معترك الأقران في إعجاز القرآن

 (حرف النُّون)
(نوح عليه السلام) :
من أولاد آدم عاش بعد الطوفان ستين سنة، وبعثه
اللَه بعد إدريس، وهو أولُ مَنْ صنع السفينة بأمْرِ الله، وكانت سببَ نجاته ومَنْ آمنَ به، وتنسلت الخلق من أولاده: سام، وحام، ويافث، ولذلك يقال له آدم الأصغر، لأن المؤمنين الذين كانوا معه في السفينة انقرضوا، وكان اسمه يشكر فَمرَّ على كلب ميت فجعل يده على أنْفه، وقال: ما أقبح رائحته، فقال له جبريل: يقول لك ربك اخْلُقْ أنْتَ مَنْ هو أحسن رائحة منه، فبكى على ذلك أربعين سنة.
فقال له جبريل: يا نوح، كم تَنوح! يكفيك من هذا النوح (1) .
فانظر هذه السياسة العظيمة، والوعيد الهائل مع أنبيائه وأصفيائه من خلقه.
قال تعالى: (إنّ اللَهَ اصْطَفَى آدم ونوحاً وآل إبراهيم) .
وكان في احتمال المشقة من قومه غاية حتى ضاق ذَرْعه منهم، ودعا عليهم.
فأجاب اللَّهُ دعاءَه، ونَجّاه ومَنْ معه، وسلَّم عليه في قوله: (سَلامٌ على نُوحٍ في العالمين) .
(قيل يا نوح اهْبِطْ بسلام مِنَّا) .
(نبيئا) :
مشتق من الإنباء، وهو الإخبار، لقوله تعالى: (ذلك مِن أنباء الغَيْب) .
(نَبئْنَا بتَأوِيله) .
وقيل هي مشتقة من الرفعة والتفضيل، لقوله تعالى: (وكان رسولاً نبيئا) .
ومنه الحديث: كنت نبيئاً وآدم بين الماء والطين، يعني في علمه
سبحانه.
فأمّا أنْ يكونَ نبيئا حقيقة وهو غير موجود فلا يتصور، لأن كونه
نبيئاً يدل على وجوده عليه الصلاة والسلام، وكلّ نبيء مخبر، وليس كل مخبر نبيء، إذ لا يجوز استعمال هذا الاسم في غير الأنبياء، وإن كان الخبر صادقاً.
__________
(1) لا يخفى ما فيه من الإسرائيليات.

(2/534)


(نظر) :
له معنيان من النظر، والانتظار، ومن الانتظار يتعدّى بغير حرف.
ومن نظر العين يتعدى بـ إلى، ومن نظر القلب يتعدّى بـ في.
(أنْدَادا) :
جمع ند، وهو المضاهي والمماثل والمعاند، والمراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله، والمقصود الأعظم منها الأمر بتوحيد الله، وترْك ما عُبد من دونه، وذلك هو الذي يترجم عليه بقولنا: لا إله إلا الله.
فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد، وقول لا إله إلا الله الذي تنَزَّهَتْ عن سمة الحديث ذاته، ودَلَّت على وحدانية آياته، الأول الذي لا بداية لأزليته، الآخر الذي لا نهاية لسَرْمَدِيّته، الظاهر الذي لا شك فيه، الباطن الذي ليس له شبيه، كلَّم موسى بكلامه القديم المنزّه عن التأخير والتقديم لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، ولا بحروف ترجع، كل الحروف والأصوات والنداء محدثة بالنهاية والابتداء، جلّ ربنا وعلا وتبارك وتعالى.
(نكلالاً) :
عقوبة لما تقدم من ذنوبهم وما تأخّر.
وقيل عبرة لمن تقدم وتأخر، والمراد بهم في البقرة أصحاب السبْتِ، ليتعظَ بهم من يأتي بعدهم.
وأما قوله تعالى: (فأخذَه اللَّهُ نَكالَ الآخرةِ والأولى) .
فالمعنى أنه غرقه في الدنيا ويعذبه في الآخرة.
وقيل الآخرة قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) .
والأولى قوله: (ما عَلِمْتُ لكم مِنْ إلهٍ غيري) .
وقيل بالعكس.
والمعنى أخذه الله وعاقبَه على كلمته الآخرة وكلمته الأولى.
وروي أنه لما ادَّعَى الربوبية أراد جبريل أن يعذّبه ويخسف به الأرض، فرجع
إلى ربه في شأنه، فقال له: مهلاً يا جبريل، فإنما يستعجل بالعذاب مَنْ يخاف
الفوت، وكذلك العبد العاصي إذا أسرف على نفسه يتوقع من الله العذاب
والمِحْنَة، فينعطف الله عليه بالمحبة والمعرفة.
وقيل: إن الله أمهله أربعين سنة: عَشرة لبِرِّه بوالديه، وعشرة لبره بالطعام.
حتى إنه اتخذ إبرة من ذهب يلتقط بها ما يسقط منه، وعشرة لسخائه وكرمه

(2/535)


وعشرة لتضرعه إلى الله وتمرّغه في الرماد، ويقول: يا رب، إنَّ حبّ الدنيا قد غلب عليَّ وأنا أعلم أنك ربّ الكل (1) .
(نَنْسخ مِنْ آية أو نُنْسِها) :
من النسيان، وهو ضد الذكر، أي ننسها النبي - صلى الله عليه وسلم - بإذن الله، كقوله: (سسقْرِئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) .
أو بمعنى الترك، فتركها غير منزّلة عليك أو غير منسوخة.
وقرئ بالهمز بمعنى التأخير، أي نؤخر إنزالها أو ننسخها.
وقد قدمنا الكلام في الناسخ والمنسوخ.
وقرئ بضم النون، أي نأمر بنسخه.
(نَبْتَهل) :
من اللعنة، نقول: لعنَةُ الله على الكاذب منّا ومنكم.
هذا أصل الابتهال، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن
لعنة.
ولما نزلت الآية أرسل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نصارى نَجْران ودعاهم إلى المباهلة، ودعا بعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، فلم يقدروا على المباهلة لعلمهم أنهم على الباطل، وأعطوا الجزية على البقاء في دينهم.
(نَطْمِسَ وجوها) :
نمحو ما فيها من عَيْن وأنْف وحاجب، حتى تصير كالأدبار في خُلوّها عن الحواس.
(نلعنهم كما لعَنّا أصحابَ السبْتِ) .
أي نمسخهم كما مسخنا أصحابَ السبت الذين قلنا لهم: (كونوا قِرَدة خاسِئين) ، أو يكون من اللعن المعروف، والضمير يعود على الوجوه، والمراد
أصحابها، أو يعود على الذين أُوتوا الكتاب على الالتفات.
قال شَهْر بن حَوْشَب، عن كعب الأحبار: كان أبي من مؤمني أهلِ التوراة
برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان من عظمائهم وخيارهم، وكان من أعلم الناس بما أنزل الله في التوراة وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عني شيئاً، فقال لي يوماً: يا بني، إني قد حضرتني الوفاة، وقد علمت أني لم أدّخر عنك شيئاً مما كنْت أعلم، غير ورقتين
__________
(1) العجب كل العجب كيف يذكر العلامة الحافظ السيوطي - رحمه الله - هذا الهراء دون أن يتعقبه؟؟!!!

(2/536)


ذكر فيهما النبي المبعوث، وقد أظَلّ زمانه، وكرهت أن أخبرك بذلك.
ولا آمن عليك بعد وفاتي من بعض هؤلاء الكذّابين فتتبعه، وقد قطعتهما من
كتابك، وجعلتهما في هذه الكوة التي ترى، وطينت عليهما، فلا تتعرض لهما ولا تظهرهما زمانَك هذا، وأقِرَّهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي، فإذا خرج فاتّبعه، وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بذلك خيراً كثيراً.
فلما مات والدي لم يكن أحبّ إليّ من انقضاء المأتم، حتى أنظر ما في
الورقتين، فلما انقضى المأتم فتحت الكوّة، ثم استخرجت الورقتين، فإذا فيهما: "محمد رسول الله خاتم النبيين، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، ليس بفَظّ ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمّادون الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال، وتذلّل ألسنتهم بالتكبير، وينصر الله نبيهم على كل مَنْ ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء، ويأتزرون على أوساطهم، وأناجِيلهم في صدورهم، وهم يأكلون قرْبانهم في بطونهم، ويؤجرون عليها، وتراحمهم بينهم تراحم بني الأب والأم، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون والشفّع لهم.
فلما قرأت هذا قلت في نفسي: واللَه ما علمني شيئاً خيراً لي من هذا.
فمكثت بهذا ما شاء الله، حتى بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيني وبينه بلاد بعيدة، لا أقدر على إتيانه.
وبلغني أنه خرج بمكة فهو يظهر مرة ويستخفي أخرى، فقلت: هو هذا.
وتخوّفت ما كان والدي خوّفني وحذّرني من الكذابين، وجعلت أحبّ أن أتبين
وأتثبت، فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة، فقلت في نفسي: إني لأرجو أن يكون إياه، وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يقَدَّر لي، حتى بلغني أنه توفي صلوات الله وسلامه عليه، فقلت في نفسي: لعله لم يكن الذي كنْت أظن.
ثم بلغني أنَّ خليفته قام مقامه، ثم لم ألبث إلا قليلاً حتى جاءتنا جنودة، فقلت

