نواسخ القرآن ناسخ القرآن ومنسوخه ت آل زهوي ... الباب الحادي عشر باب ذكر الآيات
اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة النساء وهي ست وعشرون
ذكر الآية الأولى
: قوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ
كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6].
اتفق العلماء على أن الوصي الغني لا يحل له أن يأكل من مال
اليتيم شيئا، وقالوا: معنى قوله: فَلْيَسْتَعْفِفْ أي: بمال
نفسه عن مال اليتيم، فإن كان فقيرا فلهم في المراد بأكله
بالمعروف أربعة أقوال:
القول الأول: أنه الاستقراض منه، روى حارثة بن مضرب قال: سمعت
عمر يقول: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة اليتيم إن استغنيت
استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف، ثم قضيت (1).
__________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا، قال: حدثنا ابن خيثمة، حدثنا وكيع،
عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر
به.
ذكره عن ابن أبي الدنيا ابن كثير في «تفسيره» (1/ 592).
وأخرجه سعيد بن منصور كما في «المصدر السابق» قال: حدثنا أبو
الأحوص، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: قال لي عمر .. فذكره.
وأخرجه ابن سعد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر والبيهقي في «سننه» (6/ 4) كما في «فتح
القدير» (1/ 688 - 689).
(1/102)
[95]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ قال: ابنا
أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا أبو علي
بن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل قال: ابنا محمد بن سعد قال:
حدّثني أبي قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي
الله عنهما فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال: يستقرض منه فإذا
وجد ميسرة فليقض ما يستقرض، فذلك أكله بالمعروف.
[96]- أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر، قال: ابنا ابن
شاذان قال:
ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: ابنا إبراهيم بن الحسين، قال:
ابنا آدم قال:
ابنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: يأكل بالمعروف،
يعني: سلفا من مال يتيمه.
وهذا القول مذهب عبيدة السلماني، وأبي وائل، وسعيد بن جبير،
وأبي العالية، ومقاتل (1). وقد حكى الطحاوي عن أبي حنيفة مثله.
وروى يعقوب بن حيان عن أحمد بن حنبل مثله.
القول الثاني: أن الأكل بالمعروف أن يأكل من غير إسراف.
[97] (2) - أخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا ابن غيلان، قال: ابنا
أبو بكر الشافعي، قال: ابنا إسحاق بن الحسن، قال: ابنا موسى بن
مسعود، قال: ابنا الثوري؛ قال: ابنا سفيان، عن مغيرة، عن
إبراهيم وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
قال: ما يسد الجوع ويواري العورة.
وقد روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الوصي إذا
احتاج وضع يده مع أيديهم، ولا يلبس عمامة.
وقال الحسن، وعطاء، ومكحول: يأخذ ما يسد الجوع ويواري العورة
ولا يقضي إذا وجد.
قال عكرمة والسدي: يأكل بأطراف أصابعه، ولا يسرف في الأكل ولا
يكتسي منه، وهذا مذهب قتادة.
والقول الثالث: أنه يقول: مال اليتيم بمنزلة الميتة يتناول منه
عند الضرورة، فإذا أيسر قضاه وإن لم يوسر فهو في حل؛ قاله
الشعبي.
[98]- وأخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي وقال:
ابنا
__________
(1) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 869).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 870/ 4832).
(1/103)
عبد الرحمن بن الحسن، قال: ابنا إبراهيم بن
الحسين، قال: ابنا آدم، قال: ابنا ورقاء، عن عبد الأعلى، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يأكل والي اليتيم من مال
اليتيم قوته ويلبس منه ما يستره ويشرب فضل اللبن ويركب فضل
الظهر، فإن أيسر قضاه، وإن أعسر كان في حل.
فهذه الأقوال الثلاثة تدل على جواز الأخذ عند الحاجة وإن اختلف
أربابها في القضاء.
القول الرابع: أن الأكل بالمعروف أن يأخذ الولي بقدر أجرته إذا
عمل لليتيم عملا. وروى القاسم بن محمد: أن رجلا أتى ابن عباس
فقال: ليتيم لي إبل فما لي من إبله؟ قال: إن كنت تلوط حياضها
وتهنأ جرباها وتبغي ضالتها وتسعى عليها، فاشرب غير ناهك بحلب
ولا ضار بنسل.
[99]- أخبرنا عبد الوهاب قال: ابنا أبو طاهر، قال: ابنا ابن
شاذان، قال:
ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: ابنا إبراهيم بن الحسين، قال:
ابنا آدم، قال:
ابنا ورقاء، عن ابن نجيح، عن عطاء بن أبي رباح قال: يضع يده مع
أيديهم ويأكل معهم بقدر خدمته وقدر عمله.
وقد روى أبو طالب وابن منصور عن أحمد بن حنبل مثل هذا.
فصل
وعلى هذه الأقوال الآية محكمة، وقد ذهب قوم إلى نسخها، فقالوا:
كان هذا في أول الأمر ثم نسخت بقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النساء: 29] وقد حكي هذا
المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[100] (1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد
الله، قال:
ابنا بن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: ابنا عبد
الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا حجاج، عن
ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال: نسخ من ذلك الظلم والاعتداء
فنسخها: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى
ظُلْماً [النساء: 10].
[101]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن
قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل
بن العباس، قال: ابنا
__________
(1) أخرجه النحاس في «ناسخه» (ص 89).
(1/104)
أبو بكر بن أبي داود، قال: محمد بن سعد،
قال: حدّثني أبي، عن الحسين، عن الحسن بن عطية، عن ابن عباس،
رضي الله عنهما في قوله: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ نسختها الآية التي تليها: إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية.
قلت: وهذا مقتضى قول أبي حنيفة، أعني النسخ، لأن المشهور عنه
أنه لا يجوز للوصي الأخذ من مال اليتيم عند الحاجة على وجه
القرض، وإن أخذ ضمن. وقال قوم: لو أدركته ضرورة جاز له أكل
الميتة ولا يأخذ من مال اليتيم شيئا (1).
ذكر الآية الثانية
: قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ
وَالْأَقْرَبُونَ [النساء: 7].
قد زعم بعض من قل عمله وعزب فهمه من المتكلمين في الناسخ
والمنسوخ؛ أن هذه الآية نزلت في إثبات نصيب النساء مطلقا من
غير تحديد، لأنهم كانوا لا يورثون النساء، ثم نسخ ذلك بآية
المواريث.
وهذا قول مردود في الغاية، وإنما أثبتت هذه الآية ميراث النساء
في الجملة وأثبتت آية المواريث مقداره، ولا وجه للنسخ بحال.
