.
وغير معروشات ما أنْبَتَه الله في الجبال والبراري.
(مَنْ تكون لَه عاقِبةُ الدَّارِ) : يحتمل أن تكون من
موصولة في موضع نصب على المفعولية، أو استفهامية في مَوْضِعِ رَفْع بالابتداء، والمراد بـ (عاقبة الدارِ) الآخرة، وهو الأصح، لقوله: (عُقْبَى الدَّارِ جنّات عَدْن) .
(مَكانَتِكم) : أي تمكنكم.
والأمر هنا في قوله: (اعملوا) ، للتهديد.
(مَسْفوحاً) : مصبوبا.
(مَعَايش) : بغير همز، لأنها مفاعل من العَيْش، واحدها معيشة، والأصل معيشة على مَفْعلة، وهي ما يعَاش به من النبات والحيوان وغير ذلك.
(مَذْموماً مَدْحُوراً) : من ذأمه بالهمز إذا ذمّه.
والمدحور: المطرود حيث وقع.
والمراد به إبليس لعنه الله، لأن الله أبعده.
(ما سبَقَكمْ بها مِنْ أحَدٍ مِنَ الْعَالَمين) ، أي لم يفعلها
أحد من العالمين قَبْلكم.
ومن الأولى زائدة، والثانية للتبعيض أو للجنس -.
(وَمَا كان جوابَ قَوْمِه) : يعني أنهم عدلوا عن جوابه
على كلامه إلى الأمر بإخراجه وإخراج أهله.
__________
(1) لا يخفى ما في هذا الكلام من بعد بعيد، فهو يتنافى تماما مع ما ذكره القرآن عن شخصية الخليل - عليه السلام - وأين هو من قوله تعالى على لسان الخليل - عليه السلام - (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ؟؟!!!.

(2/309)


(مَدْين) : اسم أرض قوم شُعيب، كانوا يبْخَسونَ
الكيْلَ والوَزْنَ، فبعث الله لهم شعَيباً ليَنْهاهم عن ذلك.
فإن قلت: هل المراد به الأيكة المذكورة في الشعراء، ومعناها
الغَيْضَة، ولم قال في الأعراف أخوهم كما قال في قصة نوح وحذفه من الشعراء، فدل على أنهم قبيلتان؟
والجواب أنه بُعث إلى مَدْيَن، وكان من قبيلتهم، فنسبه إلى إخوتهم، وبعث
أيضاً إلى أصحاب الأيكة، ولم يكن منهم، فلذلك لم يقل أخوهم، فكان شعيب على هذا مبعوثاً إلى القبيلتين.
وقيل: إن أصحَاب الأيكة مَدْين، ولكن قال أخوهم حين ذكرهم باسم
قبيلهم، ولم يقلْ أخوهم حين نسبَهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها، تنزيهاً لشعَيْبِ عن النسبة إليها.
وقرئ الأيكةِ بالهمز وخفض التاء مثل الذي في الحِجْرَ، و (ق) ، ومعناه الغَيْضَة كما قدمنا.
وقرئ في الشعراء بفتح اللام والتاء، فقيل: إنه مسهَّل من الهمز.
وقيل إنه اسمُ بلدهم.
ويقَوِّي هذا على القول إن هذه القراءة بفتح التاء غير منصوب، فدلّ ذلك على أنه اسم علم.
وضَعَّفَ ذلك الزمخشري، وقال: إنَّ " ليكة " اسم لا يُعْرف.
(ما قَدَرُوا اللَهَ حَقَّ قدْرِه) : أي ما عرفوه حقَّ معرفته في
اللّطْف بعباده والرحمة لهم، إِذْ أنكروا بعثةَ الرُّسل وإنزاله الكتب.
والقائلون: (ما أنْزَلَ اللهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْء) ، هم اليهود، بدليل ما
بعده، وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ورُوِي أنَّ الذي قالها منهم مالك بن الصَّيْف، فرد الله عليهم بأن ألزمهم ما
لا بد لهم من الإقرار به، وهو إنزال التوراة على موسى.
وقيل القائلون قريش وألزموا ذلك، لأنهم كانوا مقرين بالتوراة.

(2/310)


(مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) : أي أبدلنا البأساء والضراء
بالنعيم اختباراً لهم في الحالتين.
(ما وَجَدْنَا لأكْثَرِهم مِنْ عَهْد) : الضمير لأهل القرى.
والمعنى وجدناهم ناقضين العهود.
ومِصْداق ذلك أني سميتهم بشراً فتلا الاسم شر.
(مَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا) : أي ما تعيب منا إلا إيماننا بموسى.
وهذا قول السحَرة لما شاهدوا ما أعجز البشر.
وروي أنهم انطلقو إلى قبور أشياخهم يطلبون منهم تَبْيِين الحال، وقالوا لهم:
انظروا إلى العصا، فإن رأيتموها ضامرةً فاعلَموا أنها من عند الله، وإن
رأيتموها مجوّفة بعد بلعها لسحركم فليست هي من عند الله (1) .
(مَهْمَا تَأْتِنَا به مِنْ آيةٍ) : الضمير عائد على مهما، وإنما
قالوا من آية على تسمية موسى لها بآية، أو على وجه التهكم.
(مَشارِقَ الأرضِ وَمَغَارِبَها) : المراد بها مصر والشام فقط.
(ما كانوا يَعْرِشون) : أي يبنون، وقيل الكروم
وشبهها، فهو على الأوّل من العرش وعلى الثاني من العريش.
(فمثَله كمَثَلِ الْكلْب) :
المثل له أربعة معان: الشبيه والنَّظِير، ومنه المثل الضروب، وأصله من التشبيه.
ومثل الشيء حاله وصفته.
والمثل الكلام الذي يتمثّل به، ومثل الشيء بكسر الميم شبهه، والضمير عائد على الذي آتاه الله الآيات فانسلخ منها.
وقد قدمنا الخلاف فيمن نزلت.
وهذا المثل في غاية الخسّة والرداءة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لنا مثل السوء، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ".
(مَثَل القَوْمِ الذين كذَّئوا بآيَاتِنَا) ، أي صفة المكذّبين
كصفة الكلب في لهثه، أو كصفة الرجل المشبّه به، لأنهم إن أتوها لم يهتدوا.
__________
(1) كلام فيه بعد، فالسحرة بادروا بالسجود كما يفهم ذلك من تعبير القرآن بالفاء - التي تفيد الترتيب والتعقيب - في قوله تعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) .

(2/311)


وإن تركوها لم يهتدوا.
وشبّههم بالرجل، في أنهم رأوا الآيات والمعجزات فلم تنفعهم، كما أن الرجل لم ينفعه ما كان عنده من الآيات.
(مَتِين) : شديد، وسمى الله فعله بهم كَيْدا، لأنه شبيه بالكيد في أن ظاهره إحسان وباطنه خذلان.
(ما يصاحبهم مِنْ جِنَّة) : يعني بالصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فنفى عنه ما نسبه المشركون له من الجنون.
ويحتمل أن يكون قوله: (ما بصاحبهم مِنْ جِنَّة) معمولاً لقوله: (أوَلمْ
يتفَكّروا) ، فيعلموا أن ما بصاحبهم من جِنَّة.
ويحتمل أن يكون الكلام قد تَمَّ في قوله: أو لم يتفكروا، ثم ابتدأ إخباراً.
مستأنفاً بقوله: (ما بصاحبكم من جِنّة) .
والأول أحسن.
(ما خلَقَ اللَّهُ) .: عطف على الملكوت، ويعني بقوله: (مِنْ شيء) .
جميع المخلوقات، إذ جميعها دليل على وَحْدَانيَّة خالقها.
(ما رَمَيْتَ إذ رَمَيْتَ) : الخطاب بهذا لنبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنه أخذ يوم بَدْرٍ قبضةً من ترَابٍ أو حصا، ورمى بها في وجوه الكفار، فانهزموا.
وفي الآية إخبار أن ذلك من الله في الحقيقة، وأنه ليس في قدرة البشر قَتْل
من قتل، كما قال: (فَلَمْ تَقتلوهم ولكنَّ اللهَ قَتَلهم) .
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) .
في هذه الآية إكرام لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإخبار بأنهم لو آمنوا واستَغْفَروا لأمِنوا من العذاب.
قال بعض السلف: كان لنا أمانان من العذاب، وهما وجوده - صلى الله عليه وسلم -، والاستغفار.
فلما مات ذهب الأمان الواحد، وبقي الآخر.

(2/312)


وقيل الضمير في ليعذبهم للكفار، وفي: وهم يستغفرون للمؤمنين الذين كانوا
بين أظْهرِهم.
فعليك بكثرة الاستغفار تُمَحَى صحيفتك من الأوزار.
قال - صلى الله عليه وسلم -: طُوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً.
وفي الأحاديث القدسية: يقول الله تعالى فيمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا: امْحوا لعَبْدِي ما بين طرفي الصحيفة.
(وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) : المعنى أي شيء يمنعهم من
العذاب وهم يصدّون المؤمنين عن المسجد الحرام، والجملة في موضع الحال.
(مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ) : الضمير للمسجد الحرام، أو لله.
(ما كانَ صَلاَتُهم عِنْدَ البيت) : قد قدمنا في حرف التاء
معنى هذه الآية، والضمير عائد على قريش.
(مَضَتْ سنَّة الأوّلين) : تهديد بما جرى لهم يوم بدر، أو بما جرى للأمم السالفة.
(غَنِمْتم مِنْ شَيْءٍ) : لفظه عام، يراد به الخصوص، لأن
الأموال التي تؤخذ من الكفَّار منها ما يخْمَس، وهو ما أخذ على وجه الغَلَبة بعد القتال، ومنها ما لا يخْمس، بل يكون جميعه لمن أخذه، وهو ما أخذه مَنْ كان ببلاد الحرب من غير إيجاف، وما طرحه العدوّ خوف الغرق، ومنها ما يكون جميعه للإمام يأخذ منه حاجته ويصرف سائره في مصالح المسلمين، وهو الفيء الذي لم يوجف عليه بِخَيْلٍ ولا رِكاب.
(ما أنزلنا على عَبْدِنا يوم الفرْقَان يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَان) .
يعني بالعبد نبينا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وَالذي أنْزِل عليه: القرآن والنصر.
والمراد بالفرقان التفرقة بين الحقّ والباطل.
والجَمْعَان يعني به المسلمين والكفار.
(مَنَامِكَ) : نومك، كقوله: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) .
والخطاب بها لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قد رأى

(2/313)


الكفارَ في نومه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فقويت نفوسهم.
ويقال منامك عيْنك، لأن العيْنَ موضع النوم.
(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) : لما أخذ - صلى الله عليه وسلم -
الأَسرى يوم بَدْر أشار أبو بكر الصديق بحياتهم، وأشار عمر بقَتْلهم، فنزلت
الآية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لو نزل عذاب ما نجا منه غيرك يا عمر.
(ما كان للمشركين أنْ يَعْمُروا مساجدَ اللهِ) : أي ليس لهم
ذلك بالحق الواجب، وإن كانوا قد عمروها تغليباً وظلْماً.
ومن قرأ مساجد - بالجمع - أراد جميع المساجد.
ومن قرأ مسجد - بالإفراد - أراد المسجد الحرام.
(ما لكم إذا قيل لكم انْفِرُوا في سبيل الله) : هذه الآية
عتاب لمن تخلَّفَ عن غَزْوَة تَبوك.
(مَرْصَد) : طريق، والجمع مَرَاصد.
(ما زادوكم إلاَّ خَبَالاً) : أي شَرّاً وفساداً.
والضمير راجع لعبد الله بن أبيّ بن سَلُول، والجدّ بن قيس، وأصحابهما.
(مع الْقَاعِدِين) : مع النساء والصبيان وأهل الأعذار، وفي
ذلك ذمّ لهم لاختلاطهم في القعود مع هؤلاء.
(ما منَعهم أنْ تقْبَلَ منهم نَفَقَاتهم إلاَّ أنهم كَفَرُوا باللهِ وبرسوله) ، تعليل لعدم قَبُول نفقاتهم بكفرهم.
ويحتمل أن يكون (أنهم كفروا) فاعل ما منعهم، أو في موضع المفعول من أجله، والعامل (الله) .
(مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا) : أي ما يلجأون إليه من
المواضع، ومغارات في الجبال، ووَزْن مدّخل مفتعل من الدخول، ومعناه
(سَرَباً في الأرض.
(ما على المحسنين مِنْ سَبِيل) : وصفهم بالمحسنين، لأنهم
نصحوا الله ورسوله، ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم.

(2/314)


(مَرَدوا على النفَاق) : أي أقاموا عليه.
(ما كان للنبي والذِين آمَنوا أن يَستَغْفِرُوا للمشركين) .
نزلت في شأن أبي طالب لا امتنع من الإيمان عند موته.
قال - صلى الله عليه وسلم -: والله لأستغفرنَّ لك
ما لم أنْهَ عنك، فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية.
وقيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذن ربَّه في أن يستغفر لأمِّه، فنزلت الآية.
وهذا القول يردّه حكاية السهيلي في أن الله أحيا له أباه وأمه، فأسلما.
وأما أبو طالب فالاعتقاد أن الله خفَّف عنه العذاب، كما صح أنه في ضَحْضَاح من نارٍ لِذبهِ عنه - صلى الله عليه وسلم - وبرِّه به.
(ما كان الله ليضِلَّ قَوْماً تعْدَ إذْ هَدَاهم) .
نزلت في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن، فخافوا على أنفسهم من ذلك، فنزلت الآية تَأنيساً لهم، أي ما كان ليؤاخذكم بذلك قبل أن يبين لكم المنع من ذلك.
(مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) : يعني تزيغ من الثبات
على الإيمان، أو عن الخروج في تلك الغَزْوَة، لما رأوْا من الضيق والمشقّة.
وفي كاد ضمير الأمر والشأن، أو ترتفع به القلوب.
(مَغْرَما) : أي تثقل عليهم الزكاة والنفقة في سبيل الله ثقلَ
المغْرم الذي ليس بحقٍّ عليه.
(مع الصادقين) : يحتمل أن يريد صِدْقَ اللسان، إذ كان
هؤلاء الثلاثة الذي تخلَّفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب، فنفعهم الله بذلك.
ويحتمل أن يكون أعلم من صدق اللسان، وهو الصدق في
الأقوال والأفعال والمقاصد والعزم، والمراد بالصادقين المهاجرين، لقول الله في الحشر: (للفقَراء المهاجرين ... إلى قوله: (أولئك هم الصادقون) .
وقد احتجَّ بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السَّقِيفة، فقال: نحن
الصادقون.
وقد أمرم الله أن تكونوا معنا، أي تابعين لنا.

(2/315)


(مع الذين أنْعم اللَّهُ عليهم ... ) الآية هذه مفسِّرة لقوله:
(صِرَاط الذين أنْعَمْتَ عليهم) .
والصدّيق فعّيل من الصدق أو من التصديق.
والمراد بها المبالغة.
والصدّيقون أرْفَع الناس درجة بعد الأنبياء.
كالغريق وصاحب الهدْم، حسبما ورد في الحديث أنهم سبعة.
(وما لكم لا تقَاتِلون في سبيل الله) : تحريض على القتال.
وما مبتدأ والجار والمجرور خبره، ولا تقاتلون في موضع الحال.
(متاعُ الدّنْيَا قَلِيل) : هذه الآية تحقير للدنيا، وفيها الردّ
على من يكرَة الموتَ، ولا يبذل نفسه في مرضاة الله وفاءً بالعهد الذي عاهد عليه الله.
(مَا لِهؤلاءِ الْقَوم) : توبيخ على قلةِ فَهْمهم.
(ما أرسلناك عليهم حَفِيظاً) : أي من أعرض عن طاعتك
يا محمد، فما أنت عَلَيْهِ حفيظ، تحفظ أعماله، بل حسابه وجزاؤه على الله.
(إنْ عليكَ إلاَّ البلاغ) .
وفي هذا متاركة وموَادعة منسوخة بالقتال.
(ما كان لأهْلِ المدينة ... ) ، الآية: عتاب لمن تخلَّف عن
غَزْوَة تَبوك من أهل يَثْرب، ومَنْ جاورها من قبائل العرب.
(ما كان المؤمنون ليَنْفِروا كافَّة) .
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في التفاوت في الخروج إلى الغَزْوِ والسرايا، أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، ولذلك
عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه، فالآية الأولى في الخروج معه - صلى الله عليه وسلم -، وهذه في السرايا التي كان يبعثها.
وقيل هى ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع، فهو دليل على أن
الجهاد فَرْض كفايةٍ لا فرض عَيْن.

(2/316)


وقيل: هي في طلب العلم على البعض، لأنه فرض كفاية.
(ما مِنْ شَفِيِع إلاَّ مِن بعد إذْنِه) : أي لا يشفع إليه أحد إلا مِنْ بعد أنْ يأذن له في الشفاعة.
وفي هذا ردّ على المشركين الذين يزعمون أن
الأصنام تشفَع لهم.
(ما خلق الله ذلك إلا بالحقّ) ، أي بدء الخلق، وضياء
الشمس، ونور القمر، وسيره في المنازل، وجميع ما خلق إنما هو لحكلمة لا
لعَبَث.
(ما تَلَوْتُهُ عليكم) ، أي ما تلوْته إلا بمشيئة الله، لأنه من
عنده لا من عندي.
(ما لهم مِنَ اللهِ من عَاصِم) : الضمير يعود على من كسب
السيئات، يعني أنه لا يعصمهم أحد من عذاب الله.
(ما جِئْتم به السِّحْر) : ما موصولة مرفوعة بالابتداء
والسحر الخبر - وقرئ آلسِّحْر - بالاستفهام، فما على هذا استفهامية والسحر خبر ابتداء مضمَر.
(ما آمَنَ لموسَى إلا ذرّيةٌ مِنْ قَوْمِه) : الضمير عائد على
موسى، ومعنى الذرية شبّان وفتيان من بني إسرائيل آمنوا به على خوفهم من
فرعون.
وقيل: إن الضمير عائد على فرعون.
وروي في هذا أنها امرأة فرعون، وخازنه، وامرأة خازنه.
وهذا بعيد، لأن هؤلاء لا يقال لهم ذرية، ولأن الضمير ينبغي أن يعود على أقرب مذكور.
(ما اختَلَفوا حتّى جاءهم العِلْم) : قيل يريد اختلافَهم في دينهم.
وقيل اختلافهم في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(وما تغْنِي الآياتُ والنّذر عن قَوْم لا يؤمِنون) ، يعني
مَنْ قضى الله عليه أنه لا يؤمن.
وما نافية أو استفهامية يراد بها النفي.

(2/317)


(مَنْ كان يريد الحياةَ الدّنْيَا وزِينَتَها) الآية.
نزلت في الكفار الذين يريدون الدنيا ولا يريدون الآخرة، إذ هم لا يصدقون بها.
وقيل نزلت في أهل الرِّبا من المؤمنين الذين يُريدون بأعمالهم الدنيا حسبما ورد في الحديث: في الغازي والمنفق والمجاهد الذين أرادوا أن يقال ذلك لهم: أوَّل مَن تسعّر به النار.
والأول أوضح، لتقدم ذكر الكفَّار المناقضين للقرآن.
وإنما قصد بهذه الآية أولئك.
(ما كانوا يَسْتَطِيعونَ السَّمْعَ ... ) الآية.
ما نافية، والضمير للكفّار.
والمعنى وصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون، كقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) .
وقيل غير ذلك، وهو بعيد.
(مَثَل الذين ينْفِقون أموالَهم في سَبِيلِ الله) : ظاهره الجهاد.
وقد يُحْمل على جميع وجوه البِرِّ، فمثّل الله بهذه الآية أنَّ الحسنة
بسبعمائة، كما جاء في الحديث: إن رجلاً جاء بناقة فقال: هذه في سبيل الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة"
(وما أنْفَقْتمْ مِنْ نَفَقَةٍ أو نذَرْتم مِنْ نَذْرٍ فإنَّ اللهَ يَعْلَمُه) :
ذكر نوعين، وهما ما يفعله الإنسان تبرّعاً، وما يفعله بعد إلزامه لنفسه
بالنذر.
وفي قوله: (فإن اللهَ يَعْلَمه) وعْد بالثواب.
وفي قوله: (وما للظالمين مِنْ أنصار) .
وعِيد لمن يمنع الزكاة، أو ينْفِق لغير الله.
(وما تنْفِقوا مِنْ خَيْرٍ فلأنْفسكم) الآية: يعني منفعته لكم.
وقيل: إنه خبر عن الصحابة، أي أنهم لا ينفقون إلا ابتغاء وجه الله، ففيه
تزكيةٌ لهم، وشهادة بفضلهم.
وقيل: ما تنفقون نفقةً تقبل منكم إلا ابتغاء وجه الله، ففي ذلك حَضّ على
الإخلاص.

(2/318)


(مَثَلُ الفَرِيقين كالأعمى والأصَمّ والبصِير والسَّمِيع) :
شبَّه الكافر في هذه الآية بالأعمى وبالأصم.
وشبه المؤمن بالسميع وبالبصير، فهو على
هذا تمثيل للمؤمنين بمثلين.
وقيل: التقدير كالأعمى والأصم والبصير والسميع.
قالوا: ولعطف الصفات فهو على هذا تمثيل للمؤمن بمثال واحد، وهو مَنْ جمع بين السمع والبصر، وتمثيل للكافر بمثال واحد وهو من جمع بين العمى والصَّمَم.
(ما آمَنَ مَعَه إلا قليل) : قيل كانوا ثمانين.
وقيل عشرة. وقيل ثمانية.
والضمير لنوح.
فتأمّل الفعل الربّاني في طول بقائه معهم، وقلّة مَنْ آمن منهم.
(مَوْجٍ كالجِبَال) : روِي أن الماء طبق ما بين السماء
والأرض، فصار الكلُّ كالبحر.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف، وأين كان الموج
كالجبال قبل التطبيق، وقبل أن يغمر الماء الجبال.
(مَعْزِلٍ) : أي في ناحية، فناداه نوح: يا بنيّ، اركَب معنا
ولا تكن مع الكافرين، فلم يلتفت له، فنادى نوح ربه إن ابني من أهلي، وإنَّ وَعْدَك الحق، وأنت أحكم الحاكمين.
فقال: فلا تسْألْنِ ما ليس لكَ به عِلْم.
هل هو صواب أو غير صواب حتى تقف على كُنْهه.
فإن قلت: لِمَ سمّي نداؤه سؤالاً ولا سؤال فيه؟
فالجواب أنه تضمَّن
السؤال، وإن لم يصرّح به، ولما أجابه الله بقوله: إني أعظك أن تكون من الجاهلين
- بكى أربعين سنة على هذه الكلمة (1) .
فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين قوله لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تكُونَنَّ مِن الْجَاهلين) .
فالجواب أنَّ نوحا كان كبيراً ونَبِيُّنا كان شابّاً، فقال له ذلك لحداثة سنّه.
وأيضاً فنوح كان صفيّاً ومحمد حبيباً، ولإفراط المحبة
فيه تكون الغيرة عليه أعظم، ولا أحد أعظم غيرة من الله.
وينبغي أن يكون الحبيب أكثر اجتهاداً وحِرْصاً على طاعة محبوبه.
وعلى ذلك جرى الخطاب معه في القرآن (2) .
__________
(1) لا يخفى ما فيه من بعد وهو أقرب إلى الإسرائيليات. والله أعلم.
(2) قد يجاب عن ذلك بأن شدة حرص رسول (صلى الله عليه وسلم) على هداية قومه ونجاتهم من النار كانت أكثر من حرص نوح ـ عليه السلام ـ على نجاة ابنه يدل على ذلك قوله تعالى فى سورة الكهف {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) } وقوله تعالى فى سورة الشعراء {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) } والمعنى والله أعلم: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة وحزنا لعدم إيمان القوم.
وفى صعيد القيامة لا يذكر أحد أحداً وجميع الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) بما فيهم نوح ـ عليه السلام ـ يقول كل واحد منهم: نفسى نفسى ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: أمتى أمتى.
لذا كان الفرق بين خطاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقوله تعالى فى سورة الأنعام {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وخطاب نوح ـ عليه السلام ـ بقوله تعالى فى سورة هود {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) } والله أعلم. اهـ (الحاوي في تفسير القرآن) .

(2/319)


(ما جئْتَنا ببيًنةٍ) ، أي بمعجزة، وذلك كذبٌ من قول قوم
هود وجحودٌ.
أو يكون معناه تضطرنا إلى الإيمان بك، وإن كان قد أتاهم
بآية.
(ما مِن دابةٍ إلاَّ هو آخِذٌ بنَاصيتها) ، أي في قبضته، وتحت
قَهْرِه، والأخْذ بالناصية تمثيل لذلك.
وهذه الجملة تعليل لقوله: (توكَّلْتُ على الله ربي وربكم) .
(مَجِيدٌ) : هو من المجد، وهو العلو، أو الشرف، من
قولك: امْجِدْ الدابة علفاً، أي أكثر وزد.
(مَالَنَا في بنَاتِك مِن حَقّ) : هذا من قول قَوْم لوط لما
عرض بناته للزواج عليهم لِيَقِيَ أضْيافه بهنّ، فأعرضوا عنه، وقالوا لهَ: لا أرب لنا إلا في إتْيَان الرجال.
(مَنْضُود) : أي مضموم بعضه فوق بعض.
(ما هِيَ من الظالمين بِبَعِيد) : الضمير للحجارة، والمراد بالظالمين كفَّارُ قريش، فهذا تهديد لهم، أي ليس الرَّمْيُ بالحجارة ببعيد منهم لأجل كفرهم.
وقيل الضمير للمدائن، فالمعنى ليست ببعيد منهم، فلا يعتبرون بها، كقوله
تعالى: (ولقد أتَوْا عَلَى القَرْيَةِ التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْء) .
وقيل: أراد الظالمين على العموم.
(مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) :
يقال: خالفني فلان إلى كذا، إذا قصده وأنت مُوَلّ عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده.
(فما لكم في المنافقين فِئَتَيْن) :
ما استفهامية بمعنى التوبيخ،

(2/320)


والخطاب للمسلمين.
ومعنى فئتين أي طائفتين مختلفتين، وهو منصوب على الحال.
والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس إنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع
المشركين، فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم إلى الشام
بتجارات، فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغْنَمُوا تجارتهم، لأنهم لم يهاجروا، أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنون.
وقال زيد بن ثابت: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحُد.
فاختلف الصحابة في أمرهم.
ويرد هذا: حتى يهاجروا.
(مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) ، أي لا تكسبنّكم عَدَاوتي أن يصيبكم مثل عذابِ الأمم
المتقدمة، وإنما قَرُب قوم لوط منهم لأنهم كانوا أقرب الأمم الهالكة إليهم.
ويحتمل أن يريد في البلاد.
(ما أغْنَتْ عنهم آلِهتهم التي يَدْعُون من دونِ الله مِنْ شي) .
حجة على التوحيد، ونفي للشرك، لو عقلوا.
(مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) :
فيه وجهان:
أحدهما - أن يُراد بها سموات الآخرة وأرضها، وهي دائمة أبدًا.
والآخر أن يكون عبارة عن "التأبيد، كقول العرب: ما لاح كوكب، وما ناح الحمام، وشبه ذلك، مما يُقصد به الدوام.
وفي هذا الاستثناء ثلاثة أقوال:
قيل: إنه على طريق التأدّب مع الله، كقولك: إن شاء الله، وإن كان الأمر
واجباً.
وقيل المراد زمان خروج المذْنبين من النار، ويكون (الذين شَقُوا) ، على هذا يعُمُّ الكفار والمذنبين.

(2/321)


وقيل استثني مدة كونه في الدنيا وفي البرزخ.
وأما الاستثناء في أهل الجنة فيصح فيه القول الأول والثالث دون الثاني.
(مَجْذُوذ) : مقطوع.
يقال جذذت وحذَذْتُ، أي قطعت.
(ما يَعْبُدونَ إلاَّ كما يَعْبُدُ آباؤهم من قَبْلُ) ، أي هم
متَّبِعون لآبائهم تقليداً من غير برهان، كقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) .
(مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) :
أي لِمَ تخاف عليه منا.
وقرأ السبعة تَأمنّا بالإدغام والإشمام، لأن أصله بضم النون الأولى.
(ما أنْتَ بمُؤْمن لَنا) : أي بمُصَدِّق لمقالنا، ولو كنّا صادقين، فكيف وأنت تتهمنا.
وقيل: معناه لا تصدقنا ولو كُنَّا صادقين في هذه المقالة، فذلك على وجه المغالطة منهم.
والأول أظهر.
(مَثْوَاهُ) : مقامه.
(مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) : هذا من قول زليخا لما
رأت الفضيحة عكست القضية وادّعَتْ أنَّ يوسف راوَدها عن نفسها، فذكرت جزاء مَنْ فعل ذلك على العموم، ولم تصرح بذكر يوسف لدخوله في العموم، وبناء على أن الذّنْبَ ثابت عليه بدعواها لصدقها عنده.
ويحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية.
(مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) : هذا من قول
النسوة اللواتي عظَّمْنَ شأنَه وجماله حتى قطَّعن أيديهن، وهن لا يشعرن، كما
يقطع الطعام.
(رَأوُا الآياتِ) : أي الأدلة على براءته من شهادة الصبي وغير ذلك.
وضمير الجمع يعود على الزوْج والمرأة ومن تشاور معهما على ذلك.

(2/322)


(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً) .
وقع الأسماء هنا موقع المسميات.
والمعنى سميتم آلهةً ما لا يستحق الإلهية ثم عبدتموها.
(ما نَحْن بِتَأْوِيل الأحلام بعالمين) :
إما أن يريد تأويل الأحلام الباطلة، أو تأويل الأحَلام على الإطلاق، وهو أظهر.
(ما قَدَّمْتُم لَهنَّ) ، أي يأكن فيها ما اختزنتم من الطعام
في سنْبله، وإسناد الأكل إلى السنين على جهة المجاز.
(ما عَلِمْنا عليه مِنْ سوء) : هذا كلام النسوة اللاتي نزَهْنَ
يوسف عن مراودته لهن، أو لامرأة العزيز.
(مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) :
اختلف هل هذا من كلام امرأة العزيز، أو من كلام يوسف، فإن كان من كلامها فهو اعتراف بعد الاعتراف، وإن كان من كلامه فهو اعتراف بما همّ به على وجه خطوره على قلبه، لا على وجه العزم والقصد.
أو قاله في عموم الأقوال على وجه التواضع.
(ما رَحِمَ ربي) : استثناء من النفْس، إذ هي بمعنى
النفوس، أي إلا النفس المرحومة، وهي المطمئنة، فما على هذا بمعنى الذي.
ويحتمل أن تكون ظرفية، أي إلى حين رحمة الله.
(مَكين أمِين) : تأمّل حسْن السياسةِ من هذا الملك في قوله: (أَستَخْلِصه لنفسي) .
فلما كلّمه وظهَر له وفور عقله، وحسن كلامه قال له:
إنّكْ لَدَيْنَا مَكين أمين، مَكين من التمكن، والأمين من الأمانة، فهكذا ينبغي
ألاَّ يصطفي الإنسان لنفسه صاحباً إلاَّ بعد الاختبار والامتحان، إذ بعدهما يعزّ
المرء أو يهان.
يشهد لذلك الحديث: هل سافرت معه، هل بايعته، هل شاريته.
(مَكنَّا ليوسفَ في الأرض) :
إشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنْع الله به.
ورُوي أن الملكَ أسند إليه جميع الأمور حتى تغلّب على جميع

(2/323)


الأمور، وأن امرأة العزيز شابت وافتقرت فتزوَّجها يوسف.
ورد الله عليها جمالها وشبابها، وأنه باع من أهل مصر في أعوام القَحْط في السنة الأولى بالدنانير والدراهم حتى لم يَبْقَ لهم شيء منها، ثم بالحلي ثم بالدوابّ ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى تملَّكهم جميعا، ثم أعتقهم ورد أملاكهم عليهم.
تنبيه:
على قدر النعمة تكون النِّقْمة، لم يصل يوسفُ عليه السلام إلى هذا حتى
امتحن بفراق أبَوَيْه، وبالجُبِّ وبالسجن، واللوم والتعيير، فكيف تطمع باللحوق إلى منزل الكرامة الباقية دون امتحان رسول الله: بقي في السجن بقوله: اذكرني عند ربك - سبع سنين، فكيف حال مَنْ عصى مولاه سبعين سنة، فإن لم تمتحن نفسك بطاعة مولاك فلا بد لك أن تخرج من سجن الدنيا إلى ظُلمة القبر وهول المحشر وتطاير الصحف والحساب والميزان والجواز على الصراط - على مَتْنِ النار، وعليه كلاليب مثل شَوْك السَّعْدان، وكلّ مارّ عليه يذهل عن الأهل والإخوان، وكيف لا والأنبياء يقولون اللهم سلِّم سلِّم، فإن عفا عنك مولاك جعل دار كرامته مَأوَاك، وإلاَّ فتسقط فيها لأنها مَثْوَاك، وبئْس مَثْوَى المتكبرين.
اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
(مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) : ما استفهامية، ونبغي بمعنى نطلب.
والمعنى أي شيء نطلب بعد هذه الكرامة، وهي رد البضاعة مع
الطعام.
ويحتمل أن تكون ما نافية، ونبغي من البغي، أي لا نتعدى على أخينا ولا
نكذب على الملك.
(ما كان يُغْنِي عنهم مِنَ اللهِ من شيء) : جواب (لما) .
والمعنى أن ذلك لا يدفع ما قضى الله.
(ما جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الأرض) :
استشهدوا بعلمهم لما ظهر

(2/324)


من ديانتهم في دخولهم أرضهم حين كانوا يجعلون الأكمّة في أفواه إبلهم لئلا
تنال زروع الناس.
(ما كان لِيَأخُذَ أخاهُ في دِين الملِك) : في شرعه وعادته.
(مَعَاذ الله) : وعَوْذه وعياذه بمعنى واحد، أي أستجير بالله.
(ما شهدْنَا إلا بما عَلِمْنَا وما كنّا للغَيْبِ حافظين) :
أي قولنا لك إنَّ ابْنَكَ سرق إنما هي شهادة بما علمنا من ظاهر ما جرى، ولا نعلم الغيب هل ذلك حقّ في نفس الأمر أم لا، إذ يمكن أن دسُّ الصاعُ في رحله من غير علمه.
وقال الزمخشري: المعنى ما شهدنا إلا بما علمنا من سرقته وتيقنّاه، لأن
الصاع استخرج من وعائه.
(وما كُنّا للغَيْبِ حافظين) :
أي ما علمنا أنه يسرق حين أعطيناك الميثاق.
وقراءة سرق بالفتح تعضد قول الزمخشري، والقراءة بالضم
تعضد القول الأول.
(ما فَعَلْتُم بيوسفَ وأخيه) :
لما شكلوا إليه رَقَّ لهم وعرَّفهم بنفسه.
ورُوي أنه كان يكلمهم وعلى وجهه لِثَام، ثم أزال اللثام ليعرفوه، وأراد
بقوله: (ما فَعَلْتم بيوسف وأخيه) التفريق بينهما في الصغر، ومضرتهم ليوسف، وإذاية أخيه من بعده، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه.
(فلما دخلوا على يوسف) :
هنا محذوفات يدل عليها الكلام، وهي فرحل يعقوب، وترك أهله حين بلغه أمر يوسف ...
(ما كنْتَ لدَيْهم) : الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - تأكيداً لمحبته.
والضمير لإخوة يوسف.
(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) .

(2/325)


أي لا يؤمن أكثر الناس ولو حرصْتَ على إيمانهم.
ولست تسألهم أجراً على الإيمان فيثقل عليهم بحسب ذلك.
وهكذا معناه حيث وقع.
(ما يؤْمِن أكثرهم إلاَّ وهم مُشْرِكُون) :
نزلت في كفار العرب الذين يقِرّونَ بالله ويعبدون معه غيره.
وقيل في أهل الكتاب لقولهم: (عُزَير ابن الله) .
(ما أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالا) :
رد على من أنكر أن يكون النبي من البشر.
وقيل فيه إشارة إلىْ أنه لم يبعث رسولاً من النساء.
واختلف في مريم والصحيح أنها صدّيقة.
(ما كان حديثاً يُفْتَرى) :
يعني القرآن، وهذا أحد أسمائه.
قال الجاحظ: سَمَّى اللَّهُ كتابَه اسماً مخالفا لما سمى العرب كلامهم على الجملة
والتفصيل، سمى جملته قرآناً كما سموا ديواناً، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضها آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية.
وقال أبو المعالي عَزِيزي بن عبد الملك المعروف بشَيْذَلة في كتاب البرهان:
إن الله سمى القرآن بخمسة وخمسين اسماً:
كتاباً، ومبيناً في قوله: (حم والكتابِ المبِين) .
وقرآناً وكريماً في قوله: (إنه لقرآنٌ كَرِيم) .
وكلاماً: (حتى يَسْمَعَ كلاَمَ الله) .
ونوراً: (وأنزلنَا إليكم نوراً مبِينا) .
وهدى ورحمة في قوله: (وهدًى ورَحْمةً للمحْسنين) .
وفرْقاناً: (نَزَّلَ الفرْقَان على عَبْده) .

(2/326)


وشفاء: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) .
وموعظة: (قد جاءَتْكم موعظةٌ من رَبكم وشِفَاء لِمَا في الصّدور) .
وذِكْراً ومباركا: (وهذا ذكْرٌ مُبَارَك أنزلناه) .
وعَلِيًّا: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) .
وحكمة: (حِكْمَة بالغة) .
وحكيما: (تلك آيات الكتابِ الحكيمِ) .
ومهَيْمِناً ومصدّقاً: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) .
وحبْلاً: (واعتَصِموا بحَبْلِ اللهِ جميعا) .
وصِرَاطاَ مستقيما: (وَأَنّ هذا صِرَاطِي مستقيما) .
وقَيِّماً: (قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) .
وقَوْلاً وفصلاً: (إنّة لقَوْل فَصْل) .
ونَبَأ عظيما: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) .
وأحسن الحديث، ومَثَاني، ومتَشابهاً: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) .
وتنزيلاً: (وإنّه لتَنْزِيل رَبِّ العالَمِين) .
ورُوحاً: (أوْحَيْنَا إليك رُوحاً مِنْ أمْرِنا) .
ووَحْياً: (إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) .
وعربيّاً: (قرآناً عَربيّاً) .
وبصائر: (هذا بَصَائر للناس) .
وبياناً: (هذا بيان للناس) .
وعِلماً: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) .
وحقًّا: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) .

(2/327)


وهادياً: (إنَّ هذا القرآن يَهْدِي) .
وعجباً: (قرآنا عَجَبا) .
وتذكرة: (وإنّه لَتَذْكرةٌ) .
والعروة الوثقى: (فقد استَمْسكَ بالعُرْوَةِ الؤثْقى) .
وصدقاً: (والذى جاء بالصدْق) .
وعدلاً: (تَمَّتْ كَلِمة ربِّك صِدقا وعَدْلاً) .
وأمْراً: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) .
ومنادياً: (إنَّنَا سَمِعْنَا منادياً للإيمان) .
وبشرى: (هدًى وبشْرَى) .
ومَجِيداً: (بل هو قرْآنٌ مَجيد) .
وزَبوراً: (ولقَدْ كتَبْنَا في الزَّبور مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) .
وبشيراً ونذيراً: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا) .
وعزيزاً: (وإنه لَكتَابٌ عَزِيز) .
وبلاغاً: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ) .
وقَصصاً: (أحسن القصص) .
وسماه أربعةَ أسماء في آية واحدة: (في صحفٍ مكرَّمَةٍ. مرفوعة مطَهَّرة) .
فأما تسميته كتاباً فلِجَمْعِه أنواع العلوم والقصص والأخبار على أبلغ وجه.
والكتاب لغة الجمع.
والمبين، لأنه أبان الحق من الباطل، أي أظهره.
وأما القرآن فاختلف فيه، فقال جماعة: هو اسم علَم غير مشتقّ خاصّ بكلام
اللَه، فهو غير مهموز، وبه قرأ ابن كثير.
وهو مرويّ عن الشافعي.

(2/328)


وأخرج الخطيب والبيهقي وغيرهما عنه أنه كان يهمز قرأت ولا يهمز القرآن.
ويقول: القرآن اسم، وليس بمهموز، ولم يؤخذ من قرأت، ولكنه اسمٌ لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل.
وقال قوم منهم الأشعري: هو مشتقّ من قرنت الشيء بالشيء، إذا ضممت
أحدهما إلى الآخر، وسمي به لقران السور والآيات والحروف فيه.
وقال الفراء: هو مشتق من القرائن، لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضاً.
وهي قرائن.
وعلى القولين هو بلا همز ونونه أصلية.
وقال الزجاج: هذا القول سهو.
والصحيح أن ترك الهمز فيه من باب التخفيف.
ونَقْل حركة الهمز إلى الساكن قبلها.
واختلف القائلون بأنه مهموز، فقال قوم منهم الجياني: هو مصدر لقرأت.
كالرّجْحَان والغفْران، سمي به الكتاب المقروء، من باب تسمية المفعول
بالمصدر.
وقال آخرون منهم الزجاج: هو وصف على فُعْلان، وهو مشتقّ من القَرْء
بمعنى الجمع، ومنه قرأت الماء في الحوض أي جمعته.
قال أبو عبيدة: وسمي بذلك لأنه جمع السور بعضها إلى بعض.
وقال الراغب: لا يُقال لكل جَمْع قرآن، ولا لجَمْعِ كلِّ كلام قرآن، قال:
وإنما سمي قرآنا لكونه جمع ثمرات الكتب السالفة المنزلة.
وقيل: لأنه جمع أنواع العلوم كلها.
وحكى قطْرب قولاً: إنه سمِّي قرآناً لأن القارئ يظهره ويبَيِّنُه من فيه
أخْذا من قول العرب: ما قرأت الناقةُ سلّى قطّ، أي ما أسقطت ولداً، أي ما حملت.
والقرآن يلفظه القارئ من فيه ويلقيه فسمي قرآناً.
قلت: المختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي.

(2/329)


وأما الكلام فمشتق من الكلْم بمعنى التأثير، لأنه يؤثر في ذهن السامع فائدة لم
تكن عنده.
وأما النور فلأنه يدرك به غوامض الحلال والحرام.
وأما الهدى فلأن فيه الدلالة على الحق، وهو من باب إطلاق المصدر على
الفاعل مبالغة.
وأما الفرقان فلأنه فرق بين الحق والباطل.
وجّهه بذلك مجاهد، كما أخرجه ابن أبي حاتم.
وأما الشفاء فلأنه يشفي من الأمراض القلبية، كالكُفْر والجهل والغل.
والبدنية أيضاً.
وأما الذكْر فَلِمَا فيه من المواعظ وأخبار الأمم الماضية.
والذكر أيضاً الشرف، قال الله تعالى: (وإنَّه لَذِكْرٌ لَكَ ولقَوْمِك) ، أي
شرف، لأنه بلغتهم.
وأما الحكمة فلأنه نزل على القانون المعتبر من وَضعْ كل شيء في محله، أو
لأنه مشتمل على الحكمة.
وأما الحكيم فلأنه أحكمت آياته بعجيب النظم وبديع المعاني، وأحكمت عن
تطرّق التحريف والتبديل، والاختلاف والتباين.
وأما المهيمن فلأنه شاهدٌ على جميع الكتب والأمم السالفة.
وأما الحَبْل فلأنه مَنْ تمسك به وصل إلى الجنة أو الهدى.
والحبل: السبب.
وأما الصراط المستقيم فلأنه طريق إلى الجنّة قويم لا عوج فيه.
وأما المثاني فلأن فيه بيان قصص الأمم الماضية، فهو ثان لما تقدمه.
وقيل لتكرار القصص والمواعظ فيه.
وقيل: لأنه نزل مرة بالمعنى ومرة باللفظ والمعنى:
لقوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) .
حكاه الكرماني في عجائبه.

(2/330)


وأما المتشابه فلأنه يشبه بعضه بعضاً في الصدق.
وأما الرّوح فلأنه تحيى به القلوب والأنفس.
وأما الجيد فلِشَرفه.
وأما العزيز فلأنه يعزّ على مَنْ يروم معارضته.
وأما البلاغ فلأنه أبلغ به الناس ما أمروا به ونهوا عنه، أو لأن فيه بلاغاً
وكفاية عن غيره.
قال السّلَفِيّ في بعض أجزائه: سمعت أبا الكرم النحوي، سمعت أبا القاسم
التنوخي يقول، سمعت أبا الحسن الرماني يقول - وقد سئل: كل كتاب له
ترجمة، فما ترجمة كتاب الله، فقال: هذا بلاغ للناس، ولِيُنْذِزوا به.
وذكر أبو شامة وغيره في قوله تعالى: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) - أنه القرآن.
فائدة
حكى المظفري في تاريخه، قال: لما جمع أبو بكر القرآن قال: سمّوه.
فقال بعضهم: سموه إنجيلاً، فكرهوه.
وقال بعضهم: سموه السِّفْر، فكرهوه من اليهود.
فقال ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتاباً يدعونه المصحف، فسموه بذلك.
قلت: أخرج ابن أشْتَه في كتاب المصاحف من طريق عيسى بن عقبة عن ابن
شهاب، قال: لما جعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسماً.
فقال بعضهم: السِّفْر.
وقال بعضهم: المصحف، فإن الحبشة يسمونه المصحف.
وكان أبو بكر أوّل من جمع كتاب الله وسماه المصحف.
ثم أورده من طريق آخر عن ابن بريدة.
وذكر ابن الضُّرَيس وغيره، عن كعب، قال: في التوراة: يا محمد، إني منزّل عليك توراةً حديثة، تفتح أعيناً عُمْياً، وآذاناً صمًّا، وقلوباً غلْفاً.

(2/331)


وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة، قال: لما أخذ موسى الألواح قال: يا رب.
إني أجِد في الألواح أمَّة أناجِيلُهم في صدورهم، فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
ففي هذين الأثرين تسمية القرآن توراة وإنجيلاً.
ومع هذا لا يجوز الآن أن يطلق عليه ذلك.
وهذا كما سميت التوراة فرقاناً في قوله: (وإذ آتيْتَا موسى الكتابَ والفرقان) ، وسمى - صلى الله عليه وسلم - الزبور قرآناً في قوله: خفَّف
على داود القرآن.
(مَدَّ الأرض) :
يقتضي أنها بسيطة لا كرة، وهو ظاهر الشريعة، وقد يرتب لفظ المد والبسط مع التكوير، لأن كل قطعة من الأرض
ممدودة على حدتها، وإنما التكوير لجملة الأرض.
وقال الشيخ عبد الخالق:
وكنت أسمع من الشيوخ أن في الأرض خمسة أقوال: قيل كروية.
وقيل بسيطة.
وقيل: إنها شبه مكب.
وقيل بمنزلة - حَمِيلة السيف الذي يتقلد به، وإنها شبه
حلقة محيطة بهذا العالم، كإحاطة الحميلة.
وقيل شبه سمكة.
ومن أجل ذلك وضعوا الاصطرلاب الحوتي الجنوبي.
قال: والصحيح عندهم أنها كورية، وأن السماء كورية.
وقال ابن عرفة: استدلّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ الأرض بسيطة ولا دليل
له في ذلك، لأن إقليدس الهندسي قال الكرة الحقيقية لا يمكن إقامة الزوايا
والخطوط عليها بوجه، ونحن نجد الأرض تقام عليها الخطوط وغير ذلك.
ونراها مستوية، وذلك من أدل دليل على أنها وإن كانت كروية فليست كالكرة الحقيقية، بل أعلاها مستو كبعض الكُوَر التي أعلاها يكون بسيطاً مستوياً.
(مَثلاَت) :
جمع مثلة، على وزن سمرة، وهي العقوبةُ العظيمة
التي تجعل الإنسان يضرب به المثل، ولذلك وقعت الأمثال في القرآن، لأنه بالمثال يتبين الحال، أفلا يخاف الإنسان أن يحل به ما حل بمن قبله إذا فعل مثل فعله.

(2/332)


(من أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهر به) :
المعنى أن الله يسمع كل شيء، فالجهر والإسرار عنده سواء، ولذلك أتى به بعد قوله: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) .
فإن قلت: قوله تغيض الأرحام قرينة في الخصوص؟
فالجواب أنَّ الفخر والآمدي قالا: إن العامَّ إذا عقب بصنف من أصنافه
فمذهب مالك والشافعي بقاؤه على عمومه.
وقال الثوري: هو مقصور على ذلك الصنف، فقوله: (وما تغيض
الأرحام) - وإن كان لا يصدق إلا من الآدميات لا يخصِّصه.
وذكر المؤرخون أنه كان في بلد " سَلاَ " عشرة ملوك ولِدوا من بطن واحدة.
قال ابن عطية: وقع لمالك ما يدلُّ على أنَّ الحامل عنده لا تحيض.
ومذهب ابن القاسم أنها تحيض.
قيل لابن عرفة: يلزم من قولكم إنها تحيض ألا يكون
الحيض دليلاً على براءة الرَّحم، فكيف جعلتموه دليلاً على براءة الرحم في العدّة والاستبراء، فقال: إنما حكمنا بالمظنة.
فقلنا: هو مظنة لبراءة الرحم، فتخلفه في بعض الأحيان لا يقدح، كما أن الغَيْمَ وزمن الشتاء مظنّة لنزول المطر.
وقد يتخلَّف.
فإن قلت: لم قدم النقص على الزيادة؟
فالجواب لأن الأصل عدم الزيادة.
فإن قلت: (سواء) ، مصدر في الأصل، وهو خبر عن قوله:
مَنْ أسَّر القول، والمصادر لا تكون أخباراً عن الجثة، فهل هو كقولك: زيد
عدل.
قال الكوفيون: أي ذو عدل، وجعله البصريون نفس العدالة مبالغة
ومجازاً.
والجواب أنه ليس مثله، وإنما جاز الإخبار هنا لأنّه ليس خبراً عن الذات.
بل عن المجموع.
قيل لابن عرفة: هلاَّ قال سواءٌ عنده ولم يقل منكم، ليعمَّ
الكلام الإنسان والجن.
بل ذكر الجن كان يكون أوْلى، لأنهم أجهل وأشد مكراً

(2/333)


واختفاء، أو الشياطين منهم.
فقال: الجن أجسام لطيفة والإناء اللطيف الشفاف
يُرَى ما في باطنه من ظاهره بخلاف الناس، فإن أجسامهم كثيفة، فكان العلم بما في قلوبهم أبلغ، فلذلك ذكرهم ليدل ذلك على العلم بأسرار الجن من باب أحْرى.
(مسْتَخْفٍ بالليْلِ وسَارِبٌ بالنهار) .:
المسْتَخْفِي بالليل هو الذي لا يظهر.
والسارب: المنصرف في سَرْبه - بفتح السين، وقصد في هذه
الآية التسوية بينهما في اطِّلاَع الله عليهما مع تَبَاين حالهما.
وقيل: إنهما صفتان لموصوف واحد، يستخفي بالليل ويظهر بالنهار.
ويعضد هذا كونه قال: وسارب بالنهار - بعطفه عطف الصفات، ولم يقل ومَنْ هو ساربٌ بتكرار مَنْ، كما قال: (من أسَّر القول ومَنْ جهر به) ، إلا أنَّ جعلهما اثنين أرجح ليقابل من أسر القول ومن جهر به، فيكمل التقسيم إلى أربعة.
وعلى هذا يكون قوله: (وسَارِبٌ) عطف على قوله: مَنْ هو مستَخْفٍ، لا على مستخف وَحْدَه.
(معَقَبَاتٌ مِنْ بيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفه) :
أي جماعات تعتقب في حفظه وكلاءته.
وقيل: أذكار وتسبيحات ودعوات.
وردَّه ابن عرفة بأن المجموع بالألف والتاء إذا كان مكسرا يشترط فيه العقل إذا لم تكسِّرْه الرب كجماعات، ولهذا حكى الزمخشريّ فيه معاقيب.
فإن قلت: الوارد في الحديث أن الحفظة مَلك عن اليمين وملك عن الشمال
فكيف قال: من بين يديه ومن خلفه؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن من لابتداء الغاية، فينزلون من أمامه ومن خلفه لعمارة يمينه
وشماله بالحفظة الأول، ثم تصعد الحفظة الأوَل ويستقرّون هم عن يمينه وشماله.
الثاني: أن الضرر اللاحق للإنسان من أمامه وخلفه أصعب عليه وأشقُّ، فما
هو من أمامه يأتيه مصادرة وإليه يهرب.
ألا ترى قوله تعالى:

(2/334)


(قل إنَّ الْمَوْتَ الذي تَفِرّونَ منه فإنّه ملاَقِيكم) .
وما هو من خلفه يأتيه من حيث لا يشعر فحِفْظُ هاتين الجهتين آكد من غيرهما.
فإن قلت: هل هؤلاء المعقّبات للجنّ والإنس أو للإنْس خاصة؟
فالجواب أن الضمير يعود على من أسرَّ القولَ ومَنْ جهر، ومن استَخْفَى وظهر، يحفظونه من عقوبة الله إذا أذنب بدعائهم واستغفارهم.
(مَنْ في السماواتِ والأرْض) :
لا تقع (مَنْ) إلَّا عَلَى مَنْ يعقل، فهي هنا يراد بها الملائكة والإنس والجن.
(ما لهم مِن دونه مِنْ وَال) :
أي من شفيع في رفع العذاب عنهم، فهو تأسيس.
وقوله: (فلا مردّ له) ، أي لا دافع عنه
ابتداء قبل وقوعه بهم، ولا ناصر لهم يرفعه عنهم بعد وقوعه.
(مَنْ رَبّ السماواتِ والأرض) :
أمره الله أن يقول لهم هذا القول، لأنهم لا يجدون بدًّا من قولهم: الله، كما قال تعالى: (ولئن سألْتَهُمْ مَن خلقهم ليقولُنَّ الله) ، ولذا حصل تبْكِيتهم بقوله تعالى: (قل أفاتَّخَذْتم مِن دونِه أوْلياءَ) .
والمعطوف عليه مقدَّر، أي كفَرْتم فاتخذتم.
فإن قلت: لِمَ قال من دونه، وهم اتخذوهم شركاء مع الله؟
والجواب: إنا إن نظرنا إلى نفس اتخاذهم وليًّا وناصراً بالنوع فلا شك أنهم
شركاء في وصف النصرة والولاية بين الله وغيره، وإن نظرنا إلى اتخاذهم وليّا
وناصرا بالشخص فلا شك أن هذا لا يصحّ فيه الشركة.
وقد ذكر ابن التلمساني في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة أن الواحد
بالشخص لا يصح انقسامه إلى مأمور ومنهيّ، والواحد بالجنس أو النوع يصح فيه ذلك.
ومثّلَه بالسجود للهِ والسجود للصنم.
فإن قلت: لِمَ قدم المجرور على أولياء، والأصلُ تقديم المرفوع ثم المنصوب ثم
المجرور؟
والجواب لأنه أضِيفَ إلى ضمير الله.

(2/335)


فإن قلت: لم قال: (أولياء) ، ولم يقل أرباباً؟
والجواب أن الأولياء أعمُّ من الأرباب، لأن الولي والناصر قد يكون ربًّا وقد لا يكون، فهم وُبِّخوا على الوصف الأعم، وهو طلبهم النصرة من غير الله، فيلزم منه الذمّ على الوصف الأخص، وهو اتخاذهم أرباباً من دون الله من باب أحرى.
ولو قال اتخذتم من دونه أرباباً لأفاد التوبيخ على هذا الوصف الأخص، لا على ما دونه، وهو مطلق النصرة "
(ماء فسالَتْ أودِيةٌ بِقَدَرِها فاحتمل السَّيْل زَبَداً رَابِيا) :
هذا مثل ضربه الله للحقّ وأهله، والباطل وحزبه، فمثل الحقً كالماء الذي ينزل من السماء فتَسِيل به الأوْدِية، وتنتفع به الأرض، وبالذهب والفضة والحديد والصُّفْر وغيرها من المعادن التي ينتفع بها الناس.
وشبَّه الباطل في سرعة اضْمِحْلَالِه وزَواله بالزّبد.
الذي يرمي به السيْل وبزبد تلك المعادن التي يطفو
فوقها إذا اذيبت، وليس في الزَّبد منفعة، وليس له دوام.
وقال ابن العربي في قانون التأويل: ضربه الله مثلاً للحق والباطل، فإنه خلق
الماء لحياة الأبدان، كما أنزل القرآن لحياة القلوب، وضرب امتلاء الأودية بالماء مثالاً لامتلاء القلوب بالعلم، وضرب الأودية الجامعة للماء مثالاً للقلوب الجامعة للعلم.
وضرب قدر الأودية في احتمال الماء، بسعتها وضيقها، وصغرها وكبرها.
مثالاً لقَدْرِ القلوب في انشراحها وضيقها.
بالحرج، وضرب حمل السيلِ الحصيدَ والهشيم، وما يجري به ويدفعه مثلا لما يدفعه القرآن من الجهالة والزَّيْغ والشكوك
ووَساوِس الشيطان، وضرب استقرار الماء ومكثَه لانتفاع الناس به في السَّقْيِ
والزراعة مثلاً لمكث العلم واستقراره في القلوب للانتفاع به.
قال: هذا المثل الأول.
وأما الثاني فضرب المثل فما يوقد عليه النار بما في
القرآن من فائدة العلم المنتَفع به كالانتفاع بالمتاع، وكما أن النار تميّز الخبيث في هذه من الطيّب، كذلك القرآن إذا عرضت عليه العلوم يميز النافع فيها من الضار.

(2/336)


(مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) : القرابات والأرحام.
(مَنْ صَلَح مِنْ آبائهم وأزواجهم) :
ترتيب المعطوفات على حسبها في الوجود الخارجي، فوجود الأب سابق على وجود زوجك، وزَوْجك سابق على ولدك، ودخول الأنبياء الجنَّة إما لصلاحهم أو صلاح آبائهم، كما قال تعالى: (وكان أبوهمَا صالِحاً) .
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) .
أو العكس وهو أن دخول الآباء بسبب الأبناء، كما في الحديث: من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والِده يوم القيامة تاجاً أحسن من ضَوْءِ الشمس، ولذلك قال الشاطبي:
هنيئآَ مريئاً والداك عليهما ... ملابس أنوار من التاج والحلي.
(مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) :
أي لشيء يتَمتَّغ به وينفصل عنه.
وهذه الآية إشارة إلى من يعمل للدنيا ويعمل للآخرة، وإلا
فالآخرة ليست ظرفًا للدنيا بوجه.
فإذا تذكَّرَ الإنسان أيامه التي قطعها في
الشهوات ندم عليها، لأنها انقضت واضمحلّت بخلاف التي قطعها في الطاعات، فإنه يفرح بها ويتنعم إذا تذكّرها، فانظر من أي الفريقين تعدّ نفسك.
(مَثَل الجنة) :
الظاهر أن " الخبر مقدَّر، وفي الآية حذف مضافين، والتقدير مَثل الجنَّة التي وعِدَ المتَّقُون مثَل جنة تجري من تحتها الأنهار.
ورُدَّ على قائل هذا بأنه إن أراد بالثانية جنَّة الآخرة فقد شبَّه الشيء بنفسه.
ولا يصح أنها جنة الدنيا، لأن المشبه بالشيء لا يقوى قوَّته، وهنا شبه الأقْوَى بالأضعف.
وأجيب بأنه قد يكون الفَرْع أقوى من الأصل، وهو نوع من القياس.
وعند الفراء أن الخبر متأخِّر، وهو: (تجري من تحتها الأنهار) .
(مِنَ الأحزابِ مَنْ ينكر بَعْضَه) :
ذكر الإمام الفخر عن المفسرين إما أن تكون بعضا على بابها، وأن من ينكر بعضه فهو كافر.

(2/337)


وبقي عليهم أن المنطقيين قالوا إن سور القضية إن كان بعضاً ولم كان منفياً فقد يراد به العموم، ويكون بمعنى أحد، فمعناه من ينكره كله.
وقالوا: إن السالبة الكلية تناقضها موجبة جزئية.
(مآب) :
مفعل، من الأوْب وهو الرجوع، أي مرجعي في
الآخرة، أو مرجعي في التوبة.
ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال له: قل
لهم لست مكلّفاً بإيمانكم، وإنما كلّفت بالتبليغ.
فإن قلت: أمره أولاً بالعبادة، ونفي الشرك مقدم عليها، إذ لا يَعْبد إلا
مَنْ لم يشرِكْ، وقد لا يشرك ولا يعبد؟
فالجواب أن المراد بالشرك الرياء والكبر، فالمعنى أمرت أن أعبد الله عبادة
خالصة من الرياء، ولكن هذا لا يناسب السياق.
قيل: وعلى هذا يكون قوله: ولا أشرك به - حالاً، لكن نص الأكثرون على أن (لا) تخلِّص الفعل للاستقبال.
فقال تكون هذه حالاً مقدرة، كقولهم:
مررت برجل معه صقر صائداً به غدا.
وقيل في الجواب: أمرت أن أعبده عبادة لا يتخلَّلها، أو لا يعقبها، إشراك.
وقيل: قدمت العبادة لتدل على نفي الإشراك باللزوم ثم بالمطابقة، فيدل
اللفط دلالتين.
(مِنْ أطرافها) .
أي من خيارها، يعنى أن الله يقبض الخيار منها.
(مَنْ عِنْدَه عِلْم الكتابِ) :
المراد به القرآن أو اللوح المحفوظ.
واختلف مَنِ المراد به، فقيل: المراد به من أسلم من اليهود والنصارى على
العموم.
وقيل: الصحابة.
وقيل عبد اللَه بن سلام.
وردَّ بأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية، فكيف يشهد حينئذ وهو كافر.