(2/537)


في نفسي: لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر؟ وكيف سيرتهم وأعمالهم، وإلى متى تكون عاقبتهم.
فلم أزل أدْفَع ذلك وأؤخره لأتبين وأتثبت، حتى قدم عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، فلما رأيْتُ صلاةَ المسلمين وصيامهم ووفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء علمتُ أنهم هم الذين كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في الإسلام، فوالله إني ذات ليلة فوق سطح لي إذ رجل من المسلمين يقرأ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) ، فلما سمعتها خِفْتُ ألا يصبح حتى يحول الله وجهي من
قفاي، فلما أصبح غدوتُ على عمر، فأسلمت حين أصبحت.
وقال كعب لعمر عند انصرافه إلى الشام: يا أمير المؤمنين، إنه مكتوب في
كتاب الله إن هذه البلاد التي فيها بنو إسرائيل مفتوحة على يَدِ رجل من
الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، سِرُّه مِثْل علانيته، وعلانيتة مثل سره، لا يخالف قوله فعله، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء، وأتباعه رهبان بالليل أسود بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون.
فقال له عمر: ثَكلَتْك أمُّك! أحقٌّ ما تقول، قال: أي والذي أنزل التوراةَ
على موسى، والذي يسمع ما نقول، إنه لحقٌّ.
فقال له عمر: الحمد لله الذي أعزنا وشرفنا، وأكرمنا ورحمنا بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبرحمته التي وسعت كل شيء.
(نَقِيرا) :
هو النقرة التي في ظَهْر النّواة، وهو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء، ويبخلون بما هو أكثر منه من باب الأوْلى.
(نَطِيحة) :
هي التي نطحتها بهيمةٌ أخرى حتى ماتت.
(نَقِيباً) :
هو نَقيب القوم القائم بأمورهم.
(نَعَم) :
هي الإبل والبقر والغنم خاصة، وجمعه أنعام، لا واحد له من لفظه.

(2/538)


(نَفَقاً في الأرض) ، أي منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض.
وهذه الآية في سيدنا ونبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان شديدَ الحِرْص على إيمان قومه، فقيل له: إن استَطعْتَ أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء لتأتيهم بآية يؤمنون بسببها فافعل، وأنت لا تقدر على ذلك، فاستسلم لأمر الله.
(نَبأ) : خبر.
ومنه اشتق النبيء بالهمز، وترك الهمز تخفيف.
وقيل: إنه عند من ترك الهمز مشتق من النبوة، وهي الارتفاع.
(نَصْر) :
بالصاد معروف، وبالسين اسم صنم.
ومنه: (يَعُوق ونَسْرا) ، واسم طائر أيضاً.
(نَكد) : عسر.
وقيل: أربع كلمات في أربعة كتب:
في التوراة الحسود يموت كمداً.
وفي الإنجيل البخيل تأكل ماله العدا.
وفي الزّبور: الظالم لا يفلح أبدًا.
وفي الفرقان: (وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) .
(نَتَقْنا الجَبلَ فوقهم) ، أي رفعناه، والضمير لبني إسرائيل، يعني أن الله قال لهم: خذوا التوراة، فأبوا من أخذها، فاقتلع الجبَل ورَفَعه فوقهم كأنه ظلّة.
ومنه قولهم: نتَقَت المرأةُ إذا أكثرت الولد.
وأين هؤلاء القوم من هذه الأمة المحمّدية، حيث أخذوا الكتابَ بقوة.
فصاروا يَتْلُونه آناءَ الليل والنهار، قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خَلْقِ السماوات والأرض، ولهذا أكرمهم الله بخصال مثَنَّيات لم يُعْطِها غيرهم: مكة، والمدينة، والقبلة اثنان: الكعبة وبيت المقدس.
والدعاء. اثنان: الأذان والإقامة، والجهاد اثنان: مع الكفار، والمنافقين.
والصبر اثنان: مع الله بالرضا ومع الأمة بالنفس.
والدعاء اثنان: في الدنيا: ربّنا لا تؤاخذنا.

(2/539)


وفي الآخرة: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) .
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) .
والشفع والوتر، والليالي العشر.
وهذه كلّها خاصة بهذه الأمة المحمدية، ولهذا أخَّر اللهُ حسابَ الأمم كلها
إلى يوم القيامة، وحرّم الجنة على سائر الأمم حتى يدخلها هو - صلى الله عليه وسلم - وأمّته، لأنها دارهم.
ولما أخذوا الكتابَ بقوّة ورِضاً سهّله اللهُ عليهم، ويسَّرَه لهم، ختى إن منهم
من يختمه في كلّ ساعة، ومنهم من يختمه اثنا عشر ألف بالليل، واثنا عشر ألف بالنهار، وأعظم من ذلك أنَّ الله سهَّل حِفْظَه - عليهم، حتى أن حبيباً حفظه وهو ابن خمس سنين، وآخر حفظه في النوم، وأعطاهم إجابة الدعاء عند خَتْمِه، وقَرّبهم عند السجود له، وذكَّرهم بالفلاح إذا أنفقوا أموالهم، واشترى منهم أنفُسَهم، والهداية إذا جاهدوها، وقبل التوبة إذا وافقوها، والكفاية إذا توكلوا عليه، والزيادة من النعم إن شكروه، والإجابة إذا دعوه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وغفر لهم قبل أن يستغفروه.
(نكَصَ على عَقِبيه) .
أي رجع إلى وراء، وهو إبليس لمّا تصور لقريش حين خرجوا إلى بدْر على صورة سراقة بن مالك، وقال لهم: إني جارٌ لكم مِن قَوْمي، وأنصركم بجندي، فلما رأى الملائكة َ خاف ورجع القهقرى، وقال: إني أرى ما لا تَرَوْن.
(نجَس) :
كل ما ينجس، وسَمَّى اللهُ الكافر بأنه نجس لكُفْره، وقيل لجنابته فيُمنع من دخول المسجد.
وأباح الشافعي دخوله في كل مسجد ما عدا المسجد الحرام، وأباح أبو حنيفة دخولَ المشركين المساجد ما عدا المسجد الحرام، وأباح دخول أهلِ الكتاب في المسجد الحرام.
وقاس مالك على المشركين سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم.
وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد في مَنْع جميع الكفار من جميع المساجد.

(2/540)


(نسيء) :
هو في اللغة الزيادة.
ومعنى: (إنما النَّسِيء زيادة في الكفْر) ، أنَّ العرب كانوا أصحاب حروب وغارات، فشقّ عليهم تَرْكها في الأشهر الحرم، لأنها كانت محرّمة عليهم، فيحرمون شهراً آخر بدلاً من الشهر الحرام.
وربما أحلّوا الحرم وحرموا صفر، حتى يكملوا في العام
أربعة أشهر محرمة.
(نخوض ونلعب) :
من كلام وديعة بن ثابت، بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: هذا يريد أنْ يفتتح قصور الشام، هيهات هيهات! فسأله عن
ذلك، فقال: كُنَّا نخوض ونلعب.
(نَقَموا) ، كرهوا غايةَ الكراهة، أي عابوا الغنى الذي كان
حقّه أن يشكروا عليه، وذلك في الجلاس أوْ فِي عبد الله بن أبيّ.
(نَسوا اللَهَ فنَسِيهم) ، أي غفلوا عن ذكره فتركهم من
رحمته وفَضْله.
(نَكِرَهم) : وأنكرهم واستنكرهم بمعنْى واحد.
وضمير الجمع يعود على الرسل الذين جاؤوا إبراهيم فقدّم لهم الطعام، فخاف منهم لما لم يأكلوا طعامه.
(نَدير) : منذر.
وأنذر أعلم بالمكروه قَبْل وقوعه. والمنذرين.
وكيف كان عذابي ونذر، فهو مصدر. والنذير بغير ألف، ومنه: أعْذَر ثم أنذر.
وليوفوا (نذورهم) .
(نرتع ونلعب) : بالنون، فهو ضمير إخوة يوسف، وإنما
قالوا (نلعب) لأنهم لم يكونوا حينئذٍ أنبياء.
وقيل: إن اللعب من المباح لتعلّم القتال كالمسابقة بالخيل.
ومن قرأه بكسر العين فهو من الرّعي، أي من رَعْي الإبل، أو ممن رعي
بعضهم لبعض ومواساته.