ذكر الآية الثالثة
: قوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ اختلف
العلماء في هذه الآية على قولين:
الأول: أنها محكمة
فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن الناس يزعمون أن هذه
الآية نسخت، والله ما نسخت ولكنها مما تهاون الناس به.
[102] (2) - وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد
الله البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد
الكاذي، قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي،
قال: ابنا يحيى بن آدم، قال: ابنا الأشجعي، عن سفيان، عن أبي
إسحاق الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِذا
حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى قال: هي محكمة وليست
بمنسوخة. قال: وكان ابن عباس إذا ولي رضخ، وإذا كان المال فيه
قلة اعتذر إليهم وذلك القول المعروف.
__________
(1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 72).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 874/ 4860).
(1/105)
قال أحمد: وبنا عبد الصمد، قال: ابنا همام
قال: ابنا قتادة، قال الأشعري:
ليست بمنسوخة.
وقال أحمد: وبنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن مطر، عن الحسن قال:
والله ما هي بمنسوخة، وإنها الثابتة، ولكن الناس بخلوا وشحّوا،
وكان الناس إذا قسم الميراث حضر الجار والفقير واليتيم
والمسكين فيعطونهم من ذلك.
قال أحمد: وبنا هشيم، قال: ابنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير.
قال: وبنا مغيرة عن إبراهيم قالا: هي محكمة وليست بمنسوخة.
قال أحمد: وبنا يزيد، قال: ابنا سفيان بن حسين، قال: سمعت
الحسن ومحمدا، يقولان في هذه الآية: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ
أُولُوا الْقُرْبى هي مثبتة لم تنسخ، وكانت القسمة إذا حضرت
حضر هؤلاء فرضخ لهم منها، وأعطوا.
قال أحمد: وبنا يحيى بن آدم قال: ابنا الأشجعي، عن سفيان، عن
مغيرة، عن إبراهيم، والشعبي وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا
الْقُرْبى قالا: هي محكمة وليست بمنسوخة.
قال أحمد: وبنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري أنها محكمة لم
تنسخ.
وممن ذهب إلى إحكامها عطاء وأبو العالية ويحيى بن يعمر، ثم
اختلف من قال بإحكامها في الأمر المذكور فيها.
فذهب أكثرهم: إلى أنه على سبيل الاستحباب والندب وهو الصحيح،
وذهب بعضهم: إلى أنه على الوجوب (1).
القول الثاني: أنها منسوخة
[103] (2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد
الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي،
قال: ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال:
بنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي
الله عنهما وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ فنسختها آية
الميراث فجعل لكل إنسان نصيبا مما ترك مما قل منه أو كثر.
قال أحمد: وبنا يحيى بن آدم، قال: ابنا الأشجعي، عن سفيان، عن
السدي، عن أبي مالك وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ قال: نسختها آية
الميراث.
__________
(1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 74).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 875/ 4864).
(1/106)
[104]- أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال:
ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا ابن
شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: ابنا محمد بن سعد، قال:
حدّثني أبي، قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس
رضي الله عنهما وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا
لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً [النساء: 8] يعني عند قسمة الميراث،
وذلك قبل أن ينزل الفرائض وأنزل الله بعد ذلك الفرائض فأعطى كل
ذي حق حقه.
وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسختها يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11].
[105] (1) - وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد
الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال:
ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثني أبي، قال: ابنا عبد
الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، قال: قال سعيد بن المسيب: كانت هذه
قبل الفرائض وقسمة الميراث، فلما جعل الله لأهل الميراث
ميراثهم صارت منسوخة.
قال أحمد: وبنا عبد الصمد، قال: ابنا همام، قال: ابنا قتادة،
عن سعيد بن المسيب، إنها منسوخة، قال: كانت قبل الفرائض، وكان
ما ترك من مال أعطي منه الفقراء، والمساكين، واليتامى، وذوي
القربى إذا حضروا القسمة، ثم نسخ ذلك بعد، نسخها المواريث
فألحق الله لكل ذي حق حقه، فصارت وصية من ماله يوصي بها لذي
قرابته، وحيث يشاء.
[106]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن
قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمد بن
إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا
إسحاق بن إبراهيم بن حبيب، قال:
حدّثني يحيى بن يمان، عن سفيان عن السدي، عن أبي مالك وَإِذا
حَضَرَ الْقِسْمَةَ قال: نسختها آية الميراث.
قال أبو بكر: وبنا يعقوب بن سفيان قال: ابنا عبد الله بن عثمان
قال:
ابنا عيسى بن عبيد الكندي، قال: ابنا عبيد الله مولى عمر بن
مسلم أن الضحاك بن مزاحم قال في قوله: وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى قال: نسختها آية الميراث.
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 876/ 4865) وأبو عبيد في «الناسخ
والمنسوخ» (37).
(1/107)
وقال عكرمة: نسختها آية الفرائض، وممن ذهب
إلى هذا القول قتادة، وأبو الشعثاء وأبو صالح وعطاء في رواية
(1).
ذكر الآية الرابعة
: قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ
خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً [النساء: 9] في المخاطبين بهذه
الآية ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي. ثم في معنى الكلام
على هذا القول قولان:
الأول: أن المعنى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا وليخش
الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله أن يأمروه بتفريق ماله فيمن
لا يرثه فيفرقه ويترك ورثته، ولكن ليأمروه أن يبقى ماله
لأولاده كما لو كانوا هم الذين يوصون لسرهم أن يحثهم من حضرهم
على حفظ الأموال للأولاد، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس،
والحسن ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، والسدي،
ومقاتل.
والثاني: على الضد، وهو أنه نهي لحاضري الموصي عند الموت أن
يمنعوه عن الوصية لأقاربه، وأن يأمروه الاقتصار على ولده، وهذا
قول مقسم وسليمان التميمي.
القول الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى، راجع إلى قوله تعالى:
وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا
[النساء: 6] فقال تعالى:- يعني أولياء اليتامى- وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً
خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فيمن ولوه من اليتامى
وليحسنوا إليهم في أنفسهم وأموالهم كما يحبون أن يحسن ولاة
أولادهم لو ماتوا هم إليهم، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله
عنهما أيضا.
والقول الثالث: أنه خطاب للأوصياء بإجراء الوصية على ما رسم
الموصي وأن يكون الوجوه التي فيها مرعية بالمحافظة، كرعي
الذرية الضعاف من غير تبديل، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَمَنْ
خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 182]، فأمر بهذه الآية إذا وجد
الوصي من الموصي في الوصية جنفا أو ميلا عن الحق فعليه الإصلاح
في ذلك، واستعمال قضية الشرع ورفع الحال الواقع في الوصية.