(2/338)


وأجيب باحتمال أن تكون هذه الآية خاصة مدنية.
وقيل المراد الله تعالى، فهو الذي عنده علم الكتاب.
ويضعف هذا، لأنه عطف صفة على موصوف.
ويقوِّيه قراءة: ومِنْ عنده علم الكتاب بمن الجارّة وخَفْض عند.
(مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) .
فيها دليل على أن واضع اللغة هوَ الله تعالى.
وفيها دليل على أن حصول العلم عقيب النظر عاديّ، وليس بعقلي، إذ لو كان عقلياً للزم من البيان الهداية.
ويحتمل عدم لزومه، لأن المخاطب قد لا ينظر النَّظَرَ الموصّل للعلم.
(ما لَنَا ألاَّ نتوكَّلَ عَلَى اللهِ) ، المعنى أيّ شيء يمنعنا من
التوكّل على الله وقد هدانا سبلنا.
فإن قلت: كيف جمعه وقد تقرر غير ما مرة أن طريق الهدى واحدة حسبما
أشار إليه الزمخشري في قوله: (وجعلَ الظلماتِ والنور) ؟
والجواب أنه على التوزيع، قال تعالى: (لكلٍّ جعلنا مِنْكمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً) ، فلكل رسول طريق باعتبار شريعته وأحكامه.
فإن قلت: لم كرر الأمر بالتوكل؟
والجواب أن قوله: (وعلى الله فليتوكّلِ المؤْمنون) ، راجع إلى ما تقديم من طلب الكفَّار (بسلْطَان مبين) .
أي حجة ظاهرة، فتوكّل الرسل في ورودها على الله.
وأما قوله: (وعلى الله فليتوكل المتوكّلون) ، فهو راجع إلى
قولهم: (ولنَصْبِرَنّ على ما آذَيْتمونَا) ، أي نتوكل على الله في دفع أذاكم.
وقال الزمخشري: إن هذا الثاني بمعنى الثبوت على التوكل.
(ما هُوَ بميّت) : لا يراح بالموت، لأنه ذبح بين الجنة والنار.

(2/339)


(مثلُ الَّذِين كفَروا برَبِّهم أعْمالُهم) :
مذهب سيبويه
والفراء كقولهما في: (مثل الجنة) المتقدم آنفاً.
والمثل هنا بمعنى الشّبَه.
وقال ابن عطية: بمعنى الصفة.
ورُدَّ بأنه ليس مطلقاً، بل التي فيها غرابة، ولذلك جعلوا: لأمْرٍ مَا جدعَ قَصِير أنْفَه - مثلاً.
وذِكْر الرب تشنيع عليهم، يعني كفروا بمن أنعم عليهم ورحمهم، وشبّه أعمالهم بالرماد
لخفته وسرعة تفرقه بالريح، ولأنه لا ينبت شيئاً بخلاف التراب، وجمع الرياح
ليفيد شدة التفرق من جميع الجهات.
(ما لنا مِنْ مَحِيص) :
أي مهرب حيث وقع.
ويحتمل أن يكون مصدراً أو اسم مكان.
(مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) :
أي ما أنا بمغِيثكم وما أنتم بمغيثين لي، وإنما يقول هذا الشيطان حين يتعلّقون به ويقولون له: أنت أَغوَيْتَنا.
(مثَلاً كلمةً طيّبةً) :
ابن عباس وغيره: هي لا إله إلا الله، والشجرة الطيِّبَة هي النخلة في قول الجمهور.
واختار ابن عطية أنها شجرةٌ غير معيَّنة، إلا أنها كلّ ما اتصف بتلك الصفات.
والكلمة الخبيثة كلمة الكفر، أو كلّ كلمة قبيحة.
والشجرة الخبيثة هي الحنظلة لمرارتها.
فإن قلت: لم عبَّرَ هنا بالاسم فرفع، وقال في المؤمن: (ضرب الله مَثَلاً) ، فعَبّر بالفعل ونصب؟
فالجواب أن المؤمن له حالتان، لأنه انتقل من الكفر إلى الإيمان، والكافر له
حالة واحدة ثبت عليها، ولم ينتقل عنها، فلذلك عبّر عن مثله بالاسم.
فإن قلت: هل الشجرة الخبيثة مقصورة على الحنظل أو تطلق على كل ما
ليس لها ساق كالقثاء والثوم، وفيها منافع جَمَّة، فكيف يشبّه بها الكافر، وهو لا منفعة فيه بوجه؟

(2/340)


والجواب إنما شبّه بها من حيث أنها لا تثبت، إذ ليس لها ساق، فالتشبيه في
اضمحلال العمل الخبيث وذهابه يوم القيامة ولا يبقى إلا العمل الصالح.
(مَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رَحِيم) :
هو من قول الخليل عليه السلام، دعاء لمن عصاه بغير الكفْر، أو لمن عصاه بالكفر ثم تاب منه، وهو الذي يصح أن يدْعى له بالمغفرة، لكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان فيه - عليه السلام - من الرحمة للخَلْق وحُسْن الْخُلق.
فإن قلت: كيف يدعو بما هو مستحيل عقلاً وشرعاً، لأن النبي معصوم عن
عبادة الأصنام؟
فالجواب أنه دعا على سبيل الخضوع والتذلل والخوف، ألا ترى شعيباً لما
قالوا له: (أو لَتَعودُنَّ في مِلّتنا) ، قال (ما يكون لنا أنْ نعودَ فيها إلا أنْ يشَاءَ الله) ، فالمقام مقام خَوْف، ولو ثبتت عصمتهم فهم أولى الناس بالخوف ممن اصطفاهم.
(ما لكم مِنْ زَوَال) : هو المقسم عليه، يعني أنهم حلفوا
أنهم لا يبعثون.
(مَكْرهم لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال) :
يراد بالجبال هنا الشرائع والنبوات، شبّهت بالجبال في ثبوتها.
والمعنى تحقير مكرهم، لأنها لا تزول منه تلك الجبالُ الثابتةُ الراسخة.
وقرأ الكسائي: لَتَزُول - بفتح اللام ورفع تزول.
و (إنْ) على هذه القراءة مخفّفة من الثقيلة، واللام للتأكيد.
والمعنى تعظيم مكرهم، أي أن مكرهم من شدته بحيث تزول منه الجبال، ولكنَّ الله عَصم ووَقَى منه.
(ما نُنَزِّلُ الملائكةَ إلا بالحق) : الآية ردّت عليهم فيما اقترحوا
عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بالملائكة معه.
والمعنى أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق من الوحي والمصالح التي يريدها الله،

(2/341)


لا باقتراح مقْترح واختيار كافر معترض.
وقيل الحق هنا العذاب.
ولو أنزل اللَه الملائكة لم يؤخر عذابَ هؤلاء الكفار الذين اقترحوا نزولهم، لأن عادة الله أن مَنِ اقترح آيةً فرآها ولم يؤمن - أنه يعجَّل له العذاب، وقد علم اللَّهُ أن هؤلاء القوم يؤمن كثير منهم ويؤمن أعقابهم، فلم يفعل بهم ذلك.
(مَنْ لسْتمْ لهُ بِرَازِقين) :
يعني البهائم والحيوانات، و (مَنْ) معطوف على معايش.
وقيل على الضمير في لكم.
وهذا ضعيف في النحو، لأنه عطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، وهو قويّ في المعنى، أي جعلنا في الأرض معايش لكم وللحيوانات.
(ما ننَزّلُه إلا بقَدَرٍ مَعْلوم) :
الضمير عائد على الشيء وهو المطر، واللفظ أعمُّ من ذلك.
والمعنى أنه ما من شيء إلا نحن قادرون على إيجاده وتكوينه بمقدار محدود.
(مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) :
دليل على تحريم القنوط.
وقرئ يقنَط - بفتح النون وكسرها، وهما لغتان.
(ما خَطْبكم أيّها الْمُرْسَلون) ، أي ما شأنكم، أو بأي
شيء جئتم، والخطاب مع الملائكة الذين جاؤوا لإبراهيم عليه السلام بالبشرى.
(كما أنْزَلنَا على الْمقْتَسِمين) :
الكاف متعلقة بقوله: (أنا النًذِير الْمبين) ، أي أنْذِر قريشاً عذاباً مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين.
وقد قدمنا في حرف الهمزة معنى المقتسمين.
(مَنَافِع) : يعني شرب ألبان الأنعام، والحرث بها، وغير ذلك، وهذا فيه ترقّ وتدريج، لأن الدِّفْءَ متيسًر قريب، إذ ليس فيه إلا إزالة
صوفها ووبرها والانتفاع به، فليس عليها فيه مضَرَّة، ثم الامتنان بالمنافع أقوى منه، لأن فيه تسخيرها والحمل عليها، وهذا مما لا يقدر الإنسان على فعله لولا ما أبيح له، إذ فيه تكليف ومشقة عليها، ثم الامتنان بالأكل منها أقوى من ذلك

(2/342)


وأشد، لأن فيه ذبْحَها، وهذا لا يقدر الإنسان عليه، لأنها محترمة، فكيف
تُذْبح لولا ما أباح الله لنا ذلك.
(ما لا تعْلَمُون) :
يعني أن مخلوقات الله لا يحيط البشر بعلمها، وكل من ذكر في هذه الآية شيئاً مخصوصا، فهو على وجه المثال.
قال بعض العلماء: كنت يوماً أتصيَّد في البرية، فقامت بين يديّ هائشة عظيمة كالرحا، ولها أرجل كثيرة.
قال: فشددت عليها حتى كدت أن أدركها فانفتلت
إليَّ، وقالت بلسان طَلْق: ما تريد؟ ، ما تريد؟ فقلت لها: من أنت، فقالت: من الذين قال الله فيهم: (ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمون) ، فولّيْت عنها.
(مخْتَلِفاً ألوانُه) :
قال الزمخشري: مختلف الهيئات والمناظر.
وقال ابن عطية: أي أصنافه، كقولك: ألوان من التمر، لأن المذكورات
أصناف عدّت في النعمة والانتفاع بها على وجوه، ولا يظهر إلا من حيث تلوّنها حمرةً وصفرة وغير ذلك.
ويحتمل أن يكون تنبيهاً على اختلاف ألوانها حمرة وصفرة.
قال: والأول أبين.
وفي الآية رد على الطبائعيين، لأن أفعال الطبيعة لا تختلف، فبطل كَوْن الأرض تفعل بطبعها.
(ماءً لكم) :
يحتمل أن يتعلق بأنزل، أو يكون في موضع
خبر لشراب، أو صفة لماء، فسبحان اللطيف بعباده.
وانظر كيف قدم المجرور لشرف خَلْقها وعظمها، وقدم الزرع لعموم الحاجة إليه من الحيوان العاقل وغيره، وقدم الزيتون على التمر، لأنه مما يؤْتدَم به، فهو مكمل للقوت، والتمر مما يتفكه به، فهو تزييني، فكان أدون، لأنه زائد على القوت غير مكمل به.
وقدم التمر على العنب لأن الخطاب لأهل الحجاز، وليس بأرضهم إلا التمر، فهو عندهم أشرف من العنب، لأن محبة الإنسان لما تعاهد ورُبِّي عليه أقوى من محبته لغيره، فالترتيبُ في هذه على هذا جهة العدل.
فإن قلت: لم جمع العنب وأفرد التمر، وأفرد في الآية الأولى والأخيرة وجمع
الوسطى، وختم الأولى بالتفكير والثانية بالعقل والثالثة بالتذكير؟

(2/343)


فالجواب إنما جمع العنب لظهور الاختلاف في أنواعه، لأن منه الأبيض
والأكحل والأحمر، فالاختلافُ في أنواعه بالطعم واللَّوْن والجرم، والتمر إنما
الاختلاف في أنواعه بالطعم والجرم فقط.
وأفرد الآية الأولى لأنها تقدمتها آياتٌ سماوية، وهي أكثر من الآيات الأرضية، لخَلْق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ويقال: إنما جمع الثانية إشارة إلى أنها هي والأولى آيات.
ويحتمل أن يقَال لما كانت الثانية نعمةً سماوية وهي أشرف وأجْلَى وأظهر من
النعمة الأرضية جعل كل واحد على انفراده آيات لشهرته وظهوره، أو لأن
المذكورات أولاً راجعة إما لمجرد القوت أو لوصف النبات، وكلاهما شيء
واحد، بخلاف الثانية.
وقال في الأولى: يتفكرون، لأنها أمور عادية، إذ حصول الشراب والشجر
عن الماء أمر عادي، وقد لا يكون عنه شيء.
وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر أمر عقلي، وليس بعادي.
والثالث يقال لمن آمَنَ بالحجة والدليل بعد أن
كان نسيه فهو أمر تذكري، فلذلك قال: لقوم يذكرون.
فإن قلت: هل التذكّر والتفكر بمعنى واحد أم لا؟
والجواب أن التذكّرَ ثَانٍ عن التفكر، ولهذا اختلفوا، فذهب بعض الحكماء إلى أن العلوم كلها تذكرية، وأن النفوس كانت عالمة لكل علم، فلما خالطت الأبدان ذهب عنها ذلك، فكل ما تعلمه إنما هو تذكر لما كان وذهب.
ومذهب الجمهور أن أكثرها تفكر، وبعضها تذكّر، فالتفكر لما لم يكن
يَعْلمه، والتذكر لما علمه ونسِيَه، فلذلك جعله ثالثاً.
وقال ابن الخطيب: التفكر إعمال الفكر لطلب الفائدة، والمذكوراتُ معه
راجعةٌ لباب القوت، وكل الناس محتاج إليه، فعند ذلك يتفكرون النعم بها
فيشكرونه.
وأما الثانية فتدبرها أعْلَى رتْبَة إذ منافعها أخفى وأغمض، فيستحق
صاحبها الوصف بما هو أعلى وأغمض وهو العقل.
(مَوَاخِرَ فيه) :
جمع ماخرة: يقال مَخَرت السفينة،

(2/344)


والْمَخْر: شقّ الماء.
وقيل صَوْت جَرْي الفلك بالريح، ويترتب على هذا أن
يكون الخر من الريح.
وأن يكون من السفينة ونحوها، وهو في هذه الآية من السفن.
ويقال للسحاب بنات مَخْر تشبيهاً، إذ في جريها ذلك الصوت الذي هو
عن الريح والماء الذي في السحاب، وأمرها يشبه أمر البحر، على أن الزّجّاج قد قال: بنات الْمَخْرِ: سحائب بيضى لا ماء فيها.
وقال بعض اللغويين الْمَخْر في كلام العرب الشق، يقال مخر الماء الأرض.
قال ابن عطية: فهذا بَيِّن أن يقال فيه للفلك مَوَاخر.
وقال قوم: مَوَاخِر معناه تجيء وتذهب بريح واحدة، وهذه
الأقوال ليست تفسيرا لِلَّفْظة، وإنما أرادوا أنها مواخر بهذه الأحوال، فنصّوا
على هذه الأحوال، إذ هي موضع النعمة المعددة، إذ نفس كون الفلك ماخرة لا نعمة فيها، وإنما النعمة في مخرها بهذه الأحوال في التجارة والسفر فيها، وما يمنح الله فيها من الأرباح والمِنَن.
فإن قلت: ما فائدة تقديم المواخر في هذه الآية على آية فاطر؟
والجواب لما كان الفلك المفعول الأول لترى، ومواخرَ المفعول الثاني.
و" فيه " ظرف وحقه التأخير، والواو في ولتبتغوا للعطف على لام العلَّة في قوله: (لتأكلوا منه) - أخَّرَه ليجيء على القياس في هذه السورة.
وأما في فاطر فقدّم (فيه) لما قبله وهو قوله: (ومِنْ كلٍّ تأكلون لحما طرياً) .
فقدّم الجارّ على الفعل والفاعل والمفعول جميعاً ولم يزد الواو في (لتبتغوا) لأن اللام في (لتبتغوا) ها هنا لام العلة، وليس بعطف على شيء قبله.
وقيل في الجواب غير هذا مما يطول ذكره.
(أفَمَنْ يخْلق كمَنْ لا يَخْلق) :
تقرير يقتضي الرد على مَنْ عبد غير الله، وإنما عبَّر عنهم بمن لأن فيهم مَنْ يعقل ومَنْ لا يعقل، أو مشاكلة لقوله: (أفمن يخْلق) .
وأورد الزمخشري هنا سؤالين: أحدهما أن الأصنام لا تعقل، فهَلاَّ قيل: كما لا يخلق؟
وأجاب ابن عرفة بأنه لو عبَّر بـ (ما) لكان الإنكار عليهم بأمرين:
من حيث كونها غير عاقلة، وكونها لا تخلق، وما المقصود في
الآية إلا إنكار عبادتها من حيث كونها لا تخلق فقط.

(2/345)


وأجاب الزمخشري بأمرين:
أحدهما أمَّا أنهم سموها آلهة وعبدوها، فهو على نحو ما كانوا يعتقدون.
وردَّة ابن عرفة بأنه إقرار لهم على معتقدهم.
وأما أنهم عاملوها معاملة من يعقل فروعي فيه المشاكلة بينه وبين من يخلق.
ورَدَّه ابن عرفة بأن المشاكلة إنما تكون حيث التساوى، كقوله: (ومَكروا
وَمَكَرَ الله) .
وقوله:
قالوا اقترح شيئاً نجِدْ لك طَبْخَه ... قلت اطبخوا لي جُبَّةً وقَمِيصا
فالأول مثبت، والثاني منفي.
السؤال الثاني: أنه إنما أنكر عليهم تشبيههم من لا يخلق بمن يخلق، فكان
الأصل أن يُقال، أفمن لا يخلق كمن يخلق، لأن همزة الاستفهام إنما تدخل على المنكَر والمسؤول عنه.
وأجاب الزمخشري بجواب لا ينهض.
وأجاب ابن عرفة بجواب: إن عادتهم يجيبون بأن الإنكار إنما يكون بإفهام الخصم نقيض دَعْواه، أما إذا كان الإنكار بإلزامه عَيْنَ الدعوى فلا يصح.
وهنا لو قيل لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق لكان التشبيه راجعاً إلى نفي المساواة بينهما، وهم موافقون على ذلك، ويقولون.
(ما نعْبدهم إلاَّ ليقَرِّبونَا إلى الله زلْفَى) .
ولما قيل: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) لم يكن الإنكار راجعاً لنفي المساواة، فلم يَبْق إلا أن يراد أنَّ الله تعالى مُصِفٌ بنقيض ما اتَّصفَ به معبودهم وهو الْخَلق، فيكون المراد الإشعار بتنقيص مقصودهم، والتنقيص موجب لعدم الألوهية، فليس المراد نفي مساواة الناقص للكامل، بل إنما المراد الإشعار بتنقيص الناقص، لأنه إذا قيل لهم: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) كان الإنكار راجعا لتشبيه الخالق بمن لم يخلق، لأن تشبيهه به
يوجب تنقيص البارئ جلّ وعلا، والتنقيص موجِبٌ لعدم الألوهية.
وقد قال: (ولئن سألْتَهمْ مَنْ خلقَهمْ لَيَقولنَّ الله) ، فيستلزم نقيض
دعواهم.
(مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) :
الضمير في (يشعرون) للأصنام،

(2/346)


وفي (يُبْعَثُونَ) للكفار الذين عبدوهم، وعلى أنّه للكفّار يكون وعيداً، أي وما يشعر الكفار أيان يبعثون للعذاب.
ولو اختصر هذا المعنى لم يكن في وصفهم
بعدم الشعور فائدة، لأنَّ الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك هم في الجهل بوقت البعث، فهو أمر استأثر الله به، كما قال: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) .
وإنما نفى عنهم الشعور به.
والأنبياء قد حصل لهم الشعور به، وأعلموا بإشعار الساعة وعلامتها.
(ما كنّا نَعْمَل مِنْ سوءٍ) :
قاله الكفار على حسب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذِبٌ في نفس الأمر، أو قصدوا الكذب اعتصاماً به، كقولهم: (واللهِ رَبنَا ما كنّا مشركين) .
(مِن أوْزَارِ الَّذِينَ يضِلونَهم بغير عِلْم) :
قيل: إنَّ (من) للتبعيض.
ورُدَّ بالحديث: من عمل حسنة فله أجرها ... الخ.
وأجيب بأن الْمفضلين ترتّب على كفرهم وِزْرَان: أحدهما متَعَلّق بهم.
والآخر متعلق بمن أضلّهم.
ورده ابن عرفة بأنه إنما يتم هذا لو كانت التِّلاَوَة ومن أوزار إضلال من
اتبعهم، فتضاف الأوزار للضلال لا لهم.
والظاهر أن من للسبب، وثَمَّ معطَوف
مقدَّر، هو مفعول، أي ليحملوا أوزارهم ووزراً آخر بسبب أوزار الذين
يضلونهم.
وقال أبو حيان: إن " من " تكون بمعنى مثل، ولكنه شاذّ.
وكذلك قال: (بغير علم) حال من المفعول في يضلونهم.
وردّ بأنه حال من الفاعل، لأن العلم إنما يطلب ممن نصب نفسه منصب
المفيد، لا ممن نصبها منصب المستفيد.
قيل للقائل: الأصوب أن يكون متعلّقاً بـ يضلونهم، فقال: والباء حينئذ للمصاحبة، فلا بدّ من الحال.

(2/347)


(مِنَ القَوَاعِد) :
ما كان تحت الأرض فهو أساس، وما فوقها فهو أعمدة، وجموعهما هي القواعد.
(مِنْ فوقهم) .
يقال لما كان أعْلى فوق، ومعلوم أن السقف أعْلى، ولكن ذكر ليزِيلَ الاحتمال الذي في الخَرِّ، وأن يكون عن يمين وشمال.
أو أنهم كلما رأوا علاماتِ السقوط خرجوا، فحينئذ خَرّ عليهم، فقال: (من فوقهم) ، ليفيد أنهم تربَّصوا حتى هلكوا.
(ماذا أنزل ربّكم قالوا خَيْرا) : لما وصف مقالةَ الكفار
الذين قالوا (أساطير الأولين) ، قابل ذلك بمقالة المؤمنين، وهو
قولهم، (خيرا) .
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ للقائلين.
يريد أنه يحتمل أن يكون من كلام المحكيّ عنه.
ونظير ذلك أن يقول زيد أقول خيراً، الحمد للهِ، فتقول أنت حاكياً لكلامه: قال زيد خيراً، الحمد للَه، فهذا من كلام الحاكي، والقول محكى به الجمل والمفرد المؤدِّي معناها.
فإن قلت: لم رُفِع جواب الكافرين وهو أساطير الأولين، ونُصب جواب
المؤمنين؟
فالجواب أن قولهم خيراً منصوب بفعل مضْمَرٍ، تقديره أنزل خيراً، ففي
ذلك اعتراف بأن الله أنزله، وأساطير الأولين هو خبر ابتداء مضمر، تقديره: هو أساطير الأولين، فلم يعترفوا بأن الله أنزله، فلا وَجْهَ للنصب.
ولو كان منصوباً لكان الكلام متناقضاً، لأن قولهم أساطير الأولين يقتضي التكذيب بأن الله أنزله، والنصب بفعل مضمر يقتضي التصديق بأن الله أنزله، لأن تقديره أنزل.
فإن قلت: يلزم مثل هذا في الرفع، لأن تقديره هو أساطير الأولين، فهو
غيْرُ مطاْبق للسؤال الذي هو ماذا أنزل ربكم؟

(2/348)


فالجواب أنهم عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا: هو أساطير الأولين، ولم
ينزله الله.
(ما كانوا به يَسْتهزِئون) :
معناه حيث وقع في القرآن إحاطة العذاب بمن استهزأ به، وعلى هذا فيجب التحفّظ مِنْ أسبابه.
(ما عبدنا مِنْ دونه مِنْ شيء) :
يحتمل أنهم يقولونه في الدنيا، لأنهم قالوا: لو شاء الله ما عبدنا غيره، فردّ الله عليهم بأنه نهى عن الشرك، ولكنه قضاه على مَنْ شاء من عباده، إذْ لا يكون في ملكه إلا ما يريد.
أو يقولون ذلك في الآخرة على وجه التمني، فإن (لو) تكون للتمني، فإنهم إذا عاينوا العذاب تمنَّوْا أنْ لو عبدوه ولم يحرموا ما أحلّ الله مِنَ البَحِيرة والسائبة.
(وما أرسلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالا) :
يدلّ على تخصيص الرسالة بالرجال، وأما النبوءة فليست خاصة بهم، بل هي عامّة.
(ما هم بمعْجِزِين) :
التقدير أو يأخذهم في تقلبِهم، فهم بسبب ذلك غير معجزين، أي بمفْلِتين، لأن أخذه لهم حالةَ التقلب والتحرك مظنَّةٌ لفرارهم وهروبهم، فدخل حرف النفي، فنفي ذلك السبب المترتب على تقلبهم، أي فما يكون تقلبهم سبباً في تعجيزهم له، لأن الفاء دخلت على معنى النفي، لأنه لا يصحّ فيها السببية إلا على هذا التأويل.
(مِنْ دَابة) :
يحتمل أن يكون بيانا لما في السماوات والأرض، أو لما في الأرض.
ويراد بما في السماوات الخلْق الذي يقال له الروح غير جبريل، وهو أعظم المخلوقات المراد به في قوله تعالى: (يوم يقوم الرُّوحُ) .
(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) .
وأمّا جبريل فيقال له الروح الأمين.
وانظر هل الملائكة من الدوابّ أم لا، لكونهم ذَوِي أجنحةٍ يطيرون.
والظاهر أنهم منهم للآية: (وما مِنْ دَابةٍ في الأَرْضِ ولا طَائرٍ يَطِير) ، وعلى كل حال فالكل ساجدون

(2/349)


من عاقل وغيره، لكن سجود العاقل حقيقة وغير العاقل بمعنى التذّلّل
والانقياد، فيكون لفظ السجود للقدر المشترك بينهما وهو الخضوع والانقياد، أو يكون من باب استعمال اللفظ المشترك في مفهومَيْهِ معاً، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
ولو قال من في السماوات لم يدخل في ذلك غير العُقَلاء.
(مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) .
نكرَ النعمةَ ليدخلَ تنعيمُ الكافر، لا للتقليل، لأن عطاء الله لا يوصف
بالقلَّةِ.
وقيل الكافر غير منْعَم عليه.
وقيل منعَم عليه في الدنيا، لقول عمر:
أولئك قوم عجّلت لهم طيباتُهم في الدنيا ولا يُنعَم عليهم في الآخرة، فالنعم
الدنيوية والأخروية عامة للمؤمنين، لأن الضر نعمة من الله عليه لصبره، كما أن النعمة نعمة عليه لشكره، لكنه يتأدّبُ فلا يصرِّح بِنِسْبَةِ الشرّ إلى ربِّه، وإن علم أن الكل من عنده، ويعتقد أن نعمه فضلٌ من الله، ونقمه عدل منه، ألا تراه كيف ذكر النعمة بأنها من الله، ثم سكت عن الضر، بل وصف الإنسان بالاستغاثة والتضرّع عنده.
وفي هاتين الآيتين عتابٌ في ضمنه نَهْيٌ لمن يدعو الله
عند الضرّاء برَفْعِ الصوت ويَغْفُل عنه عند العافية.
(ما يشتَهُون) :
يعني أنهم جعلوا الذُّكُورَ من الأولاد لأنفسهم، لأنهم يشتهونهم، والبنات اللائي يكرهونهنّ لربهم حيث قالوا الملائكة بنات الله.
أو كرهوا التوحيد وجعلوا له سبحانه شريكاً، وهم يكرهون المشارك
لهم في خططهم ومنازلهم وأموالهم، أو احتقروا الرسل وهم يكرهون ذلك فيمن يرسلونه إلى أحد أن يحتقر، وعلى كلَ وقع اللوم.
وإذا كانوا هم لا يحتملون شيئاً من ذلك ولا يحبونه لأنفسهم فكيف ينسبونه لربهم، وهم مع ذلك يدَّعون أن الجنة لهم.
والعجبُ منهم ينكرون البعث رأساً.
(ما أنْزَلْنَا عليكَ الكِتَابَ إلاَّ لِتُبَيِّنَ لهم الذي اخْتَلَفُوا فيه) :
دخلت اللام على تبيّن لأنه ليس لفاعل الفعل المعلّل، لأن الإنزال من اللَه

(2/350)


والبيان من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وألزمه أبو حيان التناقض، لأن الزمخشري جعل (هدًى ورحمة) ، معطوفين على لتبيّن، ومحلّه عنده النصب، فكيف يمنع كونه مفعولاً من أجله في اللفظ، ويجعله كذلك في المعنى، وأجاب بعضهم بأنه إنما منع نَصْبَه فقط، ولا يلزم أنه لا يصحّ في المعنى إلا ما جاز النطْق به.
وابن خروف لم يشترط في المفعول من أجله أن يكون مفعولاً لفاعل الفعل المعلل.
(مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) :
قال أبو حيان: حال من ضمير (نسْقيكم) ، أي خارجاً من بين فرث ودم.
وقيل متعلق بـ (نسْقيكم) المقدر، إذ لا يتعلق مجروران بفعل واحد.
وجوّز هنا لاختلاف معناهما، لأن من الأولى للتبعيض، والثانية لابتداء الغاية.
قال الزمخشري: إذا استقر العلف في كرش البهيمة طبَخْته، فكان أسفله
فَرْثاً، وأوسطه لبنا، وأعلاه دماً، والكبد مسلطة على ذلك تقسمه، فيجري الدم في العروق، واللبن في الضروع، ويبقى الفرث في الكرش.
وردّه ابن الخطيب بأنا ما رأينا قط في كرش البهيمة المذبوحة لبناً ولا دماً.
وأجاب بعضهم عنه بأن حالة الحياة لها زيادة، ألا ترى أن الميت إذا قطع منه
لم يخرج منه دم بوجهٍ، بخلاف الحيّ، ولذلك كان الفلاسفة يشقّون جوفَ
الإنسان وهو حيّ لينظروا ما يتحرك في بطنه.
والصحيح أن الغذاء يطبخه الكرش، فيخرج منه أولاً الأجزاء الكثيفة، وهي الفرث، ويبقى دماً فيطبخه ثانية، ويخرج منه إلى الضروع الأجزاء اللطيفة وهي اللبن، ويصير الباقي دَماً صِرْفاً، فيجعله في العروق، وإنما وقع الامتنان بلبن الأنعام المنفصل عنها دون لبن المرأة المتصل بها وبعيشنا، لأن تغذي الإنسان بلبن أمِّه حالة صغره وعدم عقله، ولبن الأنعام يتغذى به صغيراً وكبيراً ويدرك منفعته.
(ما تركَ عليها من دَابّة) :
الضمير للأرض، يعني لو عاف الله عباده في الدنيا بكفرهم ومعاصيهم لأهلك الحيوانات.

(2/351)


وهذا يقتضي مؤاخذتَها بذنوب بني آدم.
وقد صح ذلك في الحديث: إن الفأرة لتهلك في جحْرها من ذنوب بني آدم.
(ما يكرهون) :
يعني البنات، وذلك أنهم كانوا يقولون
الملائكة بنات الله، فَتَبًّا لقوم كرهوا البنات وجعلوهن أرضاً والذكور سموات، جعلهم الله في كتابه سود الوجوه، وتوعدهم لما كرهوا قضاءَة بالجحيم.
(مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ) :
انتصب رزقاً، لأنه مفعول لـ (يملك) .
ويحتمل أن يكون مصدرا أو اسماً لما يرزق، فإن كان مصدراً
فإعراب " شيئاً " مفعول به، لأن الصدر ينصب المفعول.
وإن كان اسماً فإعراب "شيئاً" بدل منه.
وفي هذه الآية توبيخٌ للكفّار، وردّ عليهم في عبادتهم مَنْ لا يملِك لهم رزقاً
من السماوات والأرض شيئاً ولا يستطيعون، فَنَفْى الاستطاعة بعد نفي الملك أبلغ في الذم.
والضمير عائد على (ما) لأن المراد به الآلهة.
(مَثلاً عَبْداً مَمْلوكاً لا يَقْدِر على شَيء ومَنْ رَزَقْنَاه) :
مَنْ: هنا نكرة موصوفة، والمراد بها من هو حر قادر، كأنه قال: وحُرًّا رزقناه، ليطابِقَ عبدا - ويحتمل أن تكون موصولة، وهذه الآية مثَل لله تعالى وللأصنام، فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، واللَه تعالى له الملك وبيده الرزق، ويتصرف فيه كيف يشاء، فكيف يسوَّى بينه وبين الأصنام.
وإنما قال لا يقدر على شيء، لأن بعض العبيد يقدرون على بعض الأمور.
كالْمُكاتَب والمأذون له.
(مثَلاً رَجُلَيْن أحدُهُما أبْكمْ) :
هذه الآية كالتي قبلها في ضرب المثل، لبطلان مذاهب المشركين وإثبات التوحيد.
وقيل: إن الرجل الأبكم هو أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عَمّار بن ياسر.
والأظهرُ عدم التعيين.

(2/352)


(ما أمْرُ الساعَةِ إلا كلَمْحِ البَصَر أو هو أقْرَب) :
بيان لقدرة الله تعالى على إقامتها، وأن ذلك يسير عليه، كقوله تعالى: (ما خَلْقُكمْ ولا بَعْثكم إلاَّ كنَفْس وَاحِدَةٍ) .
وإنما أجرى الله الأطوار، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام للاعتبار، وأن عادته التدرج في الأمور.
(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) .
(مَنْ) شرطية في موضع رفع بالابتداء، وكذلك (مَنْ) في قوله: (مَنْ شَرَحَ) ، لأنه تخصيص من الأولى.
وقوله: (فعليهم غضب) - جواب عن الأولى والثانية، لأنهما بمعنى واحد، أو يكون جواباً للثانية، وجواب الأولى محذوف يدل عليه جواب الثانية.
وقيل (مَنْ كفر) بدل من الذين لا يؤمنون، أو من المبتدأ في قوله: (أولئك
هم الكاذبون) .
أو من الخبر.
(ومَنْ أُكْرهَ) ، استثناء من قوله: (مَنْ كفر) ، وذلك أنَّ قوماً ارتدُّوا عن الإسلام، فنزلت فيهم الآية، وكان فيهم مَنْ أكْرِهَ على الكفر، فنطق بكلمة الكفر، وهو يعتقد الإيمان، منهم عَمّار، وصهيب، وبلال، فعذرهم الله.
ورُوِي أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صُنع به من العذاب، وما سامح به من القول، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: كيف تجد قَلْبك، قال: أجده مطمئنا بالإيمان.
قال: فإجابتهم بلسانك لا تضرّك.
وهذا الحكم فيمن أكره على النطق بالكفر.
وأما الإكراه على كفر كالسجود لصنم، فاختلف، هل تجوز الإجابة
إليه أم لا، فأجازه الجمهور، ومنعه قوم.
وأما الإكراه على اليمين والعِتْق والطلاق فلا شيء عليه فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس.
وأما الإكراه على قتل أحد وأخذ ماله فلا تجوز الإجابة إليه.
(ما فتِنوا) - بضم الفاء قراءة الجمهور، أي عذبوا، فالآية على هذا في عمّار وشبهه من المعذَّبين على الإسلام.
وقرأ ابنُ عامر بفتح

(2/353)


الفاء، أي عذّبوا المسلمين، فالآية على هذا فيمن عذب المسلمين ثم هاجر وجاهد كالحضرمي وأشباهه.
(مَتاعٌ قَلِيل) : يعني عيشهم في الدنيا وانتفاعهم بما فعلوه
من التحليل والتحريم.
(ما قصَصْنا عليكَ مِنْ قَبْل) :
الخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ذكر له ما حرّم على المسلمين وماحرّم على اليهود، ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله، كما فعلت العرب.
والذي حرم على اليهود ما نصّ الله عليه في سورة الأنعام،: (حَرَّمْنَا كلَّ ذِي ظُفُر) .
(ما عُوقِبْتُم بِهِ) :
المعنى إنْ صنِعَ بكم صَنِيع سوء فافعلوا مثله، ولا تزيدوا عليه، والعقوبة إنما هي الثانية، وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ.
ويحتمل أن يكون عاقبتم بمعنى أصبتم عُقْبى، كقوله في الممتحنة: (فعاقَبْتُم) ، بمعنى غنمتم، فيكون في الكلام تجنيس.
وقال الجمهور: إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب لما بَقَر
المشركون بطنَه يوم أحُد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لئن أظفرني الله بهم لأمثلَنَّ بسبعين منهم، فنزلت الآية، فكفَّر - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه، وترك ما أراد من المثْلة.
ولا خلاف أن المثْلَة حرام، وقد وردت الأحاديث بذلك، ويقتضي ذلك
أنها مدنية.
ويحتمل أن تكون الآية عامة، ويكون ذكرهم لحمزة على وجه المثال.
وتكون على هذا مكية كسائر السورة.
واختلف العلماء فيمن ظلمه رجلٌ في مال ثم ائتمن الظالم المظلومَ على مال.
هل يجوز له خيانتُه في القَدْر الذي ظلمه، فأجاز ذلك قومٌ لظاهر الآية، ومنعه
قوم للحديث: أدِّ الأمانة إلى من أئتمنك ولا تَخُنْ مَن خانك.
قلت: هذا في المال، وأما عقوبة البدن فلا خلاف أنَّ العفو أفضل للآيات

(2/354)


الكثيرة، كقوله: (ولئن صبَرْتم لهو خَيْر للصابرين) .
وقوله: (فمَنْ عَفَا وأصْلَح فأجْرهُ على الله) .
والحديث: ما ازداد رجل بالعفو إلا عزا.
وفي حديث: فيقوم العافون عن الناس.
والتحريض على العفو لا يحْصى ذكره.
ويحكى عن الشيخ أبي الحسن الزبيدي رحمه الله أنه كان يوماً ببيت الأشياخ
في زاويته، وإذا به خارج هارب فارًّا بنفسه، فسئل عن ذلك، فقال: خطر لي أني لا أحلل أحداً ممن ظلمني، فتذكرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حرصا على إنقاذ رجل من أمته من النار.
قلت: وأنا أتسبب في دخولهم إليها! فخفت سقوط البيت عليَّ، فهربت.
(مع الذين اتَّقوا) :
معناه مع الذين اتقوا بمعونته ونصْرته، وهو مصدر مشتق من الوقاية، فالتاء بدل من واو، ومعناه الخوف والتزام طاعة الله، وترك معاصيه، فهو جِمَاع كل خير.
وقد ضمن الله للْمتَمَسك به الهدى، لقوله: هدًى للمتقين، والولاية لقوله:
(واللَه وليّ المتقين) .
والمحبة لقوله: (إن الله يحبّ المتّقين) والمعرفة لقوله: (إنْ تَتَّقوا الله يَجْعَلْ لكم فرْقَانا) ، والمخرج من الغَمّ، والرزق من حيث لا يحتسب، لقوله: (ومَنْ يَتَّقِ الله يجعل له مَخْرجاً. ويَرْزُقْه من حيث لا يَحْتَسب) .
وتيسير الأمور لقوله: (ومَنْ يَتَّق اللَهَ يَجْعَلْ له مِنْ أمْره يسْراً) .
وغفران الذنوب وإعظامَ الأجور، لقوله تعالى: (ومن يَتّقِ اللهَ يُكَفِّر عنه سيئاته ويعْظِمْ له أجرا) .
وتقبل الأعمال، لقوله تعالى: (إنما يتَقَبَّل اللهُ مِنَ المتقين) .
والفَلاَح لقوله تعالى: (واتقوا الله لعلكم تفْلحون) .
والبشرى لقوله: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) .
ودخول الجنة لقوله تعالى: (إنَّ للمتقين عند ربهم جنَّاتِ النَّعيم) .
والنجاة من النار، لقوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) .

(2/355)


والباعث على التقوى عشرة: خوف العقاب الدنْيَوِي، وخوف العقاب
الأخْرَوِيّ، ورجاء، الثواب الدنيوي، ورجاء الثواب الأخروي، وخوفُ
الحساب، والحياء من نظر الله، وهو مقام المراقبة، والشكر على نعمه بطاعته، والعلم لقوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) .
وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيْبة.
ودرجات التقوى خمسة: أن يتّقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام.
وأن يتَّقي المعاصي والمحرّمات، وهو مقام التوبة.
وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورعَ.
وأن يتقي المباحات، وهو مقام الزهد.
وأن يتقي حضورَ غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة.
(ما صَبْرُكَ إلا بِاللَه) :
هذا عزْم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في خاصة نفسه على الصبر.
ويروى أنه قال لأصحابه: أمَّا أنا فأصبر كما أمِرت، فماذا تصنعون، قالوا:
نصبر كما ندبنا.
ثم أخبره أنه لا يصبر إلاَّ بمعونة الله.
وقد قيل إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبْر منسوخ، وهذا إذا كان
الصبر يُرادُ به تركُ القتال، وأما إن كان الصبر يرادُ به ترك المثْلة التي فُعل مثلها بحمزة فذاك غير منسوخ.
قلت: وبالجملة فقد ورد ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً.
وذلك لعظم موقعه في الدين.
قال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر محصور في
عشرة أمثالها إلى سبعمائة إلا الصبر فإنه لا يحصر أجره، لقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) .
وقال بعضهم: الأعمال البدنية الحسنة بعشر، والمالية الحسنة بسبعين، والقلبية - وهي الصبر ونحوه - إلى غير حد.
وقد ذكر الله للصابرين ثمانية أنواع من الكرامة: أولها: المحبة، لقوله:
(واللَه يُحِبُّ الصابِرين) .
والثاني: النصرة، لقوله: (إن الله مع الصابرين) .

(2/356)


والثالث غرفات الجنة، لقوله: (يجْزَوْن الغرْفةَ بِما صَبَروا) .
والأجر الجزيل، لقوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
والأربعة الأخر المذكورة في هذه الآية: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) .
والصبر على أربعة أوجه: صبر على البلاء، وهو منع النفس عن التسخّط
والهلع والجزَع.
وصبر على النعم، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبر
بها.
وصبر على الطاعات بالمحافظة عليها.
وصبر عن المعاصي بكفِّ النفس عنها.
وفوق الصبر التسليم، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً وباطناً.
وفوق التسليم الرضا بالقضاء وهو سرور النفس بفعل الله، وهو صادر عن المحبة، إذ كل ما يفعل المحبوب محبوب.
وعَيْن الرضا عن كلّ عَيْبٍ كليلة.
(ما أنْزِل مِن قَبْلِك) :
التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل.
(ما همْ بمؤْمنين) :
هم المنافقون، وكانوا جماعة من الأوْس والخزرج، ورأْسهم عبد الله بن أبيّ، يظهرون الإسلام ويسِرُّون الكفر، ويسمى الآن من كان كذلك زِنْديقاً، وهم في الآخرة مخلَّدون في النار.
وأما الدنيا فإن لم تَقم عليهم بيِّنة فحكمهم كالمسلمين في دمائهم وأموالهم، وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان فمذهب الشافعي الاستِتَابَة وترك القتل.
ومذهب الإمام القتل دون استتابة.
فإن قلت: كيف جاء قولهم آمَنَّا جملة فعلية، و (ما هم بمؤمنين) جملة اسمية.
فهلاَّ طابقتها؟
فالجواب أن قوله: (ما هم بمؤمنين) أبلغ وأوكد ونفي الإيمان عنهم من
أن لو قال: وما آمَنوا.
فإن قيل: لم جاء قولهم (آمنا) مقيّداً بالله واليوم الآخر، وما هم بمؤمنين
مطلقاً؟

(2/357)


فالجواب أنه يحتمل الوجهين: التقييد، وترك لدلالة الأول عليه.
والإطلاق، وهو أعلم في سَلْبهم عن الإيمان.
(ما رَبِحَتْ تِجَارَتهم وما كانوا مهْتَدين) :
لما ذكر الشراء على الإطلاق ذكر ما يتبعه من الربح والخسران، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز، لأن الرابح والخاسر هو المتاجر.
قال الزمخشري: نَفَى الربح في قوله: فما ربحت، ونفى سلامة رأس المال في قوله: (وما كانوا مهْتَدِين) .
(مَثَلُهم كمَثَلِ الَّذِي اسْتَوقَد تاراً) :
أي أوقد.
وقيل طَلَب الوقود، وإن كان المثل هنا بمعنى حالهم وصفتهم فالكاف للتشبيه، وإن كان المثل بمعنى الشبه فالكاف زائدة.
فإن قيل: ما وَجْه تشبيه المنافقين بصاحب النار التي أضاءت ثم أظلمَتْ؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن منفعتهم في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وعذابهم في
الآخرة شبيه بالظلمة بعده.
الثاني: أنَّ اختفاء نورِ كفرهم كالنور وفضيحتهم بعده كالظلمة.
الثالث: أن ذلك فيمن آمن منهم، ثم كفر، فإيمانه نورٌ وكفْره بعده ظلمة.
ويرجِّح هذا قوله: ذلك بأنهم آمنوا ثم كَفَروا.
فإن قيل: لم قال: (ذهب الله بِنُورهم) ، ولم يقل ذهب اللَه
بضوئهم، مشاكلةً لقوله: فلما أضاءت؟
فالجواب أن ذهاب النور أبلغ، لأنه إذهابٌ للقليل والكثير، بخلاف الضوء
فإنما يطلق على الكثير.
(مَحَوْنَا آيةَ الليلِ وجَعَلْنَا آيةَ النّهَارِ مُبْصِرَةً) :
فيه وجهان:

(2/358)


أحدهما: أن يراد أنَّ الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية
الليل وآية النهار كقولك مسجد الجامع، أي الآية التي هي الليل، والآية التي هي النهار، ومَحْوُ آيةِ الليل على هذا كون الفَجْر لم يجْعَل له ضوء كضوء الشمس.
ومعي مبصرة: تبصر فيه الأشياء.
(ما عَلَوْا) : (ما) مفعول (لِيُتَبِّروا) ، أي ليهلكوا ما غلبوا
عليه من البلاد.
وقيل إن ما ظرفية، أي ليفسدوا مدة عُلوِّهم.
(مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) :
قيل: إنَّ هذا في حكم الدنيا، يعني أن الله لا يهلك أمةً إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسول إليهم.
وقيل: هو عامّ في الدنيا والآخرة، وإن الله لا يعذّب في الآخرة قوماً إلا
وقد أرسل إليهم رسولاً فكفروا به وعصَوه.
ويدل على ذلك قوله: (كُلَّمَا ألْقِيَ فيها فَوْجٌ سألهم خزَنَتها ألَمْ يَأتِكمْ نَذِير
قالوا بَلَى) .
ومن هذا يؤخذ حكم أهل الفترات.
واستدل أهل السنّةِ بهذه الآية على أنَّ التكليف لا يلزم العباد إلا من الشرع لا من مجرد العقل.
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) .
الآية في الكفار الذين يريدون الدنيا، ولا يؤمنون بالآخرة، على أن
لفظها أعم من ذلك.
والمعنى أن الله يعجًل لهم حظا من الدنيا بقيدين:
أحدهما تقييد المقدار المعجّل بمشيئة الله.
والآخر تقييد الشخص المعجل له بإرادة الله و (لمن نرِيد)
بدل من (له) ، وهو بدل بعض من كل.
(مَدحورا) .: مُبْعَداً مُهَاناً.
(محظوراً) : ممنوعا.
(مذموماً) ، أي يذمّه اللهُ وخيارُ عباده.

(2/359)


(مَخْذُولاً) ، أي غير منصور.
ومنه: (وإنْ يخذلكم فمَنْ ذَا الذي يَنْصُرُكم من بَعْده) .
(مَلُوما مَحْسوراً) : أي يلومك صديقك على كثرة
عطائك وإضرارك بنفسك، أو يلومك مَنْ يستحق العطاء، لأنك لا تترك ما
تعطيه، أو يلومك سائر الناس على التبذير في العطاء.
والمحسور: من قولهم:
حسره السفَر البعيد فذهب بلحمه وقُوَّته بلا انبعاث ولا نهضة، يعني أن كثرة
العطاء تقطع بك حتى لايبقى بيدك شيء.
وفي هذه الآية إشارة ٌ إلى الرفق في الأمور.
وخيْرُ الأمور أوساطها.
وما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا انتزع من شيء إلا شانه.
(مَنْ قُتِل مظلوماً فقد جعَلْنَا لِوَليِّه سُلْطانا) :
يعني من قتل بغير حق فلوليِّه - وهو ولي المقتول من سائر العصبة وليس النساء من الأولياء - القصاص من القاتل أو العفو عنه.
(مَنْصوراً) :
الضمير للمقتول أو لوليه، ونصره هو بالقصاص.
(مالَ اليتيم) :
كل متموّل، فلا يجوز الأخذ منه، وقد
ورد النهي عن قربه في مواضع من كتابه.
(مسئولاً) :
يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من الطلب، أي يُطلب منه الوفاء بالعهد.
والثاني: أن يكون المعنى يُسأل عنه يوم القيامة، هل وفَّى به أم لا.
(مَعَة آلِهَةٌ كما يَقُولون) :
الضمير يعود على كفّار العرب الذين جعلوا مع الله آلهة، فاحتجّ تعالى على وحدانيته بأنه لو كان كما يقولون لابْتَغَوْا سبيلاً إلى التقرّب إليه بعبادته وطاعته، فيكونون من جملة عباده أو لابْتَغوْا سبيلاً إلى إفساد ملكه ومعاندته في قدرته.
ومعلوم أن ذلك كله لم يكن، فلا إله إلا هو.

(2/360)


(مكروهاً) :
الإشارة إلى ما تقدم من المنهيات، من قتل النفس وغيره.
والمكروه هنا بمعنى الحرام، لا على اصطلاح الفقهاء في أن المكروه
دون الحرام.
وإعراب (مكروها) نعت لسيئة، أو بدل منها، أو خبر ثان لكان.
(مَنْ فِيهنَ) .
الضمير يعود على السماوات والأرض، ومعناها أن جميع من في السماوات والأرض يسبِّح له، من صامت وناطق.
واختلف في كيفية هذا التسبيح، فقيل: بما تدل عليه صنعتها من قدرته
وحكمته.
وقيل: إنه تسبيح حقيقة.
وهذا أرجح لقوله: (ولكن لا تفقهون تَسْبِيحَهم) .
(مَسْحُوراً) :
قيل معناه جُنَّ فسحر.
وقيل معناه ساحر.
وقيل هو من السَّحر بفتح السين، أي بشراً ذا سَحْر مثلكم، وهذا بعيد.
(مَحْذوراً) :
من الحذر، وهو الخوف.
(مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) :
الآيات هنا المراد بها ما يقترحها الكفار.
وسبب نزولها أن قريشا اقترحوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصَّفَا ذهباً، فأخبره الله أنه لم يفعل ذلك لئلا يكذِّبوا بها فيهلكوا.
وعبّر بالمنع عن ترك ذلك، (وأنْ نرْسِل) في موضع نصب.
(وأنْ كذّب) في موضع رفع.
ثم ذكر ناقة ثمود تنبيهاً على ذلك، لأنهم اقترحوها، وكانت سبب هلاكهم.
ومعنى (مبْصرةً) واضحة الدلالة.
(ما نرْسِلُ بالآياتِ إلا تَخْوِيفاً) :
إن أراد بالآيات هنا المقترحة فالمعنى أنه يُرْسل بها تخويفاً من العذاب العاجل، وهو الإهلاك، وإن أراد المعجزات غير المقترحة فالمعنى أنه يرسل بها تخويفاً من عذاب الآخرة ليراها الكافر فيؤمن.
وقيل المراد بالآيات هنا الزلازل والرعد والكسوف، وغير ذلك من المخاوف.

(2/361)


(ما جعَلْنَا الرّؤْيَا التي أرَيْنَاك إلاَّ فِتْنةً للنَّاسِ) :
اختلف فيها، فقيل: إنها الإسراء، فمَنْ قال إنه كان في اليقظة فالرؤيا بمعنى الرؤية بالعيْن.
ومن قال: إنه كان في المنام فالرؤيا منامه.
والفتنة على هذا تكذيب الكفار بذلك، وارتداد بعض المسلمين حينئذٍ.
وقيل: إنها رؤياالنبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه هزيمة الكفَّارِ وقتلهم ببَدْر.
والفتنة على هذا تكذيب قريش بذلك وسخريتهم به.
وقيل إنها رؤياه أنه يدخل مكة فعجل في سنَةِ الحديبية فرُدَّ عنها، فافتَتَن
بعض المسلمين بذلك.
وقيل: رأى في المنام أنَّ بني أمية يصعدون على منبره - صلى الله عليه وسلم - فاغتَتمَ لذلك.
(مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا) .
كان الأصل أن يقال: جزاؤهم - بصيغة الغيبة، ليرجع إلى مَنْ تَبِعك، ولكنه
ذكره بلفظ الخطاب تغليبا للمخاطب على الغائب، وليدخل إبليس معهم، لأنه المخاطب بقوله: (اذهبْ) ، بصيغة الأمر على وجه التهديد.
قال الزمخشري: ليس المراد الذهاب الذي هو ضد المجيء، وإنما معناه امض
لشأنك الذي اخترته خذلاناً له وتخلية.
ويحتمل أن يكون معناه الطرد والإبعاد.
(موفوراً) .
مكملاً، وهو مصدر في موضع الحال.
(ما يعِدهم الشيطان إلا غرورا) :
من المواعدة بشفاعة الأصنام وغير ذلك.
(مَنْ كانَ في هذه أعْمَى فهو في الآخرة أعْمَى وأضَلّ سَبِيلا) .
الإشارة بهذه إلى الدنيا، والعمى يراد به عمى القلب، يعني من كان في
الدنيا أعمى عن الهدى والصواب فهو في يوم القيامة أعمى، أي حَيْران، يئس من الخير.

(2/362)


ويحتمل أن يريد بالعمَى في الآخرة عمى البصر، كقوله: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) .
وإنما جعل الأعمى في الآخرة أضلّ سبيلاً، لأنه حينئذٍ لا ينفعه الاهتداء.
ويجوز في العمى الثاني أن يكون صفة كالأول، وأن يكون من أفعل التي للتفضيل، وهذا أقوى لقوله: (وأضلُّ سبيلا) ، فعطف أضلّ الذي هو أفعل من كذا على ما هو شبيهه.
وقال سيبويه: لا يجوز أن يقال هو أعمى من كذا، ولكن إنما يمتنع ذلك في
عمى البصر لا عمى القلب.
(ما أُوتيتمْ من العِلْمِ إلا قَليلا) :
خطاب عام لجميع الناس، لأن عِلْمَهم قليل بالنظر إلى علم الله.
وقيل خطاب لليهود خاصة.
والأول أرجح، لأن فيه إشارة إلى أنهم لا يصلون إلى العلم بالروح.
(ما منع الناسَ أنْ يُؤمنوا) .:
يعني أنه ما منع الناس من الإيمان إلا إنكارهم لبعث الرسول من البشر.
وقد قدمنا معارضة هذه الآية للتي بعدها في سورة الكهف.
(ماكِثينَ فيه أبداً) .
أي دائمين، وانتصابه على الحال من الضمير في (لهم) .
(ما لَهمْ بهِ مِنْ عِلْم) :
الضمير عائد على قولهم: (اتخذ الله ولَداً) .
(ما على الأرضِ زِينةً لَها) :
يعني ما يصلح للتزيّن، كالملابس، والمطاعم، والأ/شجار، والأنهار، وغير ذلك.
(ما يعْبدونَ إلاَّ الله) :
عطف على المفعول في " اعتزلتموهم "، أي تركتموهم وتركتم ما يعبدون من دون الله.
وهذا الاستثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره.
ومنقطع إن كانوا لا يعبدون الله.

(2/363)


وفي مصحف ابن مسعود: وما يعبدون من دون الله.
(ما يَعْلَمهم إلا قَليلٌ) :
أكد عدة أصحاب الكهف.
وقد قدمنا أن ابن عباس من ذلك القليل.
(مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) .
الضمير لجميع الخلق، أو للمعاصرين النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقرئ تشرك - بالتاء والجَزْم على النهي.
وهو خَبَرٌ على القراءة بالياء والرفع.
(ما أشْهَدْتهمْ) :
الضمير للشياطين على وجه التحقير لهم، أو للكفار، أو لجميع الخلق، فيكون فيه رد المنجّمين وأهل الطبائع وسائر الطوائف المتَخَرِّصَة.
(مَوْبِقاً:
مهلكاً، وهو اسم موضع، أو مصدر من وَبَقَ
الرجل إذا هلك، وقيل إنه من أودية جهنم.
والضمير في (بينهم) للمشركين وشركائهم.
(مَا أُنْذِرُوا هُزُوًا) :
يعني العذاب، وما موصولة، والضمير محذوف تقديره: أنذروه، أو مصدرية.
(مَوْعِدا) :
قيل هو الموت. وقيل عذاب الآخرة. وقيل يوم بَدْر.
(مَوْئِلاً) : أي مَنْجى، ويقال وَأل الرجل إذا نجا.
ومنه قول علي رضي الله عنه - - وكانت درعه صَدراً بلا ظَهْر، فقيل له: لو أحرزت ظهرك.
فقال: إذا وليْتُ فلا وألْتُ، أي إذا أمكنْتُ من ظهري فلا نَجْوت.
(مَوْعِداً) .
أي وقتاً معلوماً لهلاكهم.
والمهْلَك - بضم الميم وفتح اللام: اسم مصدر من أهلك، فالمصدر على هذا مضاف للمفعول، لأن الفعل متعد.
وقرئ بفتح اليم من هلك، فالمصدر على هذا مضاف للفاعل.
(مَصْرِفاً) ، أي معدلاً ينصرفون إليه.

(2/364)


(مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ) :
قيل: بحر فارس وبحر الروم بالمشرق.
وقيل عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه، وهو
الأندلس.
وقيل العَذْب المالح.
(ما كُنَّا نَبْغ) .
أي نطلب فَقْدَ الحوت، لأنه أمارة على وجدان الخضْر عليه السلام.
(ما فَعَلْتُه عن أمْرِي) :
هذا دليل على نبوءة الخضر، لأن المعنى أنه لم يفعل ما فعل إلا بأمر من الله ووحيهِ.
(مَكنّا لهُ في الأرْض) :
يعني أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلهم.
(ما مَكنِّي فيه رَبّي خَيْر) .
أي ما بسط الله لي من الملك خَير مِنْ خَرَاجكم، فلا حاجة لي به، ولكن أعينوني بقوة الأبدان وعمل الأيدي.
(مَنْ كان يرْجُو لقَاءَ رَبِّه) :
إن كان الرجاء هنا على بابه فالمعنى يرجو حُسْنَ لقاء ربه، وأن يلقاه لقاء رِضاً وقبول.
وإن كان الرجاء بمعنى الخوف فالمعنى يخاف سوء لقاء ربه.
(مَوَالِي) .
أقاربي، وقد قدمنا أن الولى له سبعة معان.
(مَرْيم) بنت عمران، ولم يذكر في القرآن من النساء إلا مريم لنكتة تقدمت
في الكناية ومعناها بالعبرانية الخادم.
وقيل المرأة التي تغازل الفتيان، حكاهما الكرماني في عجائبه.
(مكانا قَصِيًّا) ، أي بعيداً، وإنما بعدت من قومها حياء منهم
أن يظنوا بها الشر.
(مَخَاض) :
نفاس، وسمي مخاضا، لأن الولد يتحرك فيه للخروج.

(2/365)


(مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) :
لما رأت الآيات علمت أن الله سيُبَرِّئها فجاءت به من المكان القصي إلى قومها فعاتبوها بهذا الكلام.
(مَهْد) : هو المعروف.
وقيل المهد هنا حِجْرها.
(مُبَاركاً) : من البركة.
وقيل نَفَّاع، وقيل معلم للخير.
واللفظ أعمُّ من ذلك.
(ما تَدْعُون مِنْ دُونِ الله) : أي ما تعبدون.
(مكانا عَلِيًّا) : قال ابن عباس: رفعه الله إلى السماء، وهناك مات.
وفي حديث الإسراء أنه في السماء الرابعة.
وقيل: يعني رفعة النبوءة وتشريف منزلته.
والأول أشهر، ويرجِّحه الحديث.
(مَلِيًّا) ، أي حيناً طويلاً، وعطف اهجرني على محذوف
تقديره: احذر رجمي لك.
(مَأتِيًّا) : وزنه مفعول، فقيل إنه بمعنى فاعل، لأن الوعد هو
الذي يأتي.
وقيل إنه على بابه، لأن الوعد هو الجنة، وهم يأتونها.
(ما نَتَنَزَّلُ إلاَّ بِأمْرِ رَبِّك) :
هذا حكاية قول جبريل حين غاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: أبطَأتَ عني، وقد اشتقتُك.
فقال: إني أشوق إليك ولكني عَبْدٌ مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، فنزلت هذه الآية.
(ما بَيْنَ أيْدِينا وما خَلْفَنا وما بَين ذلك وما كان ربك نَسِيّا) .
هو فعيل من النسيان بمعنى الذهول.
وقيل بمعنى الترك.
ومعنى الآية: له ما قدامنا وما خلْفنا وما نحن فيها من الجهات والأماكن، فليس لنا الانتقال من مكان إلى مكان إلا بأمر الله.
وقيل: ما بين أيدينا الدنيا إلى النفخة الأولى في الصور.
وما خَلْفنا الآخرة، وما بين ذلك ما بين النفختين.
وقيل: ما مضى من أعمارنا، وما بَقي منها، والحال التي نحن فيها، والأول أكثر مناسبة لسبب الآية.