(2/541)


ومن قرأه بالإسكان فهو من الرتع، وهو الإقامة في الخصب والتنعم.
والتاء على هذا أصلية، ووزن الفعل يفعل، ووزنه على الأول نفتعل.
ومن قرأ (يرتع ويلعب) - بالياء فالضمير ليوسف.
(نَسْتَبِق) ، أي نجري على أقدامنا لننظر أيّنا يسبق، أو من
المسابقة في الرمي.
(نتَّخِذه ولدا) : من قول العزيز الذي اشتراه بوَزْنه ذهباً، يعني نتبنّاه.
(نَاجٍ منهما) ، أي من الساقي، والذي رآه أنه يعصر
الخمر، يعني أن يوسف قال للذي ظن أنه ينجو: اذكرني عند ربك.
والظن هنا بمعنى اليقين، لأن قوله: (قُضِي الأمرُ) - يقتضي ذلك.
أو يكون على بابه، لأن عبارة الرؤيا ظن، وذلك أن رسولَ الملك جاء هذا الساقي بعد ثلاثة أيام، وأخرجه من السجن، وخلع عليه، وذهب به مكرَّماً إلى الملك، فقال له يوسف عند خروجه: (اذكرني عند ربك) ، فتزلزلت الأرض، وانشقَّ الجِدار، وجاء جبريل، وقال: يا يوسف، إن الله يقول لك: مَنْ حَبَّبَك في قلب يعقوب؟
فقال: ربي.
ومن أنجاك من يَدِ إخوتك؟
قال: ربي.
قال: ومن حفظك في قعر الجب؟
قال: ربي.
ومن أعشق فيك زليخا؟
قال: ربي.
ومن أنْجاك من كيدها؟
قال: ربي.
فقال جبريل: إنَّ ربّك أحسن إليك هذا الإحسان فأيّ عجز رأيت منه حتى استغَثْتَ بالملك؟
يا يوسف، إن جدك إبراهيم لم يستغث بجبريل حين قال له: هل لك من حاجة، فقال: أمّا إليك فلا، وجَدّك إسماعيل لم يستَغث من إبراهيم وقت القُربان، ولكن قال: (ستَجِدني إنْ شاءَ اللَهُ من الصابرين) .
وأنت لم تصبر في السجن ثلاثة أيام، وتركْتَ استغاثةَ الديان.
فخرَّ يوسف ساجدا، وبكى أربعين يوماً، وقال: إلهي بحرمة جدي إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق، وبحقِّ والدي يعقوب إلاَّ رَحَمْتَني، وتجاوزتَ عني، فجاء
جبريل عليه السلام، وقال: إن الله تعالى يقول: عفَوْت عنك، ولكن حكمتُ ببقائك في السجن سبع سنين.
__________
(1) كلام لا وزن له؛ لما فيه من افتراء على نبي الله يوسف - عليه السلام - والصحيح عند المحققين أن الضمير في قوله تعالى (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) يعود على الذي نجا منهما، وكيف يتصور عوده على يوسف - عليه السلام - وهو لم يغفل عن ذكر ربه طرفة عين، بل سأل الله النجاة من كيد النسوة ولو بالسجن (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وعندما جاءه رسول الملك لم يبادر بالخروج بل قال: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) .

(2/542)


هذا رسول الله ُبِس على كلمةٍ سبع سنين، فكيف بك يا عاص خمسين سنة
أو أكثر، فتفكر بقلب وَاع، كيف يكون حالُك، فإن أردت الحال الحميدة
فعليك بالتوبة والإقلاع، فإن الله أمنك في الدنيا بقوله تعالى: (فلا يخاف ظُلْماً ولا هَضْماً) .
وفي حال النزع: (ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا) .
وفي القيامة: (لا خوف عليكم ولا أنتم تحْزَنون) .
وفي الجنة: (ادخلوها بسلام آمنين) .
(نَكتَل) :
وزنه نفتعل، وهذا من قول إخوة يوسف لأبيهم
حين أرادوا المعَاوَدة إلى الطعام بسبب المجاعة التي كانت ببلادهم.
ورُوي أن جبريل قال ليوسف: إن إخوتك جاءوا إليك فبم تعاملهم، فقال:
آذَوْني كثيراً، ولا أرى إلاَّ العفو والتجاوز.
فقال له: بهذا أمرك الله.
قال بعض العلماء: إخوة يوسف جاءوا إليه ثلاث مرات:
أولاً محتاجين سائلين، فأكرمهم وأعطاهم النعمة، وقال: اجعلوا بِضَاعَتهم في رِحَالهم.
وجاءوا في الثانية متكبّرين فَرِحين (1) ، فرجعوا مغمومين حين قال لهم يوسف: ارْجعوا إلى أبيكم، لأن يوسف كان ملكاً، والملوك لا تحبّ المتكبرين.
وجاءوا في المرة الثالثة بالابتهال والتضرع، فرجعوا فرحين مسرورين، لأن يوسف عليه السلام كان رحيما، والرحيم يحب مَنْ تضرع.
(نمير أهْلَنا ونحفَظُ أخانا ونَزْدَاد كَيْلَ بَعير) :
هذا من كلام إخوة يوسف لما قال لهم: ائتوني بأخ لكم من أبيكم.
فطلبوا من أبيهم، وواعدوه بالميرة وهي سوق الطعام، وواعدوه بحفظ أخيهم لما تقدَّم منهم من الجفاء، وعدم الوفاء، وأخبروه بوفاء الملك لهم إنْ أتوه به، وأعانهم يوسفٍ على ذلك، فجعل البضاعةَ في رحالهم ليكون لهم تقوية على الرجوع إلى مصر مرة أخرى، حتى يرى يوسف أخاه، وكذلك كتم اللَّهُ بضاعة الإيمان في قلب المؤمن ليكون له تقوية للوصول إلى جنته، حتى يرى المولى، فلما سمع يعقوب مقالهم أسْلم لهم بنيامين وأخذ عليهم العَهْدَ: (لَتَاْتنَّنِي به إلا أنْ يُحَاط بكم) ، أي تغلبوا، فلا تطيقون.
__________
(1) لا دليل عليه.

(2/543)


فدخلوا على يوسف وهو على سرير في حجاب، فلما رآه بنيامين تذكر
يعقوب وبكى بكاء كثيرا، ثم أمر الحاجب بسؤالهم عن أبيهم، فسألهم، فقالوا له: هو في البكاء والحزن والتضرع، ثم أمر برفع الحجاب، فسلَّموا جميعا عليه، وأعطاه بنيامين كتابَ أبيه، فأخذه وقَبّله، ثم أرْخَى الستر عليه، وقرأ الكتاب، فإذا فيه الوصية على ولده، وما جرى ليوسف من قبله، فبكى وغيض دَمْعُه، ثم أمر بالطعام فأحضر، وأمرهم بالجلوس مَثْنَى مثنى، من كان لأب وأم مائدة واحدة، فبقي بنيامين وَحيداً فبكى، فسألهم مِمّ بكاؤه، فقالوا: كان له أخ لأمه فأكله الذئب، فقال يوسف: اجلس معي يا فتى، ولا تأكل وحيداً، فلما دنا من يوسفِ ورآه غُشي عليه، فلما أفاق قال له يوسف: (أنا أخوك فلا تَبْتَئس بما كانوا يعملون) .
والنكتة فيه أنَّ بنيامين كان وحيداً متحيّراً غريباً، فقال له يوسف: أنا
أخوك، وموسى كان متحيّراً غريبا، فقال الله له: (إني أنا ربك فاخْلَعْ نعْلَيْك) .
كذلك العاصي إذا تحيَّر في بعض المعاصي والذنوب، يقول الله تعالى: (إني أنا
الغفور الرحيم) - يعني إذا تاب وأقلع.
وقد قدمنا أن الله تعالى وعد بغفران ذنوبه وتبديلها حسنات ومحبّته ودخول
الجنة وفلاحه.
فإن قلت: كيف عرفهم هو ولم يعرفوه، وعرفه بنيامين؟
والجواب أن يوسف كان وفيّاً وإخوته جفاة، فشؤم الجفاء أعمى قلوبهم حتى
لم يعرفوه، لأن الجفاء يمنع المعرفة والصفاء، جفاء يوسف أثَر في قلوبهم حتى لم يعرفوه، فمن جَفَا مولاه سبعين سنة أو أكثر كيف لا يخاف منه أن يسلبه معرفته وقْتَ النزع، قال تعالى: (ونقَلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم ... ) .
وقد صح أن الجفاء يأتي بالغضب، ويذهب بالعفَّة، ويأتي بالمخالفة.
ويذهب بالمراقبة، ويأتي بالمنازعة، ويذهب بالصلح، ويأتي بالفرقة، ويذهب
بالوصلة، ويأتي بالبغْض، ويذهب بالمودة، ويجعل صاحبه أجنبيا، ويذهب
بالصلح.