ذكره شيخنا علي بن عبيد الله وغيره، وعلى هذا القول تكون الآية
منسوخة، وعلى الأقوال قبلها هي محكمة. والنسخ منها بعيد، لأنه
إذا أوصى بجور لم يجز أن يجري على ما أوصى.
__________
(1) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 875) و «صفوة الراسخ» (ص 74
- 75).
(1/108)
ذكر الآية الخامسة
: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى
ظُلْماً قد توهم قوم لم يرزقوا فهم التفسير وفقهه أن هذه الآية
منسوخة بقوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
[البقرة: 220] وأثبتوا ذلك في كتب الناسخ والمنسوخ، ورووه عن
ابن عباس رضي الله عنهما، وإنما المنقول عن ابن عباس.
[107] (1) - ما أخبرنا به المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن
الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد
بن إسماعيل بن العباس، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال:
ابنا عمرو بن علي بن بحر قال: ابنا عمران بن عيينة، قال: ابنا
عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً قال:
كان يكون في حجر الرجل اليتيم فيعزل طعامه وشرابه، فاشتد ذلك
على المسلمين، فأنزل الله تعالى:
وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، فأحل لهم طعامهم.
وقال سعيد بن جبير: لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً عزلوا أموالهم من أموال اليتامى،
وتحرجوا من مخالطتهم فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ. وهذا ليس على سبيل النسخ؛ لأنه لا خلاف أن أكل
أموال اليتامى ظلما حرام.
وقال أبو جعفر النحاس: هذه الآية لا يجوز فيها ناسخ ولا منسوخ،
لأنها خبر ووعيد، ونهي عن الظلم والتعدي، ومحال نسخ هذا، فإن
صح ما ذكروا عن ابن عباس فتأويله من اللغة: أن هذه الآية على
نسخ تلك الآية.
وزعم بعضهم أن ناسخ هذه الآية قوله تعالى: وَمَنْ كانَ
فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وهذا قبيح، لأن الأكل
بالمعروف ليس بظلم فلا تنافي بين الآيتين.
ذكر الآية السادسة والسابعة
: قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ
نِسائِكُمْ وقوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ
فَآذُوهُما [النساء: 15، 16] الآيتان.
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 878/ 4879) وأحمد (1/ 325) وأبو
داود (2871) والنسائي (6/ 256) والحاكم (2/ 278 - 279، 303،
318) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 72).
من طرق؛ عن عطاء بن السائب به.
وعطاء بن السائب كان قد اختلط، لكن رواه غير واحد عنه، ثم إن
له شواهد يصحّ بها.
والأثر حسّنه المحدث الألباني في «صحيح سنن أبي داود» رقم
(2495).
(1/109)
أما الآية الأولى؛ فإنها دلّت على أن حدّ
الزانية كان أول الإسلام الحبس إلى أن تموت أو يجعل الله لها
سبيلا، وهو عام في البكر والثيب. والآية الثانية؛ اقتضت أن حدّ
الزانيين الأذى. فظهر من الآيتين أن حدّ المرأة كان الحبس
والأذى جميعا، وحدّ الرجل كان الأذى فقط، لأن الحبس ورد خاصا
في النساء، والأذى ورد عاما في الرجل والمرأة، وإنما خصّ
النساء في الآية الأولى بالذكر، لأنهن ينفردن بالحبس دون
الرجال، وجمع بينهما في الآية الثانية، لأنهما يشتركان في
الأذى، ولا يختلف العلماء في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين؛
أعني الحبس والأذى، وإنما اختلفوا بماذا نسخا؟ فقال قوم: نسخا
بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ
واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2].
[108] (1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين
بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن
إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود قال: ابنا
يعقوب بن سفيان، قال: ابنا أبو صالح قال: حدّثني معاوية بن
صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ قال: كانت
المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، وكان الرجل إذا زنى
أوذي بالتعيير، والضرب بالنعال، فنزلت: الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ
جَلْدَةٍ وإن كانا محصنين رجما بسنة رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم.
[109]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو طاهر
الباقلاوي، قال:
ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال:
ابنا إبراهيم بن الحسين، قال: ابنا آدم، قال: ابنا ورقاء، عن
ابن أبي نجيح، عن مجاهد فَآذُوهُما يعني سبا، ثم نسختها
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما
مِائَةَ جَلْدَةٍ.
[110]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله،
قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد
الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا عبد الرزاق،
قال: ابنا معمر، عن قتادة، فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ [النساء: 15] قال: نسختها
الحدود.
قال أحمد: وبنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة وَاللَّاتِي
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 895 - 896/ 4988) والطبري (8/ 74/
8797 و 8/ 85/ 8822) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (239)
والبيهقي في «سننه» (8/ 211) والنحاس في «ناسخه» (ص 94). من
طرق؛ عن أبي صالح به.
(1/110)
قال: كانت هذه الآية قبل الحدود ثم أنزلت
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما قال: كانا يؤذيان
بالقول والشتم وتحبس المرأة ثم إن الله تعالى نسخ ذلك فقال:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما
مِائَةَ جَلْدَةٍ.
قال أحمد: وبنا علي بن حفص، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما قال: نسخته الآية
التي في النور بالحد المفروض.
قال قوم: نسخ هذان الحكمان بحديث عبادة بن الصامت عن النبي
صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله
لهنّ سبيلا؛ الثّيّب بالثّيّب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر
بالبكر جلد مائة ونفي سنة» (1).
قالوا: فنسخت الآية بهذا الحديث، وهؤلاء يجيزون نسخ القرآن
بالسنة.
وهذا قول مطروح؛ لأنه لو جاز نسخ القرآن بالسنة لكان ينبغي أن
يشترط التواتر في ذلك الحديث، فأما أن ينسخ القرآن بأخبار
الآحاد فلا يجوز ذلك وهو من أخبار الآحاد.
وقال الآخرون: السبيل الذي جعل الله لهن هو الآية:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما
مِائَةَ جَلْدَةٍ قال آخرون: بل السبيل قرآن نزل ثم رفع رسمه
وبقي حكمه، وظاهر حديث عبادة يدل على ذلك، لأنه قال: «قد جعل
الله لهن سبيلا» فأخبر أن الله تعالى جعل لهن السبيل، والظاهر
أنه بوحي لم تستقر تلاوته، وهذا يخرج على قول من لا يرى نسخ
القرآن بالسنة، وقد اختلف العلماء بماذا ثبت الرجم على قولين:
الأول: أنه نزل به قرآن ثم نسخ لفظه، وانعقد الإجماع على بقاء
حكمه.