(2/366)


(مَقَاما) : اسم مكان، مِنْ قام، وقرئ بالضم من أقام.
ومعنى الآية: إن الكفار قالوا للمؤمنين: نحن خير منكم مقاماً أي أحسن حالاً
في الدنيا، وأجل مجلساً، فنحن أكرم على الله منكم.
(مَدًّا) ، أي إمهالاً.
(مَرَدًّا) : أي مرجعا وعاقبة.
(مَالاً ووَلَداً) :
قائل هذه المقالة العاص بن وائل، قال: لئن بعثت، كما يزعم محمد، ليكونن لي هناك مال وولد.
(ما أنزلنا عَلَيْكَ القرآنَ لتَشْقَى) :
قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في الصلاة حتى تورَّمت قدماه، فنزلت الآية، تخفيفاً عنه.
والشقاء على هذا: إفراط التعب في العبادة.
وقيل: المراد به التأسّف على كفْر الكفار.
واللفظ أعمّ من ذلك كله.
والمعنى أنه نفى عنه جميع، أنواع الشقاء في الدنيا والآخرة، لأنه أنزل عليه
القرآن الذي هو من أسباب السعادة.
(مَآرِبُ أُخْرَى) .
أي حوائج، واحدها مَأربة، وكانت عصاه
تحادثه، وتؤانسه، وتضيء له بالليل، وتطعمه إذا جاع، ويركب عليها إذا أعياه الطريق (1) .
(ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا موسى) :
إنما سأله ليريه عِظَم ما يفعل في العصا مِنْ قَلْبها حيّة، فمعنى السؤال تقرير على أنها عصاً، ليتبين له الفرق بين حالها قبل أن يقلبها وبعد أن يقلبها.
وقيل: إنما سأله ليؤنسه في الكلام.
فإن قلت: لم سأله عن العصا وهو عالم بها، ولم يقل ما في يدك؟
والجواب تعليما للمعلم مع المتعلم، يسأله عن الشيء وهو عالم به، ولما تحيَّر
موسى من هَيْبَةِ كلامِ خالقه آنسه، وانبسط معه، وتأدب موسى معه في إجمال
الخطاب.
ولعله اختصر له في الكلام رجاء أن يسمعه مرةً أخرى، وأعطاه الله
العصا في يمينه، وسأله عنها، إشارة لك يا محمدي أن الله شرف موسى بالعصا.
__________
(1) كلام يفتقر إلى سند صحيح.

(2/367)


(مَا يُوحَى) : إبهام يراد به تعظيم الأمر.
(محبّةً مِنِّي) ، أي أحببتك.
وقيل أراد محبة الناس حتى كان إبليس يحبّه (1) ، وكان لا يراه أحد إلا أحبه.
وقيل أراد محبة امرأة فرعون ورحمتها له.
وقوله: (مِنِّي) يحتمل أن يتعلق بقوله: (ألقيت) ، أو يكون
صفة لـ (محبة) ، فيتعلق بمحذوف.
(مَنْ يَكفلْه) :
يعني يرَبِّيه، لأنه كان لا يقبل ثَدْي امرأةٍ، فطلبوا له مرضعةً، فقالت أخته ذلك ليرَدَّ إلى أمه.
(معَنَا بني إسرائيل) :
هذا من كلام موسى، طلب من فرعون أن يسرحهم، لأنهم كانوا تحت يده في المهنة، فكانت رسالة موسى إلى فرعون
بالإيمان بالله تعالى، وبتسريح بني إسرائيل.
(مَنِ اتَّبَع الهدَى) : يعني به التحية أو السلامة.
(ما بالُ القرون الأولى) :
يحتمل أن يكون سؤال فرعون عن القرون الأولى محاجَّةَ ومناقضة لموسى، أي ما بالها لم تبْعَث كما زعم موسى، أو ما بالها لم تكن على دين موسى، أو ما بالها كذبت ولم يصبها عذاب كما زعم
موسى في قوله: (إنَّ العذاب على مَن كذّب وتَولَّى) .
ويحتمل أن يكون ذلك قطعاً للكلام الأول، وروغاناً عنه، وحيرة لما رأى
أنه مغلوب بالحجة، ولذلك أضرب موسى عن الكلام في شأنها: (قال عِلْمها
عند رَبّي في كتابٍ) ، يعني اللوح المحفوظ.
(مَوْعِداً لا نخْلِفه) :
يحتمل أن يكون اسم مصدر، أو اسم زمان، أو اسم مكان، ويدل على أنه اسم مكان قوله: (مَكاناً سُوًى) ، ولكن يضعّف بقوله: (موعدكُم يومُ الزّينة) ، لأنه أجاب بظرف الزمان.
ويدل على أن الموعد اسم زمان قوله: يوم الزينة، ولكن يضعّف
بقوله: (مكاناً سوًى) .
ويدل على أنه اسم مصدر بمعنى الوعد قوله: لا نخلفه، لأن
__________
(1) كلام في غاية البعد.

(2/368)


الإخلاف إنما يوصف به الوعد لا الزمان ولا المكان، ولكن يضعّف ذلك بقوله: مكاناً، وبقوله يوم الزينة، فلا بد على كل وجه من تأويل أو إضمار.
ويختلف قوله مكاناً باختلاف تلك الوجوه، فأما إن كان الوعد اسم مكان فيكون قوله موعداً ومكاناً مفعولين لقوله: اجعل، ويطابقه قوله يوم الزينة، من طريق المعنى لا من اللفظ، وذلك أن الاجماع في المكان يقتضي الزمان ضرورة، وإن كان الموعد اسم زمان فينتصب قوله مكاناً على أنه ظرف مكان، والتقدير كائناً في مكان.
وإن كان الوعد اسم مصدر فينتصب مكاناً على أنه مفعول بالمصدر وهو
الوعد، أو بالفعل من معناه، ويطابقه قوله: يوم الزينة على حذف مضاف.
تقديره موعدكم وعد يوم الزينة.
وقرأ الحسن يوم الزينة بالنصب، وذلك يطابق
أن يكون الوعد اسم مصدر من غير تقدير محذوف.
(مكاناً سُوًى) : معناه مُسْتَوِي القُرب منا ومنكم.
وقيل معناه مستَوٍ في الأرض ليس فيه انخفاض ولا ارتفاع.
وقرئ بكسر السين وضمها، والمعنى متفق.
(ما غَشِيَهم) :
إبهام لقصد التهويل، والضمير راجع إلى قوم فرعون
حين تبعوا موسى في ألف ألف مرتين، فلما رآهم قوم موسى خافوا، وقالوا لموسى: (إنا لمدْرَكون) .
فقال موسى: (إنَّ مَعِي رَبي سيَهْدِين) .
وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في الغار: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) .
وكذلك قال الله لهذه الأمة: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) .
فالذي قال: (إن الله معنا) ، نجا من شر الكفار، فكيف لا ينجو مَنْ قال الله لهم: إن الله معكم - من عذاب النار.
فأوحى الله إلى موسى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) ، فمرّ موسى مع قومه، وجاء فرعون، ودخل البحر مع جنوده فأغرقهم الله أجمعين.
وقيل: إن فرعون لما عاين العذاب أراد الإيمان في حال الغرق، فرفع جبريل
الطين وجعله في فِيه حتى استغاث بجبريل سبعين مرة، فلم يُغِثه، فعاتبه الله، وقال

(2/369)


لجبريل: استغاث بك فرعون سبعين مرة فلم تغثه، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأَغثته، وكذلك عاتب موسى لما استغاث به قارون فلم يغثه، فهنيئاً لك يا محمدى في استغاثتك بمولاك إن رجَعْتَ إليه أفَتَرَاه لا يغيثك؟!! ، وهو يقول: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) .
(ما هَدَى) :
الضمير يعود على فرعون لتقدّم الذكر له.
فإن قيل: إن قوله: (وأضلَّ فرعون قومَه) ، يُغْنِي عن قوله:
(وما هَدَى) .
فالجواب أنه مبالغة وتأكيد.
وقال الزمخشري: إنه تهكّم بفرعون في قوله: (وما أهْدِيكم إلَّا سبِيلَ الرَّشاد) .
(ما أعْجَلَكَ عن قومك يا موسى) .
قصص هذه الآية أن الله لما أمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الطور تقدم وحده مبادرة إلى أمر الله وطلباً لرضاه، وأمر بني إسرائيل أن يسيروا بعده، واستخلف عليهم أخاه هارون، فأمرهم السامريّ حينئذ بعبادة العجل، فلما وصل موسى إلى الطور دون قومه قال الله له: (وما أعجلك) ، الآية، فهذا السؤال على وجه الإنكار لتقدمه على قومه.
وقيل: ليخبره بما صنعوا بعده من عبادة العجل، فاعتذر موسى بعذْرَين:
أحدهما: أن قومه على أثره، أي قريب منه، فلم يتقدم عليهم بكثير يوجِبُ
العتاب.
والثاني: أنه إنما تقدم طلباً لرضاه، وغلبة المحبة، ولذلك لم يطق الصبر مع
قومه.
وهذا كان سبب مراجعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال له: ارجع إلى ربك، واسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك.
ورحم الله القائل:
"لعلّي أراهم أو أرى مَنْ يَراهم "
(ما مَنَعَكَ إذ رأيْتَهم ضَلوا ألاَّ تَتّبِعَنِ) .
هذا خطاب موسى

(2/370)


لهارون - عليهما السلام - لما رجع من الطور بعد كمال الأربعين يوماً التي كلّمه الله فيها، و (لا) زائدة للتأكيد.
والمعنى ما منعك أن تتّبعني في المشي إلى الطور، أو تتَّبعتي في
الغضب للَه وشدة الزّجْرِ لمَنْ عبدوا العجل وقتالهم بمن لم يعبده.
(ما قَدْ سبَقَ) : يعني أخبار الأمم المتقدمين.
(ما بَيْنَ أيدهم وما خَلْفَهم) : الضمير للخَلْق.
والمعنى يعلم ما كان قبلهم، وما يكون بعدهم.
وقال مجاهد: ما بين أيديهم الدنيا وما خلفهم الآخرة.
(مَنْ أذِن له الرحْمَن ورَضِيَ له قَوْلاً) :
مَنْ واقعة على الشافع، والمعنى لكن مَنْ أذن له الرحمن يشفع.
(مَعيشة ضَنْكًا) ، أي ضيقة، فقيل إن ذلك في الدنيا، فإن
الكافر ضيق المعيشة لشدة حِرْصه، وإن كان واسع الحال.
وقال بعض الصوفية:
لا يعرْض أحد عن ذكر الله إلا أظلم عليه وقْته وتكدّر عليه عيشه.
وقيل ذلك في البَرْزَخ.
وقيل في جهنم يأكل الزّقَّوم، وهذا ضعيف، لأنه ذكر بعد هذا يوم
القيامة وعذاب الآخرة.
(ما يَأتِيهم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبّهم مُحْدَث) :
الضمير عائد على المشركين من قريش، ويعني بالذكر القرآن، ومحدث: أي محدث النزول.
(مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) :
لما قالوا: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) الآيات.
أخبرهم أن الذين من قبلهم طلبوا الآيات، فلما رأوها ولم يؤمنوا أهلكوا.
ثم قال: (أفهم يُؤمنون) ، أي إن حالهم في عدم الإيمان وفي الهلاك كحال مَنْ قبلهم.
ويحتمل أن يكون المعنى أن كل قرية هلكت لم تؤمن، فهؤلاء كذلك ولا
يكون على هذا جواباً لقولهم: (فليَأتِنا بآيةٍ) ، بل يكون إخبارا مستأنفاً على وجه التهديد.
وأهلكنا في موضع الصفة لقرية، والمراد أهل القرية.

(2/371)


(ما جَعَلنَاهم جَسداً لا يأكلون الطَّعَام) ، أي ما جعلنا
الرسل أجسادا غير طاعمين، ووحّد الجسد لإرادة الجنس.
ولا يأكلون الطعام صفة لجسد.
وفي الآية ردّ على قولهم: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) .
(مَن نَشَاء) : يعني المؤمنين.
(ما أرسلنا ... ) . الأنبياء: 25، الآية رد على المشركين.
والمعنى أنَّ كلَّ رسول إنما أتى بلا إله إلا الله، فكلمتهم واحدة، وفيها تصديق للحديث: "الأنبياء أولادُ عَلاّت أبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة".
(متَى هذا الوَعدُ إن كنْتُم صادِقين) :
مرادهم القيامة أو نزول العذاب بهم.
(مَنْ فَعلَ هَذَا) :
هذا من قول قوم إبراهيم، وقبله محذوف تقديره: فرجعوا من عيدهم فرأوُا الأصنام مكسورة فقالوا: مَنْ فعل هذا.
(ما هؤلاء يَنْطِقُون) :
لما رجعوا إلى أنفسهم بالفكرة والنظر، قالوا لإبراهيم: لقد علمتَ عدم نُطْقهم، فكيف تأمرنا بسؤالهم، فقد اعترفوا بأنهم لا ينطقون، وهم مع ذلك يعبدونهم، فهذا غاية الضلال في فعلهم، وغايةُ المعاندة والمكابرة في جِدَالهم.
(مَسَّنِيَ الضّر) :
هذا من كلام في الله أيوب حين سلط الله عليه البلاء، فخاف على ذهاب قَلْبِه، إذ هو موضع المعرفة.
فإن قلت: قد وصفه اللهُ بالصبر في قوله تعالى: (إنا وجَدْنَاهُ صابِراً) ، وقَرَنه بنون العظمة فما بال قوله: (مَسَّنِيَ الضرُّ) ؟
فالجواب أن قوله: (مَسَّنِيَ) ليس تصريحا بالدعاء، ولكنه ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه، فكان في ذلك من حسن التلطّف مما ليس في التصريح بالطلب.

(2/372)


وقيل غير هذا من الجواب أعرضنا عنه لطوله.
وفي الآية إشارة إلى الرجوع إلى الله في رَفْعِ المحن والشدائد، ولذا طلب
موسى لغيره (جَذْوةً لعلهم يصطلون) ، فأوصله الله بالوادي القدس، وطلب الخَضر لغيره فأوصله الله لعَيْن الحياة، فلا تنس أيها الناظر في هذا الكتاب الدعاء لموصّله إليك من غير كلفة، ولك مثله، كما ورد في الحديث، وأسأله سبحانه أن يفرّج عنّا كربَ الآخرة، إذ لا يفرجها غيره سبحانه، وتأمل إلى نداء أيوب ربَّه بما يوافق حاله ويقتضيه مقامه وهو الرحمة، فاستجاب له ورحمه.
روي أن الله أنبع له عينا من ماء، وأمره بالشرب منها، فبرئ باطنه
واغتسل منها فبرئ ظاهِره، ورُدَّ إلى أكمل جماله، وأتي بأحسن الثياب.
وكانت امرأته غائبة عنه في بعض شأنها، فلم تره في موضعه الذي تركته فيه.
فجزعت وظنت أنه نقل منه، وجعلت تتولّه، فقال لها: ما شأنك أيتها المرأة
فهابته لحسْن هيئته وجمال منظره، وقالت: فقدتُ مريضاً كان لي هنا، ومعالِم المكان قد تغيرت، وتأملت إلى مقاله فعرفته، وقالت: أنت أيوب! قال: نعم، واعتنقها وبكى، ولم يفارقها حتى أراه الله جميع ماله حاضرا بين يديه بعدما فقده.
وروي أن امرأته ولدت بعْد ستة وعشرين ابنا، وإلى هذه الإشارة بقوله
تعالى: (وآتيْنَا أهْلَه ومثْلَهمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) .
وإنما وصف الرحمة بالعِنْدية في هذه الآية لأنه بالغ في التضرع والدعاء، فقابله سبحانه بالمبالغة، لأن لفظ " عندنا " حيث جاء يدل على أنه سبحانه يتولَّى ذلك من غير واسطة.
ولما بدأ القصة في (ص) بقوله تعالى: (واذكر عَبْدَنا) ، ختم
بقوله: (مِنَّا) ، ليكون آخر الآية مطابقاً لأول الآية.
(ما همْ بِسُكَارَى) :
نَفْيٌ لحقيقة السكر، وقرئ سَكْرى، والمعنى متفق.

(2/373)


(مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) .
نزلت - في قوم من الأعراب كان أحدهم إذا أسلم فاتفّق له ما يعجبه في ماله وولده قال: هذا دين حسن، وإذا اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتد عن الإسلام، فالحرف هنا كناية عن القلق والاضطراب.
وأصله من الانحراف عن الشيء، أو من الحرف بمعنى الطرف.
أي أنه في طرف من الدين لا في وسطه.
(ما لا يَضرّه) :
يعني الأصنام، و (يَدْعو) بمعنى يعبد في الموضعين.
فإن قلت: قد وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضرها
أقرب من نفعها، فنفى الضر ثم أثبته؟
والجواب أن الضرّ المنفي أوّلاً يراد به ما يكون من فعلها، وهي لا تفعل
شيئاً.
والضر الثاني يراد به ما كان يكون بسببها من العذاب وغيره.
فإن قلت: ما بال اللام دخلت على (مَنْ) في قوله: (لمن ضَرّه) ، وهي
في الظاهر مفعول، واللام لا تدخل على المفعول؟
وأجاب الناس عن ذلك بثلاثة أوجه:
أحدها أن اللام مقدمة على موضعها، كأن الأصل أن يقول: يدْعو لَمَنْ ضَرّه أقرب من نَفْعه، فموضعها الدخول على المبتدأ.
وثانيها أنَّ (يدعو) هنا كرر تأكيداً ليدعو الأول، وتم الكلام، ثم ابتدأ
قوله: لمن مبتدأ وخبره لبئس المولى.
وثالثها أنَّ معنى يدعو: يقول يوم القيامة إذا رأى مضرَّة الأصنام، فدخلت
اللام على مبتدأ في أول الكلام.
(مَا يَغِيظ) :
يعني إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب به ما يغيظه من الأمر، أو ليس يذهب،

(2/374)


(مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرضِ) :
دخل في هذا مَنْ في السموات من الملائكة ومَنْ في الأرض من الملائكة والجنّ، ولم يدخل الناس في ذلك، لأنه ذكرهم في آخرها على وجه التحديد.
وليس المراد بالسجود في هذه الآية السجود المعروف، لأنه لا يصح في حق الشمس والقمر وما ذكِر بعدهما، وإنما المراد به الانقياد.
ثم إن الانقياد يكون على وجهين:
أحدهما: الانقياد لطاعة الله طَوْعاً، والآخر الانقياد لما يُجرِي الله على المخلوقات من أفعاله وتدبيره شاءوا أو أبَوا.
(مَنْ يهنِ الله فما له مِنْ مكرِم) ، لأنه المعز المذِلّ الذي يفعل
الأشياءَ لغير غرض، فلو اجتمع الثّقَلانِ على رَفْع عبدٍ أراد الله وَضْعه لم
يقدروا، وبالعكس، والعيان يشهد لذلك.
(مكان البَيتِ) : موضعه، وذلك أنَّ الله دَرَس البيتَ الحرام
في الطوفان، فدل الله إبراهيم على مكانه، وأمره ببنائه، كما قدمنا.
(مَنَافِعَ لهم) : التجارة.
وقيل أعمال الحج وثوابه، واللفظ أعمّ من ذلك.
(ما يُتْلَى عَلَيْكمْ) :
يعني ما حرّمه في غير هذا الموضع، كالميتة.
(مَنَافِع) :
من قال إن شعائر الله هي الهدايا، فالمنافع بها
شرب لبنها، وركوبها لمن اضطر إليها، والأجل المسمى نَحْرُها، ومَنْ قال إن
شعائر الله مواضع الحج فالمنافع التجارة فيها أو الأجر، والأجل المسمَّى الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة.
(مَحِلّها إلى البيت العَتِيق) :
من قال إن الشعائر الهدايا فمحلّها موضع نحرها وهو منى، ومكة، وخص البيت بالذكر، لأنه أشرف الحرم، وهو المقصود بالهَدْي، و (ثمَّ) على هذا القول ليست للترتيب في الزمان، لأن محلها قبل نحْرها، وإنما هي لترتيب الجمل.

(2/375)


ومن قال إن الشعائر مواضع الحج فمحلّها مأخوذ من إحلال المحْرِم، أي
آخر ذلك كله الطواف بالبيت، يعني طواف الإفاضة، إذ به يحِلّ الحرم من
إحرامه.
(مَنْسَكًا) ، أي موضعاً للعبادة.
ويحتمل أن يكون اسم مصدر، بمعنى عبادة.
والمراد بذلك الذبائح، لقوله تعالى: (ليَذْكُروا اسْمَ اللهِ على ما رزَقَهمْ مِنْ بهيمةِ الأنْعَام) ، بخلاف ما يفعل الكفار من الذبائح تقرباً إلى الأصنام.
(مَنْ يَنْصُرُه) : الضمير عائد على الله.
والمعنى إنَّ اللهَ ينصر من ينصر دينَه وأولياءه، وهو وعْدٌ تضمَّن الحض على القتال.
(مَشِيد) : أي مبنيّ بالشِّيد وهو الجص.
وقيل المشيد المرفوع البنيان، وكان هذا القصر بقيةً من بقايا ثمود.
(مَكنَّاهم في الأرض) ، المراد بهم أمةُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، مكنَهم اللَه في أرضه.
وقيل الصحابة. وقيل الخلفاء الأربعة، لأنهم الذين مكنوا في الأرض
بالخلافة، وفعلوا ما وصفهم الله به في الآية.
(مَنْ عاقَب بمثْلِ ما عُوقِبَ به) : قد قدمنا في آية النحل: أن هذا من معنى التجوّز، ولكن وعد في هذه الآية بالنصر لمن بغي عليه.
فإن قلت: أي مناسبة لختم هذه الآية بالعفو والمغفرة؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن في ذكر هذين الوصفين إشعاراً بأن العفو أفضل من المعاقبة.
كما قدمنا، فهو حضّ عليه.
والثاني: أن في ذكرهما إعلاماً بعَفْوٍ عن المعاقب حين عاقب، ولم يأخذ
بالعفو الذي هو أولى.

(2/376)


(مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) :
يعني علماً ضرورياً، فنفى أولاً البرهان النظري، وهو المراد بالسلطان، ثم العلم الضروري، وليس اللفظ بظاهر في هذا المعنى، بل الأحسن نفي العلم الضروري والنظريّ معاً.
(مَوْلاَكم) ، أي وليُّكم وناصركم بدلالة ما بعد ذلك.
(مَكِين) : متمكّن، والمراد به رحم المرأة.
(ما كنَّا عن الخَلْقِ غافِلين) :
يحتمل أن يريد بالخلق المخلوقين، أو المصدر.
(ماءً بقَدَرٍ) : يعني المطر الذي ينزل من السماء، فتكون
منه العيون والأنهار.
وقيل يعني أنهاراً، وهي النيل والفرات ودجْلَة وسيْحَان.
ولا دليل على هذا التخصيص.
ومعنى بقَدَر: بمقدار معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص عنه.
(ما هذا إلا بَشَرٌ مِثْلكم) المؤمنون:
هذا الكلام من قوم نوح لما قال لهم: إني رسول الله إليكم - استبعدوا أن تكون النبوءة لبشر، وأثبتوا الربوبية لحَجَر.
(مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) .
أي بمثل ما دعَوْتم إليه من عبادة الله، وهذا يدل على أنه كان قبل نوح فترة طويلة بينه وبين إدريس عليهما السلام.
(ما اسْتَكَانوا لرَبِّهم وما يَتَضرَّعون) :
قال بعض النحاة: استكان مشتق من السكون ووَزْنه افتعلوا مطّت فتحة الكاف فحدث عن مطها ألف، وذلك كالإشباع.
وقيل إنه من كان يكون فوزْنُه استفعلوا.
ومعنى الآية نفي التضرّع والتذلل.
فإن قلت: هَلاَّ قال: فما استكانوا وما تضرعوا، أو ما يستكينون وما
يتضرعون، باتفاق الفعلين في الماضي أو في الاستقبال؟

(2/377)


فالجواب أن ما استكانوا عند العذاب الذي أصابهم، وما يتضرعون حتى يفتح
عليهم بابَ عذاب شديد، فَنْفى الاستكانة فيما مضى ونفي التضرع في الحال
والاستقبال.
(ما تَشْكرون) :
ما زائدة، وقليلاً: صفة لمصدر محذوف، تقديره شكراً قليلاً تشكرون، وذكر السمع والأبصار والأفئدة وهي القلوب، لعظيم المنافع التي فيها، فيجب شكر خالقها، ومِنْ شُكره توحيدُه واتباعُ رسوله عليه السلام، ففي ذكرها تعديد نعمه.
(ما قَال الأوَّلون) :
أي قالت قريش مثل قول الأمم المتقدمة، ثم فَسّر قولهم بإنكارهم للبعث بقولهم: (لقد وُعِدْنَا نحن وآباؤنا) .
(مَنْ فيها) :
الضمير يعود على الأرض المتقدمة الذِّكر، وأمر الله في هذه الآية رسولَه أن يوقفهم على أمورٍ لا يمكنهم إلا الإقرار بها، وإذا أقَرّوا بها لزمهم توحيدُ خالقها والإيمان بالدار الآخرة.
(مَلَكوتُ) :
مصدر في بنائه مبالغة، وقد قدمنا أنه الملك بلسان القبط.
(ما مَلَكَتْ أيْمانُهنَ) :
دخل في ذلك الإماء المسلمات والكتابيات.
وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال: مَنْعُهم لرؤية سيدتهم، وهو قول
الشافعي.
والجَوَاز، وهو قول ابن عباس وعائشة.
والجواز بشرط أن يكون العبْد وَغْداً، وهو مذهب مالك.
(مثَلاً مِنَ الذين خَلَوْا مِنْ قبلكم) :
يعني ضرب لكم الأمثال بمَنْ كان قبلكم في تحريم الزنى، لأنه حرام في كل مِلّة، أو في براءة عائشة كما برّأ يوسف ومريم.
(مَثَل نُورِه) :
الضمير عائد على نور مولانا جلَّ جلاله.

(2/378)


والنور يطلق حقيقة على الضوء الذي يدرك بالأبصار، ومجازاً على المعاني التي
تُدرك بالقلوب، والله ليس كمثله شيء.
وقيل الضمير عائد على المؤمن.
وقيل على القرآن.
وهذه الأقوال كلها ضعيفة، لأنه لم يتقدم ما يعود عليه الضمير.
فإن قلت: كيف يصح أن يُقال (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، فأخبر أنه هو
النور، ثم أضاف النورَ إليه في قوله: (مَثَلُ نوره) ، والمضاف غير المضاف إليه؟
فالجواب أن ذلك يصح مع التأويل الذي قدمناه: أي الله مُنوِّر السماوات
والأرض.
أو كما تقول: زيد كريم، ثم تقول يعيش الناس بكرمه، فإن كان
معنى نور السماوات والأرض النور المدرك بالأبصار فمعناه أن الله خلق النورَ
فيهما من الشمس والقمر والنجوم.
أو أنه خلقهما وأخرجهما من العدم إلى
الوجود، فإنما ظهرت به كما تظهر الأشياء بالضوء.
ومن هذا المعنى قرأ علي بن أبي طالب "نَوَّرَ السماوات والأرض" - بفتح النون والواو والراء مع تشديد الواو، أي جعل فيهما النور.
وإن أراد بالنور المدرك بالقلوب، فمعنى (نور السماوات
والأرض) : أي جاعل النورِ في قلوب أهل السماوات والأرض، ولذلك قال ابن عباس: معناه هادِي أهْلِ السماوات والأرض.
(مَنْ يُطِعِ اللهَ ورسولَه) الآية.
قال ابن عباس: معناه منِ يطع الله في فرائضه، ورسولَه في سُننه، ويخشى الله فيما مضى من ذنوبه، ويتّقِيه فيما يستقبل.
وسأل بعض الملوك عن آية كافية جامعة فذكرت له هذه الآية، وسمعها
بعض بَطَارِقة الروم فأسلم، وقال: إنها جمعَتْ كل ما في التوراة والإنجيل.
(ما مَلَكتُم مَفَاتِحه) :
يعني أن الله أباح للوكلاء والأجراء والعَبيد الذين يمسكون خزائن الأموال.
وقيل المراد ما ملك الإنسان من خَزائن نفسِه، وهذا ضعيف.

(2/379)


(ما أنْتم عَلَيْه) :
هذا خطاب لجميع المنافقين خاصة، وفيه معنى الوعيد والتهديد لدخول (قد) عليه.
وقيل معناها التقليل على وجه التهكم.
(مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) :
هذا من كلام قريش طعناً على نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قيل لنوح، فرد الله عليهم بقوله: (وما أَرْسلْنا قَبْلَك مِنَ المرسلين) .
وإقرارهم برسالته
بلسانهم دون قلوبهم على وجه التهكم، كقول فرعون: (إن رَسُولَكم الَّذِي
أرْسِلَ إليكم لمجنون) .
أو يعنون الرسول بزَعْمِه.
(مَكَانا ضيِّقًا) :
يضيّق عليهم زيادة في عقابهم، ولهذا كان ضرس الكافر أو نابه مثل أحُد، فانظر كيف يكون حال من ضيّق عليه، وعظم جرمه! نسأل الله العافية.
(مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) .
يعني نعمك التي أنعمت عليهم كانت سببا لنسيانهم لذكرك وعبادتك.
والقائلُ لذلك هم المعبودون، قالوا على وجه التبرّي
ممن عبدهم، كقولهم: أنْتَ وليّنا.
والمراد بذلك توبيخ الكفار يومئذ، وإقامة الحجة عليهم.
(مَنْ يَظْلِمْ منكم) :
الخطاب للكفار. وقيل للمؤمنين. وقيل على العموم.
(ما عَمِلُوا مِنْ عَمَل) :
الخطاب للمجرمين، يعني أن الله قصد إلى أعمالهم التي عملوها من إطعام مسكين أو صِلَة رَحِم أو غير ذلك فنثرها ولم يقبلها، فلفظُ القدوم في الآية مجاز.
وقيل هو قدوم الملائكة، أسنده إلى نفسه، لأنه عن أمره.
(مَحْجوراً) :
قد قدمنا أن معناه حراماً محرماً، يعني

(2/380)


الملائكة يقولون للمجرمين: لا بشْرى لكم، وإنما هو حراماً محرماً عليكم، وإن كان الضمير للمجرمين فالمعنى أنهم يقولون حِجْراً بمعنى عوذاً، لأن العرب كانت تتعوّذ بهذه الكلمة إذا رأت ما تكره.
وانتصابه بفعل متروك ظاهرهُ، نحو: معاذ الله.
(مَقِيلاً) :
هو " مفْعلاً "، من النوم في القائلة، وإن كانت الجنة لا نوم فيها، ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة في الأمكنة الباردة.
وقيل إنَّ حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
(مع الرسول سَبِيلاً) :
يحتمل أن يكون نبينا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم - أو اسم جنس على العموم.
(مَهْجُوراً) :
من الهجْر، بمعنى البعد والتَّرْك، وقيل: من الهُجْر - بضم الهاء، أي قالوا فيه الهُجْر حين قالوا إنه شاعر وساحر، والأول أظهر.
(مَدَّ الظِّلَّ) :
قيل مدّة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لأن الظل حينئذ على الأرض كلها، واعترضه ابنُ عطية بأن ذلك الوقت من الليل ولا يُقال ظل بالليل.
واختار أن مَدّ الظل ما بين أول الإسفار إلى طلوع الشمس وبعد مغيبها بيسير.
وقيل مدّ الظل، أي جعله يمتدّ وينبسط.
(مَرَجَ البَحْرَينِ) :
اضطرب الناس في هذه الآية، لأنه لا يعلم في الدنيا بحر ملح وبحر عَذْب، وإنما البحار المعروفة ماؤها ملح، فقال ابن عباس: أراد بالبحر الملح الأجَاج بح الأرض، وبالبحر العذب: الفرات.
وقيل بحر السحاب، وقيل البحر المالح المعروف، والبحر العذب مياه الأرض من الأنهار والعيون، ومعنى الفرات البالغ العذوبة، حتى يقرب إلى الحلاوة.
والأجاج نقيضه.

(2/381)


واختلف في معنى مرجِهما، فقيل جعلهما متجاورين متلاصقين.
وقيل: سال أحدهما في الآخر.
وأما قوله تعالى: (وخلق الجانَّ مِنْ مَارجٍ مِن نار) .
فمعناه أنه خلق إبليس من اللهب المضطرب من النار.
(ما الرَّحْمَنُ) :
لما ذكر الرحمن في القرآن أنكرَتْه قريش، وقالوا: لا نعرف الرحمن.
وكان مسَيْلمة الكذَّاب قد تسمى بالرحمن، فقالوا على
وجه المغالطة: إنما الرحمن الرجل الذي باليمامة.
(مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يلْقَ أثَاماً) :
أي عقاباً، وقيل الأثام الإثم، فمعناهُ يلْقَ جزاء أثام.
وقيل الأثام وادٍ في جهنم.
والإشارة بقوله ذلك إلى ما ذُكر من الشرك باللهِ، وقَتْل النفس بغير حق، والزنى.
(من تاب) :
إن قلنا إن الآية في الكفار فلا إشكال فيها، لأن الكافر إذا أسلم صحَّت توبَتُهُ من الكفر والقَتْل والزنى.
وإن قلنا: إنها في المؤمنين فلا خلافَ أنَّ التوبةَ من الزنى تصح.
واختلف هل تصح توبة المسلم من القتل أم لا.
(مَتَاباً) :
مقبولاً مرضيّاً عند الله، كما تقول: لقد قلت يا فلان قولاً، أي قولاً حسناً.
(مَرّوا باللَّغْوِ مَرّوا كِرَاما) :
اللغْوُ هو الكلام القبيح على اختلاف أنواعه، ومعنى مَرّوا كراماً: أعرضوا عنه واستحيوا، ولم يدخلوا مع أهله، تنزيهاً لأنفسهم عن ذلك.
(مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) :
يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية، وفي معنى الدعاء هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يُبَالي الله بكم لولا عبادتكم له، فالدعاء بمعنى العبادة، وهذا
قريب من معنى قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) .

(2/382)


وقال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) .
الثاني: أنَّ الدعاء بمعنى الاستغاثة والسؤال، والمعنى لا يُبَالي الله بكم، ولكن
يرحمكم إذا استغَثْتم به ودعوتموه، ويكون على هذين القولين خطاباً لجميع الناس من المؤمنين والكافرين، لأن فيهم من يعبد الله ويدعوه.
أو خطاباً للمؤمنين خاصة، لأنهم هم الذين يعبدون الله ويدعونه، ولكن يضعف هذا بقوله: (فقد كذَّبْتم) .
الثالث: أنه خطاب للكفار خاصة.
والمعنى على هذا: ما يَعْبَأ بكم رَبي لولا أنه يدعوكم إلى دِينه، والدعاء على هذا - بمعنى الأمر بالدخول في الدين.
وهو مصدر مضاف إلى الفاعل.
(مَعَكمْ) :
خطاب لموسى وأخيه ومن كان معهما، أو على جعل الاثنين جماعة.
(مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا) :
إنما سألهم الخليل - صلى الله عليه وسلم - مع علمه أنهم يعبدون الأصنام ليبَيِّن لهم أن ما يعبدونه ليس بشيء، ويُقيم عليهم الحجة.
فإن قلت: لم صرّحوا بقولهم نعبد مع أن السؤال يُغني عن التصريح بذلك.
وقياس مثل هذا الاستغناء بدلالة السؤال كقوله: (مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) ؟
فالجواب أنهم صرحوا بذلك على وجه الافتخار والابتهاج بعبادة الأصنام.
ثم زادوا قولهم: (فنظلّ لها عَاكِفين) - مبالغة في ذلك.
(مَنْ أتى اللهَ بقَلْبٍ سَلِيم) .
أي من الشرك والمعاصي.
وقيل الذي يلقى به ربه وليس في قلبه شيء غيره.
وقيل بقلبْ لديغ من خشيته، والسليمُ اللديغ لغة.
وقال الزمخشري: هذا من بدع التفاسير، وهذا الاستثناء

(2/383)


يحتمل أن يكون متصلاً فيكون من أتى الله مفعولاً بقوله لا ينفع.
والمعنى على هذا: المال لا ينفع إلا من أنفقه في طاعة الله، وإن البنين لا ينفعون إلا مَنْ علمهم الدين، وأوصاهم بالحق.
ويحتمل أيضاً أن يكون متصلاً ويكون قوله: (من أتى الله) بدلاً من قوله: (مالٌ وبنون) ، على حذف مضاف تقديره إلا مال مَنْ أتى الله وبنوه.
ويحتمل أن يكون منقطعاً بمعنى لكن.
(ما أضَلَّنَا إلاَّ المجرِمون) :
يعنون كبراءهم وأهل الحَزْم والجرْأة منهم.
(ما أنا بِطَارِدِ المؤمنين) .
لما طلب قوم نوح منه أن يطرد الأراذل في زَعْمهم أعرض عنهم، وجاوبهم بهذا، وكذلك قريش طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد الضعفاء من مجالسته كبلال، وعمَّار، وصهيب.
(مَرْجومين) :
إما بالحجارة، أو بالقول والشتم.
والأول أظهر، لأنه صح عنهم أنهم كانوا يرجونه حتى أن صبياً كان على عاتق والده، فلما رأى نوحاً قال له ألقني، فأخذ حجراً من الأرض ورماه به، فحينئذٍ دعا عليهم، وقال: (رَبِّ لا تذَرْ على الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً) .
والرجم بمعنى القتل أيضاً.
(مَشْحون) : مملوء.
ومعناه أن الله تعالى لما أراد هلاك قوم نوح جاءه جبريل، وأمره أن يتَّخذ الفلك قال: كيف أصنعه، قال: انحت مائة ألف وأربعة وعشرين ألف لوح، فصار ينحتهم ويجدُ على كل لوح اسم نبيء.
فقال نوح: يا رب، ما هؤلاء، فقال الله له: انحتها وأظهر أسماءهم عليها.
فنحتها وظهر له على كل لوح اسم نبيء من آدم إلى نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم أمره أن يتَّخذ على عددهم دسُرًا، ويضم الألواح بعضها إلى بعض، ففعل، فكلما مرّ عليه مَلأ من قومه سخروا منه.
فلما ضم الألواح قالوا له: ما هذا، قال: سفينة النجاة.
فقالوا: وأين البحر، فقال: يأتي الله به (1) .
__________
(1) كلام يفتقر إلى سند صحيح.

(2/384)


وفي الخبر أنه احتاج إلى أربعة ألواح، فقال له جبريل: انحتها فنحتها وظهر
على الأول أبو بكر، وعلى الثاني عمر، وعلى الثالث عثمان، وعلى الرابع عليٌّ، فقال نوح: مَنْ هؤلاء، قال الله له: هم أصحاب حبيبي وصَفِييِّ وخيرتي من خلقي، ينصرونه ويبذلون مهجهم دون مهجته، فهم عندي بمنزلة الأنبياء (1) .
فلما ظهرت هذه الأسماء الكرام أنجى الله بها أصحاب نوح عليه السلام.
فالذي يحبهم ويصلي عليهم أولى بالنجاة من الآلام.
(مَصَانِع) :
جمع مصنع، وهو ما أتقن صنعه من المباني.
وقيل: مآخذ الماء.
(مَتَّعْنَاهمْ سنِين) :
يراد به عمر الدنيا.
والمعنى أن مدةَ إمهالهم لا تغْني مع نزول العذاب بعدها وإن طالت مدةَ سنين، لأن كل ما هو آت قريب.
(مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ) .
الضمير للقرآن، وهذا ردّ على مَنْ قال إنه كهانة نزلت الشياطين به على
نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأنى لهم بالوصول إلى ذلك!.
ولفظة (ما ينبغي) تارة تستعمل بمعنى لا يمكن، وبمعنى لا يليق.
وإذا منعوا من استراق السمع عند مبعثه - صلى الله عليه وسلم - فكيف يستطيعون الكهانة.
(ما ظُلِموا) :
في هذا إشارة إلى ما قاله حسّان بن ثابت
وغيره من الشعراء في هَجْو الكفار بعد هجوهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، فأباح الله لهم الانتصار، حتى قال - صلى الله عليه وسلم - لحسان: كيف تهجو قريشاً وأنا منهم.
فقال: لأسلَّنَّكَ منهم سلَّ الشَّعْرةِ من العَجِين.
(مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) .
يعني في مكان النار ومَنْ حول مكانها، يريد الملائكة الحاضرين وموسى عليه السلام.
قال الزمخشري: الظاهر أنه عام في كل مَنْ كان في تلك الأرض وفي ذلك
الوادي وما حوله من أرض الشام.
__________
(1) في غاية البعد، وهو كسابقه يفتقر إلى سند صحيح.

(2/385)


(مَنْ ظَلَم) ، تقديره: لكن مَنْ ظلم مِنْ سائر الناس لا من
المرسلين.
وقيل متصل على القول بتجويز الذنوب على الأنبياء، وهذا بعيد، لأن
الصحيح عصْمتهم من الذنوب.
وأيضاً تسميتهم ظالمين شنيع على القول بتجويز الذنوب عليهم.
(مَكثَ غَيْرَ بَعِيد) ، أي أقام زماناً قريباً.
ويجوز فتح الكاف وضمها، وبالفتح قرأ عاصم.
ويحتمل أن يكون مسنداً إلى سليمان أو إلى الهدْهد، وهو أظهر.
(ماذا يَرْجِعون) : من قوله: (يَرْجع بعضُهم إلى بَعْض الْقَولَ) .
(ما شَهدْنا مَهْلِكَ أهْله) :
الضمير راجع إلى قوم صالح، وذلك أنهم اجتمعوا وتشاوروا في قتله، فقالوا نسافر إلى أرضٍ، ثم نرجع خفية من الناس، ونقتل صالحاً، ثم نحلف مائة عند أقربائه إنا ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلاً.
(مكروا مَكْرا ومَكَرْنَا مَكْراً) :
هذا على جهة المشاكلة كما قدمنا مراراً، وذلك أنهم أرادوا المكر بصالح، والله أراد المكر بهم والنجاة بصالح.
روِي أنهم لما قتلوا الناقة قال لهم صالح: (تمتّعُوا في داركم ثلاثة أيام) ، وعلامةُ ذلك أن تكون وجوهكم في اليوم الأول حمر، وفي الثاني صفر، وفي الثالث سود، فلما رأوا هذه العلامة قالوا نقتل صالحاً كما قتلْنَا الناقة، فقصدوا إلى داره في اليوم الرابع، وكان يومٍ الأربعاء، فأخذ جبريل عليه السلام بسور البلد وزَلْزَلَه، وصاح عليهم صيْحة ماتوا منها بأجمعهم.
وقيل: إن الرهط الذين تقاسموا على قَتْله اختفوا ليلاً في دارٍ قريبة من داره

(2/386)


ليخرجوا منها لقَتْله بالليل، فوقعت عليهم صخرة أهلكتهم، ثم هلك قومهم
بالصَيْحَة، ولم يعلم بعضهم بهلاك بعض، ونجا صالح ومن آمن به.
فإن قلت: عذَّب الله من قتل الناقة ولم يعذب من قتل الحسين؟
فالجواب كانت الناقة سببَ الفتنة لقوم صالح، لأنهم طلبوها، وعادة الله
سبحانه هلاكهم من طلب آية ولم يؤمن العذاب.
والحسين وَلد مَنْ أرسل رحمة للعالمين، وفي ذلك الزمان كانت أبواب العذابِ مفتوحةً، وفي زمان الحسين مغلوقة، ألا ترى أن قوم صالح لم ينْفَعْهم الندم على قتلها، وهذه الأمّة مرحومة بمن هو رحمة للعالمين، اللهم كما أرسلته لنا رحمة، فرفعتَ به العذاب عن جميع الخلائق، لا تحرمنا منها، أقسمت عليك بجاهه عندك، فإنه قال: إذا سألتم اللَه فاسألوه بجاهي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كلما ذكرك وذكره الذاكرون، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون صلاة وسلاماً دائمين بدوامك باقيين ببقائك، لا منتهى لهما دون علمك، إنك على كل شيء قدير.
(مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) :
سبب نزول هذه الآية أنَّ قريشاً سألوه - صلى الله عليه وسلم - متى الساعة، فأخبره الله بعدم علمها، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: مَنْ زعم أنَّ محمداً يعلم الغيب فقد أعظم الفِرْية على الله.
فإن قلت: قد أخبر بكثير من المغيّبات، فوقعت على حسب ما أخبر به.
وذلك معدود في معجزاته؟
والجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - بيّن ذلك بقوله، إني لا أعلم الغيب إلا ما علمني الله، اقرؤوا إن شئتم: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) .
فإن قلت: قد ظهر من أخبار الكهّان والمنجمين ما وقع وصدقهم؟
والجواب أن إخبارهم بذلك عن ظن ضعيف، أو عن وَهْم، لا عن علم،

(2/387)


ولا يجب تصديقهم، لأن الآية نَفَتْ علمهم، وإنما يجب علينا تصديق الرسل، لأنه علم إلهي.
وقيل: إن الغيب في هذه الآية يراد به متى تقوم الساعة.
ولذلك قال: (وما يَشْعرونَ أيَّانَ ئبْعَثون) .
وقد قدمنا في النحل من هذا المعنى.
ورضي الله عن بعض العلماء لما دخل على بعض الملوك ووجده متحيّراً، فقال له: مالك، فقال له الأمير: رأيت البارحة ملك الموت في المنام، وسألته: كم بقي من عمري، فأشار لي بأصابعه الخمس، ولا أدري هل هي خمس ساعات أو أيام أو جمعات أو أشهر أو سنين، فقال له: إنما أشار لك بالخمس إلى الحديث في: "خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ: إنَّ الله عنده علم الساعة) .
فهدأ روعه.
وإذا كان ملك الموت الموكل بقبض الأرواح لا يدري عمر العبد حتى يؤمر
بقبض روحه، فما بالك بمن افترى على الله، ورحم الله القائل:
لعمرك ما تَدْرِي الضَّوَارِبِ بالحصا ... ولا زاجراتُ الطير ما اللَّهُ صانِع
فإن قلت: كيف قال: (إلا اللَّهُ) بالرفع على البدل، والبدل لا يصح إلا إذا
كان الاستثناء متصلاً، ويكون ما بعد إلا من جنس ما قبلها، والله تعالى ليس
ممّن في السماوات والأرض باتفاق، فإن القائلين بالجهة والمكان يقولون: إنه فوق السماوات والأرض، والقائلين بنفي الجهة يقولون: إنه تعالى لا فيهما ولا داخلا فيهما ولا خارجاً عنهما، فهو على هذا استثناء منقطع، فكان يجب أن يكون منصوباً؟
فالجواب من أربعة أوجه:
الأول: أن البدل هنا جاء على لغة بني تميم في البدل، وإن كان منقطعاً.
كقولهم: ما في الدار أحد إلا حمار بالرفع، والحمار ليس من الأحدين، وهذا
ضعيف، لأن القرآن نزل بلغة أهل الحجاز لا بلغة بني تميم.
والثاني: أن الله تعالى في السماوات والأرض بعلمه.
، كما قال تعالى: (وهو معكم أيْنَ ما كنتم) ، فجاء البدل على هذا المعنى للظرفية

(2/388)


المجازية، ولا يجوز استعمال لفظة واحدة في الحقيقة والمجاز في حالة واحدة عند
المحققين.
والثالث: أن قوله (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) يراد به كلّ موجود، فكأنه قال: مَنْ في الوجود، فيكون الاستثناء على هذا متصلاً، فيصحّ الرّفْعُ على البدل، وإنما قالَ (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) جَرْياً على منهاج كلام العرب، فهو لفط خاص يراد به ما هو أعمّ منه.
والرابع: أن يكون الاستثناء متَّصلاً على أن يتأوَّل من في السماوات في حق
اللَه كما يتأول قوله: (أَأمِنْتم من في السماء) .
وحديث السوء أو شبه ذلك.
(مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ، أي إنما عليَّ الإنذاز والتبليغ.
والمعنى إن زللتم عن طريق الرشاد، وأضلَّكم الله عن رؤية
السداد فلا يضرني ذلك (ومَنْ يُضلِلِ اللَّهُ فما له مِنْ هَاد) .
وفي هذه الآية دلالةٌ على أن الله هو المضلُّ والهادي.
(مَنْ جاءَ بالحسنَةِ فله خَيْر منها) .
أي عشر إلى سبعمائة، أو من قال: لا إله إلا الله فَلَة الجنّة، بدليل: (ومن جاء بالسيئة فكبَّتْ وجوهُهم في النار) .
والسيئة هنا الكفر والمعاصي التي قضى الله بتعذيب فاعلها.
(مَراضِع) :
جمع - مُرضع، وهي المرأة التي ترضع، أو جمع مَرْضَع بفتح الميم والضاد، وهو موضع الرضاع، يعني الثَّدْي.
(ماءَ مَدْيَن) ، أى بئره، وكانت مدينة شعيب عليه السلام، وذلك حين قدم موسى من مصر، وسقى غَنَم شُعيب، فرأى نفسه غريباً
فقيرًا جائعاً تعبانَ، فقال: أنا الغريب، أنا الفقير، أنا الضعيف، - أنا الحقير، فنودي في سره: يا موسى المريض الذي ليس له مثلي طبيب، والضعيف الذي

(2/389)


ليس له مثلي رقيب، والفقير الذي ليس له مثلي نصيب، والغريب الذي ليس له مثلي حبيب.
كان لموسى سبعة أسفار، فوجد فيها سبعة أشياء: سفر الخوف:
قوله لأمه: (فإذا خِفتِ عليه فألْقِيه في اليَمّ) ، فوجد:
(وأَلْقيْت عليكَ محبةً مِنِّي) .
وسفر الهروب، فوجد الأنس: (ولما وردَ ماءَ مَدْين) .
وسفر الطلب لما سار بأهله فوجد الرسالة: (يا موسى إني أنا الله) .
والسفر ببني إسرائيل لما قال: (أن أسْرِ بعبادِي) .
فوجد فيه النجاة: (فأنجينا موسى) .
وسفر النصَب: (لقد لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَبا) ، فوجد الخضر.
وسفر المقاتلة لا قالوا له: (اذهَبْ أنْتَ وربُّكَ) .
فوجد فيه الحجَر: (أنِ اضْرِبْ بعَصَاك الحجَر) .
وسفر الطور: (ولما جاء موسَى لمِيقَاتِنا) ، فوجد فيه الكلام: (وكلَّمه
ربُّه) .
فإن قلت: بأي شيء عرف موسى الكلام (1) ؟
فالجواب: لما علم أن كلام المخلوقين ينقطع وهو بسماع الآذان ومن جانب
واحد، ووجد له هيبة ولذة، ولما سمعه غير منقطع، ومن غير جارحة، ومن
جميع الجوانب، علم أنه كلام خالقه، ولذلك لما قال له الشيطان: مع مَن تتكلم، فقال له: مع الله.
قال: ومن أين علمت، قال: بهذه الأشياء، فلم يزل في قلب
موسى من هذا حتى سأله الرؤية، فلم يعْطَها، لأنها لم تكن وقتها.
وكيف يُرى الباقي بالفاني، وكيف يَرى الرحمن من رأى الشيطان، ولما ذهب إلى الجبل جعل هارون واسطة بينه وبين قومه، فقال له: انظر إلى الجبل، فلما تجلَّى الربّ إلى الجبل صار سبعين ألف قطعة، وخرج من كل قطعة عارف يقول: أرني أنظر إليك، فقال الله لموسى: أتظنّ أنك مشتاق إليّ، انظر إلى هؤلاء تطلب مطلبك، فخر موسى صعِقاً من جزَعهم (2) .
وأيضاً لو أعطي الرؤية بسؤاله كان مكافأةَ لسؤاله، كالمائدة لعيسى، وإحياء الطيور لإبراهيم، مكافأة لسؤالهما، ولم تكن الرؤية مكافأة لشيء، لأنها ليس مثلها شيء.
وأيضاً لما طلب رؤيةَ الحبيب قال
__________
(1) قد يجاب عن ذلك بالإلهام الذي يقذفه الله في قلبه، وأمه عليه السلام ألقته في البحر بمجرد الإلهام، فكيف يشتبه عليه كلام الملك العلام؟؟!!!
(2) كلام يفتقر إلى دليل، ورائحة الإسرائيليات المنكرة تفوح منه.

(2/390)


تعالى: (وما كنْتَ بِجَانبِ الطّورِ إذْ نادَيْنَا) .
ولم يكن وجد رؤيته فكيف يعطيه رؤيته، ولا وجد له لذة، كأنه قال له: لن تراني بعين الحبيب وأمَّتِه حتى تكون معهم، ثم تراني، وأيضاً قد أعطاه الله رؤية القلب من غير سؤال، فلا يجوز في الحكمة أن يعطيه رؤيةَ البصر بالسؤال، وكأنَّ رؤية القلب أعظم وأفضل من رؤية البصر، لأنَّ رؤيةَ البصر مؤقتة، ورؤية القلب دائمة.
قال المخزومي: إنما لم يعطه الرؤية، لأنه قال في أزله: (لا تدْرِكه الأبصار) .
يعني في الدنيا، فمنعه الرؤية حتى يتحقَّق ما قال، كما أنَّ آدم
عليه السلام لما قال الله: (إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة) - قضي عليه بالمعصية والخروج من الجنة، حتى يتحقق قوله.
وأيضا لما كان نوره يغلب الأبصار حفظ بَصَره، وكيف يستطيع النور الضعيف الثبات مع القوي، ونحن نشاهد بعض البصر يذهب بنورِ البرق.
فإن قلت: لِمَ لَمْ تَصِرْ قلوب العارفين دَكًّا كالجبل وهو يتجلَّى لهم في كل
ساعة؟
والجواب: لما تعوّدت القلوب جمالَه ونورَه مّنذ خلقها فاطمأنّت وسكنت.
ولو كانت ساعة لدكَّت القلوب كالجبل، فمن ادَّعَى رؤيته بالقلب يصدق قوله بخلاف البصر.
(مَن استَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِين) :
هذا من قول صفورا لأبيها، فقال لها: ما رأيتِ من قوّته وأمانته، فقالت: رفع الحجر الذي على رأس البئر وحده، ولا يرفعه إلا أربعون رجلاً، وكنت أمشي أمامه، فقال: تأخَرِي حتى لا يقع بصري على أعضائك، وجعلت هذه المخاطبة رغبة فيه، لكنها كتمت محبته كزليْخا، قالت: (عسى أنْ ينفَعنا أو نتخذه وَلدا) .
وكذلك خديجة بنت خويلد جعلت خدمة سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - سبباً للاتصال به، وكذلك أنت يا محمدي، جعل الله لك امتثالَ الأوامر واجتناب النواهي سبباً لإقباله عليك ومواعدتك الجنة إكراماً لك ومحبة فيك، فلما سمع شعيب مقالة ابنته ركب فيه وقال: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ)

(2/391)


فقال موسى: ليس لي قدرة على المهر.
قال شعيب: (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ، فرضي موسى.
وجمع شعيب أهْل بلده وعقد النكاح، وسلمها إليه.
قال السدِّي: أتى ملك إلى شعيب بعصا موسى، وكانت من سِدْرةِ المنتهى.
نزلنها آدم من الجنة.
وقيل مِنْ آس فورثها شيث، ثم إدريس، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم إبراهيم، ثم يعقوب، ثم الأسباط، ثم إلى شعيب.
فقال لموسى: ادخل البيت، وخذ عصا من بين العصيّ، واذهب نحو الغنم، فدخل موسى وخرج بعصاه، فرآه شعيب، وقال هذه أمانة، ردّها إلى موضعها، وخذ الأخرى، فرجع ووضعها، وأراد أخْذَ الأخرى.
فدخلت هذه العصا في يده، وكلما جهد أن يأخذ الأخرى لم يقدر، فأخذ تلك العصا، وذهب نحو الغنم، فقال شعيب: قد ذهب بأمانة الغير، فألحَقه واستردها منه، فأدرك موسى وقال: أعطني العصا، فأبى موسى من إعطائه، فتنازعا واتفقا على أن يحكم بينهما مَنْ لقيهما أولاً، فلقيهما ملك على صورة آدمي، فقال: احكم بيننا.
فقال: يا موسى، ضع العصا على الأرض، فإن قدرْتَ أن ترفعها فهي لك، وإن قدر على رَفْعها هو فهي له، فوضع العصا على الأرض، فجهد شعيب على رَفْعها فلم يقدر ألبتَّة، فتناولها موسى بيده ورفعها من وقته، وظهرت منها معجزات كثيرة قدمناها (1) .
وكذلك بالخاتم الذي جعله الله العهْد بينه وبين خَلْقه.
وخمس أوراق من التين التي كانت تستره: الواحدة أكلتها الظِّباء فصارت
مِسْكا، والثانية أكلتها الحوت فصارت في بطنها عنبراً، والثالثة أكلتها النحل
فصارت عسلاً.
والرابعة الدود فصارت في بطنها إبريسماً.
والخامسة جميع الأشجار التي في العالم.
والمقام جعله الله آية بيّنة ومصلّى للمسلمين.
فتأمل يا محمدّي من اتَّصف بالأمانة من عند الله، وعند خلقه، فإن اتصفتَ
بها كم لك من تشريف! ألا تراه يقول: (ألست بربكم) ، وقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) .
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة.

(2/392)


كأنه يقول: عبدي ليس لي حاجةٌ لطاعتك وخِدْمتك، ولكن أمرتك بالطاعة والعبادة، وحملت عليك البلاءَ والمشقة، وطلبت منك النفس والمال والطاعة في جميع الأحوال، لتعلم أنَّ مرادي منك الوصال، وإنما جعلت الأعمال لقطع تهمة الكفار وطعْنهم.
فإن قلت: يشتري أنفسهم وهي له، ولم يقل قلوبهم؟
والجواب إنما قال ذلك على طريق الانبساط، كسيّد يقول لعبده: أقرضني
كذا وكذا، واشتر منّي كذا، والمال والنفس له، وإنما أراد أن يريه كمال لطافته بتمام محبته، وأيّ حاجة له في ثمن ببيعك، ولكن ليكون فخرك أكبر، وتعلم أنه يحبُّك ويرضاك، لأن السيد لا يشتري العبد إلا لمحبته فيه، ولا يرضاه عبداً لغيره، ولا يطلب حوائجه إلا منه، وقال أنفسهم، لأن أنفسهم معيوبة، والقلوب نقية، فاشتراء العيوب يدل على أنه لا يرده لعلمه بالعَيب، فاشتراؤه لك يا محمدي، دليل على أنه يريد إصلاح عَيْبك، ومَنْ كان قادراً على إصلاح عيْب السلعة لا يردها في الشاهد، (وَمَنْ أَوفَى بِعَهدِه من الله) .
فأوف بعهده، كما قال: (أَوْفوا بعَهْدِي أوفِ بِعَهدِكم) .
فلو أراد إبليس أنْ يغْوِيك ويدعو ما ليس فيك لم يقدر، لأن المشتري الأول هو اللَه، والثمن هو الجنّة، والدال على هذا البيع هو رسولنا وحبيبنا، ولذلك دخل الجنة ليلةَ المعراج ليصف لنا الثمن وكيفيته، فأبشروا يا أمة محمد، فأنتم خير أمة، سمّاكم الله أمّة الهداية والدعوة والفضيلة والخير، وسماكم بأسماء الخليل، وأعطاكم خِصَال الكليم، وأكرمكم بإكرام نبيكم الحبيب، قال تعالى في الخليل: (إنّ إبراهيم كان أُمَّةً) .
وقال: (كنتم خَيْرَ أمّة) .
وقال: (إن إبراهيم كان أمّةً قانِتا لله) .
ولكم: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ) .
وقال للخليل: (حَنِيفاً) ، ولكم (حنَفَاء ويقِيموا الصلاة) .
وقال في إبراهيم: (شاكرا) . مسلماً. وفياً.
وفيكم: الصابرين. والمسلمين. والشاكرين. و (يوفون بالنَّذْر) .
وقال في إبراهيم: (صدّيقاً نبيًّا) .
وفيكم: (أولئك هم الصديقون) .
وقال في إبراهيم: رحيما،

(2/393)


حليما، أوَّاهاً، منيباً.
وقال فيكم (رحماء بينهم) .
(إنه كان للأوَّابين غفوراً) . (منيبين)
وقال للكليم: إني اصطفَيْتكَ.
ولا تَخَفْ.
ولقد منَنَّا عليكَ مرةً أخرى.
ونجَّيْنَاهما وقومهما.
وكتبنا له في الألواح من كل شيء.
قد أوتيت سؤْلك يا موسى.
قد أجيبت دعوتكما.
وقرّبناه نجيًّا.
وقال لكم: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) .
لا تخف.
ولا تحزن.
ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا.
إني معكم.
لئن أقمتم الصلاة.
بل الله يمنُّ عليكم أنْ هداكم للإيمان.
وننجِّي الذين اتقوا.
ثم أورثْنَا الكتاب الذين اصْطَفَيْنَا من عبادنا.
وآتاكم من كلِّ ما سألتموه.
وقال ربّكم ادْعوني أستَجِبْ لكم.
واسجدْ واقترب.
ما يكون من نَجْوَى ثلاثة إلا هو رابعهم.
وأما إكراام الحبيب فعشرة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) .
(وجئْنَا بكَ على هؤلاء شَهيدا) .
(أليس الله بكاف عَبْده) .
(ألَمْ نشْرح لكَ صَدْرك) .
(إنّ الله وملائكتَه يصلّون على النبي) .
(يومَ لا يخْزِي الله النبي والذين آمنوا معه) .
وقال لكم يا أمّته: (ما يفتح الله للناس مِنْ رَحْمةٍ) .
(إن الله يغفِر الذنوب جَميعاً) .
(وأتممْتُ عليكم نِعْمَتي) .
(وإنّ الله لَهادِ الذين آمنوا) .
(إن ينْصرْكم الله فلا غالِبَ لكم) .
(لتكونوا شهَدَاءَ على الناس) .
(وكفى الله المؤمنين القِتَال) ، (أفَمَنْ شرح الله صَدْره للإسلام) .
(هو الذي يصَلِّي عليكم ومَلاَئكته) .
(والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله) .

