نواسخ القرآن ناسخ القرآن ومنسوخه ت آل زهوي

... الباب السادس عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة التوبة
ذكر الآية الأولى
: قوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة: 2].
زعم بعض ناقلي التفسير ممن لا يدري ما ينقل؛ أن التأجيل منسوخ بآية السيف، وقال بعضهم منسوخ بقوله: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] وهذا سوء فهم، وخلاف لما عليه المفسرون، فإن المفسرين اختلفوا فيمن جعلت له هذه الأشهر على أربعة أقوال:
الأول: أنها أمان لأصحاب العهد، فمن كان عهده أكثر منها حط إليها، ومن كان عهده أقل منها رفع إليها، ومن لم يكن له عهد فأجله انسلاخ المحرم خمسون
__________
(1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 109) و «الناسخ والمنسوخ» (ص 151) و «الإيضاح» (ص 305) و «الناسخ والمنسوخ» لقتادة (ص 43) و «جمال القراء» (ص 2/ 717).

(1/153)


ليلة. وهذا قول ابن عباس، وقتادة والضحاك، وإنما كان هذا الأجل خمسين ليلة؛ لأن هذه الآيات نودي بها يوم عرفة، وقيل يوم النحر.
والثاني: أنها للمشركين كافة من له عهد ومن ليس له عهد، قاله مجاهد والقرطبي والزهري (1).
والثالث: أنها أجل من كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد أمنه أقل من أربعة أشهر، وكان أمانه غير محدود، فأما من لا أمان له فهو حرب، قاله ابن إسحاق.
والرابع: أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهود، فأما أرباب العهد فهم على عهودهم قاله ابن السائب. ويؤكده أن عليا عليه السّلام نادى يومئذ: «ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد، فعهده إلى مدته».
وقوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ قال الحسن: يعني الأشهر التي قيل لهم فيها:
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وعلى هذا البيان فلا نسخ أصلا.
وقد قال بعض المفسرين: المراد بالأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وهذا كلام غير محقق؛ لأن المشركين إنما قيل لهم: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ في ذي الحجة، فمن ليس له عهد يجوز قتله بعد المحرم، ومن له عهد فمدته آخر عهده فليس لذكر رجب هاهنا معنى.

ذكر الآية الثانية
: قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] قد ذكروا في هذه الآية ثلاثة أقوال:
الأول: أن حكم الأسارى كان وجوب قتلهم ثم نسخ بقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمّد: 4] قاله الحسن، وعطاء والضحاك في آخرين، وهذا يرده قوله:
وَخُذُوهُمْ [التوبة: 5] والمعنى ائسروهم.
والثاني: بالعكس فإنه كان الحكم في الأسارى، أنه لا يجوز قتلهم صبرا، وإنما يجوز المن أو الفداء، بقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ثم نسخ ذلك بقوله:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. قاله مجاهد وقتادة.
والثالث: أن الآيتين محكمتان، لأن قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ أمر بالقتل وقوله: وَخُذُوهُمْ أي: ائسروهم، فإذا حصل الأسير في يد الإمام فهو مخير إن شاء من عليه وإن شاء فاداه، وإن شاء قتله صبرا، أي ذلك رأى فيه المصلحة
__________
(1) انظر «الجامع لأحكام القرآن» (8/ 73) و «الإيضاح» (ص 309) و «جمال القراء» (2/ 721).

(1/154)


للمسلمين فعل، هذا قول جابر بن زيد، وعليه عامة الفقهاء.
وقد ذكر بعض من لا فهم له من ناقلي التفسير أن هذه الآية وهي آية السيف نسخت من القرآن مائة وأربعا وعشرين آية ثم صار آخرها ناسخا لأولها، وهو قوله: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5] وهذا سوء فهم لأن المعنى: اقتلوهم وأسروهم إلا أن يتوبوا من شركهم، ويقروا بالصلاة والزكاة فخلوا سبيلهم ولا تقتلوهم.