والثاني: أنه ثبت بالسنة.
ذكر الآية الثامنة والتاسعة
: قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ وقوله:
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ
حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ
الْآنَ [النساء: 17 - 18] إنما سمى فاعل الذنب جاهلا، لأن فعله
مع العلم بسوء مغبته، فأشبه من جهل المغبة والتوبة من قريب ما
كان قبل معاينة الملك، فإذا حضر الملك لسوق الروح لم تقبل
توبته، لأن الإنسان حينئذ يصير كالمضطر إلى التوبة، فمن تاب
قبل ذلك قبلت توبته، أو أسلم عن كفر قبل إسلامه، وهذا أمر ثابت
محكم.
__________
(1) أخرجه مسلم (1690) وغيره، من حديث عبادة بن الصامت رضي
الله عنه.
(1/111)
وقد زعم بعض من لا فهم له أن هذا الأمر أقر
على هذا في حق أرباب المعاصي من المسلمين، ونسخ حكمه في حق
الكفار بقوله: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ
[النساء: 18]، وهذا ليس بشيء؛ فإن حكم الفريقين واحد.
ذكر الآية العاشرة
: قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ
النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] هذا كلام محكم
عند عامة العلماء ومعنى قوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي: بعد
ما قد سلف في الجاهلية، فإن ذلك معفو عنه.
وزعم بعض من قلّ فهمه أن الاستثناء نسخ ما قبله. وهذا تخليط لا
حاصل له ولا يجوز أن يلتفت إليه من جهتين:
الأول: أن الاستثناء ليس بنسخ.
والثاني: أن الاستثناء عائد إلى مضمر تقديره: فإن فعلتم عوقبتم
إلا ما قد سلف، فإنكم لا تعاقبون عليه، فلا معنى للنسخ هاهنا.
ذكر الآية الحادية عشر
: قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا
ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 23] وهذه حكمها حكم التي قبلها. وقد
زعم الزاعم هناك: أن هذه كتلك في أن الاستثناء ناسخ لما قبله،
وقد بينا رذولة هذا القول.
ذكر الآية الثانية عشر
: قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء:
24]، وقد ذكر في هذه الآية موضعان منسوخان:
الأول: قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ، هذا عند
عموم العلماء لفظ عام دله التخصيص بنهي النبي صلّى الله عليه
وسلّم: «أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها» (1). وليس
هذا على سبيل النسخ. وقد ذهب قوم لا فقه لهم إلى أن التحليل
المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث، وهذا إنما يأتي من عدم
فهم الناسخ والمنسوخ والجهل بشرائطه وقلة المعرفة بالفرق بين
التخصيص والنسخ.
وأما الموضع الثاني: فقوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ
مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ [النساء: 24] اختلف العلماء في المراد
بهذا الاستمتاع على قولين:
الأول: أنه النكاح والأجور المهور، وهذا مذهب ابن عباس ومجاهد
والجمهور.
__________
(1) أخرجه البخاري (1408) وغيره.
(1/112)
والثاني: أنه المتعة التي كانت في أول
الإسلام، كان الرجل ينكح المرأة إلى أجل مسمى، ويشهد شاهدين،
فإذا انقضت المدة ليس له عليها سبيل. قاله قوم منهم السدي.
اختلفوا هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقال قوم: هي محكمة.
[111]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب. قال: ابنا أبو
علي بن شاذان، قال: حدّثنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود
السجستاني، قال: ابنا محمد بن المثنى، قال: ابنا محمد بن جعفر،
قال: ابنا شعبة، عن الحكم، قال:
سألته عن هذه الآية: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ
أمنسوخة هي قال: لا.
قال الحكم: وقال علي رضي الله عنه: لولا أن عمر نهى عن المتعة-
فذكر شيئا (1).
وقال آخرون: هي منسوخة، واختلفوا بماذا نسخت على قولين:
الأول: بإيجاب العدة.
[112] (2) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا علي بن أيوب، قال:
ابنا أبو علي بن شاذان قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا
أبو داود السجستاني، قال:
ابنا أحمد بن محمد، قال: ابنا هاشم بن مخلد، عن ابن المبارك،
عن عثمان بن عطاء،
__________
(1) وهو قوله: «لولا أن عمر نهى عن المتعة؛ لما زنى إلا شفي»!.
وهذا الخبر لم أجده في كتب الحديث المعتبرة، بل لم أجده مسندا
بسند صحيح. إنما هو في «فروع الكافي» للكليني (5/ 448 - 449)
بإسناده ضعيف.
بل هو مخالف للصحيح من حديث علي بن أبي طالب عليه السلام حيث
قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن متعة النساء يوم
خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية». وهذا أثر صحيح؛ مروي في كتب
السنة والشيعة.
رواه من علماء السنة كل من: مالك في «الموطأ» كتاب النكاح، باب
نكاح المتعة. والبخاري (4216 و 5115 و 5523 و 6961) ومسلم
(1407) وأحمد (1/ 79) والنسائي (7/ 126، 201 - 202) والحميدي
في «مسنده» (37) والترمذي (1121) وسعيد بن منصور (848)
والبيهقي (7/ 201 - 202) وأبو يعلى (576) والدارمي (2/ 189/
2197) وابن حبان (10/ 450/ 4143) وابن شاهين في «ناسخ الحديث
ومنسوخه» (424) وغيرهم. من طرق؛ عن عبد الله والحسن ابني محمد
بن علي، عن أبيهما، عن علي به.
ومن علماء الشيعة الذين رووه؛ الطوسي في «التهذيب» (2/ 186)
وصاحب كتاب «الاستبصار» (3/ 142) والحر العاملي في «وسائل
الشيعة» (14/ 441).
فبهذا تعلم أيها المسلم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو
الذي حرّم المتعة، وليس عمر كما يدّعيه البعض. وتفصيل هذا
وبيانه في مصنّف مستقل عن هذا الموضوع يسّر الله ذلك.
(2) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (140) والنحاس (ص 99). وإسناده
ضعيف.
(1/113)
عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
فَرِيضَةً فنسختها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ [البقرة: 228] أَشْهُرٍ [الطلاق: 4].