(2/394)


اللهم اغفر لنا ولا تؤاخذنا بجاه نبينا وشفيعنا - صلى الله عليه وسلم -.
(ما كنْتَ بجانبِ الغَرْبي) :
هذا خطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمراد به إقامة الحجة، لإخباره بحال موسى وهو لم يحضره.
والغربيّ: المكان الذي في غرب الطور، وهو الذي كلَّم الله فيه موسى، والأمر المقضيّ إليه هو النبوءة.
(ما كنْت من الشاهدين) :
يعني من الحاضرين هناك على
هذه الغيوب التي أخبرناك بها، ولكنها صارت إليك بوَحينا، فكان الواجب على الناس المسارعة إلى الإيمان بك وامتثال أمرك، (ولكنا أنشأنا قرونا)
، بعد زمان موسى، فتطاول عليهم العمر، وطالت الفَتْرة.
فأرسلْناك على فترة من الرسل، فغلبت عقولهم، واستحكمت جهالتهم، فكفروا بك.
(مَقْبوحين) : مطرودين مبعدين.
وقيل قبحت وجوههم لسوادها وزردة أعينهم.
يقال قبح الله وجهه - بتشديد الباء وتخفيفها.
(مَنْ أحببت) :
الخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وسبب نزولها إعراض عمِّه عن الإسلام لما قال له: يا عمّ، قل لا إله إلا الله.
كلمة أحاجّ لك بها عند الله.
فقال: أخاف أن تعيِّرني قريش، ومات على الكفر، فأنزل الله عليه: (إنك لا تهدي مَنْ أحبَبْت) .
ولفظ الآية مع ذلك على عمومه.
(مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا) .
أمُّ القرى: مكة، لأنها أول ما خلق من الأرض، ولأن فيها بيت الله.
والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى ببعث محمد - صلى الله عليه وسلم - في أمّها، فإن كفروا أهلكهم الله بظلمهم بعد البيان لهم وإقامة الحجة عليهم.
(وما أوتيتمْ مِنْ شيء) :
تحقير للدنيا وتزهيد فيها، وأنها لا قيمة لها، وما عند الله خير وأبقى.

(2/395)


(أَفَمَنْ وَعَدْنَاه وَعْداً حَسَناً) :
هذه الآية إيضاح لما قبلها
من البَوْنِ بين الدنيا والآخرة.
والمراد بمن وعدناه المؤمنون، وبمن متعناه الكافرون.
وقيل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأبو جهل.
وقيل حمزة، وأبو جهل.
والعموم أحسن لفظاً.
(ماذا أَجَبْتئم المرْسَلِين) :
أي هل صدقتموهم أو كذبتموهم، فلا يدرون جواباً، لما يرون من الأهوال، ولا يسأل بعضهم بعضاً لتساويهم في الحيرة.
(ما يشاء ويختار) ، أي يخلق ما يشاء من الأمور على
الإطلاق، لأنه أعلم بمصالحها، لا يسأل عما يفعل.
وقيل سببها استغراب قريش لاختصاص نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالنبوّة.
(ما كان لهم الخِيرَة) : (ما) نافية.
والمعنى ما كان للعباد اختيار، إنما الاختيار والإرادة للهِ وحده، فالوقفِ على قوله: ويختار.
وقيل: إن (ما) مفعول لـ (يختار) .
ومعنى (الخِيَرة) على هذا الخير والمصلحة.
وهذا يجري على قول المعتزلة، وذلك ضعيف لرفع (الخِيَرة) على أنها اسم كان، ولو كانت (ما) مفعولة لكان اسمها مضمراً يعود على (ما) وكانت.
(الخِيَرة) منصوبة على أنها خبر كان.
وقد اعتذر عن هذا مَنْ قال إن (ما) مفعولة بأنْ قال: تقدير الكلام يختار ما كان لهم (الخِيَرة) فيه، ثم حذف الجار والمجرور، وهذا ضعيف.
وقال ابن عطية: يتجه أن تكون (ما) مفعولة إذا قدرت كان تامة، ويوقف
على قوله. (ما كان) ، أي يختار كل كائن، ويكون لهم الخيرة جملة مستأنفة، وهذا بعيد جدا.
(ما إنَّ مَفَاتِحَه) :
هي التي يفتح بها.
وقيل هي الخزائن.
والأول أظهر.
وكانت مفاتيح خزائنه حمل مائة بعير.
وفي رواية سبعين بعيراً (1) .
__________
(1) يحتاج إلى دليل.

(2/396)


قال مجاهد: وكان وزن كل مفتاح درهما.
وفي رواية وزن نصف درهم.
ويفتح بكل مفتاح سبعون باباً.
فلما جمع المال ترك النوافلَ من العبادات، فأمر
الله تعالى موسى أن يطلب منه زكاةَ أمواله، فحسب مقدارَ زكاته فرآه كثيراً، فلم يؤدّه، وكان يركب عنده ألف غلام وألف جارية بسروج من ذهب، وثيابهم من ذهب (1) .
(مكانَه بالأمْسِ) :
تمنّى بنو إسرائيل مكانَ قارون لما رأوا من مركبه، وما أعطاه اللَّهُ من الزينة والحشم، فلما امتنع قارون من الزكاة
ألحَّ عليه موسى، فقال له: اجمع أهل مصر غداً، فإن غلبتني بالحجة أعطيتك
زكاة المال.
فدعا قارون امرأةً ذات حسن وجمال، وقال لها: إني أجمع بني
إسرائيل، فإن شهدت على موسى بالفسق، وقلتِ أنا حاملة منه أعطيتك ما
أغنيك، فقبلت.
ثم جمع قارون بني إسرائيل في داره، ودعا موسى، فقالت بنو إسرائيل: عِظْنَا موعظةً.
فوعظهم، وقال: من سرق مالاً قطِعت يده، ومن زنى بامرأة قتل.
فقال قارون: إن فعلتَ ما قلت فكيف الحكم عليك، فقال موسى:
إن فعلتُ وجب عليَّ الحكم.
فقال قارون: لي شاهد بأنك زنيت بهذه المرأة وهي حامل منك.
فأشار إليها وقامت، وأوقع الله الرعْبَ في قلبها، وحوَّل لسانها من
الكذب إلى الصدق، وقالت: إن موسى بريء مما يقوله قارون - وأقرَّتْ بقول قارون لها، وإني أخاف الله من ذلك، هو رسوله وكليمه.
فغضب موسى عليه وناجى واشتكى من قارون، فجاءه جبريل وقال: يا
موسى، إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: جعلت الأرض في أمرك فأي شيء تأمرها فهي مطيعة لك في إهلاك قارون.
فرجع موسى إليه وهو جالس على السرير متّكئاً على فراش من ديباج، فضرب موسى عصاه على الأرض، وقال لها: خذِيه، فأخذَتْه إلى ركبتيه، فتضرع إلى موسى فلم يلتفت إلى قوله، وهو يستغيث إليه مراراً، ويعرض عنه، فقال الله له: يا موسى، استغاث بك أربع مرات فلم تغثه، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي مرةً واحدة لأغَثْته، فحينئذ قام
__________
(1) لا يخفى ما فيه من بعد بعيد.

(2/397)


الذين تَمَنَّوْا مكانه بالأمس يقولون: (ويكأن الله يبْسط الرزْقَ لمن يشاء) .
وخسف الله به وبداره الأرض، لأنه لو لم يخسف بداره
لقالت بنو إسرائيل: دعا عليه موسى ليأخذ ماله، فانظر هذه الرحمة الشاملة
حيث عاتب كليمَه على عدوه وقوله لو: لو استغاث بي لأغثته، وإن لم تعمل على هذا فاقرأ قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسْرَفوا على أنفسهم..) .
وإضافته إليك في قوله: (وإلهكم إله واحد) .
فما أشرفها من إضافة!
وما أحسنه من تشريف! ولذلك يقول تعالى: خلقت الأشياء كلَّها لك، وخلقتك من أجْلِي، فكلهم لك، وأنا لك، فإذا كنتَ لي فأيّ شيء يبقى لإبليس معك.
وسمّى العبد عبدا، لأنه محل العَصا، ومسلكه العيوب، ولما أضاف العبد إلى نفسه خاف أن يسلبه إبليس من الله عز وجل فقال: (وهو معكم) ، فأضافه إلى نفسه حتى لا يقدر إبليس أن يسلبه منه، وليس لك الفخر أيها العبد بنسبتك لسيدك، بل الفخر لك لأنه إلهك والإله يرزقك، وإن عملت عملاً قَبِله منك، وإن أذنبت ذنوبا غفرها لك، وأنت تشاهد العبد يسمِّي عَبْدَه باسم لا يقدر أحد أن يرفعه ما دام سيده حيًّا، وهو تعالى أضافك إليه شئت أو أبيت، ويكفيك من محبته لك ولطفه بك أنه قال: (أسرفُوا على أنفسهم) ، ولم يقل أسرفتم، لئلا يخجل العاصي، ويفتضح، وتستُّراً عليه حتى لا
يهتك ستره ما لم يشرك به، فإنْ رجع بعد الشرك قَبِله وأقبل عليه، ولذلك قال تعالى: (إنّ اللهَ يَغْفِرُ الذنوبَ جميعاً) ، ومعاصيك أيها العبد بين
اثنين، في الله وفي الرسول، فأما التي في الرسول فقد شفع الله فيك، وقال له: (فاعْفُ عنهم واستَغْفِر لهم) .
والتي في الله يأمر الرسول أن يشفع فيك إلى الله.
وذنوبك أيضاً لا تخرج من اثنين: إما صغيرة فهي مغفورة باجتناب الكبائر، قال تعالى: (إن تجْتَنِبوا كبَائِرَ مَا تُنْهَوْن عنه نُكفّرْ عنكم سيًئَاتِكم) .
وإما كبيرة فقد ادَّخر لكَ الرسولُ الشفاعة فيها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ادخرْتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
قال الحسن البصري: كنتُ مارًّا بمكة فسمعتُ امرأةً تقول لزوجها: كل إساءةٍ

(2/398)


فعلتها بي فلا بَأسَ عليك إذا لم تبدّل بي غيري ولم تشرك غيري معي.
فقلت: هذه مثل قوله تعالى: (إنَّ اللهَ لا يَغْفِر أن يشْرَك به) .
وسمع نصراني امرأة تقول لزوجها: أنا ومالي لك ما لم تشرك معي ضرة.
فقال: هذا مخلوق لا يرضى بشريك معه، فكيف بالخالق، فأسلم من الشرك.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: إلهي، كاد رجائي قبل المعصية يقارب رجائي
قبل الطاعة، لأنه بطاعة العبد يظهَر من الله العدل وهو الثواب، وبمعصيته يظهر منه الفضل وهو الرحمة.
وقال أيضاً: مثل المؤمن طاعة واحدة بعشرة أمثالها ومعصيته بين ثلاث: طاعة الندامة والخوف والرجاء، وكان من دعائه: إلهي، إنْ تعذِّبني يفرح إبليس ويحزن محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن تعْفُ عني يفرح نَبييِّ ويحزن عدوِّي، وأنا أعلم أنك لا تريد شماتةَ العدوّ وحزْنَ الحبيب، وقد قلت: (أني أنا الغَفور الرَّحيم) .
فإن قلت: هل بين هذين الاسمين فرق، وهل الغفار والغافر بمعنى الغفور.
وَلِمَ لَمْ يَقُلْ في العذاب: أنا المعذّب، بل قال: (وأْنَّ عذَابي هو العذاب الأليم) ؟
فالجواب أن الغفور للعصاة يغفر لهم جمع معاصيهم، والرحيم للمطيعين يقبل
جميعَ طاعاتهم مع التقصير.
والغافر للذنب والغفّار مبالغة للذنوب الكثيرة.
قال تعالى: (وإني لغَفَّارٌ) ، والغفور لتعجيل المغفرة، قال تعالى: (إنه كان للأوَّابين غفورا) .
وبالجملة فله سبحانه مائة اسم، التسعة والتسعون أخبرك بها نبيك، فكلما ذكرته بها ذكرك بتسعة وتسعين رحمة من عنده، وإنما قال عذابي، لأن المغفرة صفة والعذاب فعل، والفعل يجوز أن يكون وألاَّ يكون، والصفة لا تجوز إلا أن تكون ألبتة.
(مَعَادٍ) :
المعاد: الموضع الذي يعاد إليه، يعني مكة.

(2/399)


ونزلت الآية حين الهجرة، ففيها وَعْدٌ بالرجوع إلى مكة وفَتْحها، وفيها خاصية لمن أراد من المسافرين الرجوعَ إلى وطنه فليقرأها حين خروجه يعدْ إليه.
وقيل يعني الآخرة، ففيها الإعلام بالحشر.
وقيل يعني الجنة.
(مَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ) ، أي ما كنت
تطمع أن تنالَ النبوءة، ولا أن ينزل عليك الكتاب، ولكن الله رحمك بذلك، ورحم الناس بنبوءَتكَ.
والاستثناء بمعنى لكن هو منقطع.
ويحتمل أن يكون متصلاً، والمعنى ما أنزلنا عليك الكتاب إلا رحمة من ربك لكَ أو للناس، ورحمة على هذا مفعول من أجله، أو حال.
وعلى الأول منصوب على الاستثناء.
(مَنْ كان يَرْجو لِقَاءَ اللهِ ... ) .، الآية، تسلية للمؤمنين، ووَعْد لهم بالخير في الآخرة، والرجاء هنا على بابه.
وقيل هو بمعنى الخوف.
(مَنْ جاهد فإنما يجَاهِد لنَفْسِه) ، أي منفعة جهاده إنما
هي لنفسه، فإن اللَهَ لا تنفعه طاعة العباد.
والمراد بالجهاد هنا إمّا جهاد النفس، وهو أعظم من جهاد العدو، لقول عمر رضي الله عنه: رجعتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
(مَنْ يقول آمَنّا بالله) :
نزلت في قوم كانوا مؤمنين بألسنتهم، فإذا عذَّبهم الكفار رجعوا عن الإيمان، فإذا نصر الله المؤمنين قالوا: إنا كنَّا معكم.
(مَوَدَّةَ بيْنِكم) :
بنصب مودة: على أنه مفعول من أجله، أو مفعول ثان لاتخذتم، ورفعها على أنه خبر ابتداء مضمر، أو خبر إن وتكون (ما) موصولة.
ونصب بينكم على الظرفية وخفضه بالإضافة.
(ما كانوا سابِقين) .
رأى لم يفوتوا مَنْ أرسلنا عليه حاصباً، إن أراد بالحاصب الريح، فيعود على قوم عاد، وإن أراد به الحجارة فيعود على قوم لوط، وإن حملناه على المعنى الواحد نقص ذكر الآخر.

(2/400)


واستعمال اللفظ الواحد في معنيين جائز للآية: إن الله وملائكته يصلّون على النبي.
ويقرب ذلك هنا، لأن المراد ذكر أحد أصناف الكفَّار.
(مَنْ أخذَتْه الصَّيْحة) : كثمود، ومَدْين.
(مَنْ خَسَفْنَا به الأرْضَ) : كقارون وأصحابه.
(مَنْ أغرقنا) : قوم فرعون وقوم نوح.
(مثَل الذين اتَّخَذوا مِنْ دون اللَهِ أوْلياءَ كمثَلِ العَنْكَبوتِ) .
شبّه الله الكفارَ في عبادتهم الأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتا ضعيفاً.
فكما أنَّ ما اعتمدت عليه العنكبوت من بيتها ليس بشيء كذلك ما اعتمدت
عليه الكفَّار من آلهتهم ليس بشيء، لأنهم لا ينفعون ولا يضرون.
(ما يَدْعونَ مِنْ دونه مِنْ شيء) :
(ما) موصولة بمعنى الذي مفعولة للفعل الذىِ قبلها، أو هي نافية والفعل معلّق عنها، والمعنى على هذا: ألستم تدعون من دونه شيئاً له بالٌ، فيصح أن يسمى شيئاً.
(مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) .
في هذه الآية احتجاج على أنَّ القرآن من عند الله، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقرأ ولا يكتب، ثم جاء بالقرآن.
واختلف هل كتب بيده - صلى الله عليه وسلم -، والصحيح أنه
كتب في عمرة الْحدَيْبية اسمه - صلى الله عليه وسلم - لما طلب منه عمر أن يغيِّر محمد رسول اللَه
فأَبى عليٌّ من تغييره وقال: والله لا أغيِّر اسمك لأجل قريش.
وقد ألف الباجي فيه تأليفاً.
فإن قلت: ما فائدة قوله: (بيمينك) ؟
فالجواب أنَّ ذلك تأكيد للكلام وتصوير للمعنى المراد.
(مَوَدةً ورحمةً) : يعني الجماع، ورحمة: الولد.
والعموم أحسن وأبلغ.

(2/401)


(مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) .
قد قدمنا في غير ما موضع أن هذا إنعاء على المشركين، لأنهم يدعون الله في الشدائد، ويشركون به في الرخاء.
(مَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) .
هذه الآية معناها كالذي تقدم في قوله: (يَمْحَق اللَّهُ الرِّبَا ويربِي الصَّدَقَاتِ) ، ومعناها ما أعطيتم من أموالكم على وجه الربا فلا يَزْكُو عند الله، وما آتيتم من الصدقات فهو الذي يزكو عند الله وينفعكم به.
وقيل المراد أن يهب الرجل أو يُهْدي له ليعوضه أكثر من ذلك، وإن كان
جائزاً فإنه لا ثواب فيه.
وقرئ: وما آتيتم بالمد بمعنى أعطيتم.
وبالقصر بمعنى جئتم به، أي فعلتموه.
وقرئ لتُربوا - بضم التاء.
وليربوَ - بالياء مفتوحة ونصب الواو.
(من يُسْلِمْ وَجْهَة إلى الله) : الوجه هنا عبارة عن القصد.
يعني يستسلم وينقاد لربوييّته.
(ما في الأرض مِنْ شَجَرةٍ أقْلام..) .
إخبار بكثرة كلمة الله، والمرادُ اتساع عِلْمِه، ويعني أنه لو كانت شجرة الأرض أقلاماً والبحور مِدَاداً تصبّ فيه صَبّاً دائماً، وكتبت بذلك كلمات الله لنفدت الأشجار والبحار ولم تنفد كلمات الله، لأن الأشجار والبحار متناهيةٌ، وكلمات الله غير متناهية.
فإن قلت: لِمَ لَمْ يقل: (والبحر مداداً) ، كما قال في الكهف؟
فالجواب أنه أغنى عن ذلك قوله: "يَمدّه"، لأنه من قوله مدّ الدواة
وأَمدها.
فإن قلت: لِمَ قال من شجرة ولم يقل من شجر - باسم الجنس الذي يقتضي العموم؟

(2/402)


فالجواب أنه أراد تفصيلَ الشجر إلى شجرة شجرة حتى لا يبقى منها واحدة.
فإن قلت: لم قال: (كلمات الله) ولم يقل كلم الله. بجمع الكثرة؟
فالجواب أن هذا أبلغ، لأنه إذا لم تنفد الكلمات مع أنها جَمْع قلةٍ فكيف
ينفد الجمع الكثير.
وروي أن سبب نزول الآية قول اليهود قد أوتينا التوراة وفيها العِلْم كله.
فنزلت الآية، لتدلَّ على أنَّ ما عندهم قليل من كثير، والآية على هذا مدنية.
وقيل سببها أنَّ قريشاً قالوا: إن القرآن سينفد.
(مولودٌ هو جَازٍ عن وَالدِهِ شَيْئاً) :
يعني أنَّ الوالد لا ينفع ولده، والولد لا ينفع والده، لأن كلَّ واحد مشغول بنفسه.
فإن قلت: ما فائدة إبراز الضمير في الولد دون الوالد؟
قلت: لِمَا جُبل عليه الوالد من المحبة والشفقة لولده، بخلاف الولد، فإنه لا
يصل لتلك المحبة والشفقة، ولو كان في غاية البر.
(مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) :
أي من خير أو من شر، أو طاعة أو معصية، أو عافية أو بلية، وفيه الإشارة إلى أنَّ العاقل ينظر ما يفعل الله به، فيسلّم له أموره، ويشكره على النعم، ويتوب إليه من المعاصي، ويصبر للنقم.
(مَلَك الْمَوْتِ) :
اسمه عزرائيل، تحت يده ملائكة، وبهذا يجمع بين قوله: (قل يتوَفَّاكمْ مَلَكُ الموت) .
وبين قوله: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) ، وسبب توليته لقَبْض أرواح بني آدم:
استغاثة القَبْضَة من التراب التي خلق الله منها آدم، فقال لها: امتثال أمر الله أولى من رحمتك، فلما ولاه على قبض الأرواح قال: يا رب، يسبونني ويبغضونني.
فقال الله له: سأجعل لموتهم أسباباً من مرَضٍ وغَرَق، وحرق وقَتْل، حتى لا
يذكروك.
(مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) : يعني أنه لا يعلم أحد مقدار

(2/403)


ما يعطيهم الله من النعيم، ورضوان الله أكبر من ذلك.
وقرئ بإسكان الياء، على أن يكون فعل المتكلم، وهو الله تعالى.
(أفمَنْ كان مؤْمِنا كمن كان فاسقاً لا يَسْتَوون) :
يعني المؤمنين والفاسقين على العموم.
وقيل المؤمن علي بن أبي طالب، والفاسق عقبة ابن أبي معيط.
(ماءٍ مَهين) ، أي ضعيف.
وفيه إشارة إلى الاعتبار بهذه الخلقة من نطفة مذرة، ويحمل في جوفه العذرة، ويرجع جيفة قذرة، فيعرف نفسه، وينزلها منزلتها من الضعف والافتقار، ويدع العزةَ والاستكبار.
(ما جعَلَ اللَّهُ لرجل مِنْ قَلْبَيْن في جَوْفِهِ) ، لأنه كالإناء
إذا ملأته بشيء لم يكن لشيء آخر فيه مجَال، وهذا هو السبب في زهد أهل
الصفوة في الدنيا لئلا تشغلهم عن محبوبهم.
قال ابن عباس: كان في قريش رجل يقال له ذو قَلْبين لشدة فهْمه، فنزلت
الآية، نفَتْ ذلك.
ويقال إنه ابن خَطَل، وقيل جميل بن معمر.
وقيل: إنما جاء هذا اللفظ توطئةً لما بعده من النفي، أي كما لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه كذلك لم يجعل أزواجكم أمهاتكم ولا أدعياءكم أبناءكم.
فإن قلت: قد قال الله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) .
وفي قراءة أبي: وهو أبٌ لهم - فما فائدة هذا النهي؟
فالجواب أنه أولى بهم من أنفسهم في شفقته عليهم وإنقاذهم من النار.
ألا ترى أنه في الدنيا قال: أمَّتي أمَّتي.
وفي الحشر: لا أسألكَ فاطمةَ ابنتي ولا نفسي، وإنما أسألك أمتي.
وفي الصراط: اللهم سلِّم أمتي.
وفي الحساب: لا تفضح أمتي.
وفي الميزان يا إسرافيل أرجح لأمتي.
ولا يرضى - صلى الله عليه وسلم - أنْ يبقى أحد من
أمته في النار.
فيجب علينا حبّه أكثر من أنفسنا، وننصر دينه، ونترك حمية
أنفسنا، ونجعل لأزواجه الرضا والمبرة أكثر من أمهاتنا، وإن أوجب الله عليهم حَجْبهن عنا فلعظيم حرمتهنّ.

(2/404)


وأما كونه أباً لنا فالأَوْلَى نسبتنا لآبائنا، كما قال تعالى: (ادْعوهم
لآبائهم ... ) ، الآية، وسيأتي سِرُّ نسبتنا إلى أبينا إبراهيم، وذلك
أنه أمر بذَبْح ولده، فقال: (إني أرى في المنَامِ أني أذْبَحُك) ، فقال الله: يا إبراهيم أرسلتك بالمشاورة، فبعزّتي إن نظرت إليَّ دون الولد، وقطعت عنه قلبك، وسلّمت لأمري لأجعلن أمة محمد أولادك.
قال تعالى: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) .
وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم ينظر إلى شيء دون الله ألبتة: ليلة المعراج عرض عليه جميع الأشياء فلم يلتفت إلى شيء دونه، وهذا قوله: (ما زَاغَ البَصَر وما طَغَى) ، فلما لم ينظر عليه السلام إلى شيء دونه قطع عنه نسب المخلوقين، قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) ، ولو كان النبي أبانا انقطع عنا لجُرْمِنا، كما أن يعقوب قطع عن أولاده بالجرم، بل كان نبيّاً، فلا يقطع عنا بالْجرم.
ولما كان الأب لا تقبل شهادته لابنه وهو - صلى الله عليه وسلم - شهيداً علينا ومزكياً لأعمالنا فتقْبل تَزْكيته.
(معروفاً) ، أي إحساناً، يعني أن نَفْع الأولياء الذين
ليسوا بقرابة الوصية لهم عند الموت مندوب إليه، وأما الميراث فللقرابة خاصة.
واختلف هل المراد بالأولياء المؤمنون أو الكفار، واللفظ أعمّ من ذلك.
(مسطورا) : مكتوباً.
(ما تَلَبَّثوا بها إلاَّ يسيرا) : الضمير للمدينة.
(ما وعدَنا اللَّهُ ورسوله إلا غرورا) :
قيل إن هذا الوعد ما أعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمر بحَفْر الخندق من أنَّ الكفار ينزلون عليهم، وأنهم ينصرفون خائبين.
وقيل: إنه قول الله تعالى: (أم حَسِبْتم أن تَدْخلُوا الجنّةَ ولمَّا يَأْتِكم مَثَل الذين خَلَوْا مِنْ قَبْلكم ... ) .
فعلموا أنهم يبتلون ثم ينصرفون.
(مَنْ قَضَى نَحْبَه) : يعني من قتل شهيداً

(2/405)


كأنس بن النضر، وحمزة بن عبد المطلب.
وقيل قضى نحبه: وَفَى للعهد الذي عاهد الله عليه.
ويدل غلى هذا قوله عليه إلصلاة والسلام: طلحة ممَّنْ قَضَى نَحْبَه ولم يقتل
يومئذ.
(مَنْ يَنْتَظِر) : المفعول محذوف، أي ينتظر أن يقضي نحبه، وهو انتظار الشهادة على قول ابن عباس، أو ينتظر الحصولَ على أعلى
مراتب الإيمان والصلاح على القول الآخر.
(مَنْ يقْنُتْ مِنكُنَّ) :
الضمير عائد على أزواج نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، أي من يأْتِ منهن بعمل صالح يُضاعف لها ثوابه، لفضلهن
على الله، كما أن من أتى منهن بعمل سيئ يُضاعف على البناء للمفعول، وبالنون ونصب العذاب على البناء للفاعل.
وقرئ أيضاً من تقنت - بالتاء - حملاً على المعنى، وبالياء حملاً على لفظ مَنْ.
(ما كان لمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ ... ) :
معناها أنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة اختيار مع الله ورسوله، بل يجب عليهم التسليم والانقياد لأمر الله ورسوله.
والضمير من قوله: (مِنْ أمرهم) - راجع إلى الجَمْع الذي
يقتضيه قوله: لمؤمن ولا مؤمنة، لأن معناه العموم في جميع المؤمنين والمؤمنات.
وهذه الآية موطّئة للقضية المذكورة بعدها.
وقيل: سببها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب امرأة فزوَّجها لمولاه زيد بن حارثة.
فكرهت هي وأهلها ذلك، فلما نزلمت الآية قالوا رَضينا يا رسول الله.
وهذه الآية كقوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) .
وكقوله: (فلْيَحْذَرِ الذين يُخَالفون عَن امرِه أنْ تُصيبَهم فِتنة) .
(إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ ليَحْكُمَ بينهم أنْ يَقُولوا
سمِعْنَا وأطَعْنَا) .
(ما كان مُحَمّد أبا أحدٍ مِنْ رِجالكم) :
هذا ردّ على

(2/406)


مَنْ قَال في زيد بن حارثة زيد ابن محمد، فاعترض على النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين تزوّج امرأة زيد.
وعموم الآية في النفي لا يعارضه وجود الحسن والحسين.
لأنه - صلى الله عليه وسلم - لهما أب في الحقيقة، وإنما كانا ابني ابنته.
وأما ذكور أولاده فماتوا صغاراً فليسوا من الرجال.
(ما ملكَتْ يمينك مِمّا أفاء اللهُ عليكَ) :
في هذه الآية إباحة السَّرارِي لمولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يملك منهن غير مارية وريحانة.
وما أفاء الله عليه: الغنائم، ومنهن صفية، لكنه أعتقها، وجعل عتقها صداقها.
(ما الله مُبْدِيه) :
روي أنه - صلى الله عليه وسلم - ذهب يوماً لزيارة
زَيْد، فخرجت زينب كالشمس الضاحية، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فلما جاء زيد أخبرته بقوله - صلى الله عليه وسلم -، ففهم أنها أعجبته، ومِنْ خصائصه - صلى الله عليه وسلم - إذا وقع بصره على امرأة وأعجبته وجب على زوجها طلاقها رِضاً له - صلى الله عليه وسلم -، فأتى إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: قد طلقتُ زينب يا رسول الله (1) .
فقال له: أمْسِكْ عليك زوْجك واتق الله، فأبْدَى الله ذلك بأن قَضَى الله بتزويجها.
قالت عائشة رضي الله عنها: لوَ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفي شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية
لشدتها عليه.
فإن قلت: قد حرم الله عليه خائنةَ الأعين، فكيف أخفى في نفسه حبَّه
طلاقها من زيد؟
فالجواب أن الذي أخفى إنما هو أمر مباح لا إثم فيه ولا عَيب، أشفق على
أمّته من التسلُّط عليه بألسنتهم، فيكون فيه هلاكهم، وتأمَّل قولَه في أم سلمة لما أتته في معتكفه، وانطلق معها بغَلس ولقيه الصحابة وهو معها، فقال: إنها أمّكم أمّ سلمة.
فقالوا: أو تحدثنا أنفسنا بذلك، وأنتَ رسول الله، فقال: إن الشيطان
يجري من ابن آدم مجرى الدم، فأبدى الله زواجَها منه، وبهذا كانت تفخر على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: إن الله زوَّجني من فوق سبع سموات.
__________
(1) رواية لا تصح.

(2/407)


وقيل: إن الله كان أوحى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج زينب بعد طلاق زيد، فأخفاه، فأعلمه الله في كتابه.
(ما فَرضْنَا عليهم في أزْوَاجِهم) :
يعني أحكام النكاح، والصداق، والوليّ، والاقتصار على أربع، وغير ذلك.
(مَنِ ابْتغَيْتَ مِمَّنْ عزَلْتَ فلا جُنَاحَ عَلَيْكَ) :
في معناه قولان:
أحدها: من عزلْتَه من نسائك فلا جناح عليك في ردّه بعد عزْله.
والآخر: مَن ابتغيت ومَنْ عزلت سواء في إباحة ذلك لك.
فمن للتبعيض على القول الأول، وأما على الثاني فنحو قولك: مَنْ لقيته ممن يلقاك سواء.
(ما ملكتْ يمِينك) : المعنى أنَّ الله أباح الإماء، فالاستثناء في موضع رفع على البدل من النساء، أو في موضع نصب على الاستثناء من
الضمير في حسْنُهُنّ.
(مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) . تكرير الآيات القرآنية في إذايته - صلى الله عليه وسلم - إشارةٌ لعظيم
ذلك، وإذا نهى الله عن الجلوس في بيته للحديث والاستئناس فما بالك بمن
تنَقَّصه أوْ عَابَه أو آذاه، وهذا لا يشكّ أحدٌ في كفره.
وقد ألف الناس في هذا المعنى تواليف، ومن أوكد احترامه الاستماعُ لحديثه
والصلاةُ عليه عند ذكره.
وأما تحريم أزواجه فسببه أنَّ بعضهم قال: لو مات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لتزوجتُ عائشة، فحرّم الله على الناس تزوجهن، وهذا في مدخولته، وأما غير المدخول بها فجائز.
وقد تزوج عكرمة بن أبي جهل إحداهن، فلم ينكر عليه الخلفاء رضي
اللَه عنهم.
(ما اكْتَسَبوا) : يعني اجترحوا.
وفي الآية تنبيه على أنَّ ذلك هو البهتان، وهو ذِكْر الإنسان بما ليس فيه، وهو أشد من الغيبة مع أنها

(2/408)


محرَّمة، وهي ذِكْره بما فيه مما يَكْرَه، وإذا أردت أن ترف عظيم مرتكبها فقِسْ ما بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل أن يطأ الرجل أمّه ".
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مِن أرْبَى الرِّبا استطالة المسلم في عِرْض أخيه بغير حق " - يظهر لك عظيم ما نحن فيه من الهلاك إن لم يعْف عنا مولانا، فعليك بدعاء آدم عليه السلام: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
فسمع نداءه فتاب عليه وهَدَى.
(مَلْعونين) : نصب على الذم، أو بدل من قليل، أو حال من ضمير الفاعل في: (يجاورونك) ، تقديره: سيقفون ملعونين.
(ما يَلِج في الأرض) :
أي ما يدخل فيها من المطر والأموات وغير ذلك، وما يخرج منها من النبات وغيره.
(وما ينْزِل من السماء) :
من المطر والملائكة والرحمة والعذاب.
(وما يَعرجُ فيها) : أي يصعد ويرتفع من الأعمال وغيرها.
(ما بَيْنَ أيْدِيهم وما خَلْفَهم من السماء والأرض) :
قد قدمنا معناه.
والمعنى هنا أو لم يروا إلى السماء والأرض فيعلموا أن الذي خلقهما قادر
على بعْثِ الناس بعد موتهم.
ويحتمل أن يكون المعنى تهديداً لهم لقوله: (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) .
(مَسْكنِهم) :
الإشارة إلى قوم سبأ، وقد قدمنا أن مساكنهم
كانت بين الشام واليمن، وكان الرجل منهم لا يتزود ويمشي في ظل الشجر، ولا يخاف من أحد، فكفروا بأنْغم الله، وقالوا باعِدْ بَيْنَ أسفارنا ليتزّودوا للأسفار ويمشوا في المفاوِز، فجعل الله إجابتهم كما قال: (مَزّقناهم كل ممَزَّق) ، أي فرّقناهم في البلاد حتى ضرب المثل بفرقتهم، فقيل: تفرّقوا أيْدي
سبأ.
وفي الحديث: إن سبأ أبو عشرة من القبائل، فلما جاء السيل على بلدهم
تفرّقوا فتيامَنَ منهم ستة، وتشاءم أربعة.

(2/409)


(ماذا قال ربُّكم) :
تظاهرت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أنّ هذه الآية في الملائكة عليهم السلام، وقد قدمنا معنى ذلك.
(مَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا) .
معناها يحتمل وجهين:
أحدهما ليس عندهم كتاب يدل على صحة أقوالهم، ولا جاءهم نذير
يشهد بما قالوه، فأقوالهم باطلة، إذ لا حجة لهم عليها، فالقصد على هذا الرد عليهم.
والآخر أنه ليس عندهم كتاب ولا جاءهم نذير، فهم محتاجون إلى مَنْ
يعلمهم وينذرهم، فلذلك بعث الله إليهم محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فالقصد على هذا إثبات نبوءته.
(ما بلَغوا مِعْشَارَ ما آتَيْنَاهم) :
المعشار: العشر، والضمير في بلغوا لكفّار قريش، وفي آتيناهم للكفار المتقدمين، أي أن هؤلاء لم يبلغوا عشر ما أعطى الله المتقدمين من القوة والأموال.
وقيل الضمير في (بلغوا) للمتقدمين، وفي آتيناهم لقريش، أي ما بلغ المتقدمين عشر ما أعطى الله هؤلاء من البراهين والأدلة.
والأول أصح -، وهو نظير قوله: (كانوا أشدَّ منهم قوة) .
(ما بِصاحِبِكم مِنْ جِنَّة) :
الضمير لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم إذا تفكروا في أقواله وأفعاله دلَّهم ذلك على رَجَاحة عقله، ومتانة علمه، وأنه ليس بمجنون ولا مفْتَرٍ على الله.
(ما سألْتُكم مِنْ أجْر فهو لكمْ) :
هذا كما يقول الرجل لصاحبه إن أعطيتني شيئاً فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئاً، ولكنه يريد البراءة من عطائه، فكذلك معنى هذا، فهو كقوله: (قل ما أسألكم عليه مِنْ أجْر) .
وقيل معناه: ما سألتكم من الصلاة فهو لكم.
(ما يَشْتَهون) :
الضمير للكفار، يعني أنهم يريدون الرجوع

(2/410)


إلى الدنيا، أو دخول الجنة، أو الانتفاع بالإيمان حينئذ، فئحَال بينهم وبين
شهوتهم.
(ما يفْتَح اللَّهُ للناسِ مِنْ رَحمة) .
الفتح في هذه الآية: عبارة عن العطاء، والإمساك عبارة عن الْمَنْع، والإرسال والإطلاق بعد المنع، والرحمة كل ما يمنّ الله به على عباده من خير الدنيا والآخرة.
فمعنى الآية لا مانع لما أعطى الله، ولا معْطي لما منع.
فإن قيل: لم أَنّث الضمير في قوله: (فلا ممسك لها) ، وذكّره في قوله (فلا مرسل له) ، وكلاهما يعود على ما الشرطية؟
فالجواب أنه لما فَسَّر الأول بقوله: (من رحمة) - أنث لتأنيث الرحمة، وترك
الآخر على الأصل من التذكير.
(أفمنْ زُيِّنَ له سوءُ عَملِه) :
توقيف، وجوابه محذوف، تقديره أفمن زيِّنَ له سوءُ عمله كمن لم يزَيّن له.
ثم بنى على ذلك ما بعده، فالذي زين له سوءُ عمله هو الذي أضلَّه الله، والذي لم يزينّ له سوء عمله هو الذي هداه.
(مَكْر أولئكَ هو يَبور) .
قد قدمْنَا في حرف الباء أنَّ البَوارَ معناه الهلاك، ومعناه هنا أنَّ مكرهم يبطل ولا ينفعهم.
(ما يعَمَّر مِنْ معَمَّر) .
معناها أنَّ التعمير - وهو طول العمر، والنقص وهو قصره - مكتوب في اللوح المحفوظ.
فإن قيل: إن التعمير والنقص لا يجتمعان في شخص واحد، فكيف أعاد
الضمير في قوله: (ولا ينْقَص من عمره) على الشخص المعمر؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو الصحيح - أن المعنى لا يزاد في عمر إنسان، ولا ينقص من
عمره إلا في كتاب، فوضع من معمر في موضع من أحد، وليس المراد شخصاً واحدا، وإنما ذلك كقولك: لا يعاقب الله عبدا ولا يثيبه إلا بحق.

(2/411)


والثاني: أن المعنى لا يزَاد في عمر إنسان ولا ينقص من عمره إلا في
كتاب، وذلك أن يكتبه في اللوح المحفوظ إن تصدَّق فلانٌ فعمره ستّون سنة، وإن لم يتصدق فعمره أربعون، وهذا ظاهر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلَة الرحم تزيد في العمر، إلا أن ذلك مذهب المعتزلة القائلين بالأجلين، وليس مذهب الأشعرية.
وقد قال كعب حين طعن عمر: لو دعا الله فزاد في أجله، فأنكر
الناس ذلك عليه، فاحتج بهذه الآية.
والثالث: أن التعمير هو كَتْب ما يستقبل من العمر، والنقص هو كتب ما
مضى منه في اللوح المحفوظ، وذلك في حق كل شخص.
(ما يَسْتَوِي البَحْرَان) :
قد قدمنا معنى البحرين، والقَصْد في هذه الآية التنبيه على قدرة الله ووحدانيته وإنعامه على عباده.
وقال الزمخشري: إن الله ضرب البحرين الملح والعذب مثلين للمؤمن والكافر، وهذا بعيد
(مَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) :
الآية تمثيل لمن آمن، فهو كالحيّ، ومن لم يؤمن فهو كالميت.
وقوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ، عبارة عن عدم سمع الكفَّار للبراهين والمواعظ، فشبّههم بالموتى في عدم إحساسهم.
وقيل المعنى أنَّ أهل القبور وهم الموتى حقيقة لا يسمعون، فليس عليك أن
تسمعهم، وإنما بعثت إلى الأحياء.
وقد استدلت عائشة بالآية على أنَّ الموتى لا يسمعون، وأنكرت ما ورد من
خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لِقَتْلى بَدْر حين جعلوا في القَلِيب، وقوله: ما أنت بأسمع لما أقول لهم منهم، ولكن يمكن الجَمْع بين قولها وبين الحديث بأن الموتى في القبور إذا رُدَّت إليهم أرواحهم سمعوا، وإن لم ترد إلى أجسادهم لم يسمعوا، فردَّ اللَه إلى أهل القليب أرواحهم ليسمعوا خطابه - صلى الله عليه وسلم - تهويلاً لهم وحسرةً في قلوبهم.
(ما أُنْذِرَ آباؤهم) : (ما) نافية.
والمعنى لم يرسَل إليهم

(2/412)


ولا لآبائهم رسول ينذرهم.
وقيل المعنى لتنذر قوماً مثل ما أنذر آباؤهم، فما على هذا
موصولة بمعنى الذي أو مصدرية، والأول أرجح، لقوله: (فهم غافلون) .
يعني أنَّ غفلتهم بسبب عدم إنذارهم، ويكون بمعنى قوله: (ما أتاهم مِنْ نذير) .
ولا يعارض هذا بعث الأنبياء المتقدمين، فإن هؤلاء القوم لم يدركوهم ولا آباؤهم الأقدمون.
(مَنِ اتّبعَ الذكرَ وخَشِيَ الرحْمنَ بالغَيْبِ) .
أي غير مشاهِدٍ له، إنما يصدّق رسوله ويسمع كتابه.
فإن قلت: كيف قرن بالخشية الاسم الدالَّ على الرحمة في يس وق، وفي فاطر، أضافه للربوبية؟
وجوابك: معناه في فاطر أن الإنذار لا ينفع إلا الذين يخشَوْن ربَّهم وهم
غائبون عن عذابه وغائبون عن الناس، فخشيتهم حقّ لا رياء، وليس المعنى
اختصاصهم بالإنذار.
بالغيب في موضع الحال من الفاعل في " يخشون "، وإنما
ذكر الرحمة مع الخشية لقصد المبالغة في الثناء على من يخشى الله، لأنه يخشاه مع علمه بحلمه ورحمته.
قال الزمخشري: ويحتمل أن يكون الجواب عن ذلك أن
الرحمن قد صار يستعمل استعمال الاسم، كقولنا الله.
(مَنْ لا يَسْألكم أجْراً) :
هذا من قول حبيب النجار لقومه، يعني أن هؤلاء المرسلين لا يسألونكم أجرة على الإيمان فتخسرون معهم ويثقل عليكم، وإنما يطلبونكم لمنفعتكيم الأخروية، والذي يطلبك لنفسك من غير طمع
في دنياك أوْلى باتباعه لتمحض نصحه، ثم دلّهم على اتباعه.
(مالي لا أَعْبدُ الذي فَطَرنِي) : معناه أي شيء يمنعني عن
عبادة ربي، وهذا توقيف وإخبار عن نفسه قصد به البيان لقومه ولذلك قال
لهم: (وإليه ترجعون) ، فخاطبهم بخطاب من يشاهدون رجوعَ
قومهم واحدا بعد واحد.

(2/413)


(ما أنزلْنَا على قَوْمه مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جنْدٍ من السماء) :
المعنى أن الله أهلكهم بصيْحَةٍ صاحها جبريل، ولم يحتَجْ في تعذيبهم إلى إنزال جنْد من السماء، لأنهم أهون من ذلك.
وقيل المعنى ما أنزل الله على قومه ملائكة رسلاً كما قالت قريش: (لولا
أنزلَ إليه مَلَكٌ فيكونَ معه نذيراً) .
وقالوا أيضاً: (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) .
فردَّ اللَّهُ عليهم بقوله: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) ، يعني أنَّ نزول الملائكة ِ لغير النبي إنما هو للانتقام منه أو لقَبْض روحه.
وقد جرت حكمة الله أن إيمان خَلْقه إنما يكون نظرياً بالدليل والبرهان، ولو نزلت الملائكة لاضطر خلقه إلى الإيمان به، لأنهم رأوا الحق عياناً، ورأوا المعجزات التي آمن بها الصحابة ولم يروها، فطوبي
لمن رأى صحفاً تُتْلى سوادا في بياض، وآمن بها وصدقها، وكيف لا وقد قال
فيهم - صلى الله عليه وسلم -: " أولئك إخواني حقا".
(ما كُنّا مُنْزِلِين) .
أي ما كُنَّا لننزل جنْدا من السماء على أحد، وبهذا يتبين لك أن لفظ الجند أليق بالمعنى الأول، وكذلك ذكر الصيحة بَعْد ذلك.
فإن قلت: قوله تعالى في الأحزاب: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) ، وقد أنزل الله خمسة آلاف ملك يوم بَدْر وحنين لنُصْرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
فالجواب أن معناه ما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب
جنْداً من السماء، وذلك أن الله عز وجل أجرى هلاك قوم بالريح، وقوم
بالصيحة، وقوم بالغَرَق، بحسب حكمته السابقة.
ولما كان إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يستأهِلها الكفرة أخذَهم الله بأقلّ الأمور.
ولما جعل الله الملائكة خدّاماً لهؤلاء الأمة المحمدية يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، ليحظوا بحظ الردّ لحرمة حبيبهم وصفيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجعلهم

(2/414)


يستغفرون لهم، حتى إن جبريل طلب منه - صلى الله عليه وسلم - أن تجوز أمّته على جناحه ليقيهم من حَرّ نار جهنم، وطلبت الملائكة يوم بَدْر وحنين ربها في نصرتهم إكراما وتشريفاً لنبيهم، ألا تراهم ليلة القدر يطلبون النزول إليهم للسلام عليهم، والحضور معهم، يرغبون في غفران ذنوبهم والتشفّع فيهم، فمَنْ أولى منك يا محمدي بالتشريف إن كنتَ من أمة النبي الشريف، اللهم بحرمته عندك، ومكانته لديك، لا تحرمنا من رؤيته وجِوَاره في مستقرّ رحمتك، واغفر لنا ما جنيناه، إنك أنت الغفور الرحيم.
(ما عملَتْه أيديهم) :
(ما) معطوفة على ثمره، أي ليأكلوا من ثمره وممَّا عملت أيديهم بالحَرْث والزراعة والغراسة.
وقيل: (ما) نافية.
وقرئ: "وما عملت" بغير هاء، وما على هذا معطوفة.
(مَنَازل) :
مساكن ومواطن، ومنازل القمر ثمانية وعشرون
ينزل القمر كلّ ليلة واحدةً منها مِنْ أول الشهر ثم يستتر في آخره ليلة أو ليلتين.
قال الزمخشري: وهذه المنازل هي مواقع النجوم.
(ما يَنْطرون إلاَّ صَيْحةً واحِدةً تأخذهم) :
يعني النفخة الأولى في الصور، وهي نفخة الصعق تأخذهم بغتة.
(مَنْ بَعثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) .
المرقد يحتمل أن يكونَ اسم مصدر، أو اسم مكان، قال أبي بن كعب ومجاهد: إن البشر ينامون نومة قبل الحشر.
ابن عطية: وهذا غير صحيح الإسناد، وإنما الوجه في معنى قولهم: (مِنْ
مرقدنا) أنها استعارة وتشبيه، يعني أنَّ قبورهم شبِّهت بالمضاجع، لكونهم فيها على هيئة الراقد، وإن لم يكن رقاد في الحقيقة.
(ما وَعدَ الرحمن وصدَق الْمرْسَلون) :
هذا مبتدأ محذوف الخبر، ويحتمل أن يكون هذا الكلام مِنْ بقية كلامهم، أو يكون من كلام الله تعالى، والمؤمنون يقولونها للكفار على وَجْهِ التقريع.

(2/415)


(مَكَانَتِهم) : مكانهم.
والمعنى لو نشاء لمسخناهم مَسْخاً يقعدهم في مكانهم، فلا يقدرون على الذهاب ولا على الرجوع.
(مَنْ نعَمِّرْه ننَكسْه في الخَلْق) .
أي نحوّل خلقته من القوة إلى الضعف، ومن الفهم إلى البله، ومن الشباب إلى الهرم، وشِبْه ذلك، كما قال تعالى: (ثم جعل مِنْ قوّةٍ ضَعْفاً وشَيْبَة) .
واختلف في حد التعمير الذي يصل الإنسان فيه إلى هذا.
والصحيح أنَّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وقد قدمنا الحديث:
"مَنْ صدق في صغره حفظه الله في كبره".
فالذي تراه صادقَ اللهجة يحفظه في كبره من ذهاب عقله.
ومقصود الآية الاستدلال على قدرة الله - في مشاهدتهم - على تنكيس الإنسان إذا هرم فالذي يقدر على هذا يقدر على مسخكم لولا رحمته بكم، ولذلك ختم الآية بالعقل الذي هو أسّ الأمور.
(ما عَلَّمْنَاه الشِّعْرَ وما ينْبَغِي لَه) .
هذه الضمائر راجعةٌ لنبيِّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم قالوا له شاعر، فرد الله عليهم بهذه الآية، واعجبا
منهم! وهم يرونه لا يزن شعراً ولا يذكره، وإذا ذَكَر بيتاً منه كسره، ويقولون فيه شاعر! تَبًّا لهم!
فإن قلت: قد تكلّم بكلام على وزْن الشعر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: هل أنت إلا أصبع دميت. وفي سبيل الله ما لقيت.
وقال: أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد الطلب.
فالجواب أن هذا ليس بشعر، ولم يقصده، وإنما جاء بالاتفاق لا بالقصد.
كالكلام المنثور.
ومثل هذا يقال فيما جاء في القرآن من الكلام الموزون الذي
تحدَّاهم الله بسورة منه فلم يقدروا، مع أنهم طبعوا على الفصاحة والشعر، فهو من أعظم المعجزات.
كأنه قال لهم: إن قلتم فيه إنه شاعر فأتوا بشعر مثله، مع أنه
ليس بشعر، ولا ينبغي له الشعر لصدقه وأمانته، (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) .

(2/416)


ولهذا ذمّ الله الشعراء، لإفراط التجوّز فيه، وإنْ ورد
في الحديث: إنَّ من الشعر لحكمة - فإنما يصدق على ما هو عَرِيّ عن الأوصاف الذميمة، ورحم الله الشافعي في قوله: الشعر كلام، والكلام منه حسن ومنه قبيح.
(مَنَافِعُ وَمَشَارِب) :
قد قدمنا في النحل معناه.
(مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَه) .
يعني أن العاصي بن وائل أو أمية بن خلف، أو أبي بن خلف، على اختلاف الروايات أتى إلى رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم - بعظم
رميم، فقال له: يا محمد، مَنْ يُحْيى هذا؟ فقال له: الله يحييه، ويميتك ثم يحييك، ويدخلك جهنم، فانظر كيف نَسِي خلقته الأولى، واستعظم وجودَ الثانية، هل هذا إلا من المعاندة في المحسوس، فكيف يطلق اسم الخالق على من لم يخلق جميع الناس، ولقد أنزل الله خمس آيات على نبيه لو لم يكن منها إلا واحدة لمنعَتْنَا من التمتع بهذه الدنيا: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) .
(أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
(أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) .
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) .
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) .
فجميعُ المخلوقات على أصنافها لم يخلقها الله إلا لحكمة: الملائكة لخدمته.
وما منّا إلا مقَام معلوم.
والأرض للعبرة بها، قل سيروا في الأرض.
وفي الأرض آياتٌ للمُوقنين.
والأنعام للمنفعة، لتركبوا منها ومنها تأكلون.
والعارف لعبادته، وما خلقْتُ الجن والإنْسَ إلا ليَعْبدون.
والعالم للرحمة، قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا مَنْ رحم رَبُّك) .
فهنيئاً لمن فتح الله بصيرته وتَبًّا لمَنْ أعماها له.
(ما كانوا يَعْبُدون) :
يعني الأصنام والآدميين الذين كانوا يرضون بذلك.
وقد قدمنا أن فائدةَ دخول الأصنام والمعبودات النار
زيادةُ نَكالهم.

(2/417)


(مَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
أيْ أيّ شيء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم وقد عبدتم غيره، فالقَصْد بهذا التأويل التهديد.
أو أي شيء تظنون أنه هو حتى عبدتم غيره.
والقصد بهذا تعظيم الله وتوبيخ لهم، كما تقول:
ما ظنّك بفلان! إذا قصدت تعظيمه.
(متَّعناهم إلى حِين) :
الضمير يعود على قوم يونس لما آمنوا وخرجوا بالأطفال والبهائم، وفرّقوا بينها وبين أولادها، وتضرعوا إلى الله، وأخلصوا بالبكاء، وتابوا إلى الله توبةً، وعهدوا أن من كذب أو سرق أو زنى أقاموا عليه الحد، وأنهم مشاركون في علومهم وأموالهم، فرفع الله عنهم العذاب ومتعهم إلى حين.
واختلف ما المراد بالْحِين، وقد قدمناه في حرف الحاء.
وأما قوله تعالى (تؤْتي أكلَها كلَّ حِين) ، فقيل: سنة، أو ستة أشهر، أو
شهران، ولما دخل عليهم ذو القرنين وجدهم تائبين، لا باب لبيت، ولا غنيّ
فيهم ولا فقير، ولا عالم ولا جاهل، كل واحد منهم جادَ على جاره بما عنده من علم ومال، فطلب أن يدْفَن معهم.
وقد ذكر الناس في قصصهم طولاً تركناه لعدم صحته.
وقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - مرّ بهم ليلة الإسراء، فآمنوا به وصدقوه، وقد لقي غلاماً في مسيره إلى الطائف فأخبره أنه منهم، فانظر يا محمدي مَنْ رجع إلى الله كيف يقبله، وكيف لا يقبله، وهو يقول: (وهو الذي يَقْبَل التوبةَ عن عباده ويَعْفُو عن السيئات) .
فإن قلت، قد قال في آية أخرى: (غافر الذَّنْبِ وقَابِل التَّوْبِ) ، فهل بين العفو والمغفرة فرق؟
قلنا: العفو عنها يستلزم مغفرتها، فسبحان مَنْ لم يَرْضَ بغفرانها حتى بدّلها
لهم حسنات مكافأة لتوبتهم.

(2/418)


فإن قلت: الاعتقاد أنَّ طائفة من هذه الأمة لا بدّ لهم من دخول النار.
قلنا: إن لم يتوبوا، وفيه إشارة إلى عدم الأمْن من مَكرِ الله، ولذلك ورد
الحديث: المؤمن بين مخافتين: بين أجَل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه.
وأيضاً من لم يذق الشدة لم يجد حلاوة النعمة، فقوم يستغيثون من النار، وقوم تستغيث النار منهم، وقوم تقول لهم النار: أجر يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي، وقوم يمكثون فيها ما شاء الله ثم يخرجون منها ويتحسر مَنْ فيها، (ربمَا يَوَدّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين) ، فالمؤمن الذي يدخلها تكون عليه بَرْداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم، وذلك أنهم تعجبوا منه من عدم حَرْقها له، فأراد الله أن يرِيهم يوم القيامة ليعلموا أنَّ صانع النار والنور واحد، فتحرق من يشاء خالقُها، وتهرب ممن يطيعه.
قال تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) .
(ما لكم كيف تَحْكُمون) :
(ما) استفهامية معناها التوبيخ، وهي في موضع رفع بالابتداء، والمجرور بعدها خبرها ينبغي الوقْفُ على قوله: (ما لكم) ، ثم يقرأ: (كيف تحكمون) .
(ما مِنّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ معلوم) :
هذا حكاية كلام الملائكة عليهم السلام، وتقديره: ما منّا ملك إلاَّ ولهُ مقام معلوم، فحذف الموصوف لحذف الكلام، والمقام المعلوم يحتمل أن يراد به الموضع الذي يقومون فيه، لأن منهم مَنْ هو في سماء الدنيا وكذلك في كل سماء، أو المنزلة من العبادة والتقريب والتشريف، ولذلك فخروا بصفوفهم وتسبيحهم، ومنهم قيام لا يركعون، ومنهم سجود لا يرفعون، ومنهم قعود لا يقومون، فجمع الله لهذه الأمة المحمدية في الصلاة عبادة الملائكة من قيام وقعود، وركوع وسجود، وتسبيح وتكبير، وزادهم من التحيات الذي كان من الرسول ليلة الإسراء حين قال: التحيات للَه ... الخ، فقال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله

(2/419)


وبركاته، فطِبْ نفسا وقَرّ عيناً يا محمدي بما خوّلك مولاك، وأعلم أنكَ تقِفُ بين يديه، فانظر وقوفك بمَ يكون، هلا وهبت نفسك له وأسلمتها موافقة لقولك: وَجَّهْت وجهي هذا بلسانك، فأين وجهتك.
فإن قلت: لم كان الدخول فيها بتكبيرة والخروج منها بتسليمتين، والركوع
واحدٌ والسجود اثنين؟
والجواب لأن الواحد يقبل الواحد، فإذا قلت الله أكبر فكأنك أقبلت عليه
وعظّمته على كل شيء، فرضي منك هذه الكلمة المشرفة، وأقبل عليك، وإن اشتغلت بغيره فلم تُفْرِدْه وقطعت نفسك عنه، ألا ترى أنَّ التسليمتين قطعت عنه وانفصلت عن مناجاته، كرمضان تدخل فيه بشاهد واحد وتخرج منه بشاهدين، ولما كان السجودُ أقربَ إلى الله من جميع أفعال الصلاة أمرك بسجدتين، أو لأنَّ السجود للأصنام كان عندهم مرة واحدة فزادك أخرى لتفرّق بين السجود لله والسجود لغيره، أو لأن الملائكة كانوا سجوداً وطلبوا من الله ليلةَ الإسراء بحبيبه أَن يروه فأذِن لهم ورفعوا رؤوسهم لرؤيته فسجدوا مرةً لله شكرا لرؤيته، فأمر الله بذلك: الأولى امتثالاً لأمر الله، والثانية شكرا له بأن أهَّلك لطاعته.
فإن قلت: لما كان السجود بهذه الْمَثَابة فهلاَّ أمر به المصلِّي على الميت، لأنه
يشفيع، والشفيع لا يجد قربة إلى الله أفضل منه؟
والجواب: لما كان في السجود للمصلِّي على الميت إيهام بالسجود له أمره اللهُ
بعدم السجود، كأنه يقول: لا أريد أن تسجد لي حتى يرتفع الحجاب بيني
وبينك.
(مَناص) :
مَفَرّ ونجاة، من قولك: ناص يَنوص إذا فرَّ، التقدير وليس الحين الذي دعوا فيه حين مناص.
قال أبو القاسم: معناه فرار بالنبطية.
(مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) :
هذا من كلام الملأ الذين، خرجوا من عند أبي طالب وتفرقوا في طرق مكة، ومرادهم بالملة الآخرة

(2/420)


ما أدركوا عليه آباءهم، أو الملَّة المنتظرة، لأنهم كانوا يسمعون من الأحبار والكهان أن رسولا يبعث يكون آخر الأنبياء، فلما جاءهم جحدوا، واستيقنتها أنفسهم ظلماً.
(ما هنَالكَ مهزوم مِنَ الأحزاب) :
هذا وعيد بهزيمتهم في القتال، وقد هزموا يوم بَدْر وغيره، و (ما) هنا صفة لجند، وفيها معنى التحقير لهم، والإشارة بهنالك إلى حيث وَضَعوا أنفسهم من الكفر والاستهزاء.
وقيل: الإشارة إلى الارتقاء في الأسباب، وهذا بعيد.
وقيل الإشارة إلى موضع بدْر.
ومن الأحزاب معناه من جملة الأحزاب الذين تعصَّبوا للباطل فهلكوا.
(ما يَنْطر هؤلاء إلا صَيْحةً واحدة) :
المراد بهؤلاء قريش ومَنْ تبعهم.
والصيحة الواحدة: النفخ في الصُّور.
وقيل: ما أصابهم من قَتل وشدائد، وهو أظهر، لأن من مات فقد قامت قيامته، وقد ورد في الحديث.
(مَسّنِيَ الشيطان بنصْبٍ وعَذَابٍ) :
بضم النون وإسكان الصاد، وبفتحها وإسكان الصاد، وبضمَ النون والصاد، وبفتحهما، بمعنى المشقة.
وهذا من كلام أيوب لما سلَّط الله عليه الشيطان ليَفْتِنَه (1) ، وأهلك ماله وولده، ووسوس قلبه، استغاث ودعا الله بتفريج كَرْبه خوفاً من فِتْنَته.
فإن قلت: أين هذا من قوله تعالى: (إنّا وَجَدْنَاه صَابِراً نعم العَبْدُ) ، وأَيّ قدرة للشيطان حتى ينسب ما أصابه من البلاء إليه؟
فالجواب أنه صبر على ما أصابه في المال والولد والنفس، فلما وصل إلى
الوسوسة استغاث، ويكفيك من صبره أن الله قَرنه بنون العظمة وهاء الضمير، فلا يعتقد في رسول الله غير ذلك، ونسبة الفعل للشيطان على جهة نسبة الشر إليه، كقول موسى: (وما أنْسَانِيه إلاَّ الشيطان) .
(هذا من عَمَلَ الشيطان) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لما نام ليلة الْوَادِي: إن بهذا الوادي شيطاناً.
فهو تنسب إليه الشرور.
ولذلك يتبرأ يوم القيامة ممن أطاعه، ويقول: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) .
__________
(1) كيف يتفق هذا مع قوله تعالى (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) ؟؟!!!.