(2/544)


وقيل: إنما عرفهم لأنهم كانوا على صفتهم التي رآهم يوسف أوَّلاً، ولم يكن
يوسف على الصفة التي كان عليها من الصغر.
وقيل: إن يوسف لم يقطع الرجاء عن رؤيتهم، بل كان يتفكر فيهم، فلذلك
عرفهم، وهم قطعوا الرجاء عن رُؤْيته، فلذلك لم يعرفوه.
والإشارة فيه أنَّ قَلْبَ العبد إذا كان مشغولاً بمحبة الرب عرفه من غير
رؤية.
وقلب الكافر كان مشغولاً بمحبة الصنم فلذلك لا يعرفه حين يرى الدلائل
الظاهرة.
وقيل: إنه كان مُتَبَرْقِعاً، فلذلك لم يعرفوه، ودخلوا عليه وهو على هيئة
عظيمة من الملك (1) .
وقصته من أولها إلى آخرها عجيبة، كما قال تعالى: (آياتٌ للسائلين) .
قد تكفل بجمعها وما فيها من النكت والإشارات والفوائد الإمام الهمداني وهو
عجيب لمن تأمّله.
(نَزغً الشيطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوتي) ، أي أفسد وأغوى.
وإنما قال يوسف هذا القول لما رأى من لطف الله تعالى، حيث أضاف الكذب
إلى القميص، فتأدَّب وأضاف ذَنْبَهم إلى الشيطان والإخوة إلى نفسه، ولم يَنْفِهِم عن نفسه، لكيلا يهتك أستارهم، وتسوء ظنونهم.
وكذلك قال الله تعالى: (إنما استَزَلَّهم الشيطانُ ببَعْض ما كَسَبُوا) .
حتى تتأدب الملائكة بذلك، فلا يذكرون في القيامة زلّتك ولا يهتكون سترك.
(نَار السَّموم) : أي حرها.
وهذا من قول إبليس بزَعْمِه الفاسد أن النار أقوى من الطين، وليس كذلك، بل هي في درجة واحدة من حيث هي جاد مخلوق، فلما ظنَّ إبليس أن صعودَ النار وخفّتها تقتضي فَضْلاً على سكون الطين وبلادته قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق من الطين، فأخطأ قياسه، وذهب عنه أن الروح الذي نفخ في آدم ليس من الطين.
__________
(1) أكثر ما ذكر في قصة يوسف - عليه السلام - من أباطيل وأكاذيب بني إسرائيل.

(2/545)


وهذا التعليل يقتضي الاعتراض على الله تعالى في أمره بسجود الفاضل
للمفضول على زَعْمه، وبهذا الاعتراض كفر إبليس، فكفْرُه كفرٌ مجرد.
قيل: إن لجهنّم سموم، ولسمومها نار تكون بين سماء الدنيا وبين الحجاب
وهي النار التي تكون منها الصواعق.
(نَفيرا) : أي عدداً.
وهو مصدر من قولك: نفر الرجل إذا خرج مسرعاً، أو جمع نفر.
(نَأى بِجَانِبه) :
أي بعد، وذلك تأكيد وبيان للإعراض.
وقرئ ناءَ ونأى، وهما بمعنى واحد.
ويقال النأي الفراق، وإن لم يكن ببُعد.
(نَفِد البَحْرُ) : فني.
ومعنى الآية: لو كتب عِلْمُ الله بمداد البحر لنَفد البَحْر ولم ينفد علم الله، وكذلك لو جيء ببحر مثله كما قدمنا.
(نادى ربَّه) : أي دعاه.
والضمير لزكريا، وإنما ناداهُ حين رأى من مريم الكرامات التي ذكر اللهُ، من وجود فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فحينئذٍ طلب الولد فأجابه الله بيحيى.
(نَدِيًّا) .:
قد قدمنا أنَّ الكفار قالوا للمؤمنين: نحن خير منكم
مقاما وأجلُ مجلساً، فنحن أكرم على الله منكم.
(نُمِدّ له مِنَ العذاب مَدًّا) .
قد قدمنا أنها في العاصي بن وائل.
والمعنى نزيد له في العذاب، ونرثه الأشياء التي قال إنه يُؤتاها
في الآخرة، وهي المال والولد، ووِراثتها بأن يهلك ويتركها.
وقد أسلم ولداه هشام وعمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) .
قد قدمنا أن الحشر على خمسة معان: حشر الميثاق: (وإذ أخذ رَبُّك مِنْ بَنِي آدم) .
وحَشر التصوير: (يخرجُ مِنْ بَيْنَ الصُّلْب والتَّرَائِب) .
وحشر البرية، (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) .

(2/546)


وحشر الخدمة: (وإذَا بلغ الأطفالُ منكم الحُلُم) .
وحشر الكرامات: (يوم نحشر المتقين) .
والمراد بالمتقين هنا من اتَقى الشرك والنفاق.
وقيل في المتّقي أقوال، والظاهر أنهم
الممتثلون ما أمرهم الله وانتهوا عما نهوا عنه.
وقد قدمْنَا ما أكرمهم اللهُ في الدنيا والآخرة.
ْفإن قلت: ما الحكمة في ذكر الحَشْر للمتقين، وخصوصيتهم للرحمن لهم
والسوق إلى المجرمين وخصوصيتهم لجهنم؟
فالجواب أن الحَشْر مع الرضا والاختيار، والسوق مع الكراهية والسخط.
والحشر للكرامة والأمانة والعلم.
والسوق للجهد والإهانة.
ولما كان الرضوان والسلام والرؤية والخلود للمتقين، وهو أكبر من الجنة خصَّهم بذكر الرحمن، لأن شوقهم إليه ورجاءهم فيه، فدلهم إليه لتسكنَ نفوسهم.
ولما كان عند المجرمين الخوف من عقوبة النار لا مِنْه، لأنهم لم يعرفوه ذكرهم بما هو أشد عليهم، وهي جهنم، ولو عقلوا لعلموا أنَّ نار القطيعة أشدُّ من القطيعة، لكنهم خُوّفوا بما هو معقول عندهم، فسبحان مَنْ خاطب عباده بما يفهمونه، خاطب المطيعَ بما هو مشتاق إليه، وخاطب العاصي بما يخافه، وعلى هذا هو أسلوب القرآن العظيم.
(وما يعْقِلُها إلا العالمون) .
(نَنْسِفَنّه في اليَمِّ نَسْفا، أي نلقيه في البحر تفريق الغبار ونحوه.
والضمير يعود على العِجْل المتَخَذ من أثر فَرَسِ جبريل.
(نَبَذْتها) ، أي ألقيتها على الحلي، فصار عجلاً، وعلى العجل
فصار له خُوَار.
(نَقصُّ عليكَ من أنباء ما قَدْ سبق) :
يعني من أحوال المتقين، لنثبِّت به فؤادك، ولذلك قال له في سورة يوسف: (نَقُصّ عليك أحسن القصص) .
والقصص يكون مصدر أو اسم مفعول بمعنى المقصوص، وإن أريد به هنا
المصدر فمفعول (نَقُصُّ) محذوف، لأن ذكر القرآن يدلّ عليه.
قيل سبب نزول هذه الآية أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مرفوعاً مكرَّماً، فحسده أهلُ

(2/547)