والثاني: أنها نسخت بنهي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن
المتعة، وهذا القول ليس بشيء لوجهين:
الأول: أن الآية سيقت لبيان عقدة النكاح بقوله: مُحْصِنِينَ
أي: متزوجين، عاقدين النكاح، فكان معنى الآية: فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ على وجه النكاح الموصوف فآتوهن
مهورهن، وليس في الآية ما يدل على أن المراد نكاح المتعة الذي
نهي عنه، ولا حاجة إلى التكلف، وإنما جاز المتعة برسول الله
صلّى الله عليه وسلّم ثم منع منها.
والثاني: أنه لو كان ذلك لم يجز نسخه بحديث واحد.
ذكر الآية الثالثة عشر
: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [النساء: 29] هذه الآية
عامة في أكل الإنسان مال نفسه، وأكله مال غيره بالباطل.
فأما أكله مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله عزّ
وجلّ.
وأما أكل مال الغير بالباطل، فهو تناوله على الوجه المنهي عنه
سواء كان غصبا من مالكه، أو كان برضاه، إلا أنه منهي عنه شرعا،
مثل القمار والربا وهذه الآية محكمة
والعمل عليها.
[113]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله،
قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد
الله بن أحمد، قال:
حدّثني أبي، قال: ابنا أسود بن عامر، قال: ابنا سفيان، عن
ربيع، عن الحسن لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْباطِلِ قال: ما نسخها شيء.
قال أحمد: وحدّثنا حسين بن محمد، قال: ابنا عبيد الله عن زيد
بن أبي أنيسة عن عمرو، أن مسروقا قال في هذه الآية: لا
تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قال: إنها
لمحكمة ما نسخت.
وقد زعم بعض منتحلي التفسير، ومدّعي علم الناسخ والمنسوخ؛ أن
هذه الآية لما نزلت تحرّجوا من أن يواكلوا الأعمى والأعرج
والمريض، وقالوا: إن الأعمى لا يبصر أطيب الطعام، والأعرج لا
يتمكن من المجلس، والمريض لا
(1/114)
يستوفي الأكل، فأنزل الله عزّ وجلّ: لَيْسَ
عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [النور: 61]. فنسخت هذه الآية، وهذا
ليس بشيء، ولأنه لا تنافي بين الآيتين، ولا يجوز أكل المال
بالباطل بحال، وعلى ما قد زعم هذا القائل قد كان يجوز أكل
المال بالباطل.
ذكر الآية الرابعة عشر
: قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 33]
اختلف المفسرون في المراد بهذه المعاقدة على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها المحالفة التي كانت في الجاهلية، واختلف هؤلاء على
ما كانوا يتعاقدون على ثلاثة أقوال:
الأول: على أن يتوارثوا.
[114] (1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد
الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال:
ابنا عبد الله بن أحمد، قال:
حدّثني أبي، قال: حدّثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء
الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ قال: كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل فيقول:
ترثني وأرثك، فنسختها هذه الآية وَأُولُوا الْأَرْحامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75].
[115]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن
شاذان، قال:
ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا
أحمد بن محمد المروزي، قال: ابنا علي بن الحسين عن أبيه، عن
يزيد النحوي، عن عكرمة وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قال:
كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما الآخر،
فنسخ ذلك قوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى
بِبَعْضٍ.
وقال الحسن: كان الرجل يعاقد الرجل، على أنهما إذا مات أحدهما
ورثه الآخر، فنسختها آية المواريث.
والثاني: أنهم يتعاقدون على أن يتناصروا، ويتعاقلوا في
الجناية.
والثالث: أنهم كانوا يتعاقدون على جميع ذلك.
[116]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله،
قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد
الله بن أحمد قال: حدّثني أبي، قال: ابنا عبد الرزاق، قال،
قال: ابنا معمر، عن قتادة في قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 937/ 5237) وأبو عبيد في «ناسخه»
(414).
(1/115)
قال: كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل
فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك،
فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس فأمروا أن يؤتوهم نصيبهم من
الميراث وهو السدس، ثم نسخ ذلك بالميراث، فقال: وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ.
فصل
وهل أمروا في الشريعة أن يتوارثوا بذلك فيه قولان:
الأول: أنهم أمروا أن يتوارثوا بذلك؛ فمنهم من كان يجعل لحليفه
السدس من ماله، ومنهم من كان يجعل له سهما غير ذلك، فإن لم يكن
له وارث فهو أحق بجميع ماله.
[117]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو الفضل بن
خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا
أحمد بن كامل، قال: ابنا محمد بن سعد العوفي، قال: حدّثني أبي،
قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قال: كان الرجل في الجاهلية
يلحق به الرجل فيكون تابعه، فإذا مات الرجل صار لأهله وأقاربه
الميراث، وبقي تابعه ليس له شيء، فأنزل الله تعالى:
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ
وكان يعطى من ميراثه، فأنزل الله تعالى بعد ذلك، وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ.
قلت: وهذا القول- أعني: نسخ الآية بهذه الآية- قول جمهور
العلماء منهم الثوري، والأوزاعي ومالك، والشافعي، وأحمد بن
حنبل، وقال أبو حنيفة: هذا الحكم ليس بمنسوخ، غير أنه جعل ذوي
الأرحام أولى من موالي المعاقدة، فإذا فقد ذوي الأرحام ورثوا،
وكانوا أحق به من بيت المال (1).
والثاني: أنهم لم يؤمروا بالتوارث بذلك، بل أمروا بالتناصر،
وهذا حكم باق لم ينسخ، وقد قال عليه السلام: «لا حلف في
الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا
شدّة» (2). وأراد بذلك النصرة والعون وأراد بقوله: «لا حلف في
الإسلام» أن الإسلام قد استغنى عن ذلك، بما أوجب الله تعالى
على المسلمين بعضهم لبعض من التناصر، وهذا قول جماعة منهم سعيد
بن جبير، وقد روى عن مجاهد أنهم ينصرونهم ويعقلون عنهم.
__________
(1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 81).
(2) أخرجه مسلم (2530) وغيره.
(1/116)
[118] (1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال:
ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق
بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد قال: حدّثني أبي، قال:
ابنا وكيع، قال: ابنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد وَالَّذِينَ
عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قال: هم الحلفاء فآتوهم نصيبهم من العقل
والمشورة والنصرة، ولا ميراث.
والقول الثاني: أن المراد بالمعاقدة، المؤاخاة التي عقدها رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه.
[119] (2) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا
ابن شاذان، قال:
ابنا أبو بكر النجاد قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا
هارون بن عبد الله، قال: ابنا أبو أسامة، قال: حدّثني إدريس بن
يزيد، قال: ابنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يورثون
الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي آخى رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم بينهم، فلما نزلت: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ
[النساء: 33] نسخت، فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة والرفادة.