(2/421)


فالنسبة إليه نسبة مجازية، كما أن نسبة الخير إلى الله حقيقة.
وقد صحّ أنَّ التائبين يمرون يوم القيامة تحت لواء آدم، والشاكرين تحت لواء
نوح، والْموفين بالعهود تحت لواء إبراهيم، والمحزونين تحت لواء يعقوب.
والمحبوسين تحت لواء يوسف، والصابرين تحت لواء أيوب، والمخلصين تحت
لواء موسى، والزاهدين تحت لواء عيسى، والصادقين تحت لواء يحيى، والمحبين تحت لواء الحبيب على جيعهم الصلاة والسلام، والمؤذنين تحت لواء بلال، والصالحين تحت لواء عمر، والصدّيقين تحت لواء أبي بكر، والمتقين تحت لواء عثمان، والراكعين تحت لواء علي رضي الله عنهم أجمعين.
(ما لَه مِنْ نفاد) :
الضمير يعود على نعيم الجنة، لتقدم ذكره، أو لرزق الدنيا (1) .
(مَنْ قَدّم لنا هذا فزِدْه عذاباً ضِعْفاً في النار) :
هذا كلام الأتباع، دعوا إلى الله تعالى أن يضاعف العذاب لرؤسائهم الذين أوجبوا لهم العذاب، فهو كقولهم: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) .
(ما لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كنَّا نَعدّهم من الأشرار) :
قيل إن القائلين لهذه المقالة أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأمثالهم.
والرجال المذكورون هم عمّار، وبلال، وصهَيب، وأمثالهم.
واللفظ أعمّ من ذلك.
والمعنى أنهم قالوا في النار: ما لنا لا نرى رجالاً كنّا نعدهم في الدنيا من
الأشرار.
(مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) :
القصد بهذه الآية الاحتجاج على نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أخبر بأمور لم يكن يعلمها.
والملأ الأعلى هم الملائكة، وعليهم يعود الضمير في يختصمون.
واختصامهم هو في قصة آدم حين قال الله لهم: إني جاعل في الأرض خليفة.
حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن.
__________
(1) في غاية البعد.

(2/422)


وقيل: إن الملائكة تقول: هؤلاء بنو آدم الذين اخترتهم وفضّلتهم وجعلتهم
خلفاء، وأمرتنا بالسجود لأبيهم قد عصوك، وتركوا خِدْمتك وأمْرَك (1) .
فيقول اللَه لهمْ: دعوهم فإنما استزلَّهم الشيطان وأغواهم هو وأولاده، ولو ابتليتكم بما ابتليتهم به لوقعتم فيما وقعوا فيه.
وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى ربَّه فقال: يا محمد.
فيم يختصم الملأ الأعلى، قال: لا أدري.
قال: في الكفّارات، وهي إسباغ الوضوء على المكاره.
وفي رواية في المسرات، والمشي بالأقدام إلى الجماعات، وانتظار
الصلاة بعد الصلاة.
وقيل الضمير في يختصمون للكفار، أي يختصمون في الملأ الأعلى، فيقول
بعضهم: هم بنات الله، ويقول آخرون: هم آلهة تعْبد، وهذا بعيد.
(ما أنا من المتَكلِّفين) :
أي الذين يتصنعون ويتخيّلون بما ليسوا من أهله.
(ما نعْبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلْفَى) :
أي يقول الكفار: ما نعبد هؤلاء الاَلهة إلاَ ليقرِّبونا إلى الله ويشفعوا لنا عنده.
ويعني بذلك الكفار الذين عبدوا الملائكة، أو الذين عبدوا الأصنام، أو الذين عبدوا عيسى أو عزَيراً، فإن جميعهم قالوا هذه المقالة.
(مَنْ هوَ كاذبٌ كَفّار) :
هذا إشارة إلى كذبهم في قولهم: (ليقرِّبونا إلى اللهَ) .
(ما شِئْتم مِنْ دونه) :
هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتّخْلِية لهم على ما هم عليه.
(مَثَانِي) :
جمع مثى، أي تثنَّى في القصص.
ويحتمل أن يكون مشتقاً من الثناء، لأنه يثني فيه على الله.
فإن قيل: مثاني جَمْع، فكيف يوصف به المفرد؟
فالجواب أن القرآن ينقسم إلى سور وآيات كثيرة، فهو جمع بهذا الاعتبار.
__________
(1) لا يصح لأن فيه فيه سوء أدب مع الله تعالى، وهو لا يليق بحال الملائكة الكرام، وقد مدحهم الله بقوله (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) .
وقوله تعالى (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) .

(2/423)


ويجوز أن يكون كقولهم: برْمَة أعشار، وثوب أخلاق.
أو يكون تمييزاً من متشابه، كقولك: حسن شمائل.
(ما كنْتم تَكسِبون) ، أي يقال للكفار والعصاة: ذوقوا ما
كسبتم من الكفر والمعصية.
(مَيِّتون) :
في هذا وعيد للكفار، لأنهم إذا ماتوا ظهر لهم
مَنْ كان على الحق ومَنْ كان على الباطل.
وفيه إخبار أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - يموت لئلا
يختلف الناس في موته، كما اختلفت الأمم في غيره.
(فَمَنْ أظلم مِمَّن كذَب على الله) :
أي لا أحد أظلم مِمَّنْ كذب على الله بأنه اتخذ صاحبةً وولدا.
وفي آية أخرى: (ومَنْ أظْلَم مِمَّن منَعَ مساجدَ اللَهِ) .
وفي أخرى: (ومن أظلم مِمّن افْتَرى على الله كذِباً) .
وفي أخرى: (ومَنْ أظْلَم مِمن ذُكِّرَ بآيات ربِّه) .
وهذه الأظلمية تختلف باختلاف الأنواع، وتطلق كلُّ آية على
ما يليق بها من الكذب وغيره، حسبما بيناه في غير هذا الموضع.
(مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) ،: من الأوامِر واجتناب نواهيه.
(مَقَالِيد) : بالفارسية مفاتيح.
وقيل خزائن.
واحدها إقْليد، وقيل مِقْليد.
وقيل لا واحد لها من لفظها.
ومعناها مالك السماوات ومدبِّر أمرها وحفظها، وهي من باب الكناية، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدَها، كما أن الخزائن أيضاً تجيء في جهة الله عز وجل إنما تجيء استعارة بمعنى اتساع قدْرته، وأنه المبتدع المخترع.
ويشبه أن يقال فما قد أوجد من المخلوقات، وهذا يتجوّز به على جهة التقريب والتفهيم للسامعين.
وقد ورد القرآن بذكر الخزائن، ووقعت في الحديث الصحيح: ماذا فتح الليلة من الخزائن.
والحقيقة في هذا غير بعيدة، لكنه ليس باختزان حاجة ولا قلة قدرة، كما هو اختزان الشيء.

(2/424)


قال عثمان بن عفان: فسألت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن مقاليد السماوات والأرض، فقال: هي لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده الخير يحْيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
فإن صح هذا الحديث فمعناه أنَّ مَنْ قال هذه الكلمات صادقا مخلصاً نال
الخيراتِ والبركات من السماء والأرض، لأن هذه الكلمات توصل إلى ذلك، فكأنها مفاتح له، وللَه سبحانه سبع خزائن: خزانة المطر في السماء، وخزانة النبات في الأرض، وخزانة اللؤلؤ والمرجان في البحر، وخزانة الموزونة في الجبال، وخزانة الأفكار للكفار، وخزانة الرضوان للأبرار، وخزانة المعرفة في القلوب.
وفي الحديث: إن بعضَ الأنبياء قال: يا رب، لكلّ ملك خزانة، فما
خزانتك، قال: خزانة أوسع من الكرسي، وأعظم من العرش، وأطيب من
الجنة، وأَزين من الملكوت، أرضها المعرفة، وسماؤها الإيمان، وشمسها الشوق، وقمرها المحبة، ونجومها الخواطر، وترابها الهمّة، وجدارها اليقين، وسحابها العقل، ومطرها الرحمة، وأشجارها الطاعة، وثمرها الحكمة، ولها أربعة أركان: التوكل، والتفكر، والأنس، والذكر.
ولها أربعة أبواب: العلم، والحلم، والرضا، والصبر، ألاَ وهي القلب (1) .
(مَنْ شاء الله) :
يعني أَن جميع من في السماوات والأرض يموت عند نَفْخَةِ الصعق، إلاَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يميتهم الله بعد ذلك.
(مَا مَكروا) :
الضمير يعود على قوم فرعون، يعني أن الله وقى مؤمنهم مِنْ مكرهم، كما هو عادته سبحانه في وقاية مَنْ فَوَّض أمره إليه.
(ما للظَالمين مِنْ حَمِيم) :
المراد بهم الكفَّار، يعني أنهم ليس لهم من يشفع فيهم.
__________
(1) يفتقر إلى سند صحيح.

(2/425)


(وما دعَاء الكافرين إلاَّ في ضَلاَل) :
يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى استئنافاً.
(مَعْذِرتهم) : يحتمل أنهم لا يعتذرون.
ويحتمل أنهم يعتذرون، ولكن لا تنفعهم المعذرة.
(ما همْ بِبَالغِيه) :
أي لا يبلغون ما يقتضيه كبرهم من الظهور عليك، أو من نيل النبوءة.
(مَثْوَى المتَكبِّرين) : أي جهنم.
فإن قيل: قياس النظم أن يقول: فبئس مدخل الكافرين، لأنه تقدم قبله:
ادخلوا؟
والجواب أن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثَّوَاء.
(مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ) :
هم الذين ذْكر الله في كتابه من الرسل، وقد قدمنا أنهم خمس وعشرون، وجملة الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، هذا في حديث أبي ذَرّ.
وفي حديث غيره: إن الله بعث ثمانية آلاف رسول.
وفي حديث آخر أربعة آلاف.
(مَنْ أحْسَنُ قولاً مِمَّن دعَا إلى اللهِ) :
يدخل في هذا كلّ من دعا إلى عبادة الله وطاعته على العموم.
وقيل: المراد محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل المراد المؤذِّنون.
وهذا بعيد، لأنها مكية، وإنما شُرع الأذان بالمدينة، ولكن المؤذّنون
يدخلون في العموم.
والدعوة من الله على أربعة أوجه: دعوة الضيافة: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ، ودعوة المغفرة: (يَدْعوكمِ ليَغْفِرَ مِنْ ذنوبكم) .
ودعوة الحمد والإجابة: (يوم يدعوكم فتَسْتَجِيبون بحمده) .
ودعوة المحاسبة: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) .
وفيه خمسة أقوال:

(2/426)


بصحائف أعمالهم، قال تعالى: (وكلَّ إنسانٍ ألزَمْنَاه طائِرَه في عنقهِ) .
أو بأعمالهم المتقدمة، قال تعالى: (علِمَتْ نَفْسٌ ما قدَّمت وأخَّرَتْ) .
أو بإمامهم في المذهب، قال تعالى: (وجعلناهم أئمَّةً يدعون إلى النار) .
أو برسولهم، أو بدعائهم إلى الخير والشر، أو بمعبودهم، أو بإمامهم في الأعمال الصالحات.
وأما الدعوة إلى الخلق فالدعوة إلى دين الرب.
قال تعالى: (ادع إلى سبيلِ رَبِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة) .
أو الدعوة إلى بيت الله تعالى: (وأَذِّنْ في الناس بالحجِّ يأْتوك رجالاً) .
أو الدعوة إلى عبادة الله.
فالدعوة عامة، والهداية خاصة، قال تعالى: (ويهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم) .
(ما يُقَال لكَ إلاَّ ماقَدْ قِيلَ للرّسلِ مِنْ قَبْلك) :
في معناها قولان:
أحدهما: ما يقول لك الله من الوحي والشرائع إلا مثل ما قال للرسل من
قبلك.
أو ما يقول لك الكفَّار من التكذيب والإيذاء إلا مثل قول الأمم المكذّبين
لرسلهم، فالمراد في هذا تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتأسّي، وعلى القول الأول أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى بما جاءت به الرسل فلا تنْكر رسالته.
(ما مِنَّا مِنْ شَهيد) :
هذا قول المشركين حين يناديهم يوم القيامة، أين شركائي، فيقولون: أعلمناك ما مِنّا مَنْ يشهد لك اليوم بأن لك شريكاً، لأنهم كفروا ذلك اليوم بشركائهم.
(ما كانوا يدعون من قَبْل) :
أي لم يروا حينئذ

(2/427)


شركاءهم، فما على هذا موصولة.
أوْ ضلَّ عنهم قولهم الذي كانوا يقولون من
الشرك، فما على هذا مصدريّة.
(ما لَهمْ مِنْ مَحِيص) ، أي علموا أنهم لا مهرب لهم من
العذاب.
وقيل يوقف على (ظَنوا) ، ويكون (ما لهم) استئنافاً، وذلك ضعيف.
(ما تفرَّقُوا إلا مِنْ بعد ما جاءهُم العِلْمُ بَغْياً بينهم) :
يعني أَهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم.
(مَنْ كان يُريد حَرْثَ الآخرة نَزِدْ له في حَرْثهِ) :
عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعار من حَرْث الأرض، لأن الحارث يعمل وينتظر المنفعةَ بما عَمِل.
(ما قَنَطوا) ، أي يئسوا.
(مَنْ عَفَا وأصلح فأجْرُه على الله) :
في هذه الآية إشارة إلى فعل الحسن بن علي حين بايع معاوية، وأسقط حقَّ نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم، ولهذا قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: " إن ابني هذا سيد، ولعل الله يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ".
وفيها دليل على أن العفو عن المظلمة أفضل من الانتصار، لأنه ضمن الأجر
في العفو، وذكر الانتصار بلفظ الإباحة في قوله: (ولَمَنِ انتصر) .
فإن قيل: كيف ذكر الانتصار في صفات المدح في قوله: (والذين إذا
أصابهم البَغْيُ هم يَنْتَصِرون) ، والمباحُ لا مَدْحَ فيه ولا ذم؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّ المباحَ قد يُمْدَح، لأنه قيام بحق لا بباطل.

(2/428)


والثاني: أن مدح الانتصار لكونه كان بعد الظلم تحرّزاً ممن بدأ بالظلم، فكان
المدح إنما هو بترك الابتداء بالظلم.
والثالث: أنه إن كانت الإشارة بذلك إلى علي بن أبي طالب فانتصاره - صلى الله عليه وسلم - محمود، لأن قتال أهل البغي واجب، لقوله تعالى: (فقاتلوا التي تَبْغي) .
وقد سمَّى - صلى الله عليه وسلم - المقاتلين لعليٍّ بالفئة الباغية، وقال لعمار تقتلك الفئة الباغية.
(مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) :
القصد بهذه الآية شئان:
أحدهما: تعداد النعمة عليه - صلى الله عليه وسلم -، بأن علّمه الله ما لم يكن يعلم.
والآخر احتجاج على نبوءته، لكونه أتى بما لم يكن يعْلَمه ولا تعلّمه من
أحد.
فإن قلت: أما عدم درايته للكتب فلا إشكال.
وأما الإيمان فلا إشكال أن الأنبياء مؤمنون بالله قبل مبعثهم، لكنه وقع الخلاف في نبينا، هل كان متديّنا بشريعة مَنْ قَبْله أو بشريعته؟
والجواب الإيمان يحتوي على معارف كثيرة، وإنما كمل له معرفتها بعد
بعثه.
وقد كان مؤمنأ بالله قبل ذلك، فالإيمانُ هنا يعني به كمال المعرفة، وهي
التي حصلت له بالنبوة، ولهذا أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " كلّ يوم لا أزْدَاد فيه علماً لا بورِك في صبيحة ذلك اليوم "، فكان - صلى الله عليه وسلم - يزداد كل يوم من المعارف ما لا يُحصى ذِكره.
وأما في الجنة، فلا تسأل عما تنكشف له من المعارف اللدنيَّة
والأسرار الربانية، ويفيض منها على هذه الأمة المحمدية، لكل واحد منهم
نصيب بقدر ما اتّبعه واقتدى به، فهم يزدادون معارفَ وجمالاً وبهجة وسروراً، ما لا يحيط بها إلا واهبها، جعل الله لنا منها أوْفَر نصيب بجاه النبي الحبيب.
(مَضَى مَثَل الأَوَّلين) .
أي تقدم لك يا محمد كيف أهلكنا

(2/429)


القرون السالفة، والأمم الماضية، لما كفروا وتمرَّدوا، وهكذا من عاندك، ففيه تسليةٌ له - صلى الله عليه وسلم -.
(ما كنّا له مقْرِنِين) :
أي مطيقين وغالبين.
(ما أرْسَلْنَا من قَبْلك) :
معنى الآية: كما اتَّبَع هؤلاء الكفار آباءهم بغير حجة كذلك اتبع كلّ من قبلهم من الكفار آباءهم بغير حجة، بل بمجرد التقليد المذموم.
(مَعَارِجَ عليها يَظْهَرُون) ، أي أدراجاً وسلالم.
والمعنى لولا أن يكفر الناس كلّهم لجعلنا للكفار كلَّ ما يتمتعون به ذهباً وفضة لهوان الدنيا علينا.
ومعنى يظهرون: يرتفعون.
ومنه: (فما اسْطَاعوا أنْ يَظْهَروه) .
(مَنْ يَعْشُ عن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّض له شيطاناً) :
من قولك: عَشِيَ الرجل إذا أظلم بَصَرُه.
والمراد به هنا ظلمة القلب والبصيرة.
وقال الزمخشري: يعش - بفتح الشين، إذا حصلت الآفة في عينه، ويعشو - بالضم - إذا نظر نظر الأعشى، وليس به آفة، فالفرق بينهما كالفرق بين قولك: عمي وتعامى، فمعنى القراءة بالضم يتجاهل ويجحد مع معرفته بالحق.
والأظهر أن ذلك عبارةٌ عن الغفلة وإهمال النظر.
والمراد بذكر الرحمن هنا القرآن عند الزمخشري، وعند ابن عطية ما ذكّر الله عباده من المواعظ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل.
ويحتمل عندي أن يريد ذكر العبد للَه.
ومعنى الآية أنَ مَنْ غفل عن ذكر الله يسَّرَ اللهُ له شيطاناً يكون له قرينا.
فتلك عقوبة عن الغفلة عن الذكر بتسليط الشيطان، كما أن من دَاوَمَ على الذكر تباعد عنه الشيطان.
مصداقُه الحديث: إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، واضع خرطومه عليه، فإن ذكر العبدُ الله خَنَس، وإن غفل عنه وَسْوَس.
(ما نُرِيهم مِنْ آيةٍ إلاَّ هي أكبَرُ مِنْ أُخْتِها) .

(2/430)


الآيات هنا المعجزات، كقلب العصا حيَّة، وإخراج اليد بيضاء.
وقيل البراهين والحجج العقلية، والأول أظهر.
ومعنى أكبر من أختها: أنها في غاية الكبر والظهور، ولم يرد تفضيلها على
غيرها من آياته، إنما المعنى أنك إذا نظرت وجدتَ كبيرة، وإذا نظرت غيرها
وجدت كبيرة، فهو كقول الشاعر:
" مَنْ تَلْقَ منهم تَقلْ لقيت سَيِّدهم "
هكذا قال الزمخشري.
ويحتمل عندي أن يريد: ما نريهم من آية إلا هي أكبر مما تقدمها، فالمراد
أكبر من أختها المتقدمة عليها.
(مَهين) : المراد بذلك موسى، ووصفه فرعون بالضعيف الحقير.
(ملائكة في الأرْضِ يَخْلُفون) :
في معناها قولان:
أحدهما: لو نشاء لجعلنا بدلاً منكم ملائكةً يسكنون الأرضَ ويخلفون فيها بني
آدم، فقوله: (منكم) متعلق ببدل المحذوف: أو ب (يخلفون) .
والآخر: لو نشاء لجعلنا منكم ملائكة، أي لولدنا منكم أولادا ملائكة
يخلفون أولادكم، فإنا قادرون على أن نخلف من أولاد الناس ملائكة، أفلاْ
تذكرون خَلْقَنا عيسى من غير والد وأنتم مقِرّون به.
(ماكِثُون) : دائمون.
(مَنْ شهد بالحقِّ وهم يَعْلَمُون) :
اختلف هل يعني بمن شهد بالحق الشافع أو المشفوع فيه، فإن أراد المشفوع فيه فالاستثناء منقطع.
والمعنى لا يملك المعبودون شفاعة، لكن من شهد بالحق وهو عالم به فهو الذي يشفع فيه.
ويحتمل على هذا أن يكون (من شهد) مفعولا بالشفاعة على إسقاط
حرف الجر، تقديره: الشفاعة فيمن شهد بالحق، وإن أراد بمن شهد بالحق الشافع

(2/431)


فيحتمل أن يكونَ الاستثناء منقطعاً، وأن يكون متصلاً، لأنها فيمَنْ عبد عيسى والملائكة.
والمعنى على هذا لا يملك المعبودون شفاعة إلا مَنْ شهد منهم بالحق.
(مَقَامٍ كَرِيم) :
فيه قولان: المنابر، والمساكن الحسان.
(ما كانوا منْظَرِين) ، أي مؤخرين.
(مولى عن مَوْلى) :
المولى هنا يعلم الوليّ والقريب وغير ذلك من الموالي الذين تقدم ذكْرهم.
(ما يهْلِكنَا إلا الدَّهْر) :
هؤلاء هم الدهرية، ومقصودهم إنكار الآخرة.
(مَنْ أَضَلّ) .
معناها لا أحد أضلّ مِمّن يَدْعو إلهاً لا يستجيب له وهي الأصنام، فإنها لا تسمع ولا تعقل، ولذلك وصفها بالغفلة عن دعائهم، لأنها لا تسمعه.
(ما كنْتُ بِدْعاً من الرُّسُل) :
البدع، والبديع من الأشياء: ما لم يُرَ مثله، أي ما كنت أوَّلَ رسول، ولا جئت بأمر لم يجئ به أحد قبلي، بل جئت بما جاء به قبلي ناسٌ كثيرون، فلأيّ شيء تنكرون ذلك.
(ما أدْرِي ما يُفْعَل بي ولا بِكمْ) :
فيها أربعة أقوال:
الأول: أنها في أمْر الآخرة، وكان ذلك قبل أن يعلم أنَّ المؤمنين في الجنة
والكفار في النار، وهذا بعيد، لأنه لم يزل يعلم ذلك من أول ما بعثه الله.
والثاني: في أمر الدنيا، أي لا أدري بما يقضي الله عليَّ وعليكم، فإن مقادير
الله مغيّبة، وهذا هو الأظهر.
الثالث: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي، وما تلْزِمه
الشريعة.
الرابع: أن هذا كان في الهجرة، إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى في النوم أنه يهاجِرُ إلى أرض نخل، فقلق المسلمون لتأخّر ذلك، فنزلت هذه الآية.

(2/432)


(ما حَوْلَكُمْ مِنَ القُرَى) :
يعني بلادَ عادٍ وثمود وغيرها.
والمراد إهلاك أهلها.
(مَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ) .
يحتمل أن تكون من كلام الله تعالى.
والمعنى: ليس بمعجز في الأرض، لا يفوت.
(مَوْلى الَّذينَ آمَنوا) .
أي وليّهم وناصرهم، وكذلك: (وأَنّ الكافرين لا مَوْلَى لهم) .
ولا يصح أن يكون الولى هنا بمعنى السيد، لأن الله تعالى مولى المؤمنين والكافرين بهذا المعنى، ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله: (ورُدُّوا إلى الله مولاهم الحقِّ) ، لأن معنى الولى مختلف في الموضعين، فمعنى مولاهم الحقّ ربهم، وهذا على العموم في جميع الخلق، بخلاف قوله: (مَوْلَى الذِين آمَنوا) ، فإنه خاص بالمؤمنين، لأنه بمعنى الولي الناصر.
(مَنْ يَبْخَلْ فإنما يبْخَل عن نَفْسه) .
أي إنما ضرر بخْله على نفسه، فكأنه بخل على نفسه بالثواب الذي يستحقه بالإنفاق.
(فَمَنْ نكثَ فإنما يَنْكثُ عَلَى نَفْسِه) ، أي نقض البيعة.
(مَعَرّةٌ بغير عِلْم) .
أي تصيبكم مِنْ قتلهم كراهةٌ ومشقّة.
واختلف هل يعني الإثم في قتلهم، أو الدية، أو الكفارة، أو الْمَلاَمة، أو عَيْب الكفار لهم بأن يقولوا: قتلوا أهل دينهم، أو تألم نفوسهم من قَتْل المؤمنين، وهذا أظهر، لأنَّ قَتْلَ المؤمن الذي لا يُعلم إيمانه - وهو بين أهل الحرب - لا إثم فيه ولا دية ولا ملامة ولا عيب.
(مَعْكوفاً أنْ يَبْلغَ مَحِلَّه) :
كان - صلى الله عليه وسلم - قد ساق عام الْحديبية مائة بَدَنَةٍ فقَلّده.
وقيل سبعين، ومنعه المشركون من الوصول إلى مكة
(ومَحِلّه) موضع نَحْرِه، يعني مكة والبيت.
ومعكوفاً حال من الْهَدْي.
وأن يبلغ مفعول بالعكفِ.
والمعنى صدّوكم عن المسجد الحرام، وصدّوا الْهَدْي عن أن
يبلغ محله، أو حبس المسلمين للهَدْي بينما ينظرون في أمرهم.

(2/433)


(مَثَلُهم في التّوراة) :
أي وصفهم فيها، وتمَّ الكلام هنا، ثم ابتدأ قوله: (وَمثَلهم في الإنجيل كزَرْع) .
وقيل: إن مَثَلهم في الإنجيل عطف على مثلهم في التوراة، ثم ابتدأ قوله: كزرع، وتقديره هم كزرع.
والأول أظهر، ليكون وصفهم في التوراة بما تقدم من الأوصاف الحسان.
وتمثيلهم في الإنجيل بالزرع المذكور بعد ذلك.
وعلى هذا يكون المثل في الإنجيل بمعنى التشبيه والتمثيل، وعلى القول الآخر يكون المثل بمعنى الوصف، كمثلهم في التوراة.
(مَغْفِرة وأجْراً عظيما) .:
وعد يعمّ جميعَ الصحابة رضوان الله عليهم، وفي هذا تشريف لهم، وكيف لا وقَدْ ذكر الله مؤمنَ آلِ فرعون بكلمة قالها ينصر بها موسى إلى آخر الدهر، فما بالك بمن شَّ الله بهم الدِّين وأعلاه
حتى عمّ جميع الأرضين، وأغاظ اللَّهُ بهم الكافرين، اللهم بحرْمَتِهم لديك اغْفِرْ لنا ولجميع المذنبين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين.
(ما تَنْقصُ الأرْضُ مِنْهم) :
هذا ردّ على الكفَّار في إنكارهم البعث.
ومعناه قد علمنا ما تنقص الأرض من لحومهم وعظامهم، فلا يصعب
علينا بعثهم.
وفي الحديث: كلّ جسد ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب.
منه خلق، وفيه يركب، إشارة لكم أنها العبيد في بقائه وتركيب الجسد منه.
وقيل: المعنى قد علمنا ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم، والأول قول
ابن عباس والجمهور، وهو أظهر.
(مَرِيج) ، أي مختلط، فتارة يقولون ساحر، ومرة كاهن، فاختلط أمرهم واضطرب.
(ماء مباركاً) : يعني المطر كله.
وقيل الماء المبارك مطر مخصوص.
وقيل مطر النيسان، وليس كلّ مطر يتّصف بالبركة، وهذا ضعيف.
(ما كنْتَ مِنْه تَحِيد) ، أي تهرب.
والخطاب للإنسان.
(مَنَّاعٍ للخير) ، أي للزكاة المفروضة.
والصحيح العموم.

(2/434)


(مَزِيد) : يعني النظر إلى الله، كقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) .
وقيل يعني ما لم يخطر في قلوبهم، كما ورد في الحديث:
إن الله قال: "أعْدَدْت لعبادي الصالحين ما لا عَيْن رأتْ، ولا أذن سمعَتْ، ولا خطر على قَلْب بشر".
(مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) :
هذا كقوله تعالى: (إنما تنذر الذين يَخْشَوْن ربّهم بالغيب) ، لأنه لا ينفع التذكير إلا فيمن يخاف.
(ما يهْجَعون) ، أي ينامون، بل كانوا يقطعون أكثر
الليل بالصلاة والتضرع والدعاء.
(المحروم) :
اختلف الناس في معناه حتى قال الشعبي:
أعياني أن أعلم ما الحروم.
والمعنى الجامع للأقوال كلها أن المحروم الذي حرمه
الله المال بأيّ وجْهٍ كان، والمحروم والمحارف بمعنى واحد، لأن المحارف الذي
انحرف عنه الرزق.
(ما خَطْبكم) ، أي ما شَأنكم وخَبَركم، والخطْب أكثر
ما يقال في الشدائد.
(مَنْ كان فيها من الْمؤْمنين) : الضمير المجرور لقرية
قوم لوط، لأن الكلام يدل عليها، وإن لم يتقدم ذكرها.
والمراد بالمؤمنين لوط وأهله، أمرهم الله بالخروج من القرية لينجوا من العذاب الذي أصاب أهلها.
فإن قلت: قد وصفهم أولاً بالمؤمنين، ثم قال بعد: (فما وجَدْنَا فيها غَيْرَ
بَيْت من المسلمين) ، فهل جمعوا الوصفين، وهل هما بمعنى واحد؟
فالجواب أنهم جمعوهما، ومعنى الإسلام الانقياد.
والإيمان هو التصديق، ثم إنهما يطلقان بثلاثة أوجه باجتماعهما كهذه الآية، وباختلاف المعنى، كقوله: (قالت الأَعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) .
فالإيمان والإسلام في هذا الموضع متباينان في المعنى.

(2/435)


وبالعموم كقوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) ، فيكون الإسلام أعمّ، لأنه بالقلب والجوارح، والإيمان أخصّ لأنه بالقلب خاصة.
(الماهِدون) : موطئ للموضع.
(ما أنْتَ بِملوم) ، أي قد بلَّغتَ الرسالة فلا لوم عليك.
(ما خَلَقْتُ الجنَ والإنْسَ إلاَّ ليَعْبدون) .
أي خلقتهم لكي آمرهم بعبادتي.
وقيل ليتذللوا لي، فإنَّ جميع الإنس والجن متذلّل لربوبيتي.
فإن قلت: ما فائدة ذكر الصنفين، ولم لم يذكر الملائكة وهم أكثر عبادة
منهما، وما فائدة تقديم الجن على الإنس؟
فالجواب أنه لم يذكر الملائكة لأنه لا تقع منهم معصية لعصمتهم، وأيضاً لم
يكلَّفوا بالعبادة غير السجود لآدم.
وإنما قدم الجن لثقله، ومن عادة العرب تقديم الأثقل في كلامهم إذا جامعه الأخفّ، لنشاط المتكلم، وأيضاً فإن المطيعين
من الإنس أكثر، فأخَّرهم ليختم بهم، وليرهب الجن من ذلك.
وقيل غير هذا من الأجوبة حذفناه لطوله.
(مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) .
أي ما أريد أنَ يرزقوا أنفسهَم ولا غيرهم، ولا أريد أنَ يطعموني، لأني منَزَّه عن الأكل وعن صفات البشر، وأنا غنيّ عن العالمين.
وقيل المعنى: ما أريد أن يطعموا عبيدي، فحذف المضاف تجوّزا.
وقيل معناه: ما أريد أن ينفعوني، لأني غنيّ عنهم، وعبَّر عن النفع العام بالإطعام.
والأول أظهر.
(مَسْجور) ، أي مملوءآَ، وهو بحر الدنيا.
وقيل: بحر في السماء تحت العرش.
والأول أظهر.
وقيل: المسجور الفارغ من الماء.
ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة.
واللغة تقتضي الوجهين، لأن اللفظ من الأضداد.
وقيل في معناه: الموقد ناراً،

(2/436)


من قولك: سُجِّرت القبور.
واللغة أيضاً تقتضي هذا.
وروي أن جهنم في البحر.
(ما ألَتْنَاهمْ مِنْ عَملِهم مِنْ شيء) .
أي ما نَقَصْنَاهم شيئاً من ثواب أعمالهم، بل وفّيناهم أجورهم.
وقيل المعنى: ألحقنا ذرياتهم بهم، وما نقصناهم شيئاً من ثواب أعمالهم بسبب ذلك، بل فعلنا ذلك تفضَّلاً زيادة إلى ثواب أعمالهم.
والضمير على القولين يعود على الذين آمنوا.
وقيل إنه يعود على الذرية.
وفي الحديث: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله يرفع ذرية المؤمنْ في درجته، وإن كانوا دُونه في العمل لتقرَّ بهم عيْنهُ ".
وكذلك كرامة الأبناء بسبب الآباء، فقيل: إن ذلك في الأولاد الذين ماتوا صغارا.
وقيل على الإطلاق في أولاد المؤمنين.
فإن قلت: لم قال: بإيمان بالتنكير؟
فالجواب أن المعنى بشيء من الإيمان لم يكونوا به أهلاً لدرجة آبائهم.
ولكنهم لحقوا بهم كرامة للآباء، فالمراد تقليل إيمان الذرية، ولكنه رفع
درجتهم، فكِيف إذا كان إيمانا عظيما.
(ما ضَلَّ صاحِبُكم وما غَوَى) :
هذا جواب القسم.
والخطاب لقريش عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الضلال والغي، والفرق بينهما أنَّ الضلال بغير قصد والغي بقصد وتكسّب.
(ما يَنطِق عن الهوَى) ، أي ليس يتكلم بهواه وشهوته، وإنما
يتكلم بما يوحى إليه.
وفي هذا دليل على أن السنن بِوَحْي من الله، ويشهد لهذا
الرجل الذي سأله وقد تناثر رأسه من القمل.
(ما أَوْحَى) : إبهام يقتضي التفخيم والتعظيم.
وفي معناه أقوال:
الأول: أن المعنى أوحى إلى عبده محمد ما أوحى.
الثاني: أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى، وعاد الضمير على الله في

(2/437)


القولين، لأن سِيَاقَ الكلام يقتضي ذلك وإن لم يتقدم ذكره، فهو كقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القَدْر) .
الثالث: أوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى.
والأول أظهر بدليل سؤال عائشة له - صلى الله عليه وسلم -: ما أوحى إليك ربك، فأبى أن يخبرها، فألَحّتْ عليه وأقسمت له باللهِ، فقال: يا عائشة، أوحى إليّ أنه لا يحاسب أمتي غيره لما سألته أن يجعل حسابَهم إليَّ وقال: لا أريد أن يطَّلع على مساويهم أَنتَ ولا غيرك.
وفي رواية: أنت شفيع لهم وأنا رحيمهم، فكيف
تضيع أمةٌ بين شفيع ورحيم.
(ما كذَبَ الفؤاد ما رَأى) ، أي ما كذب فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رأى بعينه، بل صدق بقلبه أن الذي رأى بعينه حق، والذي رأى هو
جبريل، يعني حين رآه قد ملأ الأفق.
وقيل: الذي رأى ملكوت السماوات.
والأول أرجح: (ولقد رآه نزلة أخرى) .
وقيل الذي رأى هو اللَه تعالى، وقد قدمنا إنكار عائشة رضي الله عنها لذلك.
وسئل - صلى الله عليه وسلم -: " هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: نوراني نراه!
(ما يَغشَى) :
فيه إبهابم لقصد التعظيم.
وفي الحديث قال: "فغشيها ألوان لا أرى ما هي"، وهذا أولى ما تفَسَّر به الآية.
(ما زَاغَ الْبَصَرُ وما طَغَى) .
أي بَصَرُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، أي ما تجاوز مما رأى إلى غيره، بل أثبتها وتيقَّنها.
(مَنَاْة الثالثةَ الأخرى) :
صخرة كانت لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة، وكانت أعظم الأوثان عندهم، لأنه تعالى أكدها بهاتين الصفتين، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: الأخرى ذمّ وتحقير، أي المتأخرة الوضيعة القدر.
ومنه: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ) .
(ما تمَنَّى) :
يعني ليس للإنسان ما تمنّى من الأمور، لأنها

(2/438)


بيد الله يعطي ما يشاء ويمنع ما شاء، وفيه إشارة إلى ما طمع فيه الكفار من
شفاعة الأصنام فيهم.
وقيل: هو تمنِّي بعضهم أن يكون نبيئاً.
وقيل غير هذا.
والأحسن حمل اللفظ على إطلاقه.
(مَبْلَغهم مِنَ العِلْم) ، أي انتهاء علمهم، لأنهم علموا
منفعتهم في الدنيا ولم يعلموا ما ينفع الآخرة.
(ما فِيه مزْدَجَر) :
اسم مصدر بمعنى ازدجار، بمعنى أنه مظنة أن يزجر به، يعني قد جاء قريشاً من القصص والبراهين والمواعظ - لو عقلوها - ما يصدقونك به يا محمد.
(ما تغْنِي النّذر) :
يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية بمعنى الاستبعاد والإنكار.
(مَغْفولبٌ فانْتَصِر) :
أي قد غلبني الكفار فانتصر لي أو انتصر لنفسك.
وقالت التصوفة: معناه قد غلبتني نفسك حين دعوت على قومي فانتصر مني.
وهذا ضعيف، لأن قوم نوح مكروا به وأرادوا إهلاكه، ومكر الله بخروجهم
من وجه الأرض، فأخرج الله منها ماء حارًّا، وأنزل من السماء ماء باردا، وأظهر من بينهما طوفاناً مبيداً، فأهلك عدوَّه، وأنْجَى حبيبه، كذلك يقول الله تعالى: يا إسرافيل، انفخ في الصور، ويا أهل القبور والنشور ويا سماء انفطري، ويا كواكب انتثري.
ويا شمس انكدري، (ثم ننَجِّي الذين اتقوا ونَذَر الظالمين فيها جِثِيًّا) .
(ما أمْرُنا إلاَّ واحدةٌ) :
عبارة عن سرعة نفوذ أمر الله، ويراد بالواحدة الكلمة التي هي: كنْ.
(مَقْعَدِ صِدْق) : مكان رضا.

(2/439)


(مَرْجَان) : صغار اللؤلؤ عند بعضهم.
قال ابن عطية:المرجان حَجر أحمر.
وذكر الجواليقي عن بعض أئمة اللغة أنه أعجمي.
فإن قلت: لا يخرج المرجان إلا من البحر الملح، فما معنى قوله تعالى:
(يَخْرُجُ مِنْهُمَا) ، وكذلك قوله: (وتستخرجون حلية تلبسونها) .
وهي لا تخرج إلا من البحر الملح؟
والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: إن ذلك تجوّز في العبارة، كما قال: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) ، والرسل إنما هي من الإنس.
والثاني: أن المرجان إنما يوجد في البحر الملح، حيث تنصبّ أنهار الماء
العذب، وينزل المطر، فلما كانت الأنهار والمطر وهي البحر العذب تنصبّ في البحر الملح كان الإخراج منهما جميعاً.
الثالث: زعم قوم أنه قد يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان من الملح والعذب.
وهذا قول يبطله الحسّ.
(مَنْ عليها فَانٍ) :
الضمير للأرض، يدلُّ على ذلك سياق الكلام وإن لم يتقدم لها ذكر، ويعني بمن عليها بني آدم وغيرهم من الحيوان، ولكنه غلب العقلاء.
(مَقْصورَاتٌ في الخِيَام) :
أي محجوبات، لأن النساء يمْدَحن بملازمة البيوت ويذممن بكثرة الخروج منها، ولا تقام الخيام من الخشب والحشيش، وإنما هو لؤلؤ مجوَّف فلا الديار الديار، ولا الخيام الخيام.
وفي الحديث: إن جبريل ينغمس كلّ يوم في عين الحياة، وينتفض، فكلما سقطت قطرة من ريشه سقطت منه حوراء عليها خيمة لؤلؤ لا يراها ملك ولا غيره، غيرة منه سبحانه على وليّه المطيع له أنْ يَرَاها غيره، فكيف لنا بالوصول إلى هذا النعيم المقيم، وأكبر من هذا التلذذ برؤية المولى العظيم - إلا باطِّراح أنفسنا بين

(2/440)


يديه، وقولنا له: أنتَ أنتَ، ونحن نحن، ولا بد لنا من الوصول إليك، فعامِلْنَا بما يعامل به المولى الكريم لعبده اللئيم، فلا فضيحة إلا ونحن أهلها، ولا ستْر إلا وهو أهله، فاسترنا بما نحن أهله بما أنت أهله يا رحيم.
(ما أصحابُ الْمَيْمَنَة) :
هذا ابتداء خبر، وفيه معنى التعظيم، كقولك: زيد ما زيد.
والْمَيْمَنَة يحتمل أن تكون مشتقّة من اليمن، وهو ضدّ الشؤم، وتكون
الْمَشْأمة مشتقة من الشؤم.
أو تكون الميمنة من ناحية اليمين والمشأمة من ناحية
الشمال واليَدُ الشّؤْمَى هي الشمال، وذلك لأن العربَ تجعل الخير من اليمين والشرَّ من الشمال.
أو لأن أهل الجنة يحملون إلى جهة اليمين، وأهل النار يحملون إلى
جهة الشمال.
أو يكون من أخذ الكتاب باليمين أو الشمال.
أو يقال أصحاب الميمنة أصحاب اليمين على أنفسهم، أي كانوا ميامين على أنفسهم، وأصحاب الشمال مشائيم على أنفسهم.
(مَوْضونة) : منسوجة.
وقيل المشتبكة بالدرّ والياقوت.
وقيل معناه متواصلة قد أُدْني بعضها إلى بعض.
(ما أصحابُ اليَمين) :
هذا مبتدأ وخبر، وقصِد به التعظيم، فيوقف عليه ويبتدأ بما بعده.
ويحتمل أن يكون الخبر في صدر الآية، ويكون (ما أصحاب اليمين) اعتراضاً.
والأول أحسن.
وكذلك إعراب (ما أصحاب الشمال) .
(مَنْضود) .
أي نضّد بالتمر من أعلاه إلى أسفله حتى لا يظهر له ساق.
(مخضود) :
يعني لا شوك فيه، وذلك أن سدر الدنيا له
شوك، فوُصِف سِدْر الجنة بضدّ ذلك.
وقيل المخضود هو الموقر الذي انثنت
أَغصانه من كثرة حمله، فهو على هذا من خضد الغصْنَ إذا ثناه.

(2/441)


(مَاءٍ مَسْكُوبٍ) .
أي مصبوب، وذلك عبارة عن كثرته.
وقيل المعنى أنه جارِ في غير أخاديد ولا ساقية ولا دلو ولا تعب.
(مَحْرومون) : ممنوعون من الرزق، يعني يقولون ذلك لو
جعل الله زَرْعَهم حُطاماً.
(مَتَاعاً للمقْوِين) : أي الذين دخلوا في الْقِوَاء، وهي
الفيافي، ولذلك عبر عنه ابن عباس بالمسافرين.
ويحتمل أن يكون من قولهم:
أقوى المنزل إذا خلا، فمعناه الذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام.
ولذلك عبر عنه بعضهم بالجائعين.
(مَوَاقِع النجوم) :
فيه قولان:
أحدهما قول ابن عباس أنها نجوم القرآن، لأنه نزل على نبينا ومولانا محمد
- صلى الله عليه وسلم - منجّماً، كما قدمناه في عشرين سنة أو أكثر، فكل قطعة منه نَجْم.
والآخر، وهو قول كثيرٍ من المفسرين أنها النجوم الكواكب، ومَوَاقعها
مغاربها ومساقطها.
وقيل مواضعها من السماء.
وقيل انكدارها يوم القيامة.
(مَدِينين) : أذلاء من قولك: دِنْتُ له بالطاعة.
ومعنى الكلام: فلولا ترجعون النفس إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فارجعوها إن كنتم صادقين، أي مربوبين ومقهورين.
(ما لكم لا تُؤْمِنُون باللَهِ والرَّسول) : استفهام يراد به الإنكار.
ولا تؤمنون في موضع الحال من معنى الفعل الذي يقتضيه ما لكم.
والواو في قوله: والرسول يدعوكم - واو الحال، ومعناه أيّ شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول يدعوكم إليه بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة.
(ما لكم ألاَّ تنْفِقُوا في سبيل الله) : فيه تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا.
ومعناه أيُّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله.
واللة يرِث ما في السماوات وما في الأرض إذا أفنى أهلها.

(2/442)


(ما أصاب مِنْ مصِيبةٍ في الأرض ولا في أنْفُسكم) .
معناها أنَّ الأمور كلها مقدَّرة مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن
تكون.
قال - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء.
والمصيبة هنا عبارة عن كل ما يُصيب من خير أو شر.
وقيل أَراد به المصيبة في العُرْف، وهو ما يصيب من الشر، وخص ذلك
بالذكر، لأنه أهم على الناس.
فانظر هذا اللطف العظيم من هذا الرب الكريم في
دعاء عباده بهذه الآية إلى إراحة أنفسهم شفقةً عليهم وهي قطب دائرة العبادة
عليه، ومدارها، وهو ثبات الباعث عليها، ألا ترى ما وعدهم به من الأجر على الصبر على المصائب مع ما في الرضا بها من الراحة والسلامة، وما في الجزع من الهمِّ والغمِّ والعقوبة، وكيف يسخطُ الجاهل بعواقب الأمور، وإنما أجهلك بها لتسأله أَنْ يختارَ لك ما لا تختاره لنفسك، إذ هو عالم بما يصلح لك، والكلام على هذه الآية طويل تكفّل بجمعه علماء أجلة كالغزالي وابن عطاء الله والقشيري وغيرهم، جزاهم الله عنَّا ما هو أهله.
فإن قلت: قد فصل في هذه الآية مصائب الأرض، كالزلازل والقحوط.
وفي أنفسكم بالمرض والموت والفقر، وأجمل في التغابن، فما الحكمة؟
فالجواب إنما فصل فيها موافقة لما قبلها، لأنه فصَّل في سورة الحديد أحوال
الدنيا والآخرة بقوله: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) .
فناسب ذلك التفصيلُ التفصيلَ في الآية.
وأما سورة التغابن، فناسب الإجمال الوارد فيها من ذلك المشترك، وتحصَّل نظم السورتين على أَتَمِّ مناسبة.
فإن قلت: ما لنا نفرح بالخير ونجزع من الشر، وقد قال تعالى: (لكيلا تَأسوْا على ما فاتَكمْ ولا تَفْرَحوا بما آتاكم) .
وقد قال أبو بكر - رضي الله عنه - لما أوتي بمال كثير: اللهم لا نستطيع أن نفرح إلاَّ بما زيَّنت لنا.
وقد حثى أيوب من الجراد الذي سقط عليه، فقال الله له: ألم يكن فيما أبليتك - أي أعطيتك - غِنًى عن هذا، فقال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركاتك.

(2/443)


فالجواب أن النهي إنما هو عن الفرح الذي يعود إلى الكبر والطغيان، وعن
الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم.
وقد ذكر القرافي فرقاً بين الرضا بالقضاء وبين الرضا بالمقضيِّ.
وضرب له مثلاً بالطبيب إذا وصف للعليل دواءً مرًّا، أو قطع يده المتآكلة.
فإن قال بئس ترتيب الطبيب ومعالجته، وكان غير هذا يقوم
مقامه بما هو أيسر فهو تسخّط بقضاء الطبيب، وإذاية له، وجناية عليه، بحيث لو سمعه الطبيب كره ذلك، وشقَّ عليه.
وإن قال: هذا، لدواء مرٌّ قاسيْتُ منه شدائد، وقطع اليد لي منها آلام عظيمة مبرّحة فهذا سخْطٌ بالمقضي الذي هو الدواء والقَطْع لا بالقضاء الذي هو ترتيب الطبيب ومعالجته، فهذا ليس يقدح في الطبيب، ولا يؤلمه إذا سمع بذلك، بل يقول له: صدقت، الأمر كذلك، فعلى هذا إذا ابتلي الإنسان بمرض فتألم من المرض بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضا بالقضاء، بل عدم رضاً بالمقضيِّ.
وإن قال: أي لشيء عملته حتى أصابني مثل هذا، أو ما ذَنْبي، أو ما كنت استَأهِل مثل هذا، فهذا عدم رضا بالقضاء، فنحن مأمورون بالرضا بالقضاء، ولا نتعرض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم، ولا نعترض عليه في ملكه.
وأما أنَّا أُمِرْنا أن تطيب لنا البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث فليس كذلك، ولم ترد الشريعة بتكليف أحد ما ليس في طبعه، ولم يُؤمر الرَّمِدُ باستطابة الرمد المؤلم، ولا غيره من المرض، بل ذمَّ اللهُ قوماً لا يتألّمون ولا يجدون للبأساء وقْعاً بقوله: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما اسْتَكَانوا لربِّهم وما يتَضَرَّعون) ، فمن لم يتمسكن، ويذل للمؤلمات، ويظهر الجزع منها، ويسأل ربه إقالة العثرة - فهو جبار عَنِيد، وشيطان مَرِيد.
فإن قلت: يفهم من هذا أن من قدر الله عليه بمعصيته يجب عليه الرضا بها.
وليس كذلك؟
فالجواب أن الرضا بالمقضيّ قد يكون واجباً كالإيمان بالله والواجباتِ إذا
قدرها الله للإنسان، وقد يكون مندوباً في المندوبات، وحراماً في المحرمات.
والرضا بالكفر كفر، ومباحاً في المباحات.
وأما بالقضاء فواجب على الإطلاق

(2/444)


من غير تفضيل، فمن قضي عليه بالمعصية أو الكفر - والعياذ باللهِ - فالواجبُ عليه أن يلاحظ جهةَ المعصية والكفر فيكرههما.
وأما إنْ قدر الله فيهما فالرضا ليس إلا.
ومتى تسخّطه وسفه الربوبية في ذلك كان ذلك معصية، وكفراً
منضمّاً إلى معصيته وكفره على حسب حاله في ذلك.
أما إذا تاب ورجع إلى الله من ذلك فلا شكّ أنَّ المعصية في حقه نعمةٌ من الله عليه، لأن الذنبَ يورث الافتقار، والطاعة تورث الاستكبار، والمعصية ُ تورِث ذلاً وافتقاراً خير من طاعة تورث عزا واستكباراً.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أنَّ الذنب خير للمؤمن من العُجْب ما
خَلّى الله بين عَبْدٍ وبين ذَنْب أبدًا ".
وفي الحديث: "إن إبليس ليوقع العبد في معصية فلا يزال هذا العبد نادماً عليه وخائفاً من عقوبته، فيقول إبليس: يا ليتني لم أوقعه فيه".
والكلام هنا طويل تركناه لذلك.
(مَنْ ذَا الذي يقْرِض الله قَرْضاً حَسَنًا) :
ندب الله عبادَة في هذه الآية إلى الإنفاق في سبيل الله، وهذا من لطْفِ اللَهِ بهم، تارة يدعوهم إلى الزّهد في الدنيا والخروج عنها بالإقراض، وتارة بلفظ المضاعفة، فهنيئاً لكم أيتها الأمة بما خوّلكم مولاكم.
وسبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذَرَّةٍ خيراً
يَرَه) - شَقّ ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل الأمة، ولم يرض بذلك، فأنزل اللَّهُ: (أولئك يؤتَوْن أجرهم مرتين) ، فلم يَرْضَ بذلك، فأنزل الله: (مَنْ جاء بالحسنة فله عَشْرُ أمثالها) ، فلم يرض بذلك، وقال: " رب زد أمتي "، فأنزل الله: (واللَه يضاعف لمن يشاء) ، فقال: " رب، زِدْ أمتي "، فأنزل الله: (مَنْ ذَا الذي يقْرِض الله قَرْضاً حَسَنًا) .
والكثير لا يكون أقلَّ من ثلاثة، والدنيا كلّها قليل، والإضعاف لا يكون
أقل من ثلاث مرات مثل الدنيا.
فقال: رب، زد أمتي، فأنزل الله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) .
فإن قلت: هلا أعطاهم بغير قَرْض ولا مجيء حسنة في قوله تعالى:

(2/445)


(مَنْ جاء بالحسنة) .
وما الحكمة في أنَّ الله ذكر الصدقةَ بلفظ القرض، وما الحكمة في
الإضعاف؟.
فالجواب أن الله تعالى لو أعطى الثواب بغير شيء لكان يجب أن يعطي
الكفّار مثلَ ما يعطي المؤمنين، فجعل الحسنات إلى المؤمنين لتمنع الثواب عن
الكفار بها، ولا تكون حجة عند الله.
وذكر الصدقة بلفظ القرض، لأن المقرض محتاج، فذكر أنك محتاج إليه مضطر، فلا يمنعك لاحتياجك، ولتعلم أنه يخْلفه لك.
والقرض ليس فيه مذلّة، بخلاف الصدقة.
ومن أقرضته لا يمنُّ عليك.
ولما كان للأمم الخالية عمر طويل وطاعات كثيرة بخلاف هذه الأمة، فخصَّها الله بتضعيف الطاعات، وتفصيل الأوقات، لتكون أعمالهم زاكيةً عليهم.
ولما كان في الطاعات تقصيرٌ جعل لهم الإضعاف، إذ هو بغير تقصير، وبه تنال الجنة، لأنها من فضله ورحمته لا بعملهم وسعْيهم وإن ظلموا بعضهم بعضا تؤخذ حسناتهم بقدر مظلمتهم حتى تفنى ولا يبقى إلا التضعيف، فيقولون: يا ربنا، أعطنا من أضعاف عملنا.
فيقول الله لهم: ذلك ليس منْ الفعل، وإنما هو من فضلي ورحمتي، فلا نصيب لكم فيها، فلا تؤخذ منهم.
(مَنَافِعُ لِلنَّاسِ) :
يعني أنَّْ الحديد فيه منافع لسكك الحرث والمسامير، وذلك أن كلَّ صنعة لهم مفتقرة إليه، فلا يستغنى عنه.
(مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) : يعني أنَّ الله أنزل الحديد
ليعمل منه السلاخ لقتال أعْداءَ الله، وليعلم الله مَنْ ينصره، أي ليعلمه موجوداً فالمتغير ليس في علم الله، بل في هذا الحديث الذي خرج من العدم إلى الوجود.
ومعنى (بالغيب) بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه، فآمن به لقيام الأدلة
عليها، فأى عذر لتاركِ الجهاد في سبيل الله، وقد أخبر أنه أرسل رسلاً، وأنزل كتباً، وعدلاً مشروعا، وسلاحاً يقاتل به من عاند، ولم يهتد بهَدْي الله.
(ما كتَبْنَاهَا عليهم إلاَّ ابتغاءَ رِضْوَان الله) :
أي فرضنا وشرعنا.
وفي هذا قولان:

(2/446)


أحدهما أن الاستثناء منقطع.
والمعنى ما كتبنا على الذين اتّبعوا عيسى الرهبانية من الاعتزال عن الناس، ورَفْض النساء، وتَرْك الدنيا، ولكنهم فعلوها من تِلْقَاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله.
والآخر أنَّ الاستثناء متصل: والمعنى كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله.
والأول أرجح، لقوله: ابتدعوها، ولقراءة عبد الله بن مسعود ما كتبناها
عليهم، لكن ابتدعوها.
والمعتزلة يعربون (رهبانية) مفعولاً بفعل مضمر يفسره ابتدعوها، لأن مذهبهم أنً الإنسانَ يخلق أفعاله، فأعربوها على مذهبهم الفاسد.
(ما رَعَوْهَا حقَّ رِعَايَتِها) ..
أي لم يدوموا عليها، ولم يحافظوا على الوفاء بها.
والضمير في (رعَوْها) للذين ابتدعوها لرهبانيةٍ، وكان
يجب عليهم إتمامها، وإن لم يكتبها الله عليهم، لأن من دخل في شيء من النوافل وجب عليه إتمامُه، ولهذا أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله لعبد الله بن عمر: إنك لا تطيق ذلك، أحب العمل إلى الله أدْوَمه وإن قل.
حتى قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكان أحبَّ العمل إليه ما كان ديمةً.
(ما هُن أُمهاتِهم) :
ردّ الله بهذا على من كان يوقع الظهار ويعتقده حقيقة، وأخبر تعالى أنَّ تصيير الزوجة أُمًّا باطل، لأن الأم في الحقيقة الوالدة التي ولدت.
(ما يكون مِنْ نَجْوَى ثلاثةٍ إلا هو رَابِعُهم) المجادلة: 7.
يحتمل أن تكون النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي، فيكون ثلاثة مضافاً إليه، أو بمعنى الجماعة من الناس، فيكون ثلاثة بدلاً أو صفة، والأول أحسن.
(ما هم مِنْكُمْ ولا مِنْهُم) :
يعني أنَّ المنافقين ليسوا من المسلمين ولا من اليهود، فهو كقوله تعالى فيهم: (مُذَبْذَبين بين ذلك) .
وإذا عُوتبوا على سوء قولهم وأفعالهم حلفوا أنهم ما قالوا ولا فعلوا.
وقد صدر ذلك منهم مراراً كثيرة مذكورة في السير وغيرها.

(2/447)


(مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) .
ضمير الغيبة يعود على بني النضير، وذلك لكثرة عدتهم ومَنَعة حصونهم.
فأخذهم الله ولم تغْنِ عنهم من الله شيئاً.
(مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) .
نزلت بسبب الفيء.
يعني ما آتاكم من الفيء فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، فكأنها أمر للمهاجرين بأخذ الفَيْءَ، ونهي للأنصار عنه، ولفط الآية مع ذلك عامّ في أوامره ونواهيه - صلى الله عليه وسلم - ولذلك استدل بها عبد الله بن مسعود على المنع مِنْ لبْس المخيط على الحُرُمِ، ولعن الله الواشمَة وغيرها لوروده عنه - صلى الله عليه وسلم -.
(كَمَثَلِ الذين مِنْ قَبلهم قَرِيباً ذَاقوا وَبَالَ أمْرِهم) .
أي هؤلاء اليهود كمَثَلِ الذين مِنْ قَبْلهم - يعني اليهود من بني قَيْنقاع، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَجلاهم عن المدينة قبل بني النضير، فكانوا مثلاً لهم.
وقيل يعني أهلَ بَدْر الكفار، فإنهم قبلهم، ومثَلٌ لهم في أن غلبوا وقهروا.
والأول أرجح، لأنَّ قوله: (قريباً) - يقتضي أنهم كانوا قبلهم بمدة يسيرة.
وذلك أوقع على بني قَيْنقاع.
وأيضاً فإن تمثيل بني النضير ببني قينقاع ألْيق لأنّهم
يهود مثلهم، وأخرجوا من ديارهم، كما فعل بهم، وذلك هو المراد بقوله: (ذاقوا وبال أمرهم) .
(كمثل الشيطان ... ) .
مثَّل الله المنافقين الذين أغْووا اليهود من بني النضير تم خذلوهم بعد ذلك بالشيطان، فإنه يَغْوِي ابن آدم ثم يتبرأ منه، والمراد بالشيطان والإنسان هنا الجنس.
وقيل: أراد الشيطان الذي أغوى قريشاً يوم بدر، وقال لهم: (إني جاز لكم) .
وقيل المراد بالإنسان برصيص العابد، فإنه استودع امرأة فزيَّن له الشيطان
الوقوع عليها، فحملت فخاف الفضيحة، فزيَّن له الشيطان قَتْلها، فلما وُجِدتْ مقتولة تَبَيَّن فعله، فتعرّض له الشيطان، وقال له: اسجد لي وأنجيك، فسجد له وتبرَّأ منه.
وهذا ضعيف في النقل.
والأول أرجح.