مكة، كذلك يوسف كان مكرما عند أبيه.
والإشارة فيه كأنَّ الله يقول: يا محمد إخوة يوسف جعلوه كذّاباً فصيَّرْتُه ملكاً عليهم، وسجدوا له، كذلك أقهر أعداءك واصَيِّرهُم عبيدا بين يديك شرقاً وغربا، وكذلك الشيطان يحسدُ أمَّتك على ما أنعمت عليهم من محبتك واتباعك، فأصيرهم يوم القيامة ملوكاً كراما، وأقهر عدوهم وحسَّادهم حتى يقولوا (يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) .
(نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) :
بموت الناس، وهَلاكِ الثمرات، وخراب البلاد، وشبه ذلك.
وقيل: بموت العلماء منها، أو بما فتح الله على المسلمين منها باستيلاء الكفَّار عليها لقوله: (أفَهُمُ الغالبون) .
(نَضَعُ الموازِينَ القِسْطَ ليَوْم القِيَامة) :
قد قدمنا معنى وَضْعها، وإنما أفرد (القِسْطَ) وهو صفة للجمع، لأنه مصدر وُصف به كعَدْل ورضا، أو على تقدير ذوات القسط.
وقد قدمنا أيضاً أن لكل شخص ميزاناً لجمعه، أو إنما جمعه باعتبار الكفتين واللسان، أو باعتبار الموزونات.
(نفحةٌ مِن عذاب رَبِّك) ، أي قطرة.
وفيها تقليلُ العذاب.
والمعنى أنهم لو رأوا أقل شيء من عذاب الله لأذْعَنُوا واعترفوا بذنوبهم.
(نافلة) : أي عطية.
والتنفيل: العطاء.
وقيل سمّاه نافلة لأنه عطاء بغير سؤال، فكأنه تبرع.
وقيل الهبة إسحاق، والنافلة يعقوب، لأنه سأل إسحاق بقوله: هَبْ لي من الصالحين، فأعطي يعقوب زيادة على ما سأل، ولهذا اختار بعضهم الوقْفَ على إسحاق لتباين المعنى.
وهذا ضعيف، لأنه معطوف على كلّ قول.
(نادى مِنْ قَبْل) :
أي دعا نوح قبل إبراهيم ولوط.
(نَصَرْنَاه مِنَ القَوْم) :
إنما تعدَّى نصرناه بـ (مِن) ، لأنه مطاوع انتصر المتعدي بمن، أو تضمن معناه نجَّيناه أو أجرناه.
(نَفَشَتْ) :
رَعَتْ فيه لَيْلاً، والضمير راجع إلى قصة

(2/548)


الرجلين المتخاصمين إلى داود، دخلت غنم أحدهما في زَرْع الآخر بالليل.
وأفسدته، فقضى داود بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم.
ووَجْه هذا الحكم أنَّ قيمة الزرع مثل قيمةِ الغنم، فخرج الرجلان على
سليمان، وهو بالباب، فأخبراه بما حكم أبوه، فدخل عليه فقال: يا نبي الله، لو حكمت بغير هذا كان أرفق بالجميع.
قال: وما هو، قال: يأخذ صاحب الغنم الأرْض ليصلحها حتى يعودَ زَرْعُها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنَم ينتفع بألبافها وصوفها ونَسْلِها، فإذا كمل الزرع رُدَّت الغنم إلى صاحبها والأرض بزَرْعها إلى رَبِّها.
فقال له داود: وفِّقْتَ يا بُني، وقضى بينهما بذلك.
ووجه حكم سليمان أنه جعل حكم الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الزرع.
وأوجب على صاحب الغنم أنْ يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان.
ويحتمل أن يكون ذلك إصلاحاً لا حكماً.
واختلف الناس، هل كان حكمهما باجتهاد أو بوحي؟
فمَنْ قال كان باجتهاد أجاز الاجتهاد للأنبياء.
وروي أن داود رجع عن حكمه لما تبَيّن له أن الصواب خلافه.
وقد اختلف في جواز الاجتهاد في حق الأنبياء، وعلى القول بالجواز اختلف:
هل وقع أم لا.
(نَقْدِرَ عليه) :
أي نُضيق عليه، فهو من معنى قوله: (ومَنْ قُدِرَ عليه رِزْقه) .
وقيل هو من القدر والقضاء، أي ظن أن لن نَقدر عليه بعقوبته.
ولا يصح قول من قال: إنه من القدرة.
والإشارة فيه كأنه يقول: يا عبدي لما خرج يونس خروجَ غَضب، فنادى
فأنجيته، كذلك إذا خرجت لي خروج غضب من ذنوبك، فتلوم نفسك.
أنجيتك من همومك، وأقول لك: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) .

(2/549)


ولما خرج إبراهيم خروجَ أدب، فقال: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) فألبسته
لباس الخلَّة، وبردت عليه النار، كذلك عبدي الصالح يخرج من بطنه خروجَ
أدب، فأنعم عليه بالعلم والمعرفة، وأبرد عليه نيران الكفرة، (ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان) الآية.
وكما أن موسى خرج خروج هرَب خائفاً يترقب، وكذلك العبد يخرج من
الدنيا خروجَ مَنْ يهرب من الشيطان كيوم يسمعون الصيحة بالحق.
وكما آنست موسى بابْنَةِ شعيب في دارِ غربة، كذلك أونسك في القبر وأريك مقامك من الجنة.
وكما أن لوطاً خرج خروج طرب، فسرى بأهله، كذلك العَبْد يخرج من القَبْر خروجَ طرب، لأنه يخرج لإيمانه الذي كان يرتجيه ولحفظته الذين كانوا
يؤنسونه، وكما أنجيت لوطاً وقومه من العذاب كذلك أنجي المؤمنين وأعذّب
الكافرين.
(نَكِير) .: مصدر بمعنى الإنكار.
(نبّئ عبادي) .
الآية فيها ترجية وتخويف، وقد قدمنا سر (الغفور الرحيم) ، و (العذاب الأليم) ، فرجاء الخلق إلى نفسه، وخوفهم من عذابه.
(نصيبكَ مِنَ الدّنيا) .
أي حظَّك فيها.
واختلف ما المراد بهذا الحظّ، فقيل: حظّه منها ما يَعْمَل فيها من الخير.
فالكلام على هذا وعظ.
وقيل التمتّع بها مع عَمَله للآخرة، فهو على هذا إباحةٌ
للتمتع بالدنيا لئلا يَنْفِرَ عن قبول الموعظة.
ومنه الحديث: اعمَلْ لدنياك كأنك تعيش أَبداً ولأخراك كأنك تموت غداً.
وفي الحديت أيضاً: العاقل لا يُرَى مشتغلاً إلا في دِرهم لمعاشه، وعمل لمعاده.
(ناديكم) : مجلسكم.
والمراد بهم قوم لوط، لإذايتهم الناس بأقوالهم وأفعالهم.
(نَسْلَخ منه النهار) ، أي نجرده منه، وهو استعارة.

(2/550)


(ننكِّسْه) : نردّه.
(نَحِسات) : معناه من النحس، وهو ضدّ السعد.
وقيل شديدة البرد.
وقيل متتابعة.
والأول أرجح.
وروي أنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء.
وقرئ بإسكان الحاء وكسرها، فأما الكسر فجَمْع نحس، وهو صفة.
وأما الإسكان فتخفيف من الكسر، أو صفة على وزن فعل، أو وصف بالمصدر.
وفي الحديث: آخِر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر.
(نَعْمَةٍ) - بفتح النون: هي النفع العاري من كلّ ضرر
يوازيه، ويدعى عليه، يقال أنعم عليه فلان، وأنعم الله على فلان: إذا فعل به ما لا يتعقبه ضرر وهلاك، ولا يقال أنعم عليه وإنْ نفعه في الحال.
(نَسْتَنْسِخ ما كنْتم تَعْمَلون) : أي نأمر الحفَظَة بكتابة أعمالكم.
وقيل: إن الله يأمر الحفظة أن تنسخ أعمال العباد من اللوح المحفوظ، ثم
يمسكونه عندهم، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك، فتكتبها أيضاً الملائكة.
فذلك هو الاستنساخ.
وكان ابن عباس يحتجُّ على ذلك بأن يقولَ: لا يكون الاستنساخ إلا من
أصل.
وفائدة كتب الحفظة الاحتجاج عليهم في الآخرة، كما صح أنَّ بعض
العباد ينكر كتبها عليه، فيُنْطق الله جوارحَه بتصديقهم.
وفي الحديث: إن الحفظة تصعد بعمل العبد، ويقابلونه باللوح المحفوظ.
فيجدونه سواء، وتكتب عليه سيئة فلا يجدونها فيخجلون من ذلك، ويقول الله:
قد بلغت ندامة قلبه واستغفاره إليَّ قبل صعودكما، فذلك قوله تعالى:
(يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) .
(نَقَّبوا في البِلاد) ، أي طافوا فيها، وأصله دخولها من أنقابها، ومن التنقيب عن الأمر، بمعنى البَحْث عنه.