ويوصي لهم وقد ذهب الميراث.
وروى أصبغ عن ابن زيد وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قال:
الذين عاقد بينهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فآتوهم
نصيبهم إذا لم يأت ذو رحم يحول بينهم.
قال: وهذا لا يكون اليوم إنما كان هذا في نفر آخى بينهم رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم ثم انقطع ذلك ولا يكون هذا لأحد إلا
للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
القول الثالث: أنها نزلت في الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في
الجاهلية فأمروا أن يوصوا لهم عند الموت توصية ورد الميراث إلى
الرحم والعصبة. رواه الزهري عن ابن المسيب (3).
__________
(1) أثر صحيح.
أخرجه الطبري في «تفسيره» (8/ 270، 279، 280/ 9260، 9278،
9280، 9283، 9284) وعبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 157) وفي
«المصنف» (10/ 306/ 19198) وسعيد بن منصور في «سننه» (1/ 71/
260 - الأعظمي) و (4/ 1241/ 626 - آل حميد) وأبو عبيد في
«الناسخ والمنسوخ» (412) والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص
102). من طرق؛ عن سفيان به.
(2) أخرجه البخاري (2292، 4580، 6747) وأبو داود (2922)
والنسائي في «الكبرى» في الفرائض (4/ 90/ 6417) وفي «التفسير»
(6/ 322/ 11103) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 937/ 5236)
والطبري في «تفسيره» (8/ 277/ 9275).
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (8/ 280/ 9288) وأبو عبيد في
«ناسخه» (416).
(1/117)
ذكر الآية الخامسة
عشر
: قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى
[النساء: 43].
قال المفسرون: هذه الآية اقتضت إباحة السّكر في غير أوقات
الصلاة، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ.
[120]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن
قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمد
إسماعيل بن العباس، قال:
ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا محمد بن قهزاد، قال:
حدّثني علي بن الحسين بن واقد قال: حدّثني أبي، عن يزيد
النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى قال: نسختها إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90].
قال أبو بكر: وابنا يعقوب بن سفيان، قال: ابنا عبد الله بن
صالح، قال:
ابنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي
الله عنهما لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى قال:
كانوا لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا
يصبحون حتى يذهب عنهم السكر، فإذا صلوا الغداة شربوها، فأنزل
الله عزّ وجلّ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ، فحرّم الله الخمر (1).
قال أبو بكر: وبنا محمد بن سعد، قال: حدّثني أبي، عن الحسين بن
الحسن بن عطية، عن أبيه، عن عطية، عن ابن عباس رضي الله عنهما
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى قال: نسختها الآية
التي في المائدة فَاجْتَنِبُوهُ.
قال أبو بكر: وابنا يعقوب بن سفيان، قال: ابنا عبد الله بن
عثمان، قال:
ابنا عيسى بن عبيد، قال: ابنا عبيد الله مولى عمر بن مسلم، أن
الضحاك بن مزاحم أخبره في قوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكارى قال: نسختها إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصابُ.
ذكر الآية السادسة عشر
: قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النساء: 63].
قال المفسرون: في هذه الآية تقديم وتأخير؛ تقديره: فعظهم فإن
امتنعوا عن الإجابة فأعرض. وهذا كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ
ذلك بآية السيف.
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (451).
(1/118)
ذكر الآية السابعة
عشر
: قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء:
64].
قال المفسرون: اختصم يهودي ومنافق، وقيل: بل مؤمن ومنافق،
فأراد اليهودي، وقيل: المؤمن، أن تكون الحكومة بين يدي الرسول
صلّى الله عليه وسلّم فأبى المنافق.
فنزل قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ [النساء: 60] إلى هذه الآية، وكان معنى هذه الآية:
ولو أن المنافقين جاءوك فاستغفروا من صنيعهم واستغفر لهم
الرسول، وقد زعم بعض منتحلي التفسير: أن هذه الآية نسخت بقوله:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80].
وهذا قول مرذول، لأنه إنما قيل: فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَهُمْ لإصرارهم على النفاق، فأما إذا جاءوا فاستغفروا واستغفر
لهم الرسول، فقد ارتفع الإصرار فلا وجه للنسخ.
ذكر الآية الثامنة عشر
: قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ
انْفِرُوا جَمِيعاً [النساء: 71] وهذه الآية تتضمن الأمر بأخذ
الحذر، والندب إلى أن يكونوا عميا وقت نفيرهم، ذوي أسلحة عند
بروزهم إلى عدوهم ولا ينفروا منفردين، لأن الثبات الجماعات
المتفرقة.
وقد ذهب قوم: إلى أن هذه الآية منسوخة.
[121]- أخبرنا ابن ناصر قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا علي
بن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود
السجستاني، قال: ابنا الحسن بن محمد، قال: ابنا حجاج بن محمد
قال: قال ابن جريج وعمر بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس رضي
الله عنهما خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ، وقال:
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41] وقال: فَمَنْ تابَ
مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ [التوبة: 39] ثم نسخ هذه الآيات، فقال:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122].
قلت: وهذه الرواية فيها مغمز، وهذا المذهب لا يعمل عليه،
وأحوال المجاهدين تختلف، والأمر في ذلك على حسب ما يراه
الإمام، وليس في هذه الآيات شيء منسوخ بل كلها محكمات، وقد ذهب
إلى ما قد ذهبت إليه أبو سليمان الدمشقي.
(1/119)
ذكر الآية التاسعة
عشر
: قوله تعالى: وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً [النساء: 80].
روى أبو صالح عن بن عباس رضي الله عنهما قال معناه: فما
أرسلناك عليهم رقيبا تؤخذ بهم. وقال السدي وابن قتيبة حفيظا
أي: محاسبا لهم.
وقد ذهب قوم منهم عبد الرحمن بن زيد، إلى أن هذه الآية نزلت في
بداية الأمر ثم نسخت بآية السيف. وفيه بعد؛ لأنه إذا كان
تفسيرها ما ذكرنا فأي وجه للنسخ.
ذكر الآية العشرين
: قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
[النساء: 81].
قال المفسرون: معنى الكلام: أعرض عن عقوبتهم، ثم نسخ هذا
الإعراض عنهم بآية السيف.
ذكر الآية الحادية والعشرين
: قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ
إِلَّا نَفْسَكَ [النساء: 84].