(2/448)


(موَدَّة) : أي محبّة، وقد كمُلَت في فَتْح مكة، فإنه أسلم
حينئذٍ سائر قريش.
وقيل المودة تزوّج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّ حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب.
وردَّ ابن عطية هذا القول بأن تزوج أم حبيبة كان قبل نزول هذه الآية.
وبالجملة لما أمر الله المسلمين بمعاداة الكفار ومقاتلتهم امتثلوا ذلك على ما
كان بينهم وبين الكفار من القرابة، فعلم الله صدقهم، فآنسهم بهذه الآية.
ووعدهم أن يجعل بينهم مودة.
(مِثْلَ ما أنْفَقوا) ، أي اطلبوا من الكفار ما أنفقْتُم من
الصدقة على أزواجكم اللاتي فررن إلى الكفار، وليطلب الكفار ُ منكم ما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين.
فإن قلت: يفْهَم من تكرر هذه الآية بقاء حكمها؟
والجواب أنه لما قال الله: (واسألوا ما أنْفَقْتُم ولْيَسْألُوا ما أنْفَقُوا) .
قال الكفار: لا نرضى بهذا الحكم، ولا نُعْطي صداق مَنْ
فَرَّتْ زوجتُه إلينا من المسلمين، فأنزل الله هذه الآية الأخرى.
وأمر المسلمين أن يدفعوا الصداقَ لمن فرَّت زوجته إلى الكفار من المسلمين، ويكون هذا النوع من مال الغنائم على قول مَنْ قال: إنَّ معنى فعاقبتم: غنمتم.
وقيل من مال الفيء.
وقيل من الصدقات التي كانت تُدْفع للكفار إذا فرَّ أزواجُهم إلى المسلمين، فأزال الله دَفْعَها إليهم حين لم يرضوا حكمه.
وهذه الأحكام التي تضمنتها هذه الآيات قد ارتفعت، لأنها نزلت في قضايا
معينة، وهي مهادَنةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع مشركي العرب، ثم زالت هذه الأحكام بارتفاع الهدنة، إذ لا يجوز لنا مهادنة المشركين من العرب، إنما هو في حقهم الإسلام أو السيف، وإنما تجوز مهادنةُ أهلِ الكتاب والمجوس، لأن الله تعالى قال في المشركين: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) .
وقال في أهل الكتاب: (حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في المجوس: "سنّوا بهم سنَّةَ أهل الكتاب".
(مَرْصوص) :
هو الذى يُضَمّ بعضُه إلى بعض.

(2/449)


وقيل: هو المعقود بالرصاص، ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظة، وفيها إشارةٌ إلى الثبات في القتال والجِدّ فيه.
(مثَل الذين حُمِّلوا التوراةَ) .
أي كلِّفوا العمل بها والقيام بأوامرها ونواهيها، فلما لم يطيقوا أمْرَها ولم يعملوا بها شبّههم الله بالحمار الذي يحمل الأسفار على ظهره، ولا يدري ما فيها، وهم أيضاً حملوا التوراة ولم يحملوها، لأنها تنطِقُ بنبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن قرأها ولم يؤمِنْ بها
فقد خالف التوراة.
(ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ ومِنَ التجارة) :
سبب هذه الآية أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قائماً يخطب على منبره يوم الجمعةْ، فأقبلت عِير من الشام
بطعام وصاحِبُ أمرها دحية بن خليفة الكلبي، وكانت عادتهم أن تدخل العِير
المدينةَ بالطبل والصياح سروراً بها، فلما دخلت العير كذلك انفضَّ أهلُ المسجد إليها، وتركوه - صلى الله عليه وسلم - قائماً على المنبر، ولم يَبْقَ معه إلا اثنا عشر رجلا.
قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم، وذكر بعضهم أن منهم العشرة المشهود لهم بالجنة.
واختلف في الثاني عشر فقيل عبد الله بن مسعود.
وقيل عَمّار بن ياسر، وقيل: إنما بقي معه - صلى الله عليه وسلم - ثمانية.
وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لولا هؤلاء لقد كانت
الحجارة مسوَّمةً في السماء على الناقضين ".
فإن قلت: ما بالُ الصحابة الموصوفين بالصلاح والعفاف يُهرعون للعِير
ويَدَعون أشرفَ الخلق على منبره يعظُهم ويذكرهم؟
فالجواب أنَّ ذلك منهم كان عند هجرته - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ولم يوقر الإيمان في صدورهم، وكانت مَسْغَبة عظيمة، ولهم عيالٌ يطلبونهم، فلكثرة فرحهم بسرور عيالهم وعلمهم بحسن خلق نبيهم وأنه بعثه الله رحمةً لهم وميسِّراً لدينهم، خرجوا لنظر العير، هل أتى بطعام كثير يفرحون بهم أهاليهم، ولأنهم كانوا قد صلّوا
معه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة المفروضة، وظنهم أنَّ الخطبة ليست من شرط الصلاة، وأنهم سيرجعون إليه - صلى الله عليه وسلم - بعد نظرهم، وإلاَّ لو علموا وجوبَ ذلك عليهم لآثروه على

(2/450)


أنفسهم وأولادهم، ألم تسمع إلى قولهم - في غَزْوَة بدر لما استشارهم - صلى الله عليه وسلم - في القتال: نحن أسيافك القاطعة، ودروعك المانعة، إنْ خُضْتَ بحراً خضناه معك، وإن قاتلت ندفع عنك، ولسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهَبْ أنْتَ ورَبّك فقَاتِلا، ولكن نقول لك: اذهَبْ أنْتَ وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون.
فإن قلت: لِمَ قال: (انفضّوا إليها) - بضمير الفرد، وقد
ذكر التجارة واللهو؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه أراد انفضّوا إلى اللهو وانفضوا إلى التجارة، ثم حذف أحدهما
لدلالة الآخر عليه، قاله الزمخشري.
والآخر: أنه قال ذلك تهمُّماً بالتجارة، إذ كانت أهَمَّ، وكانت هي سبب
اللهو، ولم يكن اللهو سببها، قاله ابن عطية.
فإن قلت: لم قدّم في هذه الآية اللهو على التجارة، وقدم التجارة قبل هذا
على اللهو؟
فالجواب أنَّ كلّ واحدٍ من الموضعين جاء على ما ينبغي فيه، وذلك أنَّ
العرب تارة يبدأون بالأكثر، ثم ينزلون إلى الأقل، كقولك: فلان يخون في
الكثير والقليل، فبدأت بالكثير، ثم أردفت عليه القليل، وهي دونه.
وتارة يبدأون بالأقل، ثم يرتَقُون إلى الأكثر، كقولك: فلان أمين على القليل والكثير، فبدأت بالقليل ثم أردفت عليه الكثير.
ولو عكس في كل واحد من المثالين لم يكن حسناً، فإنك لو قدمت في الخيانة ذكر القليل لعلم أنه يخون في الكثير من باب أحرى وأولى، ولو قدمت في الأمانة ذكر الكثير لعلم أنه أمين في القليل من باب أولى وأحرى، فلم يكن لذكره بعد ذلك فائدة، وكذلك قوله: (إذا رَأوْا تجارة أو لَهْوا انفضّوا إليها) - قدم التجارة هنا ليبيِّن أنهم ينفضّون إليها من باب
أولى، انفضاضهم إلى اللهو الذي هو دونها.

(2/451)


وقوله: (خَيْر من اللَّهْوِ ومن التجارة) قدم اْللَّهوْ، ليبين أنَّ ما عند الله خير
من اللهو، وأنه أيضاً خير من التجارة التي هي أعظم منه، ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن.
فإن قلت: لِمَ قال - صلى الله عليه وسلم - في المتخلفين والمنفضّين: لولا هؤلاء لعذبوا بالحجارة، وهل ذلك خاصّ بالجمعة أو بسائر الصلوات لو تخلفوا عنه، ولِمَ قال في الجمعة: (فاسعوا إلى ذكر الله) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ائتوها وعليكم السكينة
والوقار بغير سرعة؟
فالجواب لما جهلوا قَدْرَ هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عذبوا لولا أنَّ الله دفع عنهم بمن عرف حقَّ الله وحق رسوله، كما قال تعالى: (ولولا دَفْعُ الله الناسَ بعضهم ببعض) ، وهذا خاصّ بالجمعة، لأنها عملٌ وذكر، وهو الخطبة، وسائر الصلوات عمل، ولذلك تُسمَّى يوم الجمعة عند أهل الجنة يوم المزيد، يزدادون فيه جمالاً وحسناً كما يزدادُ أهلُ الدنيا هرماً وضعفاً، وتُعْرَفُ عند أهل السماء بيوم الخير، وعند أهل الكتاب يوم التوبة، وعند أهل الزَّبُور بسيِّد الأيام، وفي الفرقان يوم الجمعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: يوم الجمعة حَجّ المساكين، لأنه يشبه الحج لإتيان المكلَّف
إليها بعد النداء، كالحج: وأذِّن في الناس، وإذا نُودي للصلاة.
وفي الغسل لها، كما يغتسل للحج، وزادت الجمعة بإباحة الطيب والتزيُّن والخطبة التي كانت في الحج يوم عَرفة.
ولما حرم الصيد في الإحرام وأبِيح بعده حرّم البيع والشراء عند
صلاة الجمعة، وأبيح بعدها، وابتغاء الفضل كما في مريد الحج، قال تعالى: (ليس عليكم جُنَاح أن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ ربكم) ، ويسعى إليها من بعيد، كما يسعى إلى الحج من كل فَجّ عَمِيق، وأمِر المكلف بالذكر بعد الفراغ منها، كما أمر الحاج به في قوله: (فاذكُروا الله كذِكْرِكم آباءَكم) .
وقال في الحج: (فإن خَيْرَ الزَّادِ التقوى) .
وقال في الجمعة: (قُلْ ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة) .
والإجماعُ على أنَّ يوم الجمعة أفضلُ من يوم عرفة للحديث: "خَيْرُ يوم
طلعت عليه الشمسُ يوم الجمعة، فيه تقوم الساعة، وفيه - خُلق آدم.
.. الحديث.
(مَنْ يُؤْمِن بالله يهْدِ قَلْبَه) :
قيل معناه من يؤمن بأنّ كل

(2/452)


شيء بإذن الله يهْدِ الله قلْبَه للتسليم والرضا بقضاء الله، وهذا حسن، إلاَّ أنّ
العمومَ أحسن مضه.
(ما استَطَعْتم) :
(ما) ظرفية، وهذا ناسخ لقوله: (اتقوا اللهَ حَقَ تُقَاته) .
وروي أنه لما نزلت هذه الآية شقّ ذلك على الناس حتى نزل: (ما استطعتم) .
وقيل: لا نسخ بينهما، لأن (حق تقاته) معناه فيما استطعتم، إذ لا يمكن أن يفعل أحدٌ إلاَّ ما يستطيع.
فهذه الآية على هذا مُبَيِّنَة لتلك، وتحرَّز بالاستطاعة من الإكراه والنسيان، وما يؤاخذ به العبيد.
(مَنْ يُوقَ شحَّ نَفْسِه) : هو بخْلها وطمعها، فمن وقِيها
وُقِي شرَّ الدنيا والآخرة.
وقيل: إنها نزلت في الطلاق.
ومعناها من يتَّقِ الله فليطلق طلقة واحدة حسبما تقتضيه السنَّة.
(يجعل له مَخْرَجاً) ، بجواز الرجعة متى ندم على الطلاق.
وفي هذا المعنى روي عن ابن عباس أنه قال لمن طلَّق ثلاثاً: إنك لم تتَّق اللهِ
فبانت منك امرأتك، ولا أرى لك مخرجاً، أي لا رَجعة لك.
والصحيح أنها على العموم، وأنَّ من يتَّق الله في أفعاله وأقواله يجعل له مخرجاً، فيدخل في ذلك الطلاق وغيره.
وروي أنها نزلت في عَوْف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أُسِر ولده وضيّق
عليه رزقه، فشكَا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره بالتقوى، فلم يلبث إلا يسيراً وانطلق ولده ووسّع الله عليه رزقه.
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال - حين قرأ هذه الآية: مَخْرَجاً من شبهات الدنيا، وغمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة.
وقال - صلى الله عليه وسلم - إني لأعلم آوية لو أخذ الناس بها لكفتهم: ومن يَتّقِ الله ... ) الآية.
فإن قلت: إن الله تعالى تكفّل بأرزاق العباد على الجملة، فما فائدة قوله:
(ويَرْزقْه من حيث لا يَحْتَسِب) .
فالجواب أن الرزق مضمون لكل حيّ طولَ عمره، وهو الغذاء الذي به تقوم

(2/453)


الحياة، قال تعالى: (ومَا مِنْ دَابّةٍ في الأرض إلا على الله رِزْقها) .
وأما رزق المتقين فوعْدُ الله لهم أن يأتيهم بسهولة من غير تَعب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "تكفّل اللَّهُ لطالب العلم برزقه".
وفي حديث آخر: "استنزلوا الرزق بالصدق".
مصداقه قوله تعالى: (ولو أنَّ أهْلَ الكتاب آمَنوا واتّقَوا لكفَّرْنا عنهم
سيئاتهم) .
فبيَّن لك سبحانه أنهم لو عملوا بما في التوراة والإنجيل لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أي لَوَسَّعْنا عليهم أرزاقنا، وأغدقنا عليهم إنفاقَنا، لكنهم لم يفعلوا ما نحبّ، فلذلك لم نفعل ما يحبون.
وانظر كيف تكفّل الله سبحانه بالرزق لعباده تعريفا بوداده، ولم يكن ذلك
واجباً عليه، بل أوجبه على نفسه إيجاب كرم وتفضّل، كأنه يقول: أيها العبد ليست كفالتي ورزقي خاصّاً بك، بل كلّ دابة في الأرض أنا كافِلها ورازقها، وموصِّل إليها قوتَها، فاعلَمْ بذلك سعةَ كفالتي، وغناء ربوبيّتي، وأنَّ شيئاً لا يخرج عن إحاطتي ورعايتي، فثِقْ بي كفيلاً، واتخذني وكيلاً، فإذا رأيتَ ذكري لأصناف الحيوان، ورعايتي إياها، وقيامي بحسن الكفالة لها وأنت أشرف هذا النوع، فأنت أولى بأن تكون لكفالتي واثقاً، ولفضلي رامقاً، ألا تراني قلت: (ولقد كرَّمْنَا بَني آدَم) ، أي على سائر أجناس الحيوان إذ دعونِاهم إلى خدمتنا، ووعدناهم دخول جنتنا، وخطبناهم إلى حضرتنا، ومما يوضَح لك كرامة الآدمي على غيره من المكونات أن المكونات مخلوقات من أجله، وهو مخلوق من أجل حضرة الله، فإذا علمت أن الأكوان مخلوقة من أجلك إمّا انتفاعا وإما اعتباراً، وهو نفع أيضاً، فينبغي لك أن تعلم أن الله سبحانه إذا رزق مَنْ هو مخلوق من أجلك كيف لا يكون لك رازقاً، فاستَحْييِ منه أن تكون بعدما كساك حُلّةَ الإيمان، وزَيّنَك بزينة العرفان، أن تستَوْلِيَ عليك الغفلة والنسيان، حتى تميل إلى الأكوان، أو تطلب من غيره وجوهَ امتنان.
وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمَنوا أوْفوا بالعقود) .
ومن العقود التي عاقدْتَه عليها ألا ترفع حوائجك إلا إليه ولا تتوكل إلا عليه، ولازِم

(2/454)


إقرارك له بالربوبية يوم (أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فرضيت به ربّاً واحدا رازقاً، فكيف
توَحده هنالك وتجهله ها هنا، وقد تواتر عليك إحسانه، وغمرك فضله
وامتنانه.
فإن قلت: ما فائدة تكرير ذِكْر التقوى في هذه السورة في مواطن ثلاث؟
فالجواب أن أوامرها دارت على الأمر بالمحافظة على إيقاع الطلاق إذا دعت
إليه الضرورة في وَقْتِه لاستقبال العدة حتى لا يقع الضرار بالمطلقة في تطويل
عِدّتها، والأمر بإحصاء العدة والمحافظة عليها، وأن تخرج المعتدة من بيتها حيث وقع عليها الطلاق، والأمر بإنفاذ ما يقع الاعتماد عليه من إمساك أو مفارقة، ومن حسن الصحبة وجميل العشرة: إن اعتمد الإمساك، أو بالإمتاع أو التلطف رَعْياً لما تقدم من الصحبة إن عَوَّل على المفارقة فلرَعْي هذه الأوامر أكّد سبحانه بالتزام التقوى فيما ذكر، فتأمله جارياً على أوضح تناسب.
(ما أحَلَّ الله لَكَ) .
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، نهاه الله أن يطلبَ
رضا أزواجه بتحريم ما أحل الله له من تحريمه للجارية، ابتغاء رِضَا حَفْصة.
وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية.
وأما تحريمه للعَسل فلم يقصد به رِضَا أزواجه، وإنما تركه لرائحته، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة.
(ما يُؤْمَرون) :
وصف للملائكة بأنهم لا يعصون، وتأكيد لعدم عصيانهم.
وقيل: إن معنى (لا يعصون) ، امتثال الأمر، (ويفعلون ما يؤمرون) جدّهم ونشاطهم فيما يؤمرون به من عذاب الناس.
(ما تَرَى في خَلْقِ الرَّحْمن) : بيان وتكميل لما قَبْله.
والخطاب بقوله: (ما تَرى) و (وارْجع البَصر) ، وما بعده للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل مخاطب ليعتبر.
(مَنَاكِبها) :
قال ابن عباس: هي الجبال.
وقيل الجوانب والنواحي.
وقيل الطرق.

(2/455)


والمعنى تعديد النعمة في تسهيل المشي على الأرض، فاستعار لها الذّلَّ
والمناكب تشبيهاً بالدّوَابّ
(مَنْ يمْشِي مكِبًّا على وَجْهه) .
توقيف على الحالتين أيهما أَهدى.
والمراد بها توبيخ الكفار، وفي معناها قولان:
أحدهما أن المشْيَ استعارة في سلوك طريق الهُدَى والضلال في الدنيا.
والآخر أنه حقيقة في المشي في الآخرة، لأن الكافر يحْمَل إلى جهنم على
وجهه.
فأما على القول الأول فقيل: إن الذي يمشي مكبًّا أبو جهل، والذي يمشي
سَوِيّاً سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل حمزة.
وقيل هي على العموم في كل مؤمن وكافر.
وقد تمشي هذهْ الأقوال أيضاً على القول الثاني.
والمكِبّ هو الذي يقع على وجهه، يقال أكبَّ الرجل وكبَّه غيره، فالمتعدي
دون همزة، والقاصر بالهمزة بخلاف سائر الأفعال.
(ماؤُكم غَوراً) :
مصدر وُصف به بمعنى غائرا، أي ذاهباً في
الأرض، وهذا احتجاج على المشركين.
والمعنى إنْ غار ماؤكم الذي تشربون منه هل يأتيكم إله غير الله بماءٍ معِين.
واختلف هل وزنه فعيل أو مفعول.
وقوله: (وكأس من مَعِين) ، أي من خمر تجري من العيون.
(ما أنْتَ بنعمةِ رَبكَ بمَجْنون) : هذا جواب القسم، وهو
خطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، معناه نفي ما نسبه الكفار له من الجنون.
وبنعمة ربك - اعتراض بين (ما) وخبرها، كما تقول: أنْت - بحمد الله - فاضل.
والجار والمجرور في موضع الحال.
وقال الزمخشري: إن العامل فيه بمجنون.
(مَشَّاءٍ بنَمِيم) ، أي كثير المشي بالنميمة، يقال نميم ونميمة
بمعنى واحد.
قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة نَمّام منّاع للخير".
أي شحيح، لأن الخير

(2/456)


هنا هو المال.
وقيل معناه منّاع من الخير، أي يمنع الناس من الإسلام والعمل الصالح.
(ما لكم كيف تحكمون) .
(ما) مبتدأ و (لكم) خبره، وتَمَّ الكلام هنا، فينبغي أن يوقف عليه.
وفي الآية توبيخ للكفار، أي كيف تحكمون
بأهوائكم، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم.
(مَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ) :
مفعول معه، أو معطوف، وفيه تهديد للمكذبين بالقرآن.
(مَذْموم) :
هذا جواب لولا، والنفي هو الذم لا نبذه بالعراء، فإنه قال في الصافات: (فَنَبَذْنَاه بالعَرَاءَ وهو سَقِيم) ، فالمعنى لولا رحمة الله لنبِذَ بالعَرَاء وهو مذموم، لكنّه نبذ وهو غير مذموم.
(ما هو إلا ذِكْرٌ للعالَمِين) :
الضمير يعود على القرآن، يعني
أنه موعظة وتذكير للخلق.
(ما الحاقّة) :
(ما) استفهامية يراد بها التعظيم، وهي مبتدأ وخبرها ما بعده، والجملة خبر الحاقّة.
وكان الأصل الحاقة ما هي، ثم وضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم والتهويل، وكذلك (ما أدْرَاك ما الحاقّة) ، لفظه الاستفهام، والمراد به التهويل والتعظيم.
(مَنْ قَبْلَه) : أي قبل فرعون من الأمم الكافرة، وأقربهم
إليه قوم شعيب.
والظاهر أنهم هم المراد، لأن عاداً وثمود قد ذكرا، وقوم لوط
هم " المؤتفكات "، وقوم نوح قد أشير إليهم في قوله: (لما طَغَا الماءُ) .
وقرئ " قِبَله " - بكسر القاف وفَتْح الباء، ومعناه جنده وأتباعه.
(مَفْتون) :
قيل إن المفتون المجنون، ويحتمل غير ذلك مِنْ معاني الفتنة.
واختلف في الباء التي في قوله (بأيكم) ، قيل زائدة، وقيل هي غير زائدة.

(2/457)


والمعنى بأيكم الفتنة، فأوقع المفتون موقع الفتنة، كقولهم: ما لَهُ معقول.
أي عقل.
وقيل إنها بمعنى في، والمعنى في أيّ فريق منكم المفتون.
واستحسن ابن عطية هذا.
(مَنْ دَخل بَيْتِيَ) : يعني المسجد.
وقيل السفينة. وقيل شريعته، سماها بيتاً استعارة، وهذا بعيد.
وقيل داره، وهذا أرجح لأنه الحقيقة.
(مَنْ يَسْتَمِع الآنَ يَجِدْ له) :
قد قدمنا أنَّ رمي الجن بالنجوم إنما حدث بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، واختار ابنُ عطية والزمخشري أنه قبل المبعث قليلاً.
تم زاد بعد المبعث، وكثر حتى منع الجن من استراق السمع بالكلية، ودليلهما قوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه - وقد رأى كوكبا انقضَّ: ما كنتم تقولون للجاهلية لهذا؟
قالوا: كُنَّا نقول مَلكَ ملك، أو مات ملك.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الأمر كذلك ".
ثم وصف استراق الجن السمع.
وقد ذكر شعراء الجاهلية في ذلك أشعارهم.
(ماءً غَدَقا) :
أي كثيراً، وهو استعارة في توسيع الرزق، يعني أنهم لو استقاموا على الكفر لوسَّع الله عليهم، إملاء لهم واستدراجاً.
ويؤيّد هذا قوله: (لنَفْتِنَهم فيه) .
والصحيح أن الطريقة هي الإسلام وطاعة الله.
والضمير في استقاموا يحتمل أن يكون للمسلمين أو للكافرين المذكورين في قوله: (وأما القاسِطُون) ، أو لجميع الجن الذين استمعوا القرآن، أو لجميع الخلق.
(مَنْ يَعْصِ اللهَ ورسوله) :
الآية في الكفار، وحملَها المعتزلة على عصاة المؤمنين، لأن مذهبهم خلودهم في النار، وعلى أنها في الكفار وجهان:
أحدهما: أنها مكية، والسور المكية إنما الكلام فيها مع الكفار.
والآخر: دلالةُ ما قبلها وما بعدها على أنَّ المرادَ بها الكفار، وجمع
(خالدين) ، على معنى مَنْ يَعْصِ، لأنه في معنى الجمع.
(مساجِدَ) :
واحدها مَسْجَد - بفتح الجيم، وهذا بعيد.

(2/458)


وأراد هنا المساجد على الإطلاق، وهي بيوت عبادة الله.
وروي أنَّ الآية نزلت بسبب تقلّب قريش على الكعبة.
وقيل أراد الأعضاء السبعة التي يسجدُ عليها.
ومعناها لما كانت المساجد لله فكيف تعبدون فيها غَيْرَ الله، وكذلك الأعضاء
ملكها واختراعها عندي، فكيف تصرفونها في غير ما طَلبْت منكم.
(ما يوعَدون) :
الضمير للكفّار، يعني أنهم يكفرون ويتظاهرون عليه، حتى إذا رأوا ما يوعدون.
(مَنْ شاء اتَّخَذَ إلى رَبِّه سَبِيلاً) :
أي سبيل التقرب إلى الله، ومعنى الكلام حضّ على ذلك وترغيب فيه.
(ما تَيَسَّرَ من القرآن) :
أي إن لم تقدروا على قيام الليل كلّه فقوموا بعضَه، واقْرأوا في صلاتكم بالليل ما تيسر من القرآن، وهذا الأمر للندب.
وقال ابن عطية: هو للإباحة عند الجمهور.
وقال قوم - منهم الحسن وابن سيرين: هو فرض لا بد منه، ولو أقل ما يمكن، حتى قال بعضهم: من صَلَّى الوتر فقد امتثل هذا الأمر.
وقيل: كان فرضاً، ثم نسخ بالصلوات الخمس.
وقال بعضهم: هو فرض على أهْل القرآن دون غيرهم.
(مالاً مَمْدوداً) :
اختلف في مقداره، فقيل ألف دينار. وقيل عشرة آلاف.
وقيل يعني الأرض، لأنها مدت.
(مَهَّدْتُ له تَمْهيدا) :
الضمير يعود على الوليد بن المغيرة.
ومعناها بسطت له في الدنيا بالمال والعزة وطيب العيش.
(ما جَعَلْنَا عِدَّتَهمْ إلاَّ فِتْنَةً للذين كَفَروا) :
أي جعلناهم تسعة عشر ليفتتن الكفَّار بذلك ويطمعوا أن يغلبوهم، كما قال أبو جهل: أيعجز عشرة منكم في واحد منهم.
(ماذَا ارَادَ الله بهذَا مَثَلاً) :
استبعاد منهم أن يكون هذا من عند الله.

(2/459)


(ما يَعْلَم جنودَ رَبِّكَ إلا هو) :
يحتمل القصد بهذا وجهين:
أحدهما: وصف جنودِ اللَهِ بالكثرة، أي هم من كثرتهم لا يعلمهم إلا الله.
والآخر: رَفْعُ اعتراض الكفار على التسعة عشر، أي لا يعلم أعدادَ جنود اللَه إلا هو، لأن منهم عدداً قليلاً، ومنهم - عددا كثيراً، حسبما أراد الله.
(ما هِيَ إلاَّ ذِكْرَى للبَشر) :
الضمير لجهنم، أو للآيات المتقدمة.
(ما سلَككمْ في سَقَر) .
أي ما أدخلكم النار، وهذا خطاب للمجرمين، يحتمل أن خاطبهم به المسلمون.
وسقر: أحدْ طبقات جهنم السبعة.
وقد صحّ أنَّ من كان في الطبق الأول تناديه الملائكة ُ: (ويْلٌ يومئذ للمكذبين) .
وتنادي مَنْ كان في الثاني: (فويل للمصلّين الذين هم عن صلاتهم
ساهون) .
وفي الثالث: (ويْلٌ لكل هُمَزةٍ لمَزة) .
وفي الرابع: (فويلٌ لهم مما كسَبتْ أيديهم) .
وفي الخامس: (وويْلٌ للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) .
وفي السادس: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) .
وفي السابع: (ويل للمطَفِّفين الذين إذا اكْتَالُوا على الناس يستَوْفون) .
(مَنْ شاءَ ذَكره) :
فاعل شاء ضمير يعودُ على من، وفي ذلك حضٌّ وترغيب.
وقيل الفاعل هو الله، ثم قيّد فعل العبد بمشيئة الله.
فإن قلت: ما وَجْهُ مخالفة هذه الآية لسورة عبَس، وسورة الإنسان؟
فالجواب أن ضمير التذكير هنا لما تقدم من الكلام أو للقرآن بجملته.
والذكّر به عظة أو موعظة، وهو أيضاً وعظ وتنبيه، فتارة تُرَاعِي العرب في مثل هذا جهة التذكير، وتارة تراعي جهة التأنيث، فتَحْمِل الضمير على ما تدعيه من تذكير أو تأنيث.
فإن قلت: كيف طابق قوله: ما سلَككم - وهو سؤال للمجرمين -

(2/460)


قولَه: (يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) .
وهو سؤال عنهم، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءل المجرمون ما سلككم؟
قلت: ما سلككم ليس ببيان التساؤل عنهم، وإنما هي حكاية قول المسؤولين
يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم: ما سلككم في سقَر؟ قالوا: لم نك من المصلّين، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نَظْمه.
(مَعَاذِيرَه) :
في معناه قولان:
أحدهما: أنَّ المعاذِيرَ الأعذار، أي الإنسان يشهد على نفسه بأعماله، ولو
اعتذر عن قبائحها.
والآخر: أنَّ المعاذير الستور، أي الإنسان يشهد على نفسه يوم القيامة ولو
أسدل الستور على نفسه في الدنيا حين يفعل القبائح.
(مَعَاشاً) : أي يُطلب فيه المعيشة، فهو على حذف مضاف
تقديره ذا معاش.
وقال الزمخشري: معناه يعاش فيه، فجعله بمعنى الحياة في
مقابلة السيئات التي بمعنى الموت.
(مَفَازا) : أي موضعَ فَوْز، يعني الجنة.
(ما قَدَّمَتْ يَدَاه) : يعني يرى كل أحد ما عمل من خير أو شر.
(ماءَها ومَرْعَاها) : نسب الماء والمرعى إلى الأرض، لأنهما يخرجان منها.
فإن قيل: لِمَ قال: (أخرج) بغير عطف العاطف؟
فالجواب أنَّ هذه الجملة في موضع الحال، أو تفسير لما قبلها، قاله
الزمخشري.

(2/461)


(مَتَاعاً لكم ولأنْعَامِكم) :
تقديره فَعل ذلك كلَّه متاعاً
لكم ولأنعامكم، لأن بني آدم والأنعام ينتفعون بكلّ ما ذُكر.
(ما عَلَيْكَ ألاَّ يزَّكَّى) : أي لا حرج عليك إذا يتزكى هذا الغنيّ.
(مَنْ جاءَكَ يَسْعَى) : معناه ئسرع في مشيه مِنْ حِرْصه على
طلب الخير: هو عبد الله بن أمِّ مكتوم.
(مَنْ شاءَ ذَكَرَه) :
تأمّل إلى تأنيثه الضمير في قوله: (إنها) ، وتذكيره هنا على معنى الوعظ أو الذكر أو القرآن.
(مَرْفُوعةٍ مُطَهَّرَةٍ) : إن كانت الصحف المصاحف فمعناه
كذلك أو مرفوعة في السماء، ومطهّرة: منزهة عن أيدي الشياطين.
(ما أكْفَره) :
تعجّب من شدة كُفْره مع أنه كان يجب عليه خلاف ذلك.
(مَوْءُودَةُ:
هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حيّة
من كراهيته لها، ومن غيرته عليها، فتسأله يوم القيامة: بأي ذَنْبٍ قتلت، على وجه التوبيخ لقاتلها.
وقرأ ابن عباس سألت - بفتح الهمزة والسين - بأي ذنب
قَتلْتُ - بفتح القاف وسكون اللام وضم التاء.
واستدل ابن عباس بهذه الآية على أنَّ أولاد المشركين في الجنة، لأنَّ الله ينتصر لهم ممن ظلمهم.
(ما أحْضَرَتْ) : عبارة عن الحسنات والسيئات.
(ما قَدَّمَتْ وأخَّرَتْ) : أي في حياتها، وأخرت مما تركته
بعد موتها من سنّة سنّتها أو وصية أوْصَتْ بها.
(ما غَرَّكَ يرَبّك الكريم) :
هذا توبيخ وعتاب، معناه أي
شيء غرّك بربكَ حتى كفرت به، أو عصيته، أو غفلت عنه، فدخل في الخطاب الكفّارُ، وعصاة المؤمنين، ومن يغفل عن الله في كل الأحيان.

(2/462)


وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ: (ما غَرَّك بربك الكريم) ، فقال: غره جهله.
وقال عمر: غرّة حمقه.
وقرأ: إنه كان ظلوما جهولاً.
وقيل: غَرّه الشيطان المسلَّط عليه.
وقيل: غره طمَعُه في عَفْو الله عنه.
ولا تعارض بين هذه الأقوال، لأن كلَّ واحد منها مما يَغُرُّ الإنسان، إلا أنّ
بعضها يَغُرُّ قوما وبعضُها يغُرُّ قوما آخرين.
فإن قيل: ما مناسبةُ وصْفِه بالكريم للتوبيخ على الغرور؟
فالجواب أن الكريم ينبغي أن يُعْبَد ويطاع، شكراً لإحسانه، ومقابلةً
لكرمه.
ومَنْ لم يفعل فقد كفر النعمة، وأضاع الشكر الواجب.
وقيل: إنه يخاطب العبد بالكرم تلقيناً للمؤمن في تذكره بكرمه، فيقول:
غَرَّني حلمك وكرمك، ونقمةً للكافر في تعديد النعمة عليه في الدنيا، واستعانته بها على مخالفته.
(مَرْقوم) :
أي مكتوب، بلسان العبرانية، وارتفع في الموضعين على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره هو كتاب.
وقال ابن عطية: كتاب مرقوم خبر إن، والظرف مُلْغى، وهو تكلف يفسد
به المعنى.
وقد روي في الأثر - ما يفسر الآية، وهو أن الملائكةَ تصعد بصحيفة فيها
عمَل العبد، فإن رضيه الله قال: اجعلوه في علّيين، وإن لم يرضه قال: اجعلوه في سجّين.
(مختُوم) : قد فسره الله بأنّ ختامه مسك.
(مَرُّوا بِهمْ يتغَامَزُون) :
أي يغمز بعضهم إلى بعض، ويشير بِعَيْنه.
والضمير في (مرُّوا) يحتمل أن يكون للمؤمنين أو للكفار، والضمير في
(يتغامَرونَ) للكفار لا غير.
(ما أُرْسلُوا عَلَيْهمْ حافِظِين) :
أي ما أرسل للكفار

(2/463)


حافظين على المؤمنين، يحفظون أعمالهم، ويشهدون رشْدَهم أو ضلالهم، فكأنه قال: كلامهم في المؤمنين فُضُول منهم.
(مَنْ أوتي كتابَه وراءَ ظَهْرِه) : يعني الكافر.
وروي أن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد، وكان من فضلاء المؤمنين، وفي أخيه أسود، وكان من عُتَاةِ الكافرين، ولفظها أعمُّ من ذلك.
فإن قيل: كيف قال في الكافر هنا إنه يؤتَى كتابه وراء ظهره، وقال في
الحاقة بشماله؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما أن يديه تكونان مغلولتين إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره، فيأخذ
بها كتابه.
وقيل: تدخل يده اليسرى في صدره، وتخرج من ظهره، فيأخذ بها كتابه.
(ما لهم لا يُؤمنون) :
الضمير لكفّار قريش، يعني أيّ شيء يمنعهم عن الإيمان.
(ما نَقَمُوا منهم) .
أي ما أنكر الكفَّار على المؤمنين إلا أنهم آمنوا بالله.
وهذا لا ينبغي أنْ يُنْكر.
وهذا كقوله: - (وما نقَمُوا إلاَّ أنْ أغْنَاهم اللَهُ ورسولُه) ، أي ما عابوا إلا الغِنَى الذي كان حقّه أنْ يشكروا عليه، وذلك في الجُلاَس، أو في عبد الله بن أبيّ.
فإن قلت: لم قال: أن يؤمنوا - بلفظ المضارع، ولم يقل آمنوا بلفظ الماضي، لأن القصة قد وقعت؟
فالجواب أن التعذيب إنما كان على دوامهم على الإيمان، ولو كفروا في
المستقبل لم يعذّبوهم، فلذلك ذكره بلفظ المستقبل، فكأنه قال: إلا أنْ يدوموا على الإيمان.
(ماء دَافِق) :
من الدفق، بمعنى الدّفع، فقيل معناه مدفوق

(2/464)


وصاحبه هو الدافق في الحقيقة، فقال سيبويه: هو على النسب، أي ذو دفق.
وقال ابن عطية: يصحّ أن يكون الماء دافقاً، لأن بعضه يدفق بعضاً، ومقصود الآية إثبات الحشر، فأمر الإنسان أن ينظر أصْلَ خلقته، ليعلم أن الذي خلقه مِنْ ماءٍ دافق قادر على أنْ يعيده.
ووَجْه اتصال هذا الكلام بما قبله أنه لما أخبر أن على كلّ نفس حافظاً يحفظ
أعمالها أعقبه بالتنبيه على الحشر، حيث تُجازَى كل نفس بأعمالها.
(مَا لَه مِنْ قوَّةٍ ولا نَاصِر) :
الضمير للإنسان، ولما كان دَفْع المكاره في الدنيا إمّا بقوة الإنسان أو بنصرة غيره له أخبر الله أنه يعدمهما يوم القيامة.
(ما شاءَ الله) :
فيه وجهان:
أحدهما: أن معناه لا تَنْسى إلا ما شاء الله أن تنساه، كقوله: (أَوْ نُنْسِهَا) .
والآخر: أنه لا تنسى شيئا، ولكن قال: إلاَّ ما يشاء الله - تعظيما لله بإسناد
الأمر إليه، كقوله: (خالدين فيها إلا ما شاء الله) ، على بعض الأقوال.
وعَبَّر الزمخشري عن هذا بأنه من استعمال التقليل في معنى النفي، والأول
أظهر، فإن النسيان جائز على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما أراد الله أن يرفعه من القرآن أو فيما قضى الله أن ينساه، ثم يذكره.
ومن هذا قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع قراءة
عباد بن بشر رحمه الله: لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أُنسيتها.
(موضوعة) : معَدة بشرابها.
(مَبْثوئة) : متفرقة، وذلك عبارة عن كثرتها.
وقيل مبسوطة.
(مالاً لُبَداً) : أي كثيراً.
وقرئ بضم اللام وكسرها، وهو جمع لبدة - بالضم والكسر، بمعنى الكثرة.
ونزلت الآية عند قوم في الوليد بن المغيرة، فإنه أنفق أموالاً في إنفاق أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

(2/465)


وقيل في الحارث بن عامر بن نوفل، وكان قد أسلم وأنفق في الصدقات والكفَّارات، فقال: لقد أنفقْتُ مالي مذ تبعت محمدا.
(ما أدْرَاكَ ما العَقَبة) : تعظيم للعَقَبة، ثم فسرها بفكّ
الرقبة، وهو تفسير لاقْتَحم.
وفك الرقبة هو عِتْقها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"مَنْ أعتق رقبةً مؤمنة أعتق الله بكل عضْوٍ منها عضواً من النار".
(مَسْغَبَة) : مجاعة.
يقال سغب الرجل إذا جاع.
(مَقْرَبة) : قرابة.
(مَتْرَبة) : فَقْر.
(مَرْحَمة) : أي وصّى بعضهم بعضاً برحمة المساكين وغيرهم.
وقيل الرحمة كلّ ما يؤدّي إلى رحمة الله.
(مَيْمنة) : جهة اليمين.
(مَشْأَمة) : جهة الشمال.
وروي أن الميمنة عن يمين العرش.
ويحتمل أن يكونا من اليُمْن والشؤم.
(ما بَنَاها) :
(ما) هاهنا، وفي قوله: (وما طَحَاها) (وما سوّاها) - موصولة بمعنى (مَنْ) .
والمراد الله تعالى.
وقيل إنها مصدرية.
كأنه قال: والسماء وبنيانها.
وضعَّفَ الزمخشري هذا بقوله: فألهمها، فإن المراد الله تعالى باتفاق، فهذا القولُ يؤدِّي إلى فساد النظم، وضَعّف بعضهم
كونها موصولة بتقديم ذكر المخلوقات على الخالق.
فإن قيل: لم عدل عن (مَنْ) إلى (ما) في قول مَنْ جعلها موصولة؟
فالجواب أنه فعل ذلك لإرادة الوصْفيّة، كأنه قال: والقادر الذي بَنَاها.
فإن قلت: لم نكر النفس؟
فالجواب مِن وجهين:
أحدهما: أنه أراد الجنس، كقوله: علمت نَفْسٌ ما أحضرت.

(2/466)


والآخر: أنه أراد نفس آدم.
والأول هو المختار.
(ما خلق الذَّكَرَ والأنْثَى) .
(ما) بمعنى (مَنْ) .
والمراد بها الله تعالى، وعَدَلَ عن (مَنْ) لقَصْدِ الوصف، كأنه قال: والقادر الذي خلق الذكَر والأنثى.
(مَنْ أعْطَى واتَّقَى) .
أي أعطى ماله في الزكاة
والصدقة، وشِبْه ذلك، أو أعطى حقوق الله من طاعته في جميع الأشياء واتقَى
اللَه.
وعَبَّر بعضهم عن تصديقه بالحسنى بلا إله إلا الله، أو بالمثوبة.
(الحسنى) : هي الجنة.
وقيل يعني الأجر والثواب على الإطلاق.
وقيل: يعني الخلف على الْمنفِق.
(مَنْ بخلَ واسْتَغْنَى وكذَّب بالْحسْنَى) : أي بخل بماله أو
بطاعة الله على الإطلاق، فيحتمل الوجهين، لأنه في مقابلة أعطى، كما أن
استغنى في مقابلة اتّقى، وكذّب بالحسنى في مقابلة صدَّقَ بالحسنى، ونيسره
للعسرى في مقابلة نيسره لليسرى.
ومعنى استغنى استغنى عن الله، فلم يطِعْه، أو استغنى بالدنيا عن الآخرة.
ونزلت آية المدح في أبي بكر الصديق، لأنه أنفق مالَه في سبيل الله، وكان
يشتري مَنْ أسلم من العبيد ويَعْتقهم.
وقيل: نزلت في أبي الدحداح، وهذا ضعيف، وإنما أسلم أبو الدّحْدَاح
بالمدينة.
وقيل: إن آية الذم نزلت في أبي سفيان بن حَرْب، وهذا ضعيف لقوله:
(سنيَسِّره للعسرى) ، وقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك.
(ما وَدَّعَك رَبُّك وما قَلَى) :
بتشديد الدال من الوداع.
وقرئ بتخفيفها، بمعنى ما تركك.
والوداع مبالغة في الترك.
وقد قدمنا في مواضع أن معنى (قلى) أي أبغض.

(2/467)


وسببُ نزول هذه الآية إبطاء جبريل بالوَحْي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى قيل: إن محمداً قَلاَه ربه.
(ما أَدْرَاكَ ما لَيْلة القَدْرِ) :
هذا تعظيم لها، وحق لها أن تعظَّم، وهي من خصائص هذه الأمة، وهي تنتقل في العام كلّه.
وفي الحديث: "التمسوها في العَشْر الأوَاخر من رمضان".
وعند ابن عباس أنها ليلة سبع وعشرين، وأخذ ذلك من كلمات هذه السورة إلى قوله: (هي) القدر.
وقيل: إذا وافق إفراد العشر الأواخر من رمضان ليلة الجمعة فهي ليلة
القدر.
والصحيح أنهاَ من المخفيات السبع، وهي الولي في خلقه، والاسم الأعظم
في الأسماء، وغضبه في معصيته، ورضاه في طاعته، وساعة الجمعة في اليوم كلّه، والصلاة الوسطى في الصلوات.
كلّ ذلك حرصاً على اتباع الأوامر واجتناب النواهي.
(ما تَفَرَّقَ الذين أُوتوا الكتابَ إلاَّ مِنْ بَعْدِما جاءَتْهم البيِّنَة) .
أي ما اختلفوا في نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ مِنْ بعد ما علموا أنه حق.
ويحتمل أنْ يريد تفرّقَهم في دينهم، كقوله: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاخْتُلِف فيه) .
وإنما خصّ الذين أُوتوا الكتاب بالذكر هنا بعد ذكرهم
مع غيرهم في أول السورة، لأنهم كانوا يعلمون صحةَ نبوءةِ نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - بما يجدون في كتبهم من ذكره.
(ما أمِرُوا) :
معناه ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بعبادة الله، ولكنهم حرّفوا وبدّلوا.
ويحتمل أن يكون المعنى ما أمروا في القرآن إلا بعبادة الله، فلأي شيء ينكرونه ويكفرون به.
(مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّة خَيْراً يرَهْ) :
المثقال: هو الوزن.
والذرة: النملة الصغيرة.
والرؤية هنا ليست برؤية بصر، وإنما هي عبارة عن الجزاء.
وذكر الله مثقال الذرة تنبيهاً على ما هو أكثر منه من طريق الأولى، كأنه
قال: مَنْ يعمَلْ قليلاً أو كئيراً.
وهذه الآية هي في المؤمنين،

(2/468)


لأن الكافر لا يجازَى في الآخرة على حسناته، إذ لم تقبل منه.
واستدل أهل السنة بهذه الآية على أنه لا يخلد مؤمن في النار، لأنه لو خلّد لَمْ يَرَ ثَوَاباً على إيمانه، وعلى ما عمل من الحسنات.
وروي عن عائشة أنها تصدقت بحبّة عِنب، فقيل لها في ذلك، فقالت:
كم فيها من مثقال ذرة.
وسمع رجل هذه الآية عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " حسبي، لا أبالي ألاَّ أَسمع غيرها ".
(مَنْ يَعْمَل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شرًّا يَرَه) :
هذا على عمومه في حق الكفار.
وأما المؤمنون فلا يجزون بذنوبهم إلا بستّة شروط: وهي أن تكون
ذنوبهم كبار.
وأن يموتوا قبل التوبة منها.
وألا تكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها.
وألاّ يشفع فيهم.
وألاّ يكونوا ممن استحق المغفرة بعمل كأهلِ
بَدْر، للحديث: لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال: "اعملوا ما شئْتم فقد غفرتُ لكم".
وألاّ يعفو الله عنهم، فإن المؤمن العاصي في مشيئة الله إن شاء عذّبه وإن
شاء غفر له.
(ما في القبور. وحصِّلَ ما في الصّدُور) :
عبارة عن البعث، وجَمْع ما في الصحف.
وأظهر محَصّلا، ومُيز خيره من شرّه.
(مَنْ ثَقلَتْ موازِينُه) :
هو جمع ميزان، أو جمع موزون.
وميزان الأعمال يوم القيامة له لسانٌ وكفَّتان وعمود، وتوزَن فيه الأعمال.
والخفة والثقل متعلقة بأجسام، إما صحف الأعمال أو ما شاء الله.
وقالت المعتزلة: الميزان عبارة عن العدل في الجزاء.
فإن قلت: يفهم من قوله: (ونَضَع الموازين) - أنها جماعة لكل أحد ميزان، فإن كان فلا إشكال، وإن كان واحداً فما معنى الجمع؟
فالجواب أنه صحّ أنه ميزان واحد، وإنما جمع لما فيه من كفَّتين ولسان
وعمود.

(2/469)


قال الغزالي والقرطبي: ولا يكون الميزان في حق كل أحد، فالسبعون ألفاً
الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يأخذون صحفاً، ولا يرفع لهم ميزان.
وروي الترمذي - وحسّنه - حديث: "يُصاح برجل من أمتي على رؤوس
الخلائق، ويُنشْر عليه تسعة وتسعون سجلاّ، كلّ سجل مثل مَدِّ البصر، ثم يقول: أتنكر مِنْ هذا شيئاً، أظلمك كتبتي الحافظون، فيقول: لا، يا رب، فيقول: ألكَ عذْر، فيقول: لا، يا رب.
فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنك لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فيقول: احضر وزنك.
فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تُظلم، فتوضع السجلاتُ في كفّة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء".
فانظر يا أخي عظيم فضل الإقرار، وقبْح الإنكار فيمن أنكر أفعاله، حتى
تشهدَ عليه جوَارِحه، اللهم إنا مقِرّون بأنا مطيعون عدوَّك إبليس الذي أبْلَسْته من عدم طاعته لأبينا آدم، ولا حيلة لنا بالفرار مع غوايته إلا بتوفيقك، فثبّتْنَا على عصيانه هنا ويوم الوقوف بين يديك، فإنك تعلم أنَّا لا نعصيك لجهلنا بمعصيتك، ولا نتعرض لعقوبتك، وإنما جهلنا قَدْرَك، فمن ينقذنا من عقوبتك إن عاقبتنا، ومَنْ يوصلنا لرحمتك إن قطعتنا؟ وبحبل من نعتصِم إن طردتنا وأخجلتنا من الوقوف بين يديك، إذ ليس لنا حجة تجاهد عنا في رحمتك التي أعدَدْتها لعصاة عبادة، وقد بلَغنا عنك أنك تقول لعبد من عبادك: فأي الأمرين أحبّ إليك أن أجزيك بعملك أو بنعمتي عليك، فيقول: يا رب، أنت تعلم أني لم أعصك.
فتقول: خذوا عبدي بنعمةٍ من نعمي، فما تبقى له حسنة إلا استفرغتها تلك النعمة.
فيقول: يا رب، بنعمتك ورحمتك، هذا حال من لم يعصك يتعلق برحمتك، فكيف حال مَنْ لا يجد في صحيفته حسنةً، لكن جودك يعمّ المفاليس.
قال بعض المحبين: رأيت أبي يزيد بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك؟
فقال: أوقفني بين يديه، وقال: بأي عمل قدمت إلى حضرتي، وبأي وسيلة

(2/470)


توسلْتَ إلى رحمتي، فكلما ذكرتُ شيئاً في طاعته قابلني بجزء من نعمته، حتى
اضمحلّت أعمالي، وفنيت أقوالي، وعظمت حَيْرتي، واشتدت كرْبتي، فقلت: يا رب، جئتك بك إليك، فنادتني الملائكة من سائر جهات العرش: الآن وصلت.
هذا حال أبي يزيد الذي ترك ما يريد لما يريد، فكيف حال مَنْ خالف أمرَ
مولاه في كل ما يريد.
وقال بعضهم: رأيتُ سفيان الثوري بعد موته في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟
فقال: أوقفني بين يديه، فرأيت ذلَّ العبودية، وعِزَّةَ الربوبية، فليتني لم
أبرح.
ثم أمر بي إلى الجنة.
فأقبلت أمشي بين أنهارها وأشجارها لا أسمع حِسّاً
ولا أرى شخصاً، فإذا النداء: يا سفيان.
قلت: لبيك! لبيك! فقال: هل كنت
إلاّ عبدا في الدنيا تؤثرنا على مَنْ سِوَانا، فقلت: أنت أعلم يا ربّ.
فلم أزَلْ أمشي حتى استوحشتني الحورُ العين.
فإن قلت: ما معنى هذا الوقوف وهذا الحساب هنا، وإنما يكون في الدار
الآخرة؟
فالجواب: هذا هو العرض الذي يُعرض فيه العبد على ربه بعد مفارقة
جسده، وحينئذ يبدو له منزله، وما أعدّ الله له، يشهد لذلك الحديث لعائشة: "ذلك العرض، ومَنْ نوقش الحساب عُذّب".
والكلام هنا طويل، ليس هذا محل بسطه.
(مَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) :
هذا من كلام الجن الذين أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن مسعود: كنّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشِّعَاب، فقلنا: استطير واغتيل، فبتنا بِشَرِّ ليلة باتها قوم، فقلنا له: يا رسول الله، ما الذي أصابك، فقال: أتاني جاءٍ من الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، فقال: انطلقوا بنا، فإذا آثار نيرانهم، وسألوا الزاد فقال: لكم

(2/471)


كل عظم ذكر اسم الله عليه يقَع في أيديكم أوْفَر ما يكون لحماً، وكلّ بَعْر علفٌ لدوابكم.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " فلا تستجمروا بها، فإنها طعام إخوانكم من الجن ".
فإن قلت: يُفهم من هذه الآية، ومن قوله تعالى: (يُجِرْكم من عذابٍ
أليم) - أنه لا ثواب للجن غير النجاة من العذاب؟
والجواب من وجهين:
أحدهما: أن الثواب مسكوت عنه.
والثاني: أن ذلك من قول الجن.
ويجوز أن يكونوا لم يطّلعوا إلا على ذلك، وخفي عليهم ما أعدَّ الله لهم من الثواب، ولذلك قيل: إن من الجن مقرَّبين وأبراراً، كما أن من الإنس كذلك.
واختلف هل يكونون مع المؤمنين في الجنة ويرون ربنا كالمؤمنين، فالصحيح أنهم رَبض الجنة.
والرؤية خاصة بالإنس.
(مَاعون) : قيل الزكاة.
وقيل المال بلغة قريش.
وقيل الماء.
وقيل: كلّ ما يتعاطاه الناس بينهم، كالآنية، والفأس، والدَّلْو، والمقص.
وقد سئل - صلى الله عليه وسلم -: ما الشيء الذي لا يحل منعه، فقال: الماء والنار والملح.
وفي بعض الطرق: الإبرة والخميرة.
(مَسَد) .: هو الليف.
وقيل: المسد الْحَبْل الْمُحْكم فَتْلاً من أي شيء كان، تقول: مسدتُ الحبل، إذا أحكمت فَتْله.
وامرأة ممسودة، إذا كانت ملتفّة الْخَلق ليس في خَلْقها اضطراب.
(مَنون) :
له معنيان: الموت والدهر.
ومنه قول قريش في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما هو شاعر نتربَّص به رَيْبَ المنون "، فيهلك كما هلك مَنْ كان قبله من الشعراء، كزهير، والنابغة.
(مؤمن) :
مصدق، والله تعالى مؤمن، أي مصدق ما وعد به، ويكون من
الأمان، أي لا يأمن إلا من أمَّنه الله.
وقول إخوة يوسف: (وما أنْتَ بِمؤْمِن لنا) ، أي مصدق لمقالنا.

(2/472)


(مفْلحون) ، أي باقون، والفلاح الظفر أيضاً، ثم قيل لكل
من عقل وحزم وتكاملت فيه خلالُ الخير قد أفلح.
(مصلحون) :
يحتمل أن يكون جحوداً للكفر، لقولهم: آمنّا، أَو اعتقاداً أنهم على صلاح.
(مستهزئون) :
ساخرون، فجاوبهم الله بأنه يستهزئ بهم، أي يمْلِي لهم، بدليل قوله: (ويَمُدّهم) .
وقيل: يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزاء بهم، كقوله في الحديد:
(ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) .
وقيل: إنما سمي استهزاء بهم تسمية للعقوبة باسم الذنب، كقوله: (ومكَرُوا
ومَكر الله) ، وإنما جاء (مستهزئون) ، بجملة اسمية مبالغة
وتأكيداً، بخلاف قولهم: (آمَنَّا) فإنه جاء بالفعل لضعف إيمانهم.
(مَشَوْا فيه) : إن عاد الضمير إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم يمشون بضوء البرق إذا لاح لهم.
وإن رجع إلى المتقين فالمعنى أنهم يلوحُ لهم من الحق ما يقربون به من الإيمان.
فإن قيل: لم قال مع الإضاءة: كلّما - ومع الإظلام: إذا؟
فالجواب أنهم لما كانوا حراصاً على المشي ذكر معه كلما، لأنها تقتضي
التكرار والكثرة.
(مُتَشَابهاً) :
يحتمل أن يشبه ثَمَرَ الدنيا في جنْسه.
وقيل: يشبه بعضه بعضاً في المنظر، ويختلف في المطعم.
وأما قوله: (كِتَابا متشابهاً) فمعناه يصدق بعضه بعضاً، لا اختلاف فيه ولا تناقض) ، كما قدمنا.
(مطهّرة) .
أي من الحيض والبول والغائط، فهنّ مطهرات
خَلْقاً وخلقاً، محبّبات ومحبات، مسلَّمات من العلل والعيوب.

(2/473)


(مزَحْزِحِهِ) : أي مبعده.
(مخْلِضون) : الإخلاص في العمل: ألاَّ يُطلب به غير الله.
وفي هذه الآية استدلال باستعمال النية في الأعمال.
وبهذا أمر الله أهْلَ المِلل كلها، قال تعالى: (وما أمِروا إلاَّ ليَعْبدوا اللهَ مخْلِصين له الدِّين) ، لأن الإخلاص مطلوب في التوحيد وفي الأعمال، وضدّ الإخلاص في التوحيد هو الشرك الجليّ، وضد الإخلاَص في الأعمال هو الشِّرك الخفي، وهو الرياء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الرياء هو الشرك الأصغر".
وفي الحديث القدسي: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ".
واعلم أنَّ الأعمال على ثلاثة أنواع: مأمورات، ومنهيات، ومباحات.
فأما المأمورات فالإخلاص فيها عبارةٌ عن خلوص النية لوجه الله، بحيث لا يَشوبها نية أخرى، فإن "كانت كذلك فالعمل خالص مقبول، وإن كانت النية لغير وَجْهِ أللَه مِنْ طلب منفعة دنيوية، أو مدح، أو غير ذلك، فالعملُ رِياء مَحْض مردود.
وإن كانت النية مشتركة ففي ذلك تفصيل فيه نظر واحتمال.
وأما المنهيات فإنْ تركها دون نِيّة خرج عن عهدتها ولم يكن له أجْر في
تركها.
وإن تركها بنية وجه الله حصل له الخروج عن عهدتها مع الأجر.
وأما الْمبَاحات كالأكل والجماع وغير ذلك فإن فعلها بغير نيّة لم يكن له
أَجر، وإن فعلها بنية وَجْهِ الله كان له فيها أجر، فإن كان مباح يمكن أن يصير قُرْبة إذا قصد به وجْه الله مثل أن يقصد بالأول القوة على العبادة، ويقصد بالجماع التعفّف عن الحرام.
(مصيبة) ، ومصابة ومصوبة: الأمر المكروه يحلُّ بالإنسان
في نفسه أو ماله أو ولده.
(مسَوَّمَة) .: راعية، من قولك: سام الفرس وغيره إذا جال في المسارح.

(2/474)


وقيل: الْمعْلَمة في وجوهها، فهو من السما بمعنى العلامة.
وقيل: الْمُعَدَّة للجهاد، وقد قدمنا أنَّ المسوَّمة في حجارة قَوْمِ لوط المكتوب عليها أسماء أصْحَابها.
(مُحَرَّرًا) : أي عتيقاً مِنْ كلّ شغل إلاَّ خدمة المسجد.
وقائل هذه المقالة حنّة - بالنون - امرأة عمران، وهي أم مريم.
(مصَدِّقاً بكلمةٍ من الله) :
أي مصدّقاً بعيسى عليه السلام، مؤمناً به.
وسمّي عيسى كلمة الله، لأنه لم يوجد إلا بكلمةِ الله وَحْدَها.
وهي قوله: كنْ، لا بسببٍ آخر، وهو الولد كسائر بني آدم.
(ممْتَرين) : شاكين.
(موتوا بغَيْظكم) : تقريع وإغاظة.
وقيل دعاء.
(مسَوَّمِين) - بفتح الواو وكسرها، أي معلَمين، أو معْلمين خيلهم أو أنفسهم.
وكانت سما الملائكة يوم بَدْر عمائم بيضاء، إلا جبريل
فإنه كانت عمامته صفراء.
وقيل: كانوا بعمائم صفر.
وكانت خيلهم مجزوزة الأذناب.
وقيل: كانوا على خيل بُلق.
(ما جعله اللَّهُ إلا بشْرَى) :
الضمير عائد على إنزال الملائكة والإمداد بهم.
(مضَاعَفة) :
كانوا يزيدون في الرّبا عاماً بعد عام.
(مؤَجَّلاً) ، نصب على المصدر، لأن المعنى كتب الموت كتاباً.
وقال ابن عطية: نصب على التمييز
(متَوَكّلين) :
التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حِفْظها بعد حصولها، وفي رَفْع المضرة، ورَفعها بعد وقوعها، وهو من أَعْلَى المقامات، لوجهين: أحدهما قوله تعالى: (إن الله يحِبُّ الْمتَوَكلين) .
والآخر المكان الذي في قوله تعالى: (ومَنْ يَتَوكَلْ على الله فهو حَسْبهُ) .