(2/551)


(نجم) : مشتق من التنجيم، وهو جِنْس.
واختلف ما المراد بقوله: (والنجم) ، فقيل: هو الثريا، لأنه غلب عليها التسمية بالنجم.
ومعنى هَوَى غرب أو انْتَثر يوم القيامة.
الثاني أنه جنس النجم.
ومعنى هوى انقضّ برَجمْ الشياطين.
وقيل: إنه من نجوم القرآن، وهوى على هذا معناه نزل.
وأما (النَّجْم الثّاقب) فهو من أسمائه عليه الصلاة والسلام.
وقيل: زحل، لأنه أرفع النجوم، إذ هو في السماء السابعة.
(نَذِير من النُّذُرِ الأولى) :
قد قدمنا أن النذير هو المخبر، والمراد به القرآن.
والنّذُر الأولى: من نوعها وصفتها.
(النجم والشَّجَر) :
قال ابن عباس: هو النبات الذي لا ساق له، كالبقول.
والشجر: الذي له ساق.
وقيل: النجم: جنْسُ نجوم السماء.
والسجود عبارة عن التذلّل والانقياد، وقيل سجود النجم غروبه، وسجود
الشجر بظلّه.
(نَضَّاختان) ، أى يفوران بالماء.
والمراد بهما العينان الجاريتان.
وانظر كيف جعل أوصاف هاتين الجنتين أدنى من أوصاف الجنتين
السابقتين، لأنه قال فيهما: (عَيْنَان تجريان) .
وقال في الأخْرَيَيْن: (عَيْنَان نضّاخَتان) .
والجَرْي أشد من النَّضْخ.
وقال: (فيهما من كل فاكهةٍ زَوْجان) .
وقال هناك: (فيهما فاكهة ونَخْلٌ ورمان) .
وكذلك صفات الحُور هنا أبلغ من صفاتها هناك، وكذلك صفات البسط.
ويفسرُ ذلك قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما".

(2/552)


(النشأةَ الأولى) :
هذه الحياة، والنشأة الأخرى البعث من القبور.
والمقصود بذكرها التنبية على أنَّ الله قادر على أن يبعثهم، ففيها تهديد
واحتجاج على البعث.
(نجوى) .: سرار، كقوله تعالى: (إذ هم نَجْوى) ، أي متناجون.
ومنه: (لا تتناجَوْا بالإثم والعُدْوان) .
(إنَّما النَّجْوَى مِنَ الشيطان) .
(نَصوحا) ، أي خالصة، من قولهم، عسل ناصح: إذا خلص من الشمع.
قال عمر بن الخطاب: التوبة النصوح هي أن يتوب من الذّنْب، ثم لا يعود
إليه أبدا، ولا يريد أن يعود.
وقيل: هي أن تضيق على التائب الأرض بما رَحُبت، كتوْبة الثلاثة الذين
خُلّفوا.
وقال الزمخشري: وُصِفت التوبة بالنّصح على الإسناد المجازي، والنصح في
الحقيقة صفةُ التائبين، وهي أن ينصحوا بالتوبة.
وهي واجبة على كل مكلف بالكتاب والسنة والإجماع.
وفرائضها ثلاثة: الندم على الذنب من حيث عصي به ذو الجلال، لا من
حيث أضرّ ببدن أو مال.
والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا تَوَانٍ.
وَالنية ألاَّ يعود إليه أبداً ومهما قضي عليه بالذنب أحدث عزماً مجدداً.
وآدَائها ثلاثة: الاعتراف بالذنب مقروناً بالانكسار.
والإكثار من التضرع والاستغفار.
والإكثار من الحسنات.
ومراتبها سبع: فَتوبة الكفار من الكفر.
وتوبة المخْلصين من الذنوب الكبائر.
وتوبة العدول من الصغائر.
وتوبة العابدين من الفترات.
وتوبة السالكين من علل

(2/553)


القلوب والآفات.
وتوبة أهل الورع من الشبهات.
وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات.
والبواعث على التوبة سبعة: خوف العقاب.
ورجاء الثَّوَاب.
والخَجَل من الحساب.
ومحبّة الحبيب.
ومراقبة الرقيب.
وتعظيم المقام.
وشكر الإنعام.
(نَفَرٌ من الجِنِّ) :
النفر ما بين الثلاث إلى العشرة.
وروي أنهم كانوا سبعة، وكانوا كلّهم ذكراناً، لأن النفر الرجال دون النساء، وكانوا من أهل نصّيبين.
وقيل: من أهل الجزيرة.
وقد قدمنا أنه رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستعدّ لهم، واجتمع معهم.
وقيل: إنه لم يرهم، ولم يعلم باستماعهم، حتى أعلمه الله بذلك، ولعلها قضايا مختلفة، وقد وردت في ذلك أحاديث مضطربة.
وسبب اجتماعهم أنهم لما طرِدوا عن استراق السمع من السماء بِرَجْم النجوم
قالوا: ما هذا إلا لأمْرٍ حدث، فطافوا في الأرض ينظرون ما أوجب ذلك.
حتى سمعوا قراءتَه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر في سوق عكاظ، فاستمعوا إليه، وآمنوا.
(ناشئة الليل) :
قال ابن عباس: ناشئة الليل: قليل الليل - بالحبشية.
وقيل ساعاته كلّهن.
وقيل: ما بين المغرب والعشاء.
وقيل: القيام أول الليل بعد العشاء.
وقيل: النفس الناشئة بالليل، أي تنشأ من مضجعها، وتقوم للصلاة.
وقيل: الجماعة الناشئة الذين يقومون للصلاة.
وقيل: العبادة الناشئة بالليل.
وقيل: الناشئة القيام بعد النوم.
فمن قام أوَّل الليل من قبل أن ينام فلا يقال له: ناشئة.
(ناظرة) : بالظاء من النظر، ومنه: وجوه يومئذ ناظرة.
وبالضاد من التنعم، ومنه: (ناضرة) .
وأما: (نَظِرة إلى مَيسرة) ، فمعناه التأخير إلى حال اليُسْر.

(2/554)


وهذه الآية نَصّ في رؤية مولانا جلّ وعزّ في الدار الآخرة، وهو مذهب أهل
السنة، خلافًا للمعتزلة.
وتأوّلوا ناظرة بمعنى منتظرة، وهذا باطل، لأن نظر
بمعنى انتظر يتعدّى بغير حرف جر، تقول نظرتك بمعنى انتظرتك.
وأما التعدي بإلى فهو من نظر العين.
ومنه قوله: (ومنهم مَنْ يَنْظُر إليك) .
وقال بعضهم: (إلى) هنا ليست بحرف جر، وإنما هي واحد
الآلاء بمعنى النعم، وهذا تكلف في غاية البُعْد.
وتأوَّلَه الزمخشري بأن معناه كقول الناس: فلان ناظر إلى فلان إذا كان يرتجيه، ويتعلق به. وهذا بعيد.
وقد جاءت أحاديث صحيحة في النظر إلى الله صريحة لا تحتمل التأويل.
فهي تفسير للآية، ولو لم تكن جائزة لم يسألها في الله موسى في قوله: (رب
أرِنِي أنظر إليك) .
(نخرَة) ، وناخرة بمعنى بالية مُتَفَتّتة، واستعظم الكفارُ
رجوعَهم في الآخرة بعد مصيرهم إلى هذا الوصف، ولم ينظروا في خلقتهم الأولى من العدم.
(نَمَارِقُ) :
وسائد، واحدها نمرقة ونمرقة.
(نَجْدَيْن) ، أي طريقي الخير والشر، فهو كقوله: (إنّا هَدَيْنَاه السبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كَفُوراً) .
(ناقَة اللهِ) :
منصوب بفعل مضمر، تقديره: احذروا ناقة الله، أو احفظوا.
والمراد بها ناقة صالح عليه السلام.
(نَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) .
أي لنحرقنّها بالنار، من قولك: سفعته النار، أو من الجذب والقَبْض على الشيء.
والآية في أبي جهل، أوعده الله إن لم يَنْتَهِ عن كفره وطُغْيانه أن يأخذَ بناصيته.
وهي مقدّم الرأس، فيُلْقي بها في النار.
وهذا كقوله تعالى: (فيُؤْخذ بالنَّوَاصي والأقدام) .