ذكر الآية الثالثة
: قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التوبة: 7]، في المشار إليهم بهذه المعاهدة ثلاثة أقوال:
الأول: أنهم بنو ضمرة.
والثاني: قريش.
روي القولان عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال قتادة: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي الله زمن الحديبية فنكثوا وظاهروا المشركين.
والثالث: أنهم خزاعة؛ دخلوا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما عاهد المشركين يوم الحديبية. وهذا قول مجاهد وقوله: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ أي: ما أقاموا على الوفاء بعهدهم فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قال بعض المفسرين: ثم نسخ هذا بآية السيف.

ذكر الآية الرابعة
: قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 34] اختلف في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها عامة في أهل الكتاب والمسلمين، قاله أبو ذر والضحاك.
والثاني: أنها خاصة في أهل الكتاب، قاله معاوية بن أبي سفيان (1).
والثالث: أنها في المسلمين، قاله ابن عباس والسدي، وفي المراد بالإنفاق هاهنا قولان:
الأول: إخراج الزكاة، وهذا مذهب الجمهور، والآية على هذا محكمة.
[164] (2) - أخبرنا عبد الأول بن عيسى قال: ابنا محمد بن عبد العزيز
__________
(1) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (6/ 1789).
(2) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (10/ 118).

(1/155)


الفارسي، قال: ابنا عبد الرحمن بن أبي جريج، قال: ابنا عبد الله بن محمّد البغوي، قال: بنا العلاء بن موسى الباهلي، قال: ابنا الليث بن سعد، عن نافع، أن عبد الله بن عمر، قال: «ما كان من مال تؤدى زكاته، فإنه الكنز الذي ذكره الله عزّ وجلّ في كتابه».
والثاني: أن المراد بالإنفاق إخراج ما فضل عن الحاجة، وقد زعم بعض نقلة التفسير: أنه كان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام، ثم نسخ بالزكاة، وفي هذا القول بعد.
[165] (1) - وقد أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: ابنا محمّد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا عبد الله بن سعيد، قال: ابنا أبو أسامة، عن عمر بن راشد، أو غيره أن عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك قالا في هذه الآية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ نسختها الآية الأخرى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103].

ذكر الآية الخامسة
: قوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [التوبة: 39].
[166]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا بن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد من محمّد قال: بنا علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً نسختها وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122].
وقد روي مثل هذا عن الحسن وعكرمة، وهذا ليس بصحيح، لأنه لا تنافي بين الآيتين، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها فإن قلنا: إِلَّا تَنْفِرُوا أريد به
__________
ونحوه عند البخاري (1404، 4661) معلقا، عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر ... فذكره.
وأخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 167) - 17 - كتاب الزكاة (10) باب ما جاء في الكنز. عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر؛ نحوه.
وأخرجه (2/ 161/ 340) برواية محمّد بن الحسن الشيباني- ط. دار القلم- عن نافع عن ابن عمر. وأخرجه ابن أبي حاتم (6/ 1788/ 10081) من طريق: وكيع، عن نافع، عن ابن عمر- ووقع في مطبوعته: ابن عمير! فليصحّح-. وانظر «فتح الباري» (3/ 320 - 321).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (6/ 1789/ 10087).

(1/156)


غزوة تبوك فإنه كان قد فرض على الناس كافة النفير مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا عاتب المخلّفين وجرت قصة الثلاثة الذين خلّفوا. وإن قلنا: إن الذين استنفروا حيّ من العرب معروف كما ذكرنا في التفسير عن ابن عباس، فإنه قال: استنفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، وأمسك عنهم المطر فكان عذابهم، فإن أولئك وجب عليهم النفير حين استنفروا.
وقد ذهب إلى إحكام الآيتين ومنع النسخ جماعة منهم ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي، وحكى القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا: ليس هاهنا نسخ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدو ففرض على الناس النفير إليهم، ومتى استغنوا عن إعانة من وراءهم، عذر القاعدون عنهم (1).