(2/475)


وقد يكون واجباً لقوله: (وعلى الله فَتَوَكَّلوا إن كنْتم مؤمنين) ، فجعله شرطاً في الإيمان ولظاهر قوله: (وعلى الله فلْيَتَوَكَّل المؤمنون) ، فإن الأمر محمول على الوجوب.
واعلم أنَّ الناس في التوكل على ثلاث مراتب:
الأولى: أن يعتمد العبد على ربه، كاعتماد الإنسان على وَكيله المأمون عنده
الذي لا يشكّ في نصيحته له وقيامه بمصالحه.
والثانية: أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه، فإنه لا يعرف سواها ولا
يلجأ إلا إليها.
وَالثالثة: أن يكون العبد مع ربه كالميّت بين يدي الغاسل، قد أسلم إليه نفسه بالكليّة، فَصاحِب الدرجة الأولى له حظّ من النظر لنفسه، بخلاف صاحب الثانية، وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختيار، بخلاف صاحب الثالثة.
وهذه الدرجات مبنيةٌ على التوحيد الخالص، فهي تَقوَى بقوَّته، وتضعف
بضعفه.
فإن قلت: هل يشترط في التوكل تَرْك الأسباب أم لا؟
فالجواب أَن الأسبابَ على ثلاثة أقسام:
أحدها: سبب معلوم قطعاً قد أجراه الله، فهذا لا يجوز تَرْكه، كالأكل
لدَفْعِ الجوع، واللباس لدفع البرد.
ولا يجوز ترك ما يؤْذِي النفس ولا استعمال إذايتها، وقد سئل الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام عمن ترك الأكل حتى أضعف النفس عن الصلاة والنكاح، وترك الواجبات.
فأجاب بأنه لا يجوز استعمال ما يخلّ بالواجبات.
والثاني: سبب مظنون، كالتجارة وطلب المعايش وشِبْه ذلك، فهذا لا يقدح
فِعْله في التوكل، بل يجب استعماله، وهو أفضل من العبادة، لأن طلب الحلال فريضةٌ على كل مسلم.
وفي الحديث: "مَنْ بات تعباً من الحلال بات مغفوراً له" (1) .
__________
(1) في جامع الأصول برقم 21612 - "من بات كالاًّ من طلب الحلال بات مغفورًا له" (ابن عساكر من طريق عمرو بن أبى الأزهر عن أبان بن أبى عياش وهما متهمان عن أنس)

(2/476)


والاشتغال بالْكَسب لإغناء النفس أفضل من العبادة واحتياجها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في رجل قالوا له فيه: ما أطول عبادةَ فلان! فقال: مِنْ أين قوته، قالوا: مِنْ عندنا يا رسول الله.
قال: أنتم أعبد منه.
وحكاية الثلاثة نفر المعتكفين في المسجد، وإخراج عمر أحدهم لكونه كان
يسأَل الناس معلومة.
ولمّا بنى إبراهيم عليه السلام البيتَ صلى في كل ركْن منه ألف ركعة.
فأوحى الله إليه: رَغِيف في بطن جَوْعان أفضل عندي من عبادتك هذه (1) .
وفي الحديث إن الله يحبّ المؤمن المحترف، فوصفه بالإيمان، إذ التوكل من
أعمال القلب لا من أعمال اليد.
ويجوز تَركه لمن قوي على ذلك.
والثالث سبب موهوم بعيد، وهذا يقدح فعله في التوكل ثم إن فوق التوكل
التفويض، وهو الاستسلام لأمر الله بالكلّية، فإن التوكل له مرادٌ واختيارٌ.
وهو يطلب مراده باعتماده على ربه.
وأما المفوّض فليس له مراد ولا اختيار، بل أسند الاختيار إلى الله، فهو أكمل أدَباً مع الله.
(منَادِياً) :
هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يدْعو إلى الله، فمن أجابه
دخل داره وأطعمه من مائدته، ومن لم يجِبْه لم يدخلها ولم يأكل من مائدته.
(محْصَنَات) :
الإحصان يَرِد على أوجه: العفَّة: (والذين يَرْمون الْفحْصَنَات) .
والمراد بهن ذوات الأزواج.
والتزوج: (فإِذا أحْصِنَّ فإن أتَيْن بفاحشةٍ) .
والحرية: (نصف ما على المحصنات مِن العذاب) ، فاقتضت الآية حدَّ اِلأمَة إذا زَنتْ بعد أن تزوتجت.
ويؤخذ حدّ غير المتزوجة من السنّة، وهو مثل المتزوجة، وهذا
على قراءة "أَحْصِنَّ" بضم الهمزة وكسر الصاد.
وقرئ بفتحهما، ومعناه أسلمن.
وقيل: تزوَّجْنَ.
(مسَافِحات) :
أي غير زانيات، لأن السفاح هو الزنى، وهو منصوب على الحال، والعامل فيه (فانكحوهن) .

(2/477)


مختالاً) :
اسم فاعل، وزْنُه مفتعل من الخيلاء، وهي الكبر والإعجاب.
(مُلكاً عَظِيما) :
الضمير يعود على آل إبراهيم، وهم: يوسف وداود، وسليمان.
(مُقِيتا) ، قيل قديراً.
وقيل حفيظاً.
وقيل الذي يقيت الحيوان، أي يرزقهم القُوت.
(مؤْمِنَةٍ) :
نعت للرقبَة المعتوقة، ولذلك أجمع العلماء عليه
هنا واختلَفوا في رقَبة الظّهار وكفَّارة اليمين كما قدمنا.
(متَعمِّداً) :
أي يقصد الفِعْلَ قصداً عازماً، فأمّا إن قصد
التحليل فهو كافر، وأما إنْ قَصد الفعْلَ مع اعتقاده التحريم فهو عاصٍ في
المشيئة عند الأشعرية.
واختلف في القاتل عَمْداً إذا تاب هل تقبل توبَتُه أم لا، وكذلك اختلفوا
إذا اقتُصّ منه هل يسقط عنه العقاب في الآخرة أم لا، والصحيح السقوط لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أَصاب ذَنْباً فعوقب به في الدنيا فهو له كفّارة".
وبذلك قال جمهور العلماء.
(متَشابِهَات) :
قد قدمنا حكم المتشابه في القرآن، وأنه على ثلاثة أضرب: منه ما تعلّق به أهل الزَّيْغِ من خارجي القِبلة، نحو قوله سبحانه: (فوَرَبِّك لنَسْألنَّهم أجمعين) .
مع قوله تعالى في الآية الأخرى: (فيومئذٍ لا يُسأل عن ذَنْبِه إنْسٌ ولا جَانٌّ) .
ومنه ما تعلّق به أهل البِدْعة مِنْ أهل القِبْلَة من أصول المسائل الفقهية، نحو قوله سبحانه: (لا تدْرِكه الأبصارُ) ، مع قوله تعالى: (وجوهٌ يومئذ ناضِرة) . ونحو قوله سبحانه: (وإذ تَخْلقُ مِنَ الطِّين كهيئة الطَّير) ، وقوله: (وتخلقون إفْكاً)

(2/478)


مع قوله تعالى: (هل مِنْ خَالق غَيْر اللهِ يرزقكم) .
وقوله تعالى: (والله خلقكم وما تَعْمَلون) .
الثالث ما تعلق به المخالف من مسائل الفروع في الأحكام الفقهية، نحو قوله
سبحانه: (وثِيَابَك فَطهِّرْ) ، حيث احتجوا به في إزالة النجاسة
بكل مائع غير الماء مع قوله: (وأنْزَلْنَا من السماء ماءً طَهوراً) .
وقوله: (وينزلُ عليكم من السماء ماءً ليطهِّركم به) .
(مسْتَضْعَفين في الأرض) :
اعتذار عن التوبيخ الذي وبختهم الملائكة، أي لم تقدروا على الهجرة.
وأما قوله: (والمستَضْعَفين من الرجال والنساء والوِلْدَان) ، فهم الذين حبَسهم مشركو قريش بمكة ليَفْتِنوهم عن الإسلام.
(مرَاغَما) ، أي موضعاً ومتحوّلاً يرغم عدوه بالذهاب إليه.
(محِلِّي الصَّيْد) : نصب على الحال من الضمير في (لكم) .
(منْخَنِقة) : هي التي تخنق بحَبْل وشبهه.
(متَجانِفٍ لإثْمٍ) : هو بمعنى غير باغ ولا عاد.
(مكلِّبِين) : أي معلمين للكلاب الاصصياد.
وقيل معناه أصحاب كلاب، وهو منصوب على الحال من ضمير الفاعل في (عَلَّمْتم) .
ويقتضي قوله: علمتم ومكلِّبِين - أنه لا يجوز الصيد إلا بجارح معلم، لقوله: (ما علمتم من الجوارح مكلِّبين) ، على القول الأول، ولتأكيده ذلك
بقوله: (تعلمونهن) .
(متَرَدِّية) : هي التي تردت من جبل أو حائط أو بئر وفاتت
ولم تدرك ذكاتها.
(مقَدَّسَة) : مطهرة، يعني أرض بيت المقدس.
وقيل الطور.
وقيل دمشق.

(2/479)


(مُهَيْمِناً) : ابن عباس. قيل: شاهدا.
وقيل مؤتمناً.
(مقيم) : أي دائم حيثما وقع.
(مصَدِّقاً لما بَيْنَ يَديْه) :
يعي التوراة، لأنها قبله، والقرآن مصدّقٌ للتوراة والإنجيل، ومصدقاً عطف على موضع قبله: ْ فيه هدًى ونور، لأنه في موضع الحال.
(مقْتَصِدةٌ) : أي معتدلة، ويراد به مَنْ أسلم منهم، كعبد اللَه بن سلام، وقيل: من لم يعاد الأنبياء المتقدمين.
(منْتَهون) : توقيف يتضمَّن الزَّجْرَ والوعيد، ولذلك قال
عمر: انتهينا، انتهينا.
(مسَمًّى عِنده) : إنما جعله عنده، لأنه استأثر بعلمه.
(مبْلِسون) : أي متحيِّرون ساكتون، قد انقطعت
حجتهم، لأنهم تركوا الاتّعاظ بما ذكّروا به من الشدائد، وفتح عليهم أبواب
الرزق والنعيم، ليشكروا عليها فلم يشكروا، فأخذهم الله.
(مُخْرِج الميِّتِ من الحيِّ) :
معطوف على (فالق) .
وفيه إشارة إلى إخراج الحب اليابس من النبات والشجر.
وقال ابن عباس وغيره: بل ذلك كله إشارةٌ إلى إخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة، وإخراج الْنطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك سائر الحيوان.
فإنَ قلت: ما وَجْة إتيان هذه الآية بلفظ الأمم، بخلاف آل عمران والروم؟
فالجواب لأنَّ بناءها على آية بُنيت على اسم الفاعل، وإن كان خبراً، وهو
قوله تعالى: (إنّ الله فالِق الْحَبِّ والنوَى) ، ثم أعقب ذلك
بقوله: (فَالق الإصباح وجاعل الليل سكنا) ، فلما اكْتَنَفت
الآية اسما فاعلين جِيىءَ فيها باسم الفاعل، ليناسب ذلك، فعطف: (ومُخْرِج) على (فالق) ، إذ هو معطوف على ما عطف عليه، فهو معطوف عليه، ثم جيء

(2/480)


بعد باسم فاعل، وهو قوله: (فالق الإصباح) ، فتناسب هذا، ولم يقع في غيرها من السور مثل هذا، فلذلك لم يعدل إلى اسم الفاعل.
واللَه أعلم.
فإن قلت: فما بال قوله: (يخرج الحي من الميت) في هذا الموضع ورد بالفعل
وقد اكتنفه قوله: (فالق الحب والنوى) .
ومخرج الميت من الحي، وهما اسما فاعلين؟
والجواب عن ذلك ما قاله الزمخشري: لأنَّ فَلْق الحب والنوى بالنبات
والشجر الناميين من جنْسِ إخراج الحي من الميت، لأن الناس في حكم الحيوان.
ألا ترى قوله: (يُحْيي الأرض بعد موتها) .
وذكر هذا عقب قوله: (ومخرج الميت من الحي) لأنه معطوف على قوله (فالق الحب والنَوَى) كما تقدم، وهذا من حسناته.
(مشتَبِها وغَيْرَ مُتشتابه) :
يحتمل أن يكون الاشتباهُ في الأوراق أو في الثمر، ويتباين في الطعم، ويحتمل أن يكون الاشتباه في الطعم وتتباين في النظر.
وهذه الأحوال موجودة بالاعتبار في أنواع الثمرات.
وأمر اللَهُ بالنظر إلى أول ما يخرج ضَعِيفاً لا منفعة فيه، ثم ينقل من حال إلى حال حتى يتميّع أو ينضج أي يطيب.
فإن قلت: هل لقوله هنا: (مُشْتَبِهاً) معنى غير معنى الآية في قوله:
(متَشابهاً) ؟
فالجواب: لا فرق بينهما إلا ما لا يعَدُّ فارقاً، إذ الافتعال والتفاعل
متقاربان، أصولُهما الشين والباء والهاء، من قولك: أشبه هذا هذا إذا قاربه.
ومثاله ورد في هذه الآية على أخفّ التباين، وفي الثانية على أثقلهما رَعْياً
للترتيب المتقرر، وقد مرَّ نحو هذا في قوله تعالى: (فمن تَبعَ هُدَايَ) .
وقوله في طه: (فمن اتبّعَ هداي) .
وأما سِر خَتْم كل واحدة بما يليق بها فلسنا نطيلُ بذكره، ولو تكلمت على
سر كل آية وما يليق بها لطال بنا الكتاب، وحارت بالتأمل فيه الألباب، نفعنا الله بهذا القرآن العظيم دِيناً ودُنيا.

(2/481)


(مسْتَقَرّ ومستَوْدعَ) :
يعني الولد في صلب الأب، وفي رحم الأم.
وقيل: الاستقرار فوق الأرض والاستيداع تحتها، لكن من كسر
القاف فهو اسم فاعل (ومستودع) اسم مفعول، والتقدير فمستقر ومستودع، ومَن فتحها فهو اسم مكان أو مصدر ومستودع مثله، والتقدير على هذا لكم مستقر ومستودع.
(متَرَاكِبا) : يعني السنبل أو الرمان، لأن بعضه على بعض.
(محَرَّمٌ على أزواجنا) :
إنما ذكر محرم حملا على لفظ ما، وكانوا يقولون في أجنة البَحِيرة والسائبة ما وُلد منها حيّاً فهو للرجال خاصة، ولا يأكل منها النساءُ، وما ولد منها ميّتا اشترك فيه الرجال والنساء.
(مخْتَلِفاً أكلُه) :
في اللون والطعم والرائحة والحجم.
وفي ذلك دليل على أن الخالق مختار مريد.
(مقَرَّبِين) : عطف على معنى " نَعَمْ "، كأنه قال: نعطيكم أجراً ونقربكم.
واختلف في عدد السحرة اختلافاً متبايناً، مِنْ سبعين رجلاً إلى سبعين ألفاً.
وكلّ ذلك لا أصْل له في صحة النقل.
(مُلْقِين) :
في تعبيرهم بهذه الجملة الاسمية إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه.
وتأمَّل إلى تعبيرهم عن إلقاء موسى في قولهم:
(إما أنْ تلْقِيَ) - بالفعل، وكيف لا يحقرون أمْرَ موسى وقد كان معهم من أسباب السحر سبعون وِقْراً، فلما رأى موسى ما عندهم أوجس في نفسه خيفه، فأوحى الله إليه لا تخف إنكَ أنْت الأعلى.
وكذلك المؤمن في حال النَّزْع يرى ملك الموت يقبض روحه، ويرى إبليس
يقصد إيمانه فيخاف ويحزن، فينزل الله الملائكة يبشّرونه بقولهم: (لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) .
يا محمدي، هذه الآية الشريفة التي أنزلها الله تعالى على نبيك، فلك فيها من

(2/482)


البشارة ما لا تحصيه العبارة.
وقد قيل فيها من الأقوال في الاستقامة والبشارة
نحو الخمسين قولاً، وقد قال هذه الكلمة المشرفة أربعة نفر، أولهم فرعون قالها اضطرارا، فأخذه الله نَكَال الآخرة والأولى.
وقالها المنافق استكباراً فأورثته الدَّرْكَ الأسفل.
وقالها قوم يونس افتقاراً فأورثتهم الأمان.
وقالها العارف افتخاراً فأورثته البِشارة والأمن من الخوف.
وأعظم من ذلك نزولُ الملائكة عليه، فسبحان مَنْ شرف هذه الأمة الكريمة
بخدمة الملائكة لهم، منهم من يستغفر لهم، ومنهم من يحفظ أرزاقهم وأنفسهم، ومنهم من يسوقُ إليهم الرياحَ والأمطار، ومنهم من يقبض أرواحَ الأبرار
والفجار.
فإن قلت: هل الخوف والحزن بمعنى؟
فالجواب أن الناسَ اختلفوا في الخوف والخزْن على ثلاثين قولاً أو أكثر
فقال جعفر الصادق: لاتخافوا مِنْ عَزْلِ الولاية، ولا تحزنوا من كثرة الجناية، وأبشروا بفضل العناية.
وقيل: لا تخافوا من الجحيم، ولا تحزنوا من فَوْتِ النعيم، وأبشروا برؤية
الكريم.
وقيل: لا تخافوا خَوْفَ الكفار، ولا تحزنوا حْنَ الفجّار، وأبشروا بثواب
الأبرار.
وقيل: لا تخافوا من كثرة العصيان، ولا تحزنوا من قلة الإحسان، وأبشروا
بلقاء الرحمن.
وقيل: لا تخافوا من العيوب، ولا تحزنوا من الذنوب، وأبشروا بالمطلوب.
وقيل: لا تخافوا من العقاب، ولا تحزنوا من الحساب، وأبْشِروا بحسن المآب.
وقيل: لا تخافوا من الشقاوة، ولا تحزنوا من القيامة، وأبشروا بحفْظِ الأمانة.

(2/483)


وقيل: لا تخافوا يا أهل الفريضة.
ولا تحزنوا يا أهْل السنة، وأبشروا يا أهل النافلة.
وقيل: الخوف لأولياء الله، والحزن لعباد الله، والبشارة لمن أطاع الله.
وقيل: لا تخافوا يا أهل الصلاة، ولا تحزنوا يا أهل الزكاة، وأبشروا يا
أهل الإيمان.
وقيل: لا تخافوا يا طالبي الدنيا، ولا تحزنوا يا طالبي العقْبى، وأبشروا يا
طالبي المولى.
وِقيل: لا تخافوا أيّها المذنبون، ولا تحزنوا أيها المطيعون، وأبشروا أيها
المشتاقون.
وقيل: لا تخافوا من السؤال، ولا تحزنوا من الحال، وأبشروا بالوصال.
وقيل: لا تخافوا يا أهل الملالة، ولا تحزنوا يا أهل الندامة، وأبشروا يا أهل
الكرامة.
وقيل: لا تخافوا أيها المريدون، ولا تحزنوا أيها الصديقون، وأبشروا أيها
المتقون.
وقيل غير ذلك من الأقاويل، كلّها لمن قال: (رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) .
فإن قلت: شرط مع هذه الكلمة الاستقامة وأنى لنَيْلها؟
فالجواب أن " ثُمّ " على ثلاثة أوجه:
للتقديم، (ثم لنَحْن أعْلَم بالَّذين همْ أوْلى بها صِلِيّا) .
وللتقرير، (ثم كان من الذين آمَنُوا) .
وللترديف، وقَد قدَّمْنَاها في حرف الثاء.
وأما الاستقامة فأقرب ما قيل فيها: استقاموا على طريق الهداية والسنّة، ولا
يقدح الميل عنها ومخالفتها مَنِ استغفر وأناب، رزقنا الله التوبة والإنابة.

(2/484)


(مُنْقَلِبون) :
هذا من قول السَّحَرة، وذلك أن الله تعالى قال له: يا موسى: إنَّ السحرة ألقوا حبالهم وعصيَّهم فرأيت منهم السحر العظيم، فألْق عصاك حتى تنظر إلى قُدْرة الرب الكريم، فألقى عصاه فإذا هي
ثعبان مُبين، فتلقّف سحْرَ السحرة كله، فقصد نحو الكفَّار فاتحاً فَاهُ، فنفر الكفَّار من كل جانب، ومات منهم ما لا يُحْصَى عددهم، ثم قصد نحو سرير فرعون، فلما دنا منه صاح فرعون ونادى: أغِثْني يا موسى، فأخذ موسى عصاه، فعادت إلى حالتها الأولى، فلما رآها السحرة خرّوا سجّداً، وكشف الله لهم حجاب الأرض، فرأوا الثرى، ورفعوا رؤوسهم فنظروا إلى العرش (1) فاشتاقوا للقاء الله، فقالوا: آمَنَّا بربَ العالمين، ربّ موسى وهارون.
فقال لهم فرعون: (آمَنْتُم به قبل أنْ آذَنَ لكم) .
فقالوا: لا ضَيْرَ يا فرعون، إنك لا تقطع إلا الأيدي والأرجل، ولا تقطع المحبة والمعرفة من قلوبنا.
والنكتة فيه أنَّ السحرة كانوا مع الكفر والخيانة، وأقسموا بعزّة فرعون.
وقصدوا المعارضة مع معجزة الرسول، فلما سجدوا سجدةً واحدة مع هذه
الكبائر، رفع الله لهم حجابَ الأرض والسماوات، وأكرمهم بالإيمان.
وأنت يا محمدي إذا سجدْتَ له سبعين سنة أو أكثر، وقصَدْتَ بيتَ الله بالتوبة والندامة، وطهَّرت نفسك من الحدث والخيانة أفَتَرَاكَ تحصر ما أعدّ لك من الكرامة، كلا وعزته ليكشفن لك عن ذاته حتى تتمتّع بقُرْبه في جواره.
(مبِين) : نعت لثعبان، وقد قدمنا أنه صار كالجبل
العظيم، ففي هذه الآية سماه ثعباناً، وفي أخرى حيّة، وفي أخرى جانٌّ، وفي
أخرى عصا، كلّ ذلك تعظيما لها، وكيف لا وقد أهلكت سبعين ألف وِقْر من السحر، وسمَّى كلمة التوحيد بسبعين اسما، ولذلك أهلكت سبعين سنّة بالكفر.
هذه العصا معجزة موسى بكلمة التوحيد التي هي كلمةُ المولى.
اللهم إنا نستودعكها فأحْيِنا عليها، وأَمِتْنا عليها، وثبِّتْنا عند الحاجة إليها بجاه كلامك ونبيك - صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) لا يخفى ما في هذه الكلام من بعد ومبالغة، فهي أقرب إلى الإسرائيليات المنكرة.

(2/485)


تنبيه:
جميع الرسل جاءت بهذه الكلمة المشرفة دون سائر الطاعات، وأول مَنْ شهد
بها اللَّهُ وملائكته ثم الرسل، قال تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) .
ثم أمرك بها في قوله: (فإن تَولَوْا فقولوا اشْهَدوا بأنَّا مسْلِمون) ، ولا يبقى في الجنة غيرها والقرآن، والحمد للَه، والحب للهِ، فعليك أيها الأخ بحفْظِها، ولا تدنِّسها بالمعاصي، وإن قُدِّرَتْ عليك فامْحها بتوبة، كالثوب تغسله كلما تدنس، وإن لم تتب وتوسخ فيوم زينة الحشر ما تلبس، وحَرّض عليها من أحببته أو تعلق بك.
فإن قلت: لأي شيء ذكر الشهادة على نفسه، مع أن الشهادة من النفس لا
تقبل؟
فالجواب أنَّ الله لما نجا نبيه محمداً بالرسالة، وأمرهم بتوحيد الله، فقال:
قولوا لا إله إلا الله تفْلحوا، فقالوا: مَنْ يشهد أنكَ رسول الله، قال لهم: أي شيء أكبر شهادة، فقالوا: الله أكبر شهادة، فأنزل الله الآية.
ومعناها شهد شهادةً فرضيَها، وأمر الخَلْقَ بها بعد شهادته لنفسه في أزَلِه.
ففيها رجاء لهذه الأمة، وذلك أنه مدح أهل الطاعة على اختلاف أحوالهم من
التائبين والعابدين، وغيرهم، يرَجّي من لم يكن له عَمَل غير الشهادة، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) .
إلى قوله: (لكلِمات رْبي) .
وهي شهادة أن لا إله إلا الله.
فإن قلت: لم ذكر النفي قبل الإثبات؟
والجواب: لإكمال المدحة، لأن قول الرجل: لا عالم في البلد إلا فلان أمدح
من قولك: فلان عالم في البلد.

(2/486)


وأيضاً فالنجاة من النار أوْلى من دخول الجنة، فأمر الله أوّلاً بما ينجّي من
النار، وهي البراءة من عبادة الأصنام، ثم بالتوحيد الذي يدخل الجنة.
وأيضاً فنَفْي الإلهية عن الأصنام إثباث الألوهية للَه، وليس في إثبات الإلهية
لله نفى الإلهية عن الأصنام، لأن العاقل لا يكون بغير التولّي إلى معبوده، فإذا
نفى الإلهية عن الأصنام ثبت تولِّيه إلى الله، وإذا أثبت الإلهية للهِ فليس يتبرأ عن الأصنام، لأنه ربما يكون لواحد معبودان، فما أشرف هذه الكلمة المشرفة إن وُفِّقت إليها، وأماتَك الله عليها، ألا تراها تسعة عشر حرفاً على عدد الزبانية، وكلماتها سبعة علي عدد أبواب جهنم.
ولما كان النهار نصفان والليل نصفان كانت الأنصاف أربعة، ليكون مَنْ
قالها في اليوم والليلة مغفوراً له ذنوب ما عمل فيهما.
(متَبَّرٌ ما همْ فيه) :
من التَّبَار، وهو الهلاَك.
والضمير عائد على القوَم الذين قالوا لموسى: اجعَلْ لنا إلهاً نعبده كما يَعْبد هؤلاء أصنامَهم، فقال لهم: أتريدون أن تهلكوا كما هلك هؤلاء.
(مبْصِرون) :
هو من بصيرة القلب، يعني إذا مسهم طائف من الشيطان تذكّروا عقابَ الله، أو رجاء ثوابه، أو مراقبته أو الحياء منه، أو عداوة الشيطان والاستعاذة منه، والنظر والاعتبار، وغير ذلك.
(ممِدّكم بألْفٍ من الملائكة ِ مرْدِفين) ، أي مكثركم.
ومن قرأه بفتح الدال فهو اسم مفعولِ، ومن قرأه بالكسر فهو اسم فاعل.
وصحَّ معنى القراءتين، لأنَّ الملائكة المنزَلين ردف بعضهم بعضاً، فمنهم تابعون ومتبوعون، يقال: ردفته وأردفته: إذا جئت بعده.
(موهِن كَيْدِ الكافرِين) :
من الوهن وهو الضعف.
وقرئ بالتشديد والتخفيف، ومعناهما واحد.
(مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ) ، أي منحازاً إلى جماعة ٍ من المسلمين،

(2/487)


فإن الجماعة حاضرة في الحرب، فالتحيُّز إليها جائز باتفاق، واختلف في التحيُّز إلى الإمام والمدينة والجماعة إذا لم يكن شيء من ذلك حاضرا.
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: أنا فِئَة لكل مسلم، وهذا إباحة لذلك.
والفرار من الزحف من الكبائر في أي عصر كان إلاَّ أن يكون الكفار أكثر من
مِثْلي المسلمين.
(متَحَرِّفاً) : بالنصب على الاستثناء، من قوله: (مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) .
وقال الزمخشري: انتصب على الحال، ومعناه الكرّ بعْد الفَرّ، ليُري عدوّه أنه منهزم ثم يعطف، وذلك من الخداع في الحرب.
وفي الحديث: الحرب خدعة.
وقد وقع للصحابة من هذا ما تكفل أصحابُ السير بنقله.
(مُخْزِي الكافرين) : يعني مُهْلِكهم في الدنيا بالسيف، وفي
الآخرة بالنار.
(مُؤْتَفِكات) :
يعني مدائن قوم لوط، وائتفكت بهم يعني انقلبت.
(مُرْجَوْن) : بالهمز وتركه، وهما لغتان، ومعناه التأخير.
قيل هم الثلاثة الذين خلّفوا قبل أن يتوبَ الله عليهم.
وقيل: هم الذين بنَوا مسجد الضرار.
(مُعَذِّرُون) : هم المعتذرون.
ثم أدغمت التاء في الذال، ونقلت حركتها إلى العين.
واختلف هل كانوا في اعتذارهم صادقين أو كاذبين، وقيل: هم المقصّرون.
من عَذَر في الأمر إذا قصر فيه، ولم يجد، فوزنه على هذا المفعلون.
وروي على هذا أنها نزلت في قوم من غِفَار، والاعتذار يكون بحق ويكون
بباطل.
ومُعَذّرون الذين اعذروا، أي أتوا بعُذْر صحيح.

(2/488)


(مَجْراها ومرْساها) :
مشتقان من الجري والإرساء، وهو الثبوت، أو من وقوف السفينة.
ويمكن أن يكونا ظرفين للزمان أو المكان، أو مصدرَيْن.
ويحتمل الإعراب وجهين:
أحدهما أن يكون بسم الله في موضع الحال من الضمير في اركبوا، والتقدير
اركبوا متبركين ببسم الله، أو قائلين بسم الله، فيكون مجراها ومرساها على هذا ظرفين للزمان، بمعنى وقت إجرائها وإرسائها، أو ظرفين للم كان ويكون العامل فيه ما في قولك بسم الله مِنْ معنى الفعل، ويكون قوله بسم الله متصلاً مع ما قَبْله، والجملة كلام واحد.
والوجه الثاني أن يكون كلامين، فيوقف على اركبوا فيها، ويكون بسم الله
في موضع خبر، ومجراها ومرساها مبتدأ بمعنى المصدر، أي إجراؤها وإرساؤها، ويكون بسم الله على هذا مستأنفاً غَيْرَ متّصل بما قبله، ولكنه من كلام نوح، حسبما ورد أنَّ نوحاً كان إذا أراد أن يجري السفينة قال: بسم الله، فتجري.
وإذا أراد وقوفها قال بسم الله فتَقف.
وفي الآية إشارة إلى أن يكون العبد في جميع تصرفاته مشتغلاً بمولاه، ولذلك
قال الصوفية: أنت سفينة الوجود، وسفينة نوح عليه السلام كان إجراؤها
وإرساؤها كما أخبر الحقُّ سبحانه في كتابه بسم الله مجراها ومرساها، وقد
أرشدت الشريعة المحمدية أن يكون جميع تحركك وسكونك بذكر الله تعالى.
فتفتتح عند نوْمِكَ بسم الله، وعند أكلك وشُربك وخروجك من منزلك
ودخولك فيه، ولباس ثوبك وتجريده كذلك، وعند استفتاح كلامك، وعند نكاحك وسفرك وإيابك إلى أهلك، وعند قيامك وقعودك، فإن كنت في حالك محمديّاً رسَتْ سفينتك على جُودِيِّ السلامة، وإن تخلفت عنه لم يكن لك عاصمٌ من أمْرِ الله، وغرقْتَ في طوفان المهالك، وإن لم تشعر أنك هالك فتيقّظ من سَكْرَة هواك تجد روحك في قارورة شهواتك غارقاً في فَضْلة معاصيك.

(2/489)


ذُكِرَ أن ابنَ نوح عليه السلام حين تخلّف عن ركوب السفينةِ اتخذ قارورة
قَدْر ما تحمله، وصعد على الجبل، فلما بلغه الماء دخل فيها، وأغلقها على نفسه، وأرسل عليه إدرار البول حتى مات غريقاً فيه (1) ، فاكسرها بحجر عزيمة التوبة، وناد بلسان حالك ومقالك: يا منقذ الغرقاء، ويا منجي الهلْكَى، أنقذني، فإني ذاهب، لعل حنين صوتك يشفع فيك، أمَّنْ يجيب المضطَرَّ إذا دَعَاه.
(متَّكئاً) :
بسكون التاء وتنوين الكاف هو الأترج بلغة الحبشة.
قاله ابن أبي حاتم: وبفتح التاء ما يُتَّكأ عليه، وإعطاؤها السكاكين للنساء
يدلّ على أن الطعام كان مما يقْطع بالسكاكين كالأترج.
وقيل كان لحما.
وقيل: أَعْتَدَتْ لهن فراشا يتَّكئْنَ عليه.
(مُزْجَاةٍ) : أي قليلة، بلسان العجم.
وقيل ناقصة.
وقيل: إنَّ بضاعتهم كانت عروضاً، فلذلك قالوا هذا حياء منه، وطلبوا منه الصدقة، ودعوا له، وقالوا: إن الله يجزي المتصدّقين، وسمُّوا الزيادة صدقة.
وهذا يقتضي أن الصدقة كانت حلالاً لهم قبل نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: تصدق علينا بردّ أخينا إلينا، فلما شكوا له رَقَّ لحالهم وعرَّفهم حينئذٍ
بنفسه، فتشبَّهْ بهم واسْتَحِ من مولاك بنَقْص بضاعتك، لعله يمدك، لأن الجفاء يذهب بالصفاء، كيف يصل روح التوحيد والمعرفة الوافية إلى القلوب الجافية الخاطئة القاسية!.
فإن قلت: ما منعهم من قولهم: إن الله يجزيك على صدقتك، بل عرضوا
له؟
فالجواب أنهم كانوا يعتقدون كفْرَه، لأنهم لم يعرفوه، فلو قالوا: إن الله
يجزيك بصدقتك كذبوا، لأن الله لا يجزي الكافر.
فقالوا لفظاً يوهم أنهم أرادوه ولم يريدوه.
(مُعقِّبَاتٌ) : قد قدمنا أنهم جماعات الملائكة، وسمّوا
__________
(1) كلام بعيد غريب لا دليل عليه.

(2/490)


بذلك لأنهم يعقب بعضهم بعضاً، ومنه الحديث: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار.
وأما قوله تعالى: (لا معَقِّب لِحكمه) فمعناه الذي يكر على الشيء فيبطله، يقال: عقب الحاكم على حكم مَنْ قبله إذا حكم بعد حكمه بغيره.
(مصْرِخكم) : مغيثكم.
واختلف: هل هذا من قول الشيطان في القيامة أو في النار.
(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) .
الضمير للظالمين.
والمعنى أنهم يسرعون يرفعون رؤوسهم ويخفضونها من شدة ما يرون من الهول.
والهواء المراد به هنا الريح، يعني أنَّ أفئدتهم كالهواء، إشارة إلى ذهابها وعدم
انتفاعهم بها.
ويحتمل أن يراد العقل، ولا سيما إذا قلنا إن محلّه القلب، وهو أن عقولهم
تذهب وتصير كالهواء، لأنهم يذهلون لشدة ما ينالهم.
وهذا تشبيه.
والبيانيون يجعلونه استعارة، لأنهم يقولون: زيد كالأسد تشبيه، وزيد أسد استعارة، ورأيت أسداً يكر ويفر في الحرب فيه خلاف عندهم، وكذلك زيد مثل الأسد.
(مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) : يعني الوعد بالنصر على الكفار.
فإن قلت: لم قدم المفعول الثاني على الأول؟
فالجواب أنه قدم الوَعْدَ ليعْلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق، ثم قال
(رسلَه) ، ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس فكيف يخلف وعد رسله
وخيرةَ خلقه، فقدَّم الوعد أولاً لقَصْدِ الإطلاق، ثم ذكر الرسل لقصد
التخصيص.
(مقَرَّنين في الأصفاد) :
يعني المجرمين مربوطين في الأغلال، وهذا كقوله تعالى: (في سِلْسِلةٍ ذَرْعُها سبعون ذِرَاعاً) .

(2/491)


وقوله: (مقرنين دعوا هنالك ثبورا) .
أي يا ثبوراه، كقول القائل: يا حسرتي، يا أسفي.
(متَوسِّمين) :
حقيقة التوسم النظرُ إلى السمة، وهي العلامة
التي يعرف بها المرء، ومعناها الفراسة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله".
(مُخْلَصِين) : المخلَص: هو الذي يغويه إبليس بالتزيّن، ولا يسمع منه، أو يزين له ولا يغويه.
فإن قلت: هل التزيّن والإغواء بمعنى واحد؟
فالجواب أنَّ الإغواء يستلزم الفعل، والتزين لا يستلزمه، فقوله تعالى: (إلاَّ
عبادك منهم المخْلَصين) ، مسبّب عن الإغواء، لا عن التزين.
فالمخلَصين يزين لهم ولا يغويهم، ولا يقدر عليهم بوجه.
(مقِيم) : أي ثابت يراه الناس.
والضميرُ للمدينة المهلكة التي أخذتها الصيحة.
(مُشرِقين) :
أي داخلون في الشروق، وهو وقت بزوغ الشمس.
(مُبِين) : أي واضح.
وضمير التثنية في (إنهما) . قيل لمدينة قوم لوط أو قوم شعيب، (فالإمامُ) على هذا الطريق.
وقيل للوط ولشعيب، أي أنهما على طريق من الشرع واضح.
(مستهْزِئين) :
كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة.
كانوا يستهزئون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكفى الله نبيَّه أمرهم، وأهلكهم بمكة.
وقيل: كأبي جهل وأصحابه، أهلكهم الله ببدر.
ويحتمل الجميع.
(مُنْكِرَة) .
نعت للقلوب، يعني أنهم أنكروا وحدانية الله،

(2/492)


واستكبروا عنها.
والفاء للتسبيب، وليس هو من باب ذكر اللازم عقب الملزوم.
وإنما هو من باب ذكر الشيء عقب نقيضه، لأنَّ لازم كونه إلهاً واحدا التصديق لا الإنكار والكفر.
وظاهر كلام الزمخشري أنَّ الوحدانية ثابتة بالعَقْل، لأنه قال: قد ثبت بما
تقدَّم إبطال أن تكون الإلهية لغيره، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح
دليلها استمرارهم على شركهم.
وظاهر كلام ابن عطية أنها ثابتة بالسمع، لأنه قال: لمَا تقدم وصفُ الأصنام
جاء الخبر الحقّ بالوحدانية، وهذه مخاطبةٌ لجميع الناس معلمة بأن الله متَّحد
وحدة تامة، لا يحتاج لكمالها إلى منضاف إليها.
والصحيح أنها مستفادة منهما معاً.
ابن عرفة: القضية على ثلاثة أقسام:
عقلية، كقولك الواحد نصف الاثنين، والجوهر متحيّز أو مفتقر إلى
العَرَض.
وشرعية، كقولك: الميت يبعث.
ومركبة منهما، كقولك: الله سميع بصير.
واختلفوا في قولك: الله إله واحد، فذهب الفَخْر إلى صحة إثباته بالسمع.
ونقل ابن التِّلْمساني في شرح المعالم الدينية عن بعضهم أنه لا يصح إثباتُه بالسمع.
وقال في شرح المعالم الفقهية: إنَّ ما تتوقّف دلالةُ المعجزة عليه لا يصحُّ إثباتُه
بالسمع، كوجود الإله، لئلا يلزم عليه الدور.
وما لا يتوقف عليه يصح إثباتُه بالسمع، ككونه واحدا، ذكره في أول الباب السابع في الإجماع.
وعندي أنَّ الآية تدل على صحة إثبات الوحدانية بالسمع والعقل، لقوله:
(فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) ، كأنه يقول: فالمكذبون بالآخرة
قلوبهم منكرة، ولو كانت لا تتوقف على السمع لقال: فالصُّمّ العمي، أو

(2/493)


فالمتصاممون قلوبهم منكرة، فذِكْره عقَيب الإيمان يشعر بعِليتِه له، فهو دليل على أنهم سمعوا فلم يؤمنوا بالآخرة، ولو لم يكن معلّقاً على الإيمان لما ذكره بعده.
(مفْرَطون) :
بكسر الراء والتخفيف من الإفراط، أي متجاوزون الحدَّ في المعاصي.
وبفتح الراء والتخفيف، من الفَرْط، أي يعجلون إلى النار.
وبكسر الراء والتشديد من التفريط.
(مُنْكَر) :
هو أعمُّ من الفحشاء، لأنه يعمُّ جميع المعاصي.
(ملِئْتَ منهم رُعباً) : الضمير لأصحاب الكهف، وضمير
الخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعني أنك يا محمد لا تستطيع النظر إليهم لما ألبستهم من الهيبة، فإذا كان القويّ الجأش لا يستطيع النظر إليهم فكيف يَدَّعي غيره رؤيتهم.
(ملْتَحَدا) : أي ملجأ تميل إليه فتجعله حرزاً.
(مُهْل) : هو بلسان أهل المغرب.
وقيل بلغة البربر:
درْدِىّ الزّيْتِ إذا انتهى حرّه، وروي هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: هو ما أذيب من الرصاص وشبهه.
(مُرْتَفقا) : هو شيء يرْتَفق به.
وقيل يُرتفق عليه من الارتفاق، بمعنى الاتّكاء.
(مُنْقَلَبا) : أي مرجعاً، وهذا قول المؤمن لأخيه الكافر.
أي إن كان هذا على سبيل الفرض والتقدير كما يزعم أخي لأجدن في الآخرة خيرا من جنّتي في الدنيا.
وقرئ خير منهما بضمير الاثنين للجنتين، وبضم الواحدة للجنة.
(مقْتَدِراً) : من أسماء الله، ومعناه مَنْ له القُدرة والقوةُ
والعظمة والكبرياء، وإنما يوصف بذلك تعظيما، فكلّ مقدور معلوم، وليس كل معلوم مقدوراً، لأن المحالات كلها معلومة للقديم سبحانه، وليست بمقدورة له،

(2/494)


لأنه لا يُوصف بالقدرة على خَلْق نفسه، ولا على خلق كلامه، أو شيء من
جهاته الذاتية، ولا على الجمع بين الضدّين، وجعل الشخص في مكانين في وقت واحد، ولا على أن يجعل العالم بأسره في بَيْضة كما يعتقده الجاهل.
فإن قلت: مقدوراته أكثر أم معلوماته؟
فالجواب أن إطلاق هذا السؤال خطأ، لأنه إن أراد السائلُ مقدوراته التي لم
توجد مع معلوماته التي لم توجد لم تصح المفاضلة بينهما، لأن ما ليس بشيء لا يقال إنه أكثر مما ليس بشيء، وإن أراد بذلك مقدوراته الموجودة مع معلوماته أكثر، لأن ذاته وصفاته معلومة له، وليست بمقدورة له، بل كانت مقدورة له، وهكذا الموجودات في حال وجودها في الحال من الحدوث معلومة له، وليست بمقدورة له، بل كانت مقدورات له في حال الحدوث.
والله أعلم.
(موَاقِعوها) :
الضمير للمشركين وشركائهم، وضمير التأنيث عائد على النار، ويعني أنهم يظنّون أنهم يقعون فيها، والظنَّ هنا بمعنى اليقين.
(مَهْلِكهم مَوْعِدا) :
بضم الميم وفتح اللام: اسم مصدر من أهلك.
(مفْسِدون في الأرض) :
يعني بالقَتْل والظلم وسائر وجوه الشر.
وقيل: كانوا يأكلون بني آدم.
والضمير يعود على يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان من بني آدم في خلقتهم تَشْوِيه في الطول والقصر وطول الأذنين.
(مُثْلَى) : حُسْنَى، تأنيث أمثل.
(مُحْدَث) : بفتح الدال، يعني أن هذا القرآن مجدَّد النزول، لأنه قديم متعلق بالذات القديمة، لم يقرأ ولم يسمع، فلما خلق الله الْخَلْق
وأوجدهم كتَبَه في اللوح المحفوظ أو في ألواح على ما روي، ونزل به جبريل إلى بَيْتِ العزّة، كما قدمنا، فصار يتجدّد بالنزول به على نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فصار مقروءاً متلُوّاً مكتوباً مسموعاً، وذلك لا يوجب تغيُّر حاله، كما أن مولانا

(2/495)


جلّ وعلا لم يكن في الأزَل معبودا ولا مسجوداً له ولا مذكوراً، فخلق الخلق
ليعبدوه ويوحّدوه ويذكروه، فصار لهم معلوما ومعبوداً.
(مشْفِقْون) : خائفون.
والضمير عائد على الملائكة الذين لا يَعْصون الله ما أمرهم، فهؤلاء ملائكة مطَهَّرون مشفقون من العقوبة.
وأنت أيها المتلطخ لا تشفق مع عصيانك، وهو كل يوم يناديك: عَبْدِي -
أرسلتُ إليكَ رسائلَ المواعظ تناديك: ارجع إلَيّ، الملائكة صفو بلا كدر.
والشياطين كدر بلا صفو، وأنت مجمع البحرين، فمتى غلب صَفْو عقلك على كدر شهوتك أخدمتك حملةَ العرش بمدحة ويستغفرون للذين آمنوا، يا مودعاً بدائع البدائع، الأكوان ألواح، وأنت الكاتب، وشجرة وأنتَ الثمر، وقوالب وأنت المعنى، ونافجة وأنْتَ المسك، ودفتر وأنت الخطوط، يا عجباً لك كيف أعجبك دخان الشهوات عن أسرار المشاهدات، اشتغلْتَ بجمع الفاني عن التلذّذ بخدمتنا، وشرهت عليها شره الكلب للجيفة، ولم تشفق من عتابنا، أما سمِعْتَ أهْلَ الجنة يقولون: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) .
فكيف تطمع أن تكون من أهلها وأنتَ غير مشْفِق من عذابنا.
اللهم ارحمنا إذا صِرْنَا إليك، والطف بنا يوم الوقوف بين يديك، فإنَّ قلوبنَا قد ماتَتْ عن طاعتك، وأعيننا قد جمدت مِنْ خَشْيَتك، وآذاننا صمّت عن سماع موعظتك، وعُقِل العقْل عن التفكر في آياتك، وخرس اللسان عن شكر نعمتك، وقُيدت الأقدام عن الإقدام إلى حضرتك، فنحن كالذي استهوته الشياطين، فلا تؤاخذنا بذنوبنا، وعامِلْنا بفضلك وكرامتك بجاه أكرم الخلق عندك، وخيرتك صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم.
(مضْغَة) : قطعة لحم.
(مخلَّقة) : تامة الخلقة.
(وغير مخلَّقة) ، غير التامة، كالسقط.
وقيل الخلّقة الْمسَوَّاة السالمة من النقصان.

(2/496)


(مُعْتَرَّ) :
المتعرض بغير سؤال، ووَزْنه مفتعل، يقال: اعتررت القوم، إذا تعرضت لهم.
والمعنى أطعموا مَنْ سأل ومن لم سأل ممَّن تعرض بلسان حاله.
أو أطعموا من تعفّف عن السؤال بالكلية، ومن تعرض للعطاء.
(المُخْبِتِين) : الخاشعين، وقيل المتواضعين.
وقيل نزلت أبي بكر وغمر وعثمان وعليّ.
وكذلك قوله بعد ذلك: (وبَشِّر المحسنين)
واللفظ فيها أعمّ من ذلك
(معَاجِزين) : مسابقين ومعجزين: فائتين، ويقال مثبطين.
(مخْضَرَّة) .، أي تصير الأرض خضراء بالمطر.
وقيل: إنها لا تصبح الأرض مخضرة إلا بمكة والبلاد الحارّة، وفهم بعضُهم
إنه أراد به صبيحة ليلة المطر، وأما على معنى تصير فذلك عامّ في كل بلد.
والفاء للعطف، وليست بجوابٍ، ولو كانت جواباً لقوله: ألم تر - لنصبت
الفعلَ، وكان المعنى نَفْي خضرتها، وذلك خلاف المقصود، وإنما قال بنفي
المضارع ليفيد بقاءها كذلك مدة.
(معْرِضون) : أي لا يستمعون إلى لغو الكلام، ولا يدخلون فيه.
وأنواعه كثيرة نحو العشرين نوعا
ويحتمل أَنْ يريدَ أنهم لا يتكلمون به، ولكن إعراضهم عن سماعه يقتضي
ذلك من باب أولى وأحْرَى.
(مذْعِنين) ، أي منقادين مطيعين لقَصْد الوصول إلى حقوقهم.
وسبب نزولها أنَّ رجلا من المنافقين كانت بينه وبين يهودي خصومةٌ، فدعاه
اليهودي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعرض عنه ودعاه إلى كعب بن الأشرف.

(2/497)


(متَبَرجاتٍ) : أي مظهرات للزينة، فأباح الله للنساء وَضعَ
الثياب بشرط أَلاَّ يقصدن إظهار زِينةٍ.
وقيل متبرجات متكشفات الشعور.
(مستَقَرًّا) : إقامة.
(مشْرِقين) : قد قدمنا أنه وقت طلوع الشمس.
وقيل معناه هنا نحو المشرق.
وانتصابة على الحال.
(مدْرَكون) : لما خاف قوم موسى من إدراك فرعون لهم
قالوا هذا.
(مسَحَّرِين) : معلّلين بالطعام والشراب، أي أنك بشر مثلنا.
(مجرمين) : يحتمل أن يريد به كفار قريش أو المتقدمين.
(منْظَرون) : تَمنَّوْا أن يؤَخَّروا حين لم ينفعهم التمني.
(مخْسِرِين) ، أي ناقصين الكيل والوزن.
(مبْصِرَةَ) : واضحة الدلالة.
وإسناد الإبصار لآيات موسى مجاز، وهو في الحقيقة لتأملها.
(مرْسِلَةٌ إليهم بهديَّةٍ) : هذا من كلام بلقيس تأكيداً
للمعنى الذي أرادَتْه حين قالت لقومها، إني مجربة هذا الرجل بهديّة من نفائس
الأموال، فإن كان ملكاً دنيويّاً أرْضَاه المال، وإن كان نبيئا لم يرْضِه المال.
وإنما يرضيه دخولنا في دينه.
وقد أكثر الناس في وصف هذه الهدية، تركناه لطوله، فانظر هذا اللطف
والسياسة من نبي الله سليمان في دعاية بلقيس إلى الإيمان، فقدّم لها أولاً الكتاب،

(2/498)


وقدم فيه اسمه على اسم الله، لأنه واسطة بينه وبين الله، ولما كان الأنبياءُ في
البشرية من جبلّة المرْسَل إليهم، وجِنْسهم في الظاهر، واصطفاهم الله.
بعلمه وحكمته، كانوا أكثر فَهْماً وإدراكاً.
ولذلك قال لمن أتى بهديّة بلقيس: (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) ، فلما رأت ذلك منه خافت وفزِعت وأسلمت مع سليمان.
فإن قلت: كيف خفي على سليمان مكانها، وكانت المسافة بين محله وبين
بلدها قريبةً، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومَأرِب؟
فالجواب أن اللهَ أخفى ذلك عنه لمصلحةٍ رآها، كما أخفى مكان يوسف على
يعقوب.
فإن قلت: كيف قال الهدهد: (وأوتِيَتْ من كل شيء) - مع قول سليمان:
(وأوتينا من كل شيء) ، كأنه سوّى بينهما؟
والجواب فَرْق ما بينهما أنَّ سليمان قال ذلك من المعجزات والنبوءة وأسباب
الدين وأسباب الدنيا، فهذا العطف على شكر مولاه وعطف الهدهد على الملك، ولم يرد إلا ما أعطيته بلقيس من أسباب الدنيا اللائقة بحالها، فبَيْن الكلامَيْنِ بَوْنٌ بعيد.
(ممَرَّد) : أملس، ومنه الشجرة الْمَرْدَاء، والأمْرَد الذي لا ثَعْر على وجهه.
(محْضَرِين) : أي للنار.
(منِيبينَ إليه) : منصوب على الحال، من قولك: (فَأقِمْ وَجْهك) ، لأن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد هو وأمّته، فلذلك
جمعهم في قوله: (منِيبين) .
وقيل هو حال من قوله: (فَطَر الناسَ) ، وهذا بعيد.

(2/499)


(معَوِّقِين) ، أي يمنعونْ الناسَ من الجهاد، ويعوقونهم
بأقوالهم وأفعالهم.
ويقال عاقه عن الأمر، وعَوّقه وعَقَاه.
(مُقْمَحُون) : يقال قَمَحَ البعير إذا رفع رأسه، وأقْمَحَه غَيْره
إذا فعل به ذلك.
والمعنى أنهم لما اشتدت الأغلال حتى وصلت إلى أذقانهم اضطرت رؤوسهم
إلى الارتفاع.
وقيل: مُقْمَحون ممنوعون من كلّ خير.
(مظلِمُون) : داخلون في الظلام.
(مدْبِرين) : أى تركوا إبراهيم إعراضاً منهم، وخرجوا
إلى عيدهم.
وقيل: إنه أراد بالسقم الطاعون، وهو داء يُعْدِي، فخافوا منه
وتباعدوا عنه مخافة العدوى.
(مسْتَسْلِمون) : أي معطون بأيد يهم.
(مشْتركون) ، أي في النار.
(مُحْسِنين) : جمع محسن، ووصف به إبراهيم لما ابتلاه
فوجده مجِدًّا في طاعته.
فإن قلت: لم قال في حقه كذلك دون قوله (إنَّا) وقال في غيره إنا
كذلك؟
فالجواب أنه تقدم في قصة إبراهيم نفسها (إنّا كذلك) ، فأغنى عن تكرار (إنا) هنا.
ْ (مدْحَضِين) .
أي مغلوب في القرعة والحجة.
وسبب مقارعته أنه لما ركب السفينة وقفت ولم تَجْرِ، فقالوا: إنما وقفت من حادثٍ حدث، فنَقْتَرع لنرى على مَنْ تخرج القرعة فنطرحه، فاقترعوا، فخرجت القرْعة على يونس، فطرحوه في البحر، فأوحى الله إلى حوت من حيتانه: اذهب فالتقمه، ولئن خدشْتَ له لحماً، أو كسرت له عظماً لأعذّبنك عذاباً لم أعذبْه

(2/500)


أحداً من العالمين، فالتقَمته ومشَتْ به البحار كلَّها تفخر على أبناء جنسها، حتى نبذَتْه بالعراء وهو سقيم بعد أربعين يوماً.
وروِيَ أن الحوت صام أربعين يوماً.
وأنتَ يا محمدي، أكرمك الله بالقرآن، وفضّلك بالإيمان، ولا تمتنع عن
الآثام، ولا تفخر على أبناء جنسك.
ولما خسف اللهُ بقارون، واستغاثت الأرضُ، وقالت: اللهم كما أريتنا عدوّاً
من أعدائك فأرِنا حبيبا من أحبابك لنتسلّى برؤية الحبيب.
وكذلك بيت المقدس لما خَرَّبه بخْت نَصّر استغاث بالله، فأراه الله نبينا
- صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، وهذه هي الحكمة في إسْرائه من بيت المقدس.
ولما أوحى اللَّهُ إلى البحر أنْ ينفلِقَ لفرعون حتى يدخلَ فيه استغاث، فدخل
فيه موسى أمامَه.
وكذلك النار لما علمت أنها دارُ أعدائه سألتْه أن يريها أحبّاءه، فأدْخل
المؤمنين النار لتتسلَّى برؤية الأحبّاء عن رؤية الأعْداء، قال تعالى: (وإنْ منكم
إلاّ وَاردهَا) .
والمقصود بورودهم إجابة دعوة النار لا الإحراق.
قال تعالى: (ثم نُنَجِّي الذين اتقَوْا ونَذَرُ الظالمين فيها جِثِيّا) .
واعلم أنَّ الله تعالى ابتلى تسعة من الأنبياء فوجدوا تسعة أشياء:
ابتلى آدمَ بوسوسة الشيطان فوجد التوبة، وإبراهيم بالنار فوجد الخلّة، وإسماعيل بالذبح فوجد الفداء، ويعقوب بالشدَّةِ والقَحْط فوجد الفرج، والملك، ويوسف بالسجن فوجد الصديقية، وأيوب بالبلاء فوجد الصبر، ويونس بالحوت فوجد النجاة، ونبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - باليتْم فوجد العزّة، قال تعالى: (فكان قَابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى) .
وسليمان ابتلاه الله بزوال الملك فوجد الإنابة.
وسبب زوال ملكه أنه نظر إليه فابتلاه اللهُ بإلقاء الجسد على كرسيه وإلى مَلَئِه وقوّته فابتلاه بآصف، وإلى سياسته فابتلاه بالهدهد، فقال: (أحطْت بما لم تحِطْ به)

(2/501)


وإلى جنوده فابتلاه بنملة قالت له تنظر إلى جنودك ولو
عرضْت عليك جنودي سنةً لم يفرغوا (1) ، فإياك والنظر إلى غيره سبحانه، فتبتلى، لأنَّ من عادته سبحانه أنَّ من أحبّ شيئاً ابتلي بفراقه، فإن رجع إلى الله ردَّه اللَه عليه، كسليمان لما رجع إلى اللهِ ردَّ اللَّهُ عليه ملْكه.
وموسى لما رجع إلى الله ردَّ الله عليه عصاه، فقال له: خذْها ولا تخَفْ.
وَيعقوب قال: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) جمع الله شَمْلَه به، وإبراهيم لما رجع إلى الله في ذَبْح ولده فداه الله بِذبْح عظيم.
وتأمَّلْ هذا اللطفَ منه سبحانه حيث لم يرِدْ مواجهة خليله بقَتْلِ ولده
بالوحي، فأراه في المنام، وكذلك الحق سبحانه يقول: ما تردّدت في شيء
كترددي في قَبْضِ روح المؤمن، هو يكره الموت وأنا أحبّ لقياه.
(مُلِيم) ، من اللوم، وهو التعيير، وذلك أنه فعل ما يلام عليه في خروجه من قومه بغير إذن رَبِّه، فحبسه في بطن الحوت حتى
طهره، وأخرجه بتسبيحة واحدة، وكذلك المؤمن يَحْبِسه في النار حتى يطهره من غير ألَمٍ يناله فيها لأن له عقدَ الوصلة، كأيوب حلف أن يضرب زوجته مائةَ سوط، فأمره اللَّهُ أن يأخذ بيده ضِغْثاً - وهو ملء كفٍّ من الحشيش كى لا تتأذّى امرأته بالضرب.
فإن قلت: كيف يجمع بين هذا وبين قوله: (فلولا أنه كان مِنَ المسبِّحين)
- فإنها تقتضي أنه لولا التسبيح لَلَبِث، فاللبث منْتَفٍ
لوجود التسبيح، وهذه تقتضي لولا تداركه النعمة لنبذ، وهو مذموم، فهو
يقتضي - انتفاء النبذ، وانتفاء النبذ هو اللّبْث، وهذه تقتضي ثبوت اللبث لا انتفاء اللبث، والأولى تقتضي انتفاء اللبث وكون اللبث مثبتا مَنْفِيّاً محال، أو يقال الأولى تقتضي ثبوت النبذ والثانية انتفاؤه؟
وأجاب بعض الفضلاء بأنّ لو الأولى في قوّة لولا التسبيح لثبت اللبث.
والثانية في قوة لو انتفت النعمة لنبذ، ولما كان الواقع مِنْ مراد الله تعالى أنَّ
__________
(1) كيف يصح هذا وقد سخر له الكون كله إنساً وجنًّا وطيراً حتى الشيطان؟؟!!!
ثانيا: معاذ الله أن ينظر نبي الله سليمان - عليه السلام - إلى شيء من ذلك وقد قال الله في حقه (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) .
(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) .
وبعض هذا الكلام فيه نظر لا يخفى على أولي النهى.

(2/502)


التسبيح ثابت كان انتفاؤه محالاً، والواقع أيضاً أن النعمة ثابتة فانتفاؤُها محال، ولما كان ملزوم الشرطين محالاً لا جرم ترتب عليه محال، ونظّروه بقوله تعالى: (ولَوْ أنْزَلْنَا مَلَكاً لقُضِي الأمْر) ، أي لاَستُؤصِلوا، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) .
وهذه تقتضي عدم الهلاك، وإن أنزل الملك، ولما كان جَعْل الملك على الوجه الذي طلبوه رسولاً محالاً لما سبق في عِلْمه لا جرمَ ترتَب عليه المحال، والحقّ الواضح الذي لا تكلف فيه أن الآية الثانية إنما نفت النبذ المقيَّد بكونه مذموماً، والنَّفْيُ المقيد لا يستلزم نفي المطلق، فلا يلزم نفي النبذ على وَجْه الإكرام، وبه ينبغي الجواب عن آيتي الأنعام، فإن الإهلاك الذي كنى عنه بقضاء الأمر إنما رُتّب على إنزال الملك على صورته لا على صورة الرجل، واللبس عليهم، والذي يستلزم بقاءَهم هو إنزاله على صفةِ الرجل، أو يقال نلبس عليهم الأمر، ثم نهلك.
(مغْتَسل) ، وغسول: الماء الذي يغْتَسل به، والموضع الذي
يغتسل فيه أيضاً.
وروي أنَّ أيوب ضرب الأرضَ مرتين فنبع له عينان، فاغتسل
من أحدهما، وشرب من الأخرى.
(مقْتَحِمٌ) : أي داخل في زحَام وشدَة، وهذا من كلام
خزَنَةِ النار، خاطبوا به رؤساة الكفار الذين دخَلوا النار أولاً، ثم دخل بعدهم أتباعهم، وهم الفَوْج المشار إليه.
ْوقيل هو من كلام أهل النار بعضهم لبعض.
والأولُ أظهر.
(متَشَاكِسون) :
أي متنازعون متظالمون.
وقيل متشاحّون.
وأصله من قولك: رجل شَكِس، إذا كان ضيّق الصدر.
ومعنى ضرب هذا المثل بيان حال مَنْ يشرك بالله ومن يوحّده، فشبّه
الشرك بمملوك بين جماعة من الشركاءَ يتنازعون فيه، والملوك بينهم في أسوأ
حال، وشبَّه مَنْ يوحّد الله كمملوك لرجل واحد.

(2/503)


(مسْرِفين) : الضمير لقريش.
فإن قلت: كيف قال: (إنْ كنْتم) ، على الشرط بحرف إن
التي معناها الشكّ، ومعلوم أنهم كانوا مسرفين؟
والجواب أنَّ في ذلك إشارةً إلى توبيخهم على الإسراف وتجهيلهم في
ارتكابه، فكأنه شيء لا يقع من عاقل، فلذلك وضع حرف التوقع في موضع
الواقع.
(مقْرِنين) ، أي مطيعين وغالبين، من قولك: فلان قِرْنُ
فلان، إذا كان مِثْلَه في الشدة.
(مقْتَدُون) : مُتّبعون، والمعنى أنهم ليس لهم حجةٌ، وإنما
يقلّدون آباءهم.
فإن قلت: ما الفرقُ بين الآية الأولى في قوله: (مهْتَدون) ، وفي هذه: (مُقْتدون) ؟
فالجواب أنه لما تقدم في الآية الأولى قولُ كفّار العرب السامعين القرآن من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وادعاؤهم أن آباءهم كانوا مهتدين فنحن مهتدون، ولهذا قال: (قال أوَلَوْ جِئتُكم بأهْدَى مِمّا وَجَدْتُم عليه آباءَكم) الزخرف: 24، يعني أَتَتَّبعون آباءكم، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم، قالوا: إنا ثابتون على
دين آبائنا لا ننفكّ عنه، وإن جئتنا بما هو أهدى.
وخصَّ الآية بعدها بالاقتداء لأنها حكاية عمن كان قبلهم من الكفار، ادّعوا
الاقتداء بالآباء دون الاهتداء، فاقتضت كلّ آية ما ختمت به.
(مُرْسَلِين) : من إرسال الرسل عليهم السلام.
وقيل: من إرسال الرحمة.
والأول أظهر.
(مًنْشَرِين) : معناه مُحْيين.