(2/555)


وأكد (لنسفعا) باللّام والنون الخفيفة، وكتبت في المصحف بالألف مراعاةً
للوقف عليها.
ويظهر لي أنَّ الوعيد نفّذ عليه يوم بدْر، حين قُتل، وأخذ
بناصيته، وجُرَّ إلى القَلِيب.
ووصف ناصيته بالكذب تجوّزاً، والكاذب الخاطئ في الحقيقة صاحبها.
والخاطئ الذي يفعل الذنب متعمداً.
والمخطئ الذي يفعله من غير قصد.
(نَقْعاً) : يعني أنَّ الإبل حرّكْنَ الغُبار عند مَشْيِهنّ.
(نَفَّاثَات) :
النفث: شبه النفخ دون تفْل وريق.
قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: هو النفخ مع ريق.
وهذا النفث ضَرْب من السحر، وهو أن ينفث على عُقَد تُعْقَد في خيط أو نحوه على اسم المسحور، فيضره ذلك.
وحكى ابن عطية أنه حدّثه ثِقَةٌ أنه رأى ببلاد المغرب خيطاً أحمر قد عُقدت
فيه عقد على فُصْلاَن - وهي أولاد الإبل، فمنعت ذلك رضاعَ أمهاتها، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفَصِيل إلى أمه فرضع في الحين.
قال الزمخشري: إن في الاستعاذة من النفثة ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يستعاذ من مثل عملهن، وهو السحر ومن إثمهن في ذلك.
والآخر: أن يستعاذ من خداعهن الناس ومن خبثهن.
والثالث: أن يستعاذ مما يصيبه الله من الشر عند نَفْثهن.
والنفاثات بناء مبالغة، والموصوف محذوف، تقديره النساء النفاثات، أو
الجماعات النفاثات، أو النفوس النفاثات.
والأول أصح، لأنه رُوي أنه إشارة إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي، وكنَّ ساحرات سحرن وأبوهن سيدَنا ومولانا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، وعقدنَ له إحدى عشرة عُقدة، فأنزل الله تعالى المعوّذتين إحدى
عشرة آية بعدد العُقَد، وشفا الله رسولهَ - صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: لم عرف النفاثات بالألف واللام، ونَكر ما قبله، وهو غاسق وما
بعده - وهو حَاسِد، مع أن الجميع مستعاذٌ منه؟

(2/556)


فالجواب أنه عرف النفاثات ليفيد العموم، لأن كل نفاثة شريرة، بخلاف
الفاسق والحاسد فإن شرَّهما في بعض دون بعض.
(نُسبحُ بحمدك ونُقَدِّسُ لك) :
هذا من اعتراف الملائكة والتزام التسبيح.
والتقدير: نسبح ملتبسين بحمدك، فهو في موضع الحال.
ويحتمل أن يكون الكاف في قوله (لك) مفعولاً، ودخلت عليها اللام، كقولك: ضربت لزيد، أو أن يكون المفعول محذوفاً، أي نُقَدِّسك على معنى نُنَزِّهك، أو نعظمك وتكون اللام في (لك) للتعليل، أي لأجلك، أو يكون التقدير نقدس أنفسنا أي نطهرها لك.
فإن قلت: الملائكة معصومون مطهرون من الرذائل، فما معنى هذا
الاعتراض في قولهم: (أتجعل فيها مَنْ يُفسد فيها) ؟
والجواب أنه ليس فيها اعتراض ولا افتخار ولا مِنّة بإظهارهم للتسبيح.
وإنما حملهم على هذا القول أنَّ الله أعلمهم أنْ يستخلفَ في الأرض مَنْ يعصيه، فاستبعدوا ذلك.
وقيل: كان في الأرض جِنٌّ، فأفسدوا، فبعث الله إليهم ملائكة فقتلتهم.
فقاست الملائكة بني آدم عليهم.
(نُسُك) : ذبائح.
واحدها نسيكة.
(ننشزها) - بالراء: نحييها، وبالزاي: نرفعها للأحياء، مأخوذ من النشز، وهو المكان المرتفع العالي.
(نُمْلِي لهُمْ) ، أى نطيل لهم المدة، فليس فيه خير لهم، إنمِا هو استدراج ليكتسبوا الآثام.
(نُكفِّر عنكم سَيِّئَاتكم) :
وعد بغفران ذنوب هذه الأمة إذا اجتنبوا الكبائر.

(2/557)


(نَصِيب ممَّا اكْتَسَبُوا) :
يعني من الأجر والحسنات.
وقيل من الميراث.
ويردّه لفظ الاكتساب.
وسببها أنَّ النساء قلن: ليْتَنا استَوَيْنَا مع الرجال في الميراث وشاركناهم في
الغَزْو، فنزلت نَهْياً عن ذلك، لأن في تمنيهن ردّا على حكم الشريعة، فيدخل في النهي تمني مخالفة الأحكام الشرعية كلها.
(نُشُوزا) ، بالزاي، له معنيان: شر بين الرجل والمرأة
وارتفاع، ومنه: (انْشُزوا) ، أي قوموا من المكان.
قال تعالى: (وإن امرأةٌ خافَتْ من بَعْلِها نُشوزاً أو إعراضا ... ) .
الآية يفهم منها أنَّ الإعراض أخفّ من النشوز.
وقوله: (واللاتي تخَافون نُشُوزهنَّ) ، أي معصيتهن وتَعَاليهنّ عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج.
(نُصْليهم ناراً كلما نَضِجَتْ جلودُهم بَدّلْنَاهم جُلوداً غَيْرَها) .
أي نشويهم.
والضمير عائد على الذين كفروا.
وقيل: تُبدَّل لهم جلود بعد جلود أخرى دون نفوسهم، هي المعذبة.
وقيل تبديل الجلود تغيير صفاتها بالنار.
وقيل الجلود السرابيل، وهو بعيد.
(نُصُب) - بضم الصاد، مفرده نصاب: حجارة كان أهل الجاهلية يعظّمونها ويذبحون عليها.
وليست بالأصنام، لأن الأصنام مصوّرة، والنصب غير مصورة.
وهي الأنصاب.
والنصب - بفتح الصاد: العناء والتعب.
وقول أيوب: (مَسَّني الشيطان بِنُصْبٍ وعذاب) ، أي ببلاء وشر.
(نُرَدُّ على أعقابنا) ، أي نرجع من الهدَى إلى الضلال.
وأصلُه الرجوعُ على العَقِب في المشي، ثم استُعير في المعاني.
وهذه الجملة معطوفة على (أنَدْعُو) ، والهمزة فيه للإنكار والتوبيخ.
وقيل لكل - مَنْ لم يظفر بما يريد.

(2/558)


(نُنَخيكَ بِبَدَنِك) ، أي نبعدك عما جرى لقومك من
الوصول إلى قَعْر البحر.
وقيل: نُلقيك على نَجْوَة من الأرض، أي على موضع مرتفع.
والباء في (بِبَدَنِك) للمصاحبة، والمراد به الجسد دون الروح.
وقيل: بدرعك، وكان الدرع من ذهب، يُعرف بها.
والمحذوف في موضع الحال.
(نُغَادِر) :
نترك، يقال: غادرني كذا، وأغدرته إذا خلَّفته.
ومنه سمي الغدير، لأنه ما تخلِّفه السيول.
(نُكْراً) ، أي منكراً، وهو أبلغ من قوله: (إمْرًا) .
ويجوز ضم الكاف وإسكانها.
(نُفِخَ في الصُّور) ، وهو القَرْن الذي ينفخ فيه إسرافيل
يوم القيامة، كما جاء في الحديث: إنه على صورة جناح النحل، وينفخ فيه
إسرافيل نفختين: إحداها للصعق، والأخرى للقيام من القبور.
(نُزُلا) :
ما ييسَّر للضيف والقادم عند نزوله.
والمعنى أن لهم جهنم بدل النزل، كما أن الجنة نزل في قوله: (كانت لهم جنّات الفِرْدَوْس (نُزُلا) .
ويحتمل أن يكون النزل من النزول.
(نُنَبئُكم بالأخْسَرِين أعْمالاً) :
الآية في كفار العرب لقوله: (كفروا بآيات ربهم ولقائه) .
وقيل في الرهبان يتعبدون ويظنّون أنَّ عبادتهم
تنفعهم، وهي لا تُقبل منهم.
(نهى) : عقول، واحدتها نُهْية.
(نُعِيدكُم) ، أي بالدفن.
(نُخْرِجكم) ، أي بالبعث.
(نُحَرِّقَنَّه) ، أي بالنار، أو نبرده بالمبارد، على من قرأه بفتح النون وضم الراء.