ذكر الآية السادسة
: قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41].
[167] (2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال:
حدّثني أبي، قال: بنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في براءة: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وقال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [التوبة: 39] فنسخ هؤلاء الآيات، وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122].
وقال السدي: نسخت بقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: 91]. واعلم: أنه متى حملت هذه الآية على ما حملنا عليه التي قبلها لم يتوجه نسخ.

ذكر الآية السابعة
: قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.
[168] (3) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: بنا عمر بن عبيد الله، قال: بنا ابن بشران، قال: بنا إسحاق بن أحمد، قال بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني
__________
(1) انظر «الإيضاح» (ص 316) و «جمال القراء» (2/ 724 - 725).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (6/ 1803/ 10062) وأبو عبيد في «ناسخه» (385). من طريق:
حجاج به.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم (6/ 1806/ 10081) من طريق: محمّد بن شعيب؛ أخبرني عثمان بن عطاء، عن أبيه عطاء، ولم يذكر فيه ابن عباس.

(1/157)


أبي، قال: بنا حجاج، عن ابن جريح، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 44] نسختها إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور: 62].
[169]- أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال:
ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: بنا محمّد بن أحمد، قال: بنا علي بن الحسين، عن أبيه، عن أبي يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ نسختها: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
قلت: فالصحيح أنه ليس للنسخ هاهنا مدخل، لإمكان العمل بالآيتين، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة وكان المنافقون إذا كانوا معه، فعرضت لهم حاجة، ذهبوا من غير استئذانه، وإلى نحو هذا ذهب أبو جعفر بن جرير، وأبو سليمان الدمشقي.

ذكر الآية الثامنة
: قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: 80].
لفظ هذه الآية لفظ الأمر وليس كذلك، وإنما المعنى: إن استغفرت لهم، وإن لم تستغفر لهم لا يغفر الله لهم، فهو كقوله تعالى: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التوبة: 53] فعلى هذا الآية محكمة، هذا قول المحققين.
وقد ذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على السبعين رجى لهم الغفران، ثم نسخت بقوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون: 6] فروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: 80] نسخت بقوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.
[170] (1) - أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي قال: ابنا أبو علي بن شاذان قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (14/ 396/ 17025) وأبو عبيد في «ناسخه» (521) وهو مرسل.

(1/158)


الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:
لما نزلت إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80]، قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سأزيدن على سبعين مرة» فأنزل الله تعالى في سورة المنافقين فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ عزما.
وقد حكى أبو جعفر النحاس؛ أن بعض العلماء قال: فنسخت بقوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التوبة: 84].
قلت: والصحيح إحكام الآية على ما سبق.

ذكر الآية التاسعة
: قوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: 120].
قد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن هذه الآية اقتضت أنه لا يجوز لأحد أن يتخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا كان في أول الأمر ثم نسخ ذلك بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122]. قال أبو سليمان الدمشقي: لكل آية وجهها وليس للنسخ على إحدى الآيتين طريق، وهذا هو الصحيح على ما بينا في الآية الخامسة (1).

... الباب السابع عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة يونس (عليه السّلام)
ذكر الآية الأولى
: قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس: 15].
الكلام في هذه كالكلام في نظيرتها في الأنعام، وقد تكلمنا عليها هناك، ومقصود الآيتين تهديد المخالف، وأضيف إلى الرسول ليصعب الأمر فيه، وليس هاهنا نسخ، ويقوي ما قلنا؛ أن المراد بالمعصية هاهنا تبديل القرآن، والتقول على الله تعالى، وموافقة المشركين على ما هم عليه، وهذا لا يدخل في قوله:
__________
(1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 111) و «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 169).

(1/159)


لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الفتح: 2] كيف وقد قال عزّ وجلّ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [الحاقة: 44]. وقال: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وقال: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء: 75] وإنما هذا وأمثاله في بيان آثار المعاصي وليس من ضرورة ما علق بشرط أن يقع.

