الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط سورة آل عمران
{الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ *
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن
قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى
عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الأٌّرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ * هُوَ
الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأٌّرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لا
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِى
أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ آيَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ
ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَبِ *
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ
* رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ
فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ * إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَلُهُمْ وَلاَ
أَوْلدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ
النَّارِ * كَدَأْبِءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِأَيَتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
{وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً}
ويكون: وهب، بمعنى جعل، ويتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، تقول
العرب: وهبني الله فداك، أي: جعلني الله فداك. وهي في هذا
الوجه لا تتصرف، فلا تستعمل منها بهذا المعنى إلاَّ الفعل
الماضي خاصة.
لدن: ظرف، وقل أن تفارقها: من، قاله ابن جني، ومعناها: ابتداء
الغاية في زمان أو مكان، أو غيره من الذوات غير المكانية، وهي
مبنية عند أكثر العرب، وإعرابها لغة قيسية، وذلك إذا كانت
مفتوحة اللام مضمومة الدال بعدها النون، فمن بناها قيل: فلشبها
بالحروف في لزوم استعمال واحد، وامتناع الإخبار بها، بخلاف:
عند، ولدي. فإنهما يكونان لابتداء الغاية، وغير ذلك، ويستعملان
فضلة وعمدة، فالفضلة كثير، ومن العمدة {وعنده مفاتح الغيب}
{ولدينا كتاب ينطق بالحق} .
وأوضح بعضهم علة البناء فقال: علة البناء كونها تدل على
الملاصقة للشيء وتختص بها. بخلاف: عند، فإنها لا تختص
بالملاصقة، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف، بل هو من قبيل
ما يدل عليه الحرف، فهي كأنها متضمنة للحرف الذي كان ينبغي أن
يوضع دليلاً على القرب. ومثله: ثم، و: هنا. لأنهما بُنيا لما
تضمنا معنى الحرف الذي كان ينبغي أن يوضع ليدل على الإشارة.
ومن أعربها، وهم قيس، فتشبيهاً: بعند، لكون موضعها صالحاً
لعند، وفيها تسع لغات غير الأولى: لَدُن، ولُدْنُ، ولَدْنٌ،
ولَدِنٌ، ولَدُنِ، ولَدٌ ولُدْ، ولَدٌ ولَتْ. بإبدال الدال
تاء، وتضاف إلى المفرد لفظاً كثيراً، وإلى الجملة قليلاً.
فمن إضافتها إلى الجملة الفعلية قول الشاعر:
صريع غوانٍ راقهن ورُقنَهُ
لدن شب حتى شاب سود الذوائبِ
قوال الآخر:
لزمنا لدن سالتمونا وفاقكم
فلا يك منكم للخلاف جنوحُ ومن إضافتها إلى الجملة الإسمية قول
الشاعر:
تذكر نعماه لده أنت يافع
إلى أنت ذو فودثين أبيض كالنسر وجاء إضافتها إلى: أن والفعل،
قال:
وليت فلم يقطع لدن أن وليتنا
قرابة ذي قربى ولا حق مسلم وأحكام لدن
كثيرة ذكرت في علم النحو.
{الم * اللَّهُ} وقال الأخفش: يجوز: ألم الله، بكسر الميم
لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: هذا خطأ، ولا تقوله العرب
لثقله.
واختلفوا في فتحة الميم: فذهب سيبويه إلى أنها حركت لالتقاء
الساكنين، كما حركوا: من الله، وهمزة الوصل ساقطة للدرج كما
سقطت في نحو: من الرجل، وكان الفتح أولى من الكسر لأجل الياء،
كما قالوا: أين؟ كيف؟ ولزيادة السكرة قبل الياء، فزال الثقل.
وذهب الفارء إلى أنها حركة نقل من همزة الوصل، لأن حروف الهجاء
ينوي بها الوقف، فينوي بما بعدها الاستئناف. فكأن الهمزة في
حكم الثبات كما في أنصاف الأبيات نحو:
لتسمعن وشياً في دياركم
الله أكبر: يا طارات عثماناً وضعف هذا المذهب بإجماعهم على أن
الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل. وما يسقط يتلقى
حركته، قاله أبو علي. وقد اختار مذهب الفراء في أن الفتحة في
الميم هي حركة الهمزة حين أسقطت للتخفيف الزمخشري، وأورد أسئلة
وأاب عنها.