(2/504)


(مَقَامٍ أمِين) ، بضم الميم من الإقامة بالموضع، وبفتحها
موضع قيام.
والمراد به الجنة.
(مرْتَقِبون) : منتظرون هلالكَ يا محمد، فارتقب أنْتَ
نَصْرَنا، وفيه وعدٌ ووعيدٌ لهم.
(مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) :
الحلق والتقصير مِنْ سنَّة الحجّ والعمرة، والحلق أفضل من التقصير للحديث.
رحم الله المحلقين ثلاثاً والمقصرين.
(مصيْطِرون) : أي أرباب غالبون.
وقيل المصيطر المسلّط
القاهر، ومنه: (لَسْتَ عليهم بمصَيْطِر) .
(منْتَهى) : أي آخر.
والمعنى أنَّ جميعَ العلوم تنتهي إلى الله، ثم يقف العلماء عند ذلك.
أو إلى الله المصير.
وفي الحديث "لا فكرة في الرب".
(مؤْتَفِكة) : هي مدينة قوم لوط.
ومعنى (أهْوَى) ، طرحها من علوّ إلى سفل، فجعلها تهوي.
ومنه: (فأمّه هَاوِية) .
(مسْتَمِرّ) : أي دائم.
وقيل ذاهب يزول عن قريب.
وقيل معناه شديد، وهو على هذا من المِرّة بمعنى القوة.
(مسْتَقِرّ) ، أي كل شيء لا بد له من غاية، فالحقّ يحق
والباطل يبطل.
(مزْدَجَر) :
اسم مصدر بمعنى ازدجار، أو اسم موضع بمعنى
أنه مظنّة أنْ يزدجر، والمراد بها قصص القرآن وبراهينه ومواعظه.
(منْهَمر) ، أي كثير، كان الله يقول مكر قَوْم نوح وأرادوا
قَتْله وإخراج نوح من بينهم، ومكَرْنا نحن بخروجهم مِنْ وجه الأرض، ففتحنا

(2/505)


أبواب السماء بماءٍ منهمر، فقلنا: يا سماء أمطري، ويا أرض انشقّي، ويا طوفان أهلك، ويا كافر، اهلك بأهلك.
(مدَّكر) : تحضيض على الادّكار، فيه ملاطفة جميلة من الله لعباده.
ووزْن مدَّكر مفتعل، وأصله مدتكر، ثم أبدل من التاء دال، وادغم فيه
الدال.
فإن قلت: ما فائدة تكرير هذه الآية، وقوله: (فذوقوا عذابي ونذر) .
فالجواب أنه كرره ليُنَبّه السامعَ عند كل قصة فيعتبر بها، إذ كلّ قصة من
القصص عبرةٌ وموعظة، فختم كلَّ واحدة بما يوقِظُ السامع من الوعيد في قوله: (فكيف كان عذابي ونذر) .
ومن الملاطفة في قوله: (ولقد يَسَّرْنَا القرآن للذكر فهل من مدَّكِر) .
(مُنْقَعِر) ، أي منقطع، ويشبَّه اللَّهُ قَوْمَ عادٍ بذلك لما بَغَوْا
وتمرَّدوا، وقالوا لهود: لا نلتفت إلى قولك، ولا نخاف من تهديدك، فإن كنت صادقاً فأنزل علينا عذابا.
قال: (قد وقع عليكم من ربكم رِجْس وغَضَب) ، فمنع الله عنهم المطر ثلاثَ سنين حتى هلكت المواشي والدواب، فقال لهم هود:
(استَغْفِروا رَبَّكم ثم توبوا إليه) .
فقالوا: لا نَتوبُ، ولكن نرسل رجالاً إلى مكة َ للاستسقاء، لأنهم كانوا يعظّمونها، ويطلبون بها حوائجهم، فبعثوا منهم ستَّةً
وآمن منهم رجلان، وقالا: إلهنا إنك تهلك قَوْمَ هود، ولسنا منهم، فاستجِبْ دعاءنا، واقْضِ حاجتنا، فسمعا صوتاً: سَلْ تعْط.
فقال أحدهما: إلهي إني أسأل عمرَ سبْع نسور، فسمع صوتا: أعْطِيت ذلك، فبقي أربعةٌ من الكفار، وكان اسم واحد منهم قيدا، فقالوا له: ادع أنْتَ، فدعا، وقال: اللهم إني لم أجئ لمريض أداويه، ولا لأجْلِ أسيرٍ فأفْديه، اللهم فاسْقِ عاداً كما كنْتَ تسقيهم، فهاجت ثلاث سحائب حمراً وبيضاً وسوداً، فسمع صوتاً: اخْتَرْ أيّها شئت.
فقال: قد اخترت السوداء، فسمع صوتاً يقول: قد اختَرْتَ رَعَّادا لايبْقَى مِنَ

(2/506)


الرَّعاد أحداً لا والدا ولا ولداً.
فأمر الله تعالى ملك الريح أن يرسل من الصَّرْصَر مقدار حلقه.
قال وَهْب بن منَبّه اليماني: تحت الأرض السفلى، كما يقال لها العقيم، تعصفُ يوم القيامة، فتقلع الجبالَ من أماكنها، وترفع الأرض وتزَحْزِحها، وتشقّ الأرض، قال تعالى: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) ، وسبعة آلاف موكّلون بهذا الريح، فأمر الله الملك الموكّل به أن
يرسل جزءا من هذا الريح إلى قوم عاد، فقال: إلهي، كم أرسل، قال: مقدار منخر ثور.
قال: إلهي كثير، فأمر الله أن يرسل مقدار حلقة خاتم، فقال: إلهي
كثير، لا تدَع شيئاً في الأرض إلا أهلكته (1) .
فأمر الله أن يرسل مقدار سَمِّ الخِيَاط، فلما جاءتهم السحاب قالوا: (هذا عارِض ممْطِرنا) .
فقال لهم هود: (بل هوَ ما استَعْجلَتْم به رِيح فيها عذابٌ أليم) .
فجاءتهم الريح، فخرج منهم سبعمائة، وصعدوا في الجبل، أخذ كلّ واحد
منهم بيد صاحبه وذيله طامعين في النجاة، فلما اشتد الريح صاحوا وركضوا في الجبل، فساخ إلى ركبتهم، فلما حان العذاب أظلمت السماء، ورعدت، فنزلت ريح، فهدم جميع أبنيتهم ورفعها في الهواء، فجعلها مثل الدقيق المطحون، فصار رَمْلاً، وهذه الرمال التي على وجه الأرض من ذلك، ثم رفع قومَ هود إلى الهواء وضربهم على الأرض، فصاروا كأنهم أعجاز نَخْلٍ خاوية.
وروي أن هوداً جمع المسلمين، وخَطّ حولهم خطًّا، فكانت الريح تأتي إلى
ذلك الخط، وترجع كما قال تعالى: (تَنْزعُ الناسَ) .
والإشارة بذلك إلى أنَّ الريحَ إذا هبت يوم القيامة على نار جهنم تصير النارُ تحت أقدام أمته خامدة، ويعطون صحائفهم، واحد بيمينه والآخر وراء ظهره.
(محْتظِر) ، أي محترق متفتت، كأنه صاحب الغنم الذي
يجمع الحشيش في الحظيرة لغنمه أو للسكنى، وشبَّه الله ثموداً لما هلكوا بما يتفتّت في الحظيرة من الأوراق وغيرها.
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة، وكيف يردُّ المَلَكُ أمر الله تعالى، وهل الملك أعلم من الله كما توهمه القصة؟؟!!!
وعلى كلٍّ فالثابت عند المحققين ترك مرويات وهب بن منبه وكعب الأحبار. والله أعلم.

(2/507)


وأما المحْتَضَر في قوله: (كلُّ شِرْبِ محْتَضَر) فمعناه
محضور مشهود، وذلك أن الله جعل للناقة يوماً ولقوم صالح يوماً يشربون فيه
الماءَ فلا يتعدونه، فاحتاجوا في يوم ورودِ الناقة إلى الماء، وطلبوا ماءً فلم يجدوه، فقال قدَارُ: لا بدَّ مِنْ قَتل هذه الناقة.
فقالوا جميعا: هذا صواب، فأخذ سيفاً، وخرج فاختفى في شِعْبِ جَبَل، وكان وقت رجوع الناقة من الماء، فلما دنت منه
حمل عليها وقتلها، ثم قصد إلى ولدها فمد الولد إلى الجبل فانشقَّ بقدرة اللَه
ودخل فيه.
(مسْتَطَر) ، أىِ مكتوب، وهو من السطر، تقول سطرت
واستطرت، وهو بمعنى واحد.
(منْشتآت) : يعني السفن، وإنما سمّيت بذلك لأن الناس ينشئونها.
وقرئ بكسر الشين بمعنى أنها تنشئ السير أو تنْشئ الموج.
(مدْهَامَّتَان) : أي تضربان إلى السواد من شدة الخضرة.
وضمير التثنية يعود على العينين الجاريتين.
(متَّكِئين) ، من التوكؤ على شيء.
(مخَلَّدون) ، الذين لا يموتون.
وقيل الْمقْرطون بالخلدات وهي ضرب من الأقراط، والأول أظهر.
(متَقَابِلين) ، أي وجوه بعضهم إلى بعض.
(مغْرَمون) ، أي معذّبون، لأنَّ الغرام هو أشدّ العذاب.
ومنه: (إنَّ عذابَها كان غَراماً) ، يعني لو جعل الله زَرْعكم
حطاماً لقلتم ذلك.
ويحتمل أن يكون من الغرم، أي مثْقَلون بما غرمناكم من النفقة.
(مُزْن) : هي السحاب.

(2/508)


(مقْوِين) :
قد قدّمنا أنهم الذين لا زاد لهم.
والْمُقْوِي أيضا الكثير المال، لأنه من الأضداد.
(مدْهِنون) : يعني متهاونون، وأصله من المداهنة، وهي
لِينُ الجانبِ والموافقة بالظاهر لا بالباطن.
وقال ابن عباس: معناه مكذبون، وهذا خطاب للكفار، ومنه قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) .
ْ (مقَرّبين) : المراد بهم السابقون المذكورون في أول سورة
الواقعة في قوله: (والسابقون السابقون) .
(مسْتَخْلَفين) : يعني في الإنفاق في سبيل الله وطاعته.
رُوِي أنها نزلت في الإنفاق في غَزْوة تَبوك، وعلى هذا روي أن قوله:
(فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) .
نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه جهَّز جيش العسْرة.
ولفظ الآية مع ذلك عام، وحكمها باق لجميع الناس.
وقوله: (مسْتَخْلَفين فيه) - يعني أنَّ الأموالَ التي بأيديكم إنما هي أموال
الله، لأنه خلقها، ولكنه متَّعكم بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء، فلا تمنعوها من الإنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه.
ويحتمل أَنه جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم، فورثتم عنهم الأموال.
فأنفقوها قبل أن تخلّفوها لمن بعدكم، كما خلّفها لكم مَنْ كان قبلكم.
والمقصود على كل وجه التحريض على الإنفاق، والتزهيد في الدنيا.
قال في قوت القلوب: وقد مثّل بعض الحكماء ابْنَ آدم بدود القزِّ، لا يزال
ينسج على نفسه بجهله حتى لا يكون له مَخْلص، ويقتل نفسه، ويصير القزُّ
لغيره، وربما قتلوه إذا فرغ من نسجه، لأن المقز يلتفّ عليه فيروم الخروج منه فيشمس، وربما غمز بالأيدي حتى يموت، لئلا يقطع القز، ويخرج القزّ

(2/509)


صحيحاً، فهذه صورة لمكسب الجاهل الذي يترك أهله وماله، فينعم ورثته بما يَشْقَى به، فإنْ أطاعوا به كان أجره لهم وحسابه عليه.
وإنْ عصوا به كان شريكَهم في المعصية، لأنه أكسبهم إياها به، فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم:
إذهابه عمره لغيره، أو نظره إلى ماله في ميزان غيره، وأشار إلى ذلك أبو
الفتوح السّني:
ألم تر أن المرءَ طول حياته ... معنًّى بأمْر لا يزال يعَالِجه
كذلك دود القَزّ ينسج دائماً ... ويهلك غمّاً وسْط ما هو ناسجه
وقال آخر:
يُفْنِي الحريصُ بجمْعِ المال مدتَه ... وللحوادث ما يبقى وما يَدعُ
كدودة القز ما تبنيه يهْلِكها ... وغيره بالذي تبنيه ينتفِعُ
وبالجملة فإن اللَهَ أعطاكَ أربعة أشياء: أولها اللسان، وكلّفك منه الذِّكْر له.
والقولَ الحسن لخَلْقه، قال تعالى: (اذكروا الله) .
(وقولوا للناسِ حُسْناً) .
والقلب وكلفك منه محبةَ اللَهِ ومحبة المؤمنين، قال تعالى: (والذين آمَنوا أشَدّ
حبّاً للَهِ) ، أي من الصنم.
وقال تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) .
فإن قلت: من أين يُعرف أن المؤمن يحبّ الله أكثر من الكافر، والكافر يقتل
نَفْسه لمعبوده، والمؤمن لا يفعل ذلك؟
فالجواب أنَّ الكافر إذا أصابته شدّةٌ تبرّأ من معبوده، قال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) .
وقال: (أغَيْرَ اللهِ تَدْعون) .
والمؤمن لا يعرض عن الله بالشدائد والمحن، قال تعالى: (ولنَبْلوَنكم) .
والكافر يتبرّا من معبوده يوم القيامة، قال تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) .
(وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) .
والمؤمن لا يتبرأ من معبوده.
ومحبة الكافر بعد الرؤية، ومحبة المؤمن قبل الرؤية.
ومحبة الكافر من جانب واحد

(2/510)


وهو من نفسه ليس لمعبوده منه محبّة، ومحبة المؤمنين من الجانبين، لقوله: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) .
والكافر أظهر المحبةَ لمعبوده بقربان نفسه، والمؤمن كتم في نفسه، بل
نهاه معبوده عن قَتْلها، قال تعالى: (ولا تَقْتلوا أنْفُسكم إنَّ اللهَ كان بِكُمْ
رَحيما) .
وكيف يقتل نفسه وهي ماله، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) .
وأيضاً لو قتل المؤمن نفسه لأجل معبوده - لأن له عنده خطراً عظيما - قال
بعض العارفين رفع الله القسمة بينه وبين العارفين، فكان للعارف اثنان: المعرفة والشهادة، ذكرهما لنفسه في قوله تعالى: (شَهد الله) ... الآية.
وقوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) ، ولله اثنان العزة والطاعة، قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) .
وقوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) .
فإن قلت: ما علامة حقيقة المحبة؟
فالجواب ما قاله بعض: ألاَّ ينظر إلى ما دونه، كما قال الأصمعي: كنْتُ
مارّاً في البادية، فاستقبلتني جارية كأنها علَم أو فلْقَة قَمَر، فنظرت إليها فقالت: لِمَ نَظَرْتَ إليّ، قلت: كلِّي بكلِّك مشغول فقالت: إنْ كان كما قلْت فكلِّي لكُلِّك مبذول، ولكن وراءك أحسن مني، فنظرت إلى خَلْفِي فلطمتني لطمة كادت تذْهب بصري، فقلت: ما هذا، قالت: ظننتُ أنك عارف، فلما نظرتَ إليّ رأيتك عاشقاً، والآن لست بعارف ولا عاشق، ثم ولَّتْ عني وهي تقول:
حبّك في القفار شدَّدني ... ثمرات من الحبّ أوّاه
خَوْف القطيعة أزعجني ... فآهٍ من الخوف ثم آه
وفي بعض الكتب: كذب من ادَّعى محبَّتي ثم يجد لذة الطعام والشراب.
كذب من ادعى محبَّتي فإذا جنَّ الليل نام عني.
كذب من ادَّعى محبتي ثم خطر بباله غيري.
وأعطاك اللَّهُ المال، وطلب منك القَرْض والصدقة، وطلب من
نفسك العبادة والمعونة لخلقه، قال تعالى: (وتَعَاوَنوا على البِرِّ والتقوى) .
(الْمصَّدّقين والْمصَّدِّقات) :
بتشديد الصاد، من الصدقة،

(2/511)


وأصله التصدقين، وكذلك قرأ أبيّ بن كعب.
وقرئ بالتخفيف من التصديق، أي صدَّقوا الرسول عليه الصلاة والسلام.
(مهْتَد) : من الاهتداء الذي هو ضد الضلال.
(متكَبِّر) : من أسماء الله، وهو الذي له التكبُّر حقاً.
والمتكبر ضد المتواضع، فلا ينبغي الاتصاف بأوصاف الله، ولذلك يقول الله
تعالى: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحدة منهما أدخلْتُه النار".
(مُهَاجِرَاتٍ) : كل مَنْ هاجر من النساء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أمره الله بعدم ردّ مَنْ هاجر من المؤمنات منهن، وكانت المرأة التي هاجرت
حينئذ أميمة بنت بشر، امرأة حسان بن الدحداحة.
وقيل سُبيعة الأسْلمية، ولما خرجت جاء زوجها، فقال: يا محمد، رُدّها علينا، فإن ذلك في الشرط لنا عليك، فنزلت الآية.
فامتحنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يردها، وأعطى مَهْرَها لزوجها.
وقيل: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط، هربت من زوجها إلى
المسلمين.
واختلف في الرجال: هل حكمهم في ذلك كالنساء فلا تجوز المهادنة على رد
مَنْ أسلم منهم أو تجوز حتى الآن، على قولين.
والأظهر الجواز، لأنه إنما نسخ ذلك في النساء.
(مُزَّمِّل) : وزنه متفعل، فأصله متزمل ثم سكنت التاء
وأدغمت في الزاي.
وقد قدمنا أنه من أسمائه عليه السلام، ناداه الله به.
قال السهيلي: وفي ندائه به فائدتان:
أحدهما الملاطفة، فإنَ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب نادوه باسم مشتقّ
من حالته التي هو عليها، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعليّ: قُم أبا تراب.

(2/512)


والثانية التنبيه لكل متزمل راقد بالليل ليتنبَّه إلى ذِكْر الله، لأن الاسم المشتق
من الفعل يشتركُ فيه المخاطب وكل من اتصف بتلك الصفة.
وفي معنى تسميته - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم ثلاثةُ أقوال:
أحدها: أنه كان في وقت نزول الآية متزمّلاً في كساء أو لحاف، والمتزمُّل:
الالتفاف في الثياب بِضَمّ وتشمير، هذا قول عائشة والجمهور.
الثاني: أنه كان قد تزمَّل في ثيابه للصلاة.
الثالث: أنه المتزمل للنبوءة، أي المتشمر المجد في أمرها.
والأول هو الصحيح، لما ورد أنه لما جاءه الملك وهو في غارِ حِرَاء في ابتداء
الوحي ورجع إلى خديجة ترعد فرائصه، فقال زَملُوني زَملُوني، فنزلت: يا أيها المدثر.
وعلى هذا نزلت: (يا أيها المزمل) ، فالمتزمُّل على هذا تزمُّله من أجل الرعب
الذي أصابه أول ما جاءه جبريل.
وقال الزمخشري: كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة، فنودي (يا أيها المزمل)
ليهجر إليه الحالة التي كان عليها من التزمّل في القطيفة، لأنه سبب للنوم الثقيل المانع من قيام الليل.
وهذا القول بعيد غَيْرُ سديد.
(مُنْفَطِر به) : أي ممتلئة به بلسان الحبشة، قاله ابن عباس.
والانفطار في اللغة الانشقاق.
والضمير المجرور يعود على اليوم الذي تنفطر السماء بشدة هَوْله.
ويحتمل أن يعود على الله، أي تنفطر بأمره وقُدْرته.
والأول أظهر.
فإن قلت: ما فائدة مجيء منفطر بالتذكير والسماء مؤنثة؟
فالجواب تأنيثها غير حقيقي، أو على الإضافة، تقديره ذات انفطار، أو لأنه
أراد السقف.
(مدَّثر) : من أسمائه عليه الصلاة والسلام، وتسميته بذلك
كتسميته بالمزَّمِّل، ومعناه الذي تدثَّر في كساء أو رداء.

(2/513)


قال السّهَيلي: في ندائه بالمدثر ما في ندائه بالمزمل.
وثالثة وهي أن العرب يقولون: النذير العريان للنذير الذي يكون في غاية
الجدّ والتشمير، والمتدثر بالثياب ضدّ هذا، فكأنه تنبيه على ما يجب من التشمير.
وقيل: إن هذه أول سورة نزلت من القرآن.
والصحيح: (اقرَأ باسْمِ رَبِّك) .
(مسْتَنْفرَة) : بفتح الفاء: التي استنفرها الفزع، وبالكسر
، بمعنى النافرة.
وشبه الكفار بالحمر النافرة في جهلهم ونفورهم عن الإسلام.
ويعني حمير الوحش.
(منَشَّرة) ، أي منشرة غير مطويّة، كما كتبت لم تطْو بعد.
وذلك أنهم قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لن نَتَّبِعك حتى تأتي كل واحد منّا بكتاب من السماء فيه: مِنْ رَبّ العالمين إلى فلان بن فلان - تأمر باتّباعك.
(ملْكا كَبِيرا) :
يعني كثرة ما أعطاهم اللَّهُ حتى أن أدنى
أهلِ الجنة منزلة مَنْ له مثل الدنيا وعشرة أمثاله معه حسبما ورد في الحديث.
وقيل: إن الملائكة تسلّم عليهم، وتستأذن عليهم، فهم بذلك كالملوك.
(منْذِر مَنْ يَخْشَاها) ، أي إنما بعِثْتَ يا محمد لتنْذِر بها.
وليس عليك الإخبار بوقتها، وخصّ الإنذار بمن يخشاها لأنه هو الذي ينفعه
الإنذار.
(مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) :
أي مضيئة من السرور، وهو من قولك: أسفر الصبح إذا أضاء.
(مطفِّفين) :
التطفيف في اللغة هو البَخْس والنَّقْص، فسره بذلك الزمخشري، واختاره ابن عطية.
وقيل: هو تجاوز الحدّ في زيادة أو نقصان.
واختاره ابن الغرس، وهو أظهر، لأن المراد به بخْس حقوق الناس في المكيال والميزان بأن يزيد الإنسان على حقه، أو ينقص من حق غيره.

(2/514)


وسبب نزول السورة أنه كان بالمدينة رجل يقال لهْ أبو جُهينة له مكيالان.
يأخذ بالأوْفَى، ويعْطي بالأنقص، فالسورةُ على هذا مدنية.
وقيل: إنها مكية، لذكر أساطير الأولين.
وقيل نزل بعضها بمكة وأنزل أمْرُ التطفيف بالمدينة، إذ
كانوا أشد الناس فساداً في هذا المعنى فأصلحهم الله.
(مؤْصَدة) :
مغلقة مطبقة، يقال: أوصدت الباب إذا أغلقته.
وفيه لغتان الهمز وترك الهمز.
(ممَدَّدة) :
العَمَد: جمع عمود، وهو عند سيبويه اسم جمع
وقرئ بضمتين، والعمود هو المستطيل من حديد أو خشب، والممددة: الطويلة.
وفي المعنى قولان:
أحدهما: أنَّ أبواب جهنم أغلقت عليهم ثم مدّت على أبوابها عمد تشديدا في
الإغلاق والثقاف، كما تثقف أبواب البيوت بالعمد، وهو على هذا متعلق
بـ موصدة.
والآخر: أنهم موثقون مغللون في العمد، فالمجرور على هذا في موضع خبر
مبتدأ مضمر، تقديره هم موثقون في عُمُدٍ.
(منْفَكّين) : زائلين.
والمعنى أن جميع الكفار لم يكونوا منفكّين حتى تأتيهم البينة، وتقوم عليهم الحجة ببعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
ومعنى منفكين منفصلين.
ثم اختلف في هذا الانفصال على أربعة أقوال:
أحدها: أنَّ المعنى لم يكونوا منفصلين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، لتقوم
عليهم الحجة.
الثاني: لم يكونوا منفصلين عن معرفة نبوءة نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى بعثه الله.
الثالث: اختاره ابن عطية، وهو: لم يكونوا منفصلين عن نظر الله وقُدْرته
حتى يبعث الله إليهم رسولاً يقيم عليهم الحجة.

(2/515)


الرابع: وهو الأظهر عندي: أن المعنى لم يكونوا لينفصلوا عن الدنيا حتى
بعث الله لهم محمداً، فقامت عليهم الحجّة، لأنهم لو انفصلت الدنيا دونَ بَعْثه لقالوا: ربنا لو أبى سلت إلينا رسولا، فلما بعثه الله لم يبق لهم عُذْر ولا حجة، فمعنى مُنْفكين على هذا كقولك لا تبرح ولا تزول حتى يكون كذا وكذا.
(ميثاق) : قد قدمنا أنه العهد حيثما وقع والوثق، مفعال من الوثيقة.
(من بعده) : الضمير لموسى، أي من بعد غيبته في مناجاته
على الطور.
(ملّةَ أبِيكم إبراهيم) :
انتصب ملّة بفعل مضمر تقديره:
أعني بالدين ملَّة إبراهيم، أو التزموا ملَّة إبراهيم.
وقال الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف، كأنه قال كملَّة.
وقال الزمخشري: انتصب بمضمون ما تقدم، كأنه قال: وسّع عليكم توسعة
ملَّةِ أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف.
فإن قلت: لم يكن إبراهيم أباً للمسلمين كلهم.
فالجواب أنه أبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبأ لأمته، لأن أمة الرسول في حكم أولاده.
وأيضاً فإن قريشاً وأكثر العرب من ذرية إبراهيم، وهم أكثَرُ الأمة.
فاعتبرهم دون غيرهم.
وقد قدمنا في هذا الحرف أنَّ الله نسب هذه الأمةَ لإبراهيم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع فيهم، والوالد يستحيي من زلّة ولده، ولم ينسبهم - لآدم، لأنه عاملهم بما لم يُعامل به آدم عند ذنوبهم.
ألا تراهم يرتكبون كلَّ ساعةْ المخالفة، وهو يسترهم
ويرزقهم ويعافيهم، وإن نادَوْه لَبَّاهُمْ، وإن استغفروه غفرِ لهم، وأعظَم من ذلك أنه نسبهم إلى الوفاء في قوله تعالى: (وإبراهيمَ الّذي وَفَّى) .
(إنَّ إبراهيمَ لَحليمٌ أوّاهٌ مُنِيب) .
وكما أحْيا اللهُ علي يديه الطيور، وأظفره بعدوّه النمرود، ولم تصل النار إلى جسده، بل أحرق قيوده

(2/516)


كذلك يحي الله قلوب هذه الأمة المحمدية إذا ندموا على المخالفة، ويظفرهم
بعدوهم إبليس في القيامة ويبرد عليهم النار، فلا يذوقون فيها الماء، كما صح أنهم يموتون فيها إماتة ... الحديث بطوله في صحيح مسلم.
فهنيئاً لكم يا أمة محمد على ما خوَّلكم له من النعم لحرمة نبيكم، اللهم اجعلنا من أمته، واحْشرْنا في زمْرَتِه لا مبدِّلين ولا مغَيِّرين.
(مِسْكين) : مفعيل من السكون، وهو الذي سكنه الفقر.
أي قلل حركته، وهو أحوَج من الفقير.
وقال الأصمعي: بل المسكين أحسن حالاً من الفقير، لأن الله عز وجل
يقول: (أمَّا السفينة فكانت لِمَساكِين) ، فأخبر أنَّ المسكين له
سفينةٌ من سفن البحر، وهي تساوى قيمةً كبيرة.
والصحيح الأول، لأن الله قال في أصحاب السفينة: مَساكين، على وجه
الإشفاق عليهم، لكونهم يغصبون فيها، أو لكونهم في لجج البحر، ولا سيما على قراءة مَسَّاكين - بتشديد السين، أي يمسكون السفينة.
(مِحْرَاب) : قد قدمنا أنه مقدم المجلس وأشرفه، والمحراب أيضاً: الغرفة، وجمعه محاريب.
وأما قوله: (كلما دخلَ عليها زكريا المحرابَ) فالمراد به موضع عبادتها.
(مِثْقَال ذَرَّة) : أي وزنها، وهي النملة الصغيرة، وذلك
تمثيل بالقليل تنبيه على الكثير.
(مِنْهَاجاً) : أي ديناً، وفي هذا دليل على أن الله أمر
بالدين القيم لجميع العالم.
وأما الأحكام والفروع فقد قدمنا أن ذلك مختلف.
(مِدْراراً) : بناء تكثير من الدر.
يقال دَرّ المطر واللبن وغيره.
وفي الآية دليلٌ على أنَّ التوبةَ والاستغفار سببٌ لنزول المطر.

(2/517)


(مِنْ قَبْلُ كانوا يَعْمَلُون السَّيِّئَاتِ) :
أي من قبل إتيان الرسل كانت عادةُ قوم لوط إتيان الفواحش في الرجال.
(مِنْ وراءَ إسحاقَ يَعْقوب) :
أي من بعده، وهو ولده.
وقيل الوراء ولد الولد.
ويعقوب بالرفع وبالفتح معطوف على إسحاق.
(مِن الزَّاهدين) :
أي في قيمة يوسف، لأنهم علموا أنه حر، أو بقيمته.
وقيل: إن يوسف نظر إلى أسفل الجبّ، فرأى صورة وجهه في
الماء فاستحسنه، فخطر بباله: لو كنْتُ مملوكاً لكنت عزيزا، وعزّ لي ثمني.
فبعث الله إليه السيارة، وسلّط عليه إخوته حتى باعوه بثمن بَخْس، وأراه أنَّ
قيمته بجمال الباطن لا بجمال الظاهر (1) .
فلما وصل أسفل الجب، وجاءته السيّارة
واشتروه لأن إخوته دبَّروا قتله، ولم يقدروا، وأرادوا بُعْده، واللَه غالب على أمره، فصيَّره ملكاً.
وأنْتَ يا محمدي دبَّر لك إبليس القطع والهجران، والله يدبِّر لك العفو
والغفران، ويصيّرك ملكاً كريماً.
وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رب، الأمم الماضية خسفْتَ بهم، وأمطَرْت عليهم الحجارة، ومسختهم قِرَدة وخنازير، فماذا تصنع بأمتي، فقال: يا محمد، أصبُّ على أمتك الرحمة من أعنان السماء، وأبدل سيئاتهم حسنات، ولو أني أحب العتاب ما حاسبْتُ أمَّتك.
فلما أراد الانصراف من عنده قال: إلهي، لكل راجع من سفرة تُحفة، فما تحْفة أمتي، قال: رحمتي لهم ما عاشوا، وبُشْراي لهم إذا ماتوا، وفُسحتي لهم إذا قبروا، وكرامتي لهم إذا بعثوا، وحُبِّي لهم إذا حضروا، ورؤيتي لهم إذا زاروا.
وفي الحديث: إن الشيطان ينادي يوم القيامة أين أحبَّائي وأهل طاعتي من أمَّة
محد، فينادي الجبار جل جلاله: كذبت يا لعِين، أنت للنار وهم للجبَّار.
(مِنْ أهلها) .:
الضمير لامرأة العزيز، يعني أن الصبي الذي
__________
(1) من أكاذيب بني إسرائيل، وهو محض افتراء يتنزه عنه الأتقياء، فكيف بالأنبياء، وكيف بالكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - صلى الله عليهم وسلم - (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) .

(2/518)


شهد ليوسف كان من أهلها، لأنه أوثق للحجة وأحسن في براءة يوسف.
وهذا الصبي هو أحد الأربعة الذين تكلّموا في المهد، وبَرَّؤْوا أصحابَهم مما رموهم به.
افَتَرى الله شهد لكَ بالإيمان وخاطبك به في القرآن، أفتراه يضيّعك بعد
شهادته لك.
فإن قلت: هل سمعتْ زليخا هذه الشهادة من الصبي؟
فالجواب أنها لم تسمعه لاستيلاء الشهوة عليها، فأصمَّ سمعها وبصرها.
ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: حبّك الشيء يُعمي ويُصم.
(مِنَ المحْسنين) :
هذا من قول الفتيان ليوسف، يعني إنَّا رأيناك من المحسنين إلى أهل السجن في عيادة مرضاهم، وتعبير رؤياهم، وقضاء
حوائجهم، فالإحسان أورث يوسف محبةَ أهل السجن فيه.
وأنتَ يا محمدي أولى بمحبة الله لكَ ورحمته، ونصرته ونفي الخوف عنه إن
كنت محسناً، قال تعالى: (ما عَلَى المحسِنين مِنْ سَبِيل) .
(إنَّ اللهَ مع الذين اتقَوْا) .
(مِنْ بعْدِ ما رَأوا الآياتِ) :
أي الدالة على براءته.
والضمير يعود على الملك وزليخا، وإنما عرضت به للسجن والعذاب، لأنه أيسر الأشياء، وكانت ترجوه إنْ بَقِي.
فكذلك عرض مولانا لنا أيسر الأمرين
الفضل والعدل، فإن عاملناه بالعقل والعدل عاملنا بالفضل، لأن له في الأمور التي يبديها ويخرجها أمرين، ألا ترى إلى قصة يوسف عليه السلام كيف مضى عليه حينٌ من الدهر، وهو مشتغل ببلواه، وغيره مشتغل به وبهواه، حتى إن أباه بكى على فراقه وإخوته بكوا حسداً له، وبكى يوسف على ما ابْتلي به في صغر سنه وغربته، وبكت امرأة العزيز على محبته، فلما كشف الله الغطاء، وأظهر بدائع لطفه تغيَّرت الأحوال فصار بكاء يعقوب وحزنه على خواتم الأمور فرحاً، فحكى الله عنه قوله: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) .

(2/519)


وأما الإخوة فإنهم رجعوا إلى الاستغفار، وقالوا: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا
إنا كُنَّا خاطئين) .
وأما يوسف عليه السلام فقال: (توفَّني مسلما وألْحِقني بالصالحين) .
وأما زليخا فإنها قالت: (الآن حَصْحَصَ الحقُّ) .
فكيف تحزن يا محمدي على فَوْتِ الدنيا، وأنت ترى أحوالها وزوَالها
واضمحلالها، وتدّعي أنك تَطْلُبُ الحقّ، هيهات!.
(من السِّجْن) :
إنما لم يقل من الجب، لوجهين:
أحدهما في ذكر الجب خزي إخوته وتعريفهم بما فعلوا، فترك ذِكْرَه توقيرًا لهم.
والآخر أنه خرج من الجبِّ إلى الرقّ، ومن السجن إلى الملك، فالنعمة به
أكثر.
هذا يوسف لم يرد تعيير إخوته، والمؤمن الذي أطاع مولاه أفتراه يذكره
بذنوبه؟! ، كلاّ والله لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه.
وقد قدمنا أن الكرامات التي كانت للنبي عليه السلام كانت لأمَّته.
(من البَدْوِ) :
أي من البادية، وكانوا أصحاب إبل وغنم، فعدّ في النعم مجيئهم إلى الحاضرة، فيفهم من مقارنة خروجه من السجن
ومجيئهم من البادية شؤمها، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ بَدَا جَفَا، وذلك لتركهم الجمعة، وقلّة الإقامة بالدين، هذا في زمان أهل الخير والدين، وأما في هذا الزمان فالبادية أكثر إخلاصاً مع الله لقلّة حبهم في الدنيا، والتصنّع لأهلها، وليس الخبر كالعيان، والمشاهد لا يحتاج لبرهان.
(مِنَ الملْك) :
من للتبعيض، لأنه لم يعطه الله إلا بعض ملك مصر.
(مِنْ أنْبَاءِ الغَيْب) : احتجاج على صحة نبوءة نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لإخباره بالغيوب.

(2/520)


(مِحَال) :
مشتق من الحيلة، فالميم زائدة، ووزنُه مفعل.
وقيل معناه شديد المكر، مِنْ قولك محل بالرجل إذا مكر به، فالميم على هذا
أصلية، ووزنه فعال.
ويقال الحال من قولهم محل فلان بفلان إذا سعى به إلى
السلطان، وعرَّضه للهلاك.
(مِنْ كُلّ شَيء مَوْزُون) :
أي مقدَّر بقَصْدٍ وإرادة، فالوزن على هذا مستعار.
وقيل المراد ما يوزن حقيقة، كالأطعمة والذهب.
والأول أحسن وأعمُّ.
(المعلوم) :
اليوم الذي طلب إبليس أن يُنْظَر إليه هو يوم القيامة، والوقت المعلوم الذي أنظر إليه هو يوم النّفخ في الصور النفخة الأولى
حين يموت مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض.
وكان سؤال إبليس الإنظار إلى يوم القيامة جهلا منه أو مغالطة، إذ سأل ما لا سبيل إليه، لأنه لو أعطي ما سأل لم يمت أبداً لأنه لا يموت أحد بعد البعث، فلما سأل ما لا سبيل إليه أعرض الله عنه وأعطاه الإنظار إلى النفخة الأولى.
(مِنْ بَعْدِها لغَفورٌ رَحيم) ، أي بعد الأفعال المذكورة، وهي الهجرة والجهاد والصبر.
(مِنْ دُوني وَكِيلاً) : أي ربّاً تَكلُون إليه أمركم.
(مِنْ لَدني عذْرا) :
أي قد عذرت إلى معتذر عندي.
وفي الحديث: كانت الأولى من موسى نسيانا.
(مِنْ كلِّ شيء سبَباً) :
أي فهما وعلماً يُتَوصل بهما إلى معرفة الأشياء.
والسبب: ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو غير
ذلك.
(مِتُّ قَبْل هَذا) : إنما تمنَّتْ مريم الموتَ خوفاً من إنكار
قومها، وظنهم بها الشرَّ، ووقوعهم في ذَمِّها.
وتمني الموت جائز في مثل هذا.

(2/521)


وليس هذا من تمني الموت لضرر نزل بالبدن، فإنه منهي عنه للحديث:
"لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي".
وحكي أنه لما اشتد بها الموت قالت هذا.
فإن قلت: ها هي آمنة أمّ مولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تَجِدْ ألماً حين ولادته، ومريم وجدت الألم؟
والجواب أن الله أجرى العادة في هذه الدار أنه على قدر الفرح يكون
التَّرَح، ومريم قَرَّ اللهُ عينها بعيسى، وشاهدت معجزاته، وظهور أمره، فاشتدَّ عليها الأمْرُ، وأمُّ سيد الأولين والآخرين لم يكن لها منه حظّ، ولم تشاهده، فرفع الله عنها الألم.
وقيل العطاء مقسوم على قَدْر البلاء.
ألا ترى إلى نوح لما يئس من إيمان قومه ولم يفرح بهم وآذَوْه استجاب اللهُ له فيهم، ونبيُّنا علم إيمان أمّته، واتِّباع شريعته، فاحتمل أذاهم، ولم يدع على قومه، فقال: اللهم اغْفِرْ لقَوْمي فإنهم لا يعلمون.
فإن قلت: قد دعا عليهم بقوله: اللهم أعنِّي عليهم بسَبْع كسبع يوسف.
وقال لما صب عليه سَلَى الجَزور: اللهم عليك بقريْش؟
والجواب أنه دعا عليهم، لأنه غَضِب لله، إذ عادته - صلى الله عليه وسلم - الصفح ما لم تهتك حُرْمته، فيغضب للهِ، وكان حينئذ في الصلاة فدعا عليهم لذلك.
وأيضأ فإنه علم - صلى الله عليه وسلم - عدم إيمان المدعوّ عليه، كما صح.
وأما دعاؤه بالاستعانة عليهم بالجدب فللطمع في إيمانهم، كقوم يونس.
فتأمل يا محمديّ عنايةَ الله فيك في أزله، فلا تجزع من البلايا والرزايا، فإنما
هي تطهيرات.
ومقاساة البلية مقسومة على حسب الكرامة، فكما أعد لك من
النعيم المقيم ما لا عين رأتْ ابتلاك على حسب ما أعدّ لك.
يقول تعالى: "عبدي رفعت البلاء عن الملائكة فهم مخفَّفون من الهموم، ولا لهم همّ الرزق، ولا شدة الجوع، ولا ألم المرض، ولا خوف العواقب، لأن الجنةَ غير معدودة لهم.
وقد قدرت البلايا والمِحَن والشدائد والهموم، وخوف زوال الإيمان عليك،

(2/522)


لأن الجنة معدودة لك، والرؤية موعودة لأجلك، ومقاساة البلية مقسومة على حسب القطيعة.
(مِنْ غَيْرِ سوءٍ) :
يعني من غير بَرَص ولا عاهة، وذلك لحكم:
منها أنه لما أتعب يده حين لطم فرعون في حال صباه أكرم الله يده بأن
جعلها بيضاء.
وكذلك الخليل أتعب يده بكَسْرِ الأصنام فأكرمه الله بإحياء
الطيور على يديه.
وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أتعب يده بِرَمْي التراب في وجوه الكفار فأكرمه الله بانشقاق القمر بإشارته، ونبع الماء من بين أصابعه.
فالمؤمن الذي يكرم يده بمدها في الطاعة أفتراه لا يكرمها الله بأخْذ كتابه
وتزيينه بأساور من فضة.
وإذا أتعب رجله بالمشي إلى الجماعة يكرمه بخمود النار
تحت قدميه، فتقول له: جُزْ يا مؤمن، قد أطفأ نورك لهبي.
وكذلك إذا أتعب قلبه في ردّ وساوس الشيطان يكرمه الله تعالى بنور معرفته
ومحبّته.
ولما أكرم تعالى يد موسى بنور النبوة لم تحترق، ولو احترقت لم تكن معجزة.
وكذلك إسماعيل لما كان نور المصطفى في وجهه - صلى الله عليه وسلم - لم يعمل فيه السكين، وأكرمه الله بنور الحبيب الكريم، وفداه بالذبح العظيم، وحرم عليه العذاب الأليم.
وكذلك العبد إذ أكرمه الله بنور المعرفة والإيمان نَجّاه من النيران وحرم
عليه القَطْع والهجران.
ولما كانت يده حجة على فرعون حفظها الله من النار كي لا تبطل حجّته.
كذلك المعرفة حجَّتك على الكافرين، فسَلْه أن يحفظ حجتك من الزوال.
ومنها أنَّ الله تعالى أراه مِنَّته وهيبته فحفظ يده من النار كي يرى منته.
وأحرق لسانه بالجمرة كي يرى هَيْبته، كذلك قصة امرأة عمران قالت:

(2/523)


(رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) ، فولدت أنثى كي لا تصلح لتمام الخدمة التي أضمرت في نفسها، لترى هيبته بذلك، فتقبّلها ربها
بنقصانها لترى منته.
كذلك قصة الخليل لما قُيّد ورُمي في النار احترق قَيْدُه ولم تحترق يده، ليرى
هيبته ثم يرى منَّته، كذلك العبد يوقعه اللهُ في المعصية ثم يحفظ قَلْبَه من الشرك
والنكرة لينظر العبد إلى المعصية، فيرى هيبته، ثم ينظر الى معرفته فيرى مِنّته.
ويبقى مع مولاه في رؤية المنة ورؤية الهيبة.
ومنها أنه أخذ الجمرة بإلهام الله وإذن الملك، ووضعها في فمه باختيار نفسه
دونَ أمْرِ ربه، فاحترق لسانه، وكذلك العبد يعصي بنفسه، واختيار هواه، ثم يخاف رَبّه ويندم بقلبه فتذوب نفسُه، فيأمر ربّه بإدخاله النار، ويحفظ قلبه من ألم الهجران.
(مِسَاسَ) :
هذا من كلام موسى للسامري، عاقبه بأن منع
الناس من مخالطته ومجالسته ومواكلته ومكالمته، وجعل له مع ذلك أن يقولَ طول حياته: لا مِسَاس، أي لا مماس ولا إذاية.
وروي أنه كان إذا مسّه أحد أصابته الحمّى له وللذي مسه، فصار هو يَبْعُد
عن الناس، وصار الناس يبعدون عنه، وهذه كانت عقوبته.
والصحيح أنه تاب فقَبِلَ اللهُ توبته (1) .
وروي أن موسى همَّ بالدعاء عليه، فنهاه الله عن ذلك، فقال: لم يا رب؟
فقال: لسخائه (2) .
(مِشْكاة) :
كوَّة غير نافذة بلغة الحبشة، قاله مجاهد، وإنما
وصفها بذلك لأن المصباح فيها شديد الإضاءة.
وقيل: المشكاة الذي يكون المصباح على رأسه.
والأول أصح وأشهر.
(مِسْك) :
ذكر الثعالبي أنه فارسي، وهو دَمٌ مجتمع في
عنق الظبي الذي تبع آدم يبكي عليه، فأكرمه الله بالمسك.
__________
(1) ليس في القرآن ولا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القول بقبول توبة السامري. والله أعلم بحقائق الأمور.
(2) لا يخفى ما فيه من بعد.

(2/524)


وأنت يا عبد الله إن تتبعتَ أمره يكرمك بالجنة التي فيها أنواع اللذات
والطيبات من الروائح، وتشرب من مائه، ختامه مسك.
(مِصباح) :
هو الفتيل بناره.
والمعنى أنه قنديل من زجاج، لأن الضوء فيه أزهر، لأنه جسم شفاف.
والمعنى أن صفة نور الله في وضوحه كصفة مشكاة فيها مصباح على أعظم ما
يتصوّره البشر من الإضاءة، وإنما شبهه بالمشكاة، وإن كان نور الله أعظم، لأن ذلك غاية ما يدركه الناس من الأنوار.
(مِنْسَأته) ، أي عصاته بلغة الحبشة، وقرئت بالهمز وبغير
همز.
وقصَّتُها أنَّ سليمان عليه السلام دخل قبةً من قوارير، وقام يصلّي متكئاً على
عصاه، فقبض الله رُوحه، وهو متكئ عليها، فبقي كذلك سنَةً لم يعلم أحَدٌ
بموته حتى سلّط الله عليها دابّة الأرض وهي السوسة.
واختصرنا كثيراً مما نقله الناس لعدم صحته.
وحِكمَةُ ذلك أن الجن كانت - تدَّعي عِلْمَ الغيب، فتخبر الناس، فرد الله
ذلك القول بقوله تعالى: (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) .
فعِلْمُ الغيب لا يطَّلِع عليه إلا الله، ومَنْ يُرد اللهُ أن يعلمه من نبي أو صديق.
ورضي الله عن السيد الذي دخل على بعض الملوك فوجده مهموما، فقال:
مالك، فقال: رأيتُ ملك الموت، فاختبرته عما بقي من أجلي، فأشار لي بأصابعه الخمس، فلا أدري أخمس ساعات أو أيام أو جمعات أو أشهر أو سنين، فقال له: أشار لك إلى أنَّ الخمس التي انفرد الله بعلمها في قوله تعالى: (إنَّ اللهَ عنده عِلْمُ الساعة ... ) الآية.
فإذا كان ملك الموت الموكل بقبض الأرواح لا يعلم أجَلَ شخص حتى يُؤْمر
بقبض روحه فكيف يطّلع الغير على الغيوب؟!

(2/525)


ولهذا أبطل العلماء ما يدعونه أهل البطالة من الاطلاع على الغيوب.
ويستدلّون عليه بأمارات باطلة.
(مِيعَاد يوْم) :
يعني يوم القيامة أو نزول العذاب بهم في الدنيا، وهو الذي سألوا عنه على وجه الاستخفاف.
(مِرَّةٍ) : أي ذو قوة، أو ذو هيئة حسنة.
والأول هو الصحيح في اللغة.
وقيل: مرة أي محكم الفَتْل.
(مِرْصاد، أو مَرْصَد) :
طريق وانتظار، أي تنتظر الكفَّار ليدخلوها.
وقيل معناه طريقا للمؤمنين يجُوزُون عليها إلى الجنة، لأن الصراط منصوب على مَتْن جهنم.
وأما قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، فهو عبارة على أنه
تعالى حاضر بعلمه في كل مكان وكلّ زمان، ورقيب على كل إنسان، وأنه لا يفُوته أحد من الجبابرة والكفار.
وفي ذلك تهديد لكفّار قريش وغيرهم.
وقد كتب بعضُ الفضلاء لمن هدده: فيا للعجب ذبابة تطنّ في أذن الفيل أم
بعوضة تعدّ في التماثيل؟ وستندم على ما حدّثَتْك نفسك من أماني كاذبة.
وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أن الأرواح لا
تعنّى بالأمراض، فسبحان الله! كم بين قوي وضعيف، ودنيء وشريف! فإن
عُدْنا إلى الظواهر المحسوسات، وعَدَلْنا عن البواطن المعقولات، قلنا أُسْوَة
برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: "ما أوذِي نبي بمثل ما أوذيت، فكانت العاقبة لله ولرسوله وللمؤمنين".
فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن من أمرنا بالمرصاد واتْلُ أوَّلَ النحل وآخر (ص) .
***
(ما) :
اسمية وحرفية، فالاسمية تَرِدُ موصولة بمعنى الذي نحو: (ما عِنْدَك يَنْفَدُ وما عِنْد الله باق) .
ويستوي فيها الذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع.

(2/526)


والغالب استعمالها فيما لا يعلم، وقد تستعمل في العالم، نحو: (والسماء وما
تنَاهَا) .
(ولا أنتم عابِدون ما أعْبد) ، أي الله.
ويجوز في ضميرها مراعاة اللفظ، واجتمعا في قوله: (ويَعْبدونَ من دون اللَه
ما لا يَمْلِك لهم رِزْقاً من السماوات) .
وهذه معربة بخلاف الباقي.
واستفهامية بمعنى أي شيء، ويُسأل بها عن أعيان ما لا يعقل وأجناسه
وصفاته، وأجناس العلماء وأنواعهم وصفاتهم، نحو: ما هي.
ما لَوْنها. ما ولاّهم.
(مَا تِلْك بيمينكَ يا موسى) . (وما الرحمن) .
ولا يسأل بها عن أعيان أولي العلم، خلافاً لمن أجازه.
وأما قول فرعون: (وما ربّ العالمين) ، فإنما قاله جَهْلاً، ولهذا أجابه موسى
بالصفات.
ويجب حذف ألفها إذا جُرَّت، وإبقاء الفتحة دليلاً عليها، فَرْقاً بينها
وبين الموصول، نحو: (عَمّ يتساءلون) .
(فيمَ أنْتَ من ذِكْرَاها) ، (لم تقوئون ما لا تفعلون) .
(بم يرجع المرسلون) .
وشرطية نحو: (ما نَنْسَخْ من آية أو ننْسها) .
(وما تفْعَلوا من خير يعلمه الله) .
(فما استقَاموا لكم فاسْتَقِيموا لهم) .
وهذه منصوبة بالفعل بعدها.
وتعجبية نحو: (ما أصبرهم على النار) .
(قتِل الإنسان ما أكفره) .
ولا ثالث لهما في القرآن إلا في قراءة سعيد بن جبير:
"ما أَغرك بربك الكريم".
ومحلّها في رفع الابتداء وما بعدها خبر، وهي نكرة تامة.
ونكزة موصوفة، نحو: (بعوضة فما فَوقها) .

(2/527)


(نِعمَّا يَعِظكم به) ، أي نعما شيء يعظكم.
وغير موصوفة نحو: (فنعمّا هي) .
الحرفية ترد مصدرية إما زمانية، نحو: (فاتقُوا اللهَ ما استطعتم) ، أي مدة استطاعتكم.
أو غير زمانية، نحو: (فذُوقوا بما نَسِيتم) ، أي بنسيانكم.
ونافية إما عاملة عمل ليس، نحو: (ما هذا بشرا) .
(ما هُنَّ أمَّهاتهم) .
(فما منكم من أحد عنه حاجزين) .
ولا رابع لها في القرآن.
أو غير عاملة، نحو: (وما تنفقون إلا ابتغاء وَجه الله) .
(فما ربحت تجارتُهم) .
قال ابن الحاجب: وهي لنفي الحال.
ومقتضى كلام سيبويه أنَّ فيها معنى التأكيد، لأنه جعلها في النفي جواباً لقد في الإثبات، فكأنما قد فيها معنى التأكيد، فكذلك ما جعل جواباً لها.
وزيادة للتأكيد إما كافة، نحو: (إنما الله إله واحد) .
(إنما إلهكم إله واحد) .
(كأنما أغشيت وجوهُهم قِطَعاً من الليل مُظْلما) .
(ربما يودّ الذين كفروا) .
وغير كافّة نحو: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ) .
(أَيًّا مَا تَدْعُوا) (أيما الأجَلَيْن قضَيْتُ) .
(فبما رحمة من الله) ، (مما خطيئاتهم) ، (مثلاً مّا بعوضة) .
قال الفارسي: جميع ما في القرآن من الشرط بعد إما مؤكد بالنون لمشابهته
فعل الشرط بدخول ما للتأكيد لفعل القسم من جهة أن ما كاللام في القسم، لما فيها من التأكيد.
وقال أبو البقاء: زيادة (ما) مُؤْذِنة بإرادة شدة التأكيد.

(2/528)


فائدة
حيث وقعت " ما " قبل " ليس " أو " لم " أو " لا" أو بعد إلاَّ فهي موصولة.
نحو: (ما ليس لي بحق) .
(ما لم يعلم) . (ما لا تعلمون) . (إلاّ ما علّمتنا) .
وحيث وقعت بعد كاف التشبيه فهي مصدريّة.
وحيث وقعت بعد الباء فإنها تحتملهما، نحو: (بما كانوا يظلمون) .
وحيث وقعت بين فِعْلين سابقهما علم أو دراية، أو نظر، احتملت الموصولة والاستفهامية نحو: (وأعلم ما تُبْدُون وما كنْتُم تَكْتُمون) .
(ما أدْرِي ما يفعل بي ولا بِكم) .
(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) .
وحيث وقعت في القرآن قبل إلا فهي نافية، إلا في ثلاثة عشر موضعاً: (مما
آتيتموهن شيئاً إلا أنْ يخافا ألا يُقِيما) .
(فنِصْفُ ما فرَضْتُم إلا أن يعْفون) .
(ببعض ما آتيْتُموهنَّ إلا أنْ يَأتين) .
(ما نكح آباؤكم مِنَ النساء إلاَّ ما قد سلف) .
(وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) .
(ولا أخافُ ما تشركون به إلا أن يشاء ربي) .
(فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) .
(ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربُّك) ، في موضعي هود.
(فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) .، (ما قدمتم لهنَّ إلاّ) ، (وإذ اعتزَلْتُمُوهُم وما يَعْبدون إلا الله) ، (وما بينهما إلا بالحق) ، حيث كان.
***
(ماذا) :
ترد على أوجه:
أحدها: أن تكون ما استفهامية وذا موصولة، وهو أرجح الوَجهين في:
(ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) - في قراءة الرفع، أي
الذي ينفقونه العَفْو، إذ الأصل أن تجاب الاسمية بالاسمية، والفعلية بالفعلية.

(2/529)


الثاني: أن تكونَ ما استفهامية وذا إشارة.
الثالث: أن يكون (ماذا) كله استفهاماً على الترتيب، وهو أرجح
الوجهين في: ماذا ينفقون قل العَفْوَ - في قراءة النصب، أي ينفقون العَفْو.
الرابع: أن يكون ماذا كله اسم جنس، بمعنى شيء، أو موصولة بمعنى
الذي.
الخامس: أن تكون ما زائدة، وذا للإشارة.
السادس: أن تكون ما استفهاماً، وذا زائدة.
ويجوز أن يخرج عليه.
***
(متى) :
ترد استفهاماً على الزمان نحو (متى نَصْرُ الله) .
وشرطاً نحو: متى أضع العمامة تعرفوني.
***
(مَع) :
اسم بدليل جرها بمن في قراءة بعضهم: (هذا ذكر من مَعِيَ) ، وهي فيها بمعنى عند.
وأصلها لمكان الاجتماع، أو وقته نحو: (ودخل معه السجنَ فَتَيان) .
(أرْسِله معنا غداً) ، (لن أرْسِلَه معكم) .
وقد يُراد به مجرد الاجتماع والاشتراك من غير ملاحظة الزمان والمكان، نحو: (وكونوا مع الصادقين) .
(واركعوا مع الراكعين) .
وأما نحو: (إتي معكم) .
(إنَّ الله معَ الّذين اتقوا) .
(وهو معكم أين ما كنْتُم) .
(إنّ مَعِي رَبّي سيَهْدِين)
فالمراد الحفظ والعلم والمعونة مجازاً.
قال الراغب: والمضاف إليه لفظ مَعَ هو المنصور، كالآيات المذكورة.
***
(مِنْ)
حرف جر، له معان، أشهرها ابتداء الغاية، مكاناً وزماناً وغيرهما.
نحو: (من المسجد الحرام) . (من أوّل يوم) . إنه مِنْ سليمان) .
والتبعيض بأنْ تسدّ "بعض " مسدَّها، نحو: (حتى تُنْفِقوا مما تحبون) .
وقرأ ابن مسعود "بَعْض ما تحبّون".

(2/530)


والتبيين، وكثيراً ما تقَع بعد ما ومهما، نحو: (ما يَفتَح اللَّهُ للناس مِنْ رحمة) .
(ما نَنْسَخْ من آية) .
(مهما تَأتِنَا به من آية) .
ومن وقوعها بعد غيرهما: (فاجْتَنِبوا الرِّجْسَ من الأوثان) .
(أساور مِنْ ذهب) .
والتعليل: (مما خطيئاتهم أُغرقوا) .
(يجعلون أصابِعهم في آذانهم مِنَ الصَّوَاعق) .
والفصل بالمهلة وهي الداخلة على ثاني المتضادّين، نحو: (يعلم المفْسد من
الْمصْلح) .
(ليميز اللَّهُ الخبيثَ من الطيب) .
والبدل، نحو: (أرَضِيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) ، أي بدلها.
(لجَعَلْنَا منكمْ ملائكة في الأرض يَخْلُفون) ، أي بدلكم.
وتنصيص العموم، نحو: (وَمَا مِنْ إله إلا الله) .
قال الكشاف: هو بمنزلة البناء على الفتح في لا إله إلا الله في إفادة معنى الاستغراق.
ومعنى الباء: (ينْظرونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) ، أي به.
وعلى، نحو: ونصرته من القوم، أي عليهم.
وفي نحو: (إذا نودِي للصلاة من يوم الجمعة) ، أي فيه.
وفي الشامل، عن الشافعي: أن من في قوله: (وإن كان مِن قوم عدوّ لكم)
بمعنى في، بدليل قوله: (وهو مؤْمن) .
وعن، نحو: (قد كنّا في غَفْلةٍ من هذا) ، أي عنه.
وعند، نحو: (لن تغْنِيَ عنهم أمْوَالُهم ولا أولادُهم من الله) ، أي عنده.
والتأكيد، وهي الزائدة في النفي، أو النهي أو الاستفهام، نحو:

(2/531)


(وما تسقط من ورقة إلا يَعْلَمها) .
(مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) .
وأجازها قوم في الإيجاب، وخرجوا عليه: (ولقد جاءَكَ مِنْ نَبَأ الْمرْسَلِين) .
يحَلَّوْن فيها مِنْ أساوِر) .
(مِنْ جِبَالٍ فيها مِنْ بَرَد) .
(يَغضُّوا مِنْ أبصارهم) .
فائدة
أخرج ابن أبي حاتم من طريق السدّي، عن ابن عباس، قال: لو أنَّ إبراهيم
حين دعا قال: اجعل أفئدة الناسِ تهْوِي إليهم لازدحمت عليه اليهود
والنصارى، ولكنه خص حين قال: (أفئِدةً من الناس) ، فجعل ذلك للمؤمنين.
وأخرج عن مجاهد، قال، لو قال إبراهيم: فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم
لزاحمتكم عليه الروم وفارس، وهذا صريح في فهم الصحابة والتابعين التبعيض من (مِنْ) .
وقال بعضهم: حيث وقعت يغفر لكم في خطاب المؤمنين لم تذكر
معها من، كقوله في الأحزاب.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) .
وفي الصف: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة ... ) ، إلى قوله: (يغفر لكم ذنوبكم) .
وقال في الكفار في سورة نوح: (يغفر لكم من ذنوبكم) ، وكذا في سورة الأحقاف، وما ذلك إلا للتفرقة بين الخطابين، لئلا يسوّي بين الفريقين في الوعد. ذكره في الكشاف.
***
(مَنْ)
بالفتح: لا تقع إلا اسما، فترد موصولة كما قدمنا مراراً، كقوله:
(ومَنْ عنده لا يستكبرون عن عبادته) .
وشرطية نحو: (مَنْ يعمل سوءاً يجْزَ به) .
واستفهامية نحو: (مَنْ بعثَنَا مِنْ مَرْقدنا) .
ونكرة موصوفة: (ومن الناس مَنْ يقول) .
أي فريقا يقول.
وهي كما في استوائها في الذكر والفرد وغيرهما.
والغالب استعمالها في العاقل، عَكْس (ما) .
ونكتَته أن (ما) أكثر وقوعا في

(2/532)


الكلام منها، وما لا يعقل أكثر ممن يعقل، فأعطوا ما كثرت مواقعه للتكثير.
وما قلّت للتقليل، للمشاكلة.
قال الأنباري: واختصاص مَنْ بالعاقل وما بغيرها
في الموصولين دون الشرط، لأن الشرط يستدعي الفعل ولا يدخل على الأسماء.
***
(مَهْما) :
تقع اسماً يعود الضمير عليها في: (مَهْمَا تَأتنَا بِه) .
قال الزمخشري: عاد عليها ضمير به وضمير بها حملاً على اللفظ، وعلى
المعنى.
وهي شرط لما لا يعقل غير الزمان كالآية المذكورة، وفيها تأكيد، ومن
ثم قال قوم: إن أصلها ما الشرطية وما الزائدة، أبدلت ألف الأولى هاء دَفْعاً
للتكرار.

(2/533)