ذكر الآية الثانية
: قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ [يونس: 41].
روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسختها آية السيف، وهذا بعيد من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه لا يصح عن ابن عباس.
والثاني: أنه ليس بين الآيتين تناف، والمنسوخ لا يصح اجتماعه مع الناسخ.
والثالث: أنه لا يصح أن يدعي نسخ هذه الآية، بل إن قيل مفهومها منسوخ عندهم، فقل لي عملي، واقتصر على ذلك ولا تقاتلهم، وليس الأمر كذلك إنما معنى الآية: لي جزاء عملي، فإن كنت كاذبا فوباله عليّ، ولكم جزاء عملكم في تكذيبكم لي، وفائدة هذا لا يمنع من قتالهم وهو أقرب إلى ما يفهم منها فلا وجه للنسخ.

ذكر الآية الثالثة
: قوله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [يونس: 46].
زعم بعضهم: أنها منسوخة بآية السيف، فكأنه ظن أن معناها: اترك قتالهم، فربما رأيت بعض الذي نعدهم، وليس هذا شيء.

ذكر الآية الرابعة
: قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99].
زعم قوم منهم مقاتل بن سليمان أنها منسوخة بآية السيف، والصحيح أنها محكمة وبيان ذلك أن الإيمان لا يصح مع الإكراه، لأنه من أعمال القلب، وإنما يتصور الإكراه على النطق لا على العقل (1).

ذكر الآية الخامسة
: قوله تعالى: فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [يونس: 108].
__________
(1) وانظر «صفوة الراسخ» (ص 111).

(1/160)


روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هذه الآية منسوخة بآية القتال، وهذا لا يصح عن ابن عباس، وقد بينّا أنه لا يتوجه النسخ في مثل هذه الأشياء، لأن معنى الآية: ما أنا بوكيل في منعكم من اعتقاد الباطل، وحافظ لكم من الهلاك إذا لم تعملوا أنتم لأنفسكم ما يخلصها.

ذكر الآية السادسة
: قوله تعالى: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ [يونس: 109].
روى أبو صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هذه منسوخة بآية القتال. وهذا لا يثبت عن ابن عباس، ثم إن الأمر بالصبر هاهنا مذكور إلى غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها، وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة عند قوله:
فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109] فلا وجه للنسخ في شيء من هذه الآيات (1).

الباب الثامن عشر باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النّسخ في سورة هود
ذكر الآية الأولى
: قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود: 12].
قال بعض المفسرين: معنى هذه الآية اقتصر على إنذارهم من غير قتال، ثم نسخ ذلك بآية السيف.
والتحقيق أن يقال: إنها محكمة، لأن المحققين قالوا: معناها: إنما عليك أن تنذرهم بالوحي لا أن تأتيهم بمقترحهم من الآيات، والوكيل: الشهيد (2).

ذكر الآية الثانية
: قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها [هود: 15].
زعم قوم منهم مقاتل بن سليمان أن هذه الآية اقتضت أن من أراد الدنيا بعمله أعطي فيها ثواب عمله من الرزق والخير، ثم نسخ ذلك بقوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18].
__________
(1) المصدر السابق (ص 112).
(2) «صفوة الراسخ» (ص 112).

(1/161)


وهذا القول ليس بصحيح، لأن الآيتين خبر، وهذه الآية نظير قوله في آل عمران: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [آل عمران: 146] وقد شرحناها هناك (1).

ذكر الآية الثالثة والرابعة
: قوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود: 121، 122].
قال بعض المفسرين: هاتان الآيتان اقتضتا تركهم على أعمالهم، والاقتناع بإنذارهم، ثم نسختا بآية السيف.
وقال المحققون: هذا تهديد ووعيد، معناه: اعملوا ما أنتم عاملون فستعلمون عاقبة أمركم، وانتظروا ما يعدكم الشيطان، إنا منتظرون ما يعدنا ربنا.
وهذا لا ينافي قتالهم، فلا وجه للنسخ.