(2/559)


وقد حمل بعضهم قراءة الجماعة على أنها من هذا المعنى، لأن
الذهب لا يَفْنَى بالإحراق بالنار.
والصحيح أنَّ المقصود بإحراقه بالنار إفساد صوررته، فيصحّ حَمْل قراءة
الجماعة عليْه.
(نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) .
استعارة لانقلابهم برجوعهم عن الاعتراف بالحق إلى الباطل، يقال نكس فلان: إذا سقط من مكان وارتفعت رِجلاه، ونكس المريض إذا خرج من مرض ثم عاد إلى مثله.
والضمير يعود على قوم إبراهيم لمّا وجدوا الفأس معلّقاً في عُنق كبيرِ
أصنامهم فسألوه، فقال: (فَعله كَبِيرهم هذا) .
(نُشوراً) ، أي الحياة بعد الموت.
ومنه: (وإليه النّشور) .
(نمَكِّنْ لهم حرَماً آمِناً) :
هذا ردّ على قريش من اعتذارهم في تخطّف الناس لهم إنْ آمنوا.
والمعنى أنَّ الحرم لا تتعرض له العرب بقتالٍ، ولا يمكَن اللهُ أحداً من إهلاك أهله، فقد كانت العرب تغير بعضها على بعض، وأهل مكة آمنون من ذلك.
(نعَمِّركم ما يتَذَكَّر فيه مَنْ تذكَّر وجاءكم النذِير) :
هذا من قولِ الله لأهل النار القائلين: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) .
وهو قول أهل الطبقة الخامسة، لأنه صح أن أهل " الأولى " يقولون: يا
حنّان يا منّان، وهم العصاة من هذه الأمة، "
والثانية " تقول: (رَبَّنَا غلبت علينا شِقْوَتنا وكنّا قوماً ضَالّين) .
والثالثة " تنادي: (ربنا أخْرِجنا منها فإن عدْنَا فإنا ظالمون) .
والرابعة " تنادي: (رَبَّنَا أخِّرْنَا إلى أجل قريب نجِبْ دعوتك) .
والسادسة " تقول: ادعُ لنا ربَّك يخفّفْ عنا يوماً من العذاب) .
والسابعة تنادي: (يا مالك ليقض علينا ربُّك) .
فيجاوب كلّ أحدٍ بما يليق به، فهؤلاء قال لهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) .
وهو نبيُّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: الشيب، لأنه نذير بالموت.
والأوّل أظهر.

(2/560)


وقد اطلع بعضهم يوماً في المرآة، فرأى الشيب في لحيته، فاعتزل أهلَه ومالَه
حتى لحق بالله.
وقد اختلف في حد التعمير، كم هو، وقد قدمنا أنه سبعون سنة للحديث.
وقيل البلوغ.
والأول أرجح.
(نحَاس) : دخان.
وقيل هو الصُّفْر يُذَاب ويصبّ على رؤوس أهْلِ الوقف.
وقرئ نحاس - بالرفع عطف على (شُوَاظ) .
وبالخفض عطف على نار.
(ن) :
حرف من حروف الهجاء.
وحكى الكرْمَاني في العجائب أن معناه اصنع ما شئت.
وقيل: إنه من حرف الرحمن، فإن حروف الرحمن في
الم وحم ون وقيل: إن (ن) هنا يراد به الحوت.
وزعموا أنه الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع.
وهذا لا يصحّ، على أن النون بمعنى الحوت معروف في
اللغة، ومنه (ذو النّون) .
وقيل: إن (ن) هنا يراد به الدواة.
وهذا غير معروف في اللغة، ويبطل قول مَنْ قال إنه الحوت أو الدواة بأنه إن كان كذلك لكان مُعْرباً بالرفع أو النصب أو الخفض، ولكان في آخره تنوين، فكونه موقوفاً دليلٌ على أنه حرف هجاء، نحو: (الم) ، وغيره من حروف الهجاء الموقوفة.
(نقِر في النَّاقور) :
يعني النفخ في الصُّور.
ويحتمل أن يريد النفخةَ الأولى، أو الثانية.
(نسِفَتْ) : ذهب بها كلها بسرعة.
(النفوسُ زُوِّجَت) :
فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن التزويج بمعنى التنويع، لأن الأزواج هي الأنواع، فالمعنى جعل الكافر مع الكافر، والمؤمن مع المؤمن.
والآخر زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم مع الْحُور العين.
والثالث زوجت الأرواح والأجساد، أي رُدَّت إليها بعد البعث.
والأول هو الراجح، لأنه مرويّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر بن الخطاب وابن عباس.

(2/561)


(نِحْلَةً) :
أي عطية منكم لهن، أو عطية من الله.
وقيل معنى نحلة شِرْعة وديَانة، وانتصابه على المصدر من معنى آتوهنَّ، أو على الحال من ضمير المخاطبين.
والمراد بهذا أنَّ المهور هبةٌ من الله تعالى للنساء والنفقة عليهن، وسببه - على
ما قيل - أن حواء لما أصاب آدم التعب في الحرث أخذت قبضةً من الزرع
وزرعته، فنبت شعيرا، فلما رأت تغيّر أفعالها وظهور نكالها اغتمت، فقال:
اغتممتِ لأجلنا ساعة لأرفع قدرك بأن أكلف الرجال هَمَّ النفقة عليكِ وكل
بناتك، وأمتحنهنّ بالمهر والنفقة عليكن، فمن اغتمت لأجله ساعة أنجاها من الغمّ دهراً طويلاً، فكيف من أغتم من خوف قطيعته سبعين سنة أو أكثر، كيف لا ينجيه منها.
(نَسْياً مَنْسِيّا) ، بفتح النون وكسرها: هو الشيء الحقير الذي
إذا الْقِي لم يلْتَفَتْ إليه.
(النُّون) :
على أوجه: اسم، وهي ضمير النسوة، نحو: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ) .
وحرف، وهي نوعان:
نون التوكيد، وهي خفيفة وثقيلة، نحو: (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا) .
و (لنسفَعاً) .
(وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) .
ولم تقع الخفيفة في القرآن إلا في هذين الموضعين، وثالث في قراءة شاذة، وهي: "فإذا جاء وَعْدُ الآخرة لِنَسوءاً وجوهَكم".
ورابع في قراءة الحسن: "ألْقِياً في جهنم"، وذكره ابن جني في المحتسب.
ونون الوقاية، وتلحق ياء المتكلم المنصوبة بفعل: (فاعبدني) .
(ليحزنني) . أو حرف، نحو: (يا ليتني كنت معهم) .
(إنني أنا الله) .
والمجرورة بلدن، نحو: (من لدنِّي عُذْرا) .
أوْ مِن أوْ عَنْ، نحو: (ما أغنى عني) .
(وألقيت عليك محبةً مني) .
(التَّنوين) :
نون تثبت لفظاً لا خطا.
وأقسامه كثيرة.

(2/562)


تنوين التمكين، وهو اللاّحق للأسماء العربة، نحو: (هدًى ورحمةً) .
(وإلى عاد أخاهم هوداً) .
(إنا أرسلنا نوحاً) .
وتنوين التنكير، وهو اللاحق لأسماء الأفعال، فَرْقاً بين معرفتها ونكرتها.
نحو التنوين اللاحق لـ (أُفٍّ) في قراءة مَنْ نَوَّنَه، و (هيهاتٍ) في قراءة مَنْ نوَّنها.
وتنوين المقابلة، وهو اللاحق لجمع المؤنث السالم، نحو: مسلماتٍ مؤمناتٍ
قانتاتٍ تائباتٍ عابداتٍ سائحاتٍ.
وتنوين العِوَض، إما عن حرف آخر، نحو: فاعل المعتل، نحو: (والفجر
وليال) .
(ومن فوقهم غَوَاش) .
أو عن اسم مضاف إليه في كلّ وبعض وأي، نحو:
(كلَّّ في فلك) .
(فضلنا بعضهم على بعض) ، (أيّا مَّا تدْعوا) .
أو عن الجملة المضاف إليها إذ، نحو: (وأنتم حينئذٍ تَنْطرون) ، أي حين إذ
بلغت الروح الحلقوم.
وإذا على ما تقدم عن شيخنا، ومَنْ نَحَا نحوه: (وإنكم إذاً لمن الْمقَرَّبين) ، أي إذا غلبتم.
وتنوين الفواصل الذي يسمى في غير القرآن الترنُّم، بدلاً من حرف
الإطلاق، ويكون في الاسم والفعل والحرف.
وخرَّجَ عليه الزمخشري وغيره:
(قواريراً) .
(والليل إذا يَسْر) .
(كلا سيكفرون) ، بتنوين الثلاثة.
***
(نَعَمْ) :
حرف جواب، فتكون تصديقا للْمخْبر، ووَعْدا للطالب، وإعلاما
للمستخبر.
وإبدال عينها حاءً وكسرها وإتباع النون لها في الكسر لغاتٌ قرئ
بها.
***
(نِعْمَ) :
فعل لإنشاء المدح لا يتصرف.

(2/563)