قال المفسرون: معناه لا تكلف إلا المجاهدة بنفسك، ولا تلزم فعل
غيرك، وهذا محكم.
وقد زعم بعض منتحلي التفسير أنه منسوخ بآية السيف فكأنه استشعر
أن معنى الكلام لا تكلف أن تقاتل أحدا، وليس كذلك؛ إنما المعنى
لا تكلف في الجهاد إلا فعل نفسك.
ذكر الآية الثانية والعشرين
: قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [النساء: 90].
قوله تعالى: يَصِلُونَ يدخلون في عهد بينكم وبينهم ميثاق،
والمعنى:
ينتسبون بالعهد أو يصلون إلى قوم جاءوكم، حصرت صدورهم أي: ضاقت
عن قتالكم لموضع العهد الذي بينكم وبينهم، فأمر المسلمون في
هذه الآية بترك قتال من له
معهم عهد أو ميثاق، أو ما يتعلق بعهد، ثم نسخ ذلك بآية السيف،
وبما أمروا به من نبذ العهد إلى أربابه في سورة براءة، وهذا
المعنى مروي عن ابن عباس وقتادة.
[122] (1) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب قال: ابنا
ابن شاذان، قال:
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 1027/ 5756) وأبو عبد في «ناسخه»
(366) والبيهقي في «سننه» (9/ 11). من طريق: حجاج به.
(1/120)
ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود
السجستاني، قال: ابنا الحسن بن محمد، قال: ابنا حجاج، قال: قال
ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وقال: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ
مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: 10] وقال: لا
يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ [الممتحنة: 8] نسخ هذا: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
[التوبة: 1] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:
5].
[123]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله،
قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا أحمد بن إسحاق الكاذي، قال:
ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا
عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ
إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ. قال: نسخ ذلك في
براءة، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمر الله نبيه أن يقاتلهم
حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وقال:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
ذكر الآية الثالثة والعشرين
: قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [النساء: 91] والمعنى:
أنهم يظهرون الموافقة للفريقين ليأمنوهما، فأمر الله تعالى
بالكف عنهم، إذا اعتزلوا وألقوا إلينا السلم، وهو الصلح كما
أمر بالكف عن الذين يصلون إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق، ثم نسخ
ذلك بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ.
ذكر الآية الرابعة والعشرين
: قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ
[النساء: 92]. جمهور أهل العلم على أن الإشارة بهذا إلى الذي
يقتل خطأ فعلى قاتله الدية والكفارة، وهذا قول ابن عباس
والشعبي، وقتادة والزهري، وأبي حنيفة، والشافعي، وهو قول
أصحابنا، فالآية على هذا محكمة.
وقد ذهب بعض مفسري القرآن إلى أن المراد به من كان من المشركين
بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم هدنة إلى أجل، ثم نسخ
ذلك بقوله: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وبقوله: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ
عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58].
ذكر الآية الخامسة والعشرين
: قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء: 93].
اختلف العلماء هل هذه محكمة أم منسوخة على قولين:
(1/121)
القول الأول: أنها
منسوخة
؛ وهو قول جماعة من العلماء قالوا: بأنها حكمت بخلود القاتل في
النار، وذلك منسوخ بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ
[النساء: 48] وقال بعضهم: نسخها قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِلَّا مَنْ تابَ
[الفرقان: 68 - 70]. وحكى أبو جعفر النحاس: أن بعض العلماء
قال: معنى نسختها آية الفرقان أي: نزلت بنسخها (1).
والقول الثاني: أنها محكمة
؛ واختلف هؤلاء في طريق إحكامها على قولين:
القول الأول: أن قاتل المؤمن مخلّد في النار، وأكّدوا هذا
بأنها خبر، والأخبار لا تنسخ.
[124] (2) - أخبرنا يحيى بن ثابت بن بندار، قال: ابنا أبي،
قال: ابنا أبو بكر البرقاني قال: ابنا أحمد بن إبراهيم
الإسماعيلي، قال: أخبرني البغوي، قال: ابنا علي بن الجعد، قال:
ابنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، قال: سمعت سعيد بن جبير،
قال: اختلف أهل الكوفة في هذه الآية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُتَعَمِّداً قال:
فرحلت فيها إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لقد نزلت في آخر
ما نزل وما نسخها شيء.
وعن شعبة، عن منصور قال: سمعت سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس
عن قول الله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
قال: لا توبة له.
[125] (3) - أخبرنا ابن الحسين، قال: ابنا غيلان، قال: ابنا
أبو بكر الشافعي، قال: ابنا إسحاق بن الحسين، قال: ابنا ابن
حذيفة النهدي، قال: ابنا سفيان الثوري، عن المغيرة بن النعمان،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً قال: ليس لقاتل مؤمن توبة، ما نسختها
آية منذ نزلت.
[126] (4) - أخبرنا سعيد بن أحمد، قال: ابنا ابن اليسري، قال:
ابنا
__________
(1) «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 106) و «صفوة الراسخ» (ص 82).
(2) أخرجه علي بن الجعد في «مسنده» (471) عن شعبة به.
وأخرجه البخاري (4590) و (4763) ومسلم (3023) وأبو داود (4275)
والنسائي (7/ 85) و (8/ 62) وفي «الكبرى» التفسير (6/ 326،
421/ 11115، 11371).
(3) أخرجه الطبري (9/ 66/ 10195) وأبو عبيد في «الناسخ
والمنسوخ» (491) وأبو داود (4275). من طريق: عن سفيان به.
(4) إسناده فيه ضعف، والحديث صحيح.
يحيى الجابر؛ هو: ابن عبد الله بن الحارث، قال أحمد: «ليس به
بأس»، وضعفه ابن معين
(1/122)
المخلص، قال: ابنا البغوي، قال: ابنا عثمان
بن أبي شيبة، قال: ابنا أبو خالد الأحمر، عن عمرو بن قيس
الملائي، عن يحيى الجابر، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس
رضي الله عنهما. أنه تلا هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ حتى فرغ منها، فقيل له: وإن
تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: وأنى له التوبة؛
قد سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «ثكلته أمّه، قاتل
المؤمن إذا جاء يوم القيامة واضعا رأسه على إحدى يديه آخذا
بالأخرى، القاتل تشخب أوداجه قبل عرش الرحمن عزّ وجلّ فيقول:
رب سل هذا فيم قتلني؟» قال: وما نزلت في كتاب الله عزّ وجلّ
آية نسختها.
[127] (1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد
الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق ابن أحمد، قال:
ابنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: ابنا
يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال ابنا مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن
جبير، قال: اختلف أهل الكوفة في هذه الآية وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فرحلت إلى ابن أبي عباس رضي الله عنهما
فقال: إنها من آخر ما نزل، وما نسخها شيء.
قال أحمد: وابنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: حدّثني
القاسم بن
__________
وأبو حاتم والنسائي.
وقال الحافظ في «التقريب»: «ليّن الحديث».
لكن تابعه عمار الدّهني- وهو ثقة-.
أخرجه الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (2/ 942 - 943/ 2300).
من طريق: عمرو بن قيس الملائي، عن يحيى الجابر به.
وأخرجه أحمد (1/ 230، 294، 364) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (9/
356/ 7781) وابن جرير الطبري (9/ 63 - 64/ 10188، 11089) من
طرق؛ عن يحيى بن عبد الله الجابر به.
وأخرجه الحميدي في «مسنده» (1/ 228/ 488) وسعيد بن منصور في
«سننه» (4/ 1318/ 666).
من طريق: عمار الدهني ويحيى الجابر عن سالم بن أبي الجعد به.
وأخرجه أحمد (1/ 222) والنسائي (7/ 85) وابن ماجة (2621) وابن
أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 1036/ 5813) والنحاس في «ناسخه» (ص
106).
من طريق: سفيان بن عيينة، عن عمار الدهني، عن سالم به.
وأخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (9/ 65/ 10191) من طريق:
عمار بن رزيق، عن عمار الدهني به.
والحديث صححه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه على «المسند» رقم
(2142) والمحدث الألباني في «صحيح سنن ابن ماجة» (2122).
(1) انظر رقم [124].
(1/123)
أبي بزّة، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لا بن
عباس: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا، فتلوت هذه
الآية التي في الفرقان إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فقال:
هذه الآية مكية نسختها آية مدنية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ (1).
قال أحمد: وابنا حسين بن محمد، قال: ابنا سفيان، عن أبي
الزناد، قال:
سمعت شيخنا يحدّث خارجة بن زيد بن ثابت، قال: سمعت أباك، قال
نزلت الشديدة بعد الهينة بستة أشهر قوله: وَلا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
[الفرقان: 68] وقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ (2).
وقد روي عن ابن عباس ما يدل على أنه قصد التشديد بهذا القول.
[128]- فأخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن
قريش قال: ابنا إبراهيم بن عمر قال: ابنا محمد بن إسماعيل قال:
ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا محمد بن عبد الملك، قال:
ابنا يزيد بن هارون، قال: ابنا أبو مالك، قال: ابنا سعد بن
عبيدة، أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: لمن قتل المؤمن
توبة، فجاءه رجل فسأله، ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: إلا النار،
فلما قام قال له جلساؤه: ما هكذا؟ كنت تفتينا أنه لمن قتل
مؤمنا متعمدا توبة مقبولة، فما شأن هذا اليوم؟ قال: إني أظنه
رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا، فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك.
قال أبو بكر بن أبي داود: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما
أن للقاتل توبة. وقد روى سعيد بن ميناء، عن عبد الله بن عمر،
قال: سأله رجل؛ قال: إني قتلت رجلا
فهل لي من توبة؟ قال: تزود من الماء البارد، فإنك لا تدخلها
أبدا.
وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ضد هذا، فإنه قال: للقاتل
تب إلى الله يتب عليك.
وروى سعيد بن ميناء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءه رجل
فقال:
يا أبا هريرة، ما تقول في قاتل المؤمن، هل له من توبة؟ قال:
والذي لا إله إلا هو لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم
الخياط.
__________
(1) أخرجه البخاري (4762) ومسلم (3023) والنسائي (7/ 85 و 8/
62) وفي «الكبرى» التفسير (6/ 421/ 11370) وأبو عبيد في
«ناسخه» (487).
(2) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (488) وأبو داود (4272)
والنسائي (7/ 85) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 1037/ 5814).
وضعفه الألباني في «ضعيف سنن النسائي» (264).
(1/124)
والقول الثاني: أنها عامة دخلها التخصيص،
بدليل أنه لو قتله كافر ثم أسلم الكافر سقطت عنه العقوبة في
الدنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العام المخصص، فأي دليل صلح
للتخصيص وجب العمل به. ومن أسباب التخصيص أن يكون قد قتله
مستحلا لأجل إيمانه فيستحق التخليد لاستحلاله.
[129]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن
قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمد بن
إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا
الحسن بن عطاء، وأحمد بن محمد الحسين، قالا: ابنا خلاد بن
يحيى، قال ابنا أنس بن مالك الصير في أبو روية، عن أنس بن
مالك، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية وعليها
أمير، فلما انتهى إلى أهل ماء خرج إليه رجل من أهل الماء فخرج
إليه رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
إلى ما تدعو؟ فقال: إلى الإسلام، قال: وما الإسلام؟ قال: شهادة
أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن تقر بجميع
الطاعة، قال: هذا؟ قال: نعم.
فحمل عليه فقتله لا يقتله إلا على الإسلام، فنزلت: وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً لا يقتل إلا على إيمانه الآية
كلها.
قال سعيد بن جبير: نزلت في مقيس بن ضبابة قتل مسلما عمدا وارتد
كافرا، وقد ضعف هذا الوجه أبو جعفر النحاس فقال: ومن لفظ عام
لا يخص إلا بتوقيف أو دليل قاطع وقد ذهب قوم إلى أنها مخصوصة
في حق من لم يتب، بدليل قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ والصحيح
أن الآيتين محكمتان، فإن كانت التي في النساء أنزلت أولا فإنها
محكمة نزلت على حكم الوعيد غير مستوفاة الحكم، ثم بين حكمها في
الآية التي في الفرقان، وكثير من المفسرين منهم ابن عباس وأبو
مجلز وأبو صالح؛ يقولون: فجزاؤه جهنم إن جازاه. وقد روي لنا
مرفوعا، إلا أنه لا يثبت رفعه، والمعنى يستحق الخلود غير أنه
لا يقطع له به.
وفي هذا الوجه بعد لقوله: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ فأخبر بوقوع عذابه كذلك، وقال أبو عبيد: وإن كانت
التي في الفرقان الأولى فقد استغنى بما فيها عن إعادته في سورة
النساء فلا وجه للنسخ بحال.
ذكر الآية السادسة والعشرين
: قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ
[النساء: 145].
زعم بعض من قل فهمه أنها نسخت الاستثناء بعدها وهو قوله:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [النساء: 146] وقد بيّنا في
مواضع أن الاستثناء ليس بنسخ.
(1/125)
|