فقال: فإن قلت: كيف جامز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا
تثبت في درج الكلام، فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها؟
قلت: ليس هذا بدرج، لأن ميم في حكم الوقف والسكون، والهمزة في
حكم الثابت. وإنما حذفت تخفيفاً، وألقيت حركتها على الساكن
قبلها الندل عليها، ونظيره قولهم: واحد إثنان، بالقاء حركة
الهمزة على الدال. إنتهى هذا السؤال وجوابه. وليس جوابه بشيء،
لأنه ادّعى أن الميم حين حركت موقوفة عليها. وأن ذلك ليس بدرج،
بل هو وقف، وهذا خلاف لما أجمعت العرب والنحاة عليه من أنه لا
يوقف على متحرك ألبتة، سواء كانت حركته إعرابية، أو بنائية، أو
نقلية، أو لإلتقاء الساكنين، أو للحكاية، أو للإتباع. فلا يجوز
في: قد أفلح، إذا حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى دال: قد، أن
تقف على دال: قد، بالفتحة، بل تسكنها قولاً واحداً.
وأما قوله: ونظير ذلك قولهم: واحد اثنان
بالقاء حركة الهمزة على الدال، فإن سيبوية ذكر أنهم يشمون آخر
واحد لتمكنه، ولم يحك الكسر لغة. فإن صح الكسر فليس واحد
موقوفاً عليه، كما زعم الزمخشري، ولا حركته حركة نقل من همزة
الوصل، ولكنه موصول بقولهم: إثنان، فالتقى ساكنان، دال، واحد،
و: ثاء، إثنين، فكسرت الدال لإلتقائهما، وحذفت الهمزة لأنها لا
تثبت في الوصل. وأما ما استدل به للفراء من قولهم: ثلاثة
أربعة، بإلقائهم الهمزة على بالهاء، فلا دلالة فيه، لأن همزة
أربعة همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها، وليس كذلك
همزة الوصل نحو: من الله، وأيضاً، فقولهم: ثلاثة أربعة بالنقل
ليس فيه وقف على ثلاثة، إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة،
ولكن أقرت في الوصل هاء اعتباراً بما آلت إليه في حال مّا، لا
أنها موقوف عليها.
ثم أورد الزمخشري سؤالاً ثانياً. فقال:
فإن قلت: هلا زعمت أنها حركت لإلتقاء الساكنين؟.
قلت: لأن إلتقاء الساكنين لا نبالي به في باب الوقف، وذلك
كقولك: هذا ابراهيم، وداود، وإسحاق. ولو كان لإلتقاء الساكنين
في حال الوقف موجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم
لإلتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن آخر. إنتهى هذا السؤال
وجوابه. وهو سؤال صحيح، وجواب صحيح، لكن الذي قال: إن الحركة
هي لإلتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من
ألف لام ميم في الوقف، وهنما عنى إلتقاء الساكنين اللذين هما:
ميم ميم الأخيرة. و: لام التعريف، كالتقاء نون: من، ولام:
الرجل، إذا قلت: من الرجل.
ثم أورد الزمشخري سؤالاً ثالثاً، فقال:
فإن قلت: إنما لم يحركوا لألتقاء الساكنين في ميم، لأنهم
أرادوا الوقف، وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء بساكن ثالث لم
يمكن إلاَّ التحريك فحركوا؟
قلت: الدليل على أن الحركة ليست الملاقاة
الساكن أنهم كان يمكنهم أن يقولوا: واحد اثنان، بسكون الدال مع
طرح الهمزة، فجمعوا بين ساكنين، كما قالوا: أصيم ومديق، فلما
حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير،
وليست لالتقائ الساكنين. إنتهى هذا السؤال وجوابه. وفي سؤاله
تعمية في قوله: فإن قلت: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين؟
ويعني بالساكنين: الياء والميم في سيم، وحيئذ يجيء التعليل
بقوله: لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، يعني الياء
والميم، ثم قال: فإن جاء بساكن ثالث، يعني لام التعريف، لم
يمكن إلاَّ التحريك، يعني في الميم، فحركوا يعني: الميم
لالتقائها ساكنة مع لام التعريف، إذ لو لم يحركوا لآجتمع ثلاث
سواكن، وهو لا يمكن. هذا شرح السؤال.
وأما جواب الزمخشري عن سؤاله، فلا يطابق، لأنه استدل على أن
الحركة ليست لملاقاة ساكن بامكانية الجمع بين ساكنين في قولهم:
واحد اثنان، بأن يسكنوا الدال، والثاء ساكنة، وتسقط الهمزة.
فعدلوا عن هذا الإمكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال، وهذه
مكابرة في المحسوس، لا يمكن ذلك أصلاً، ولا هو في قدرة البشر
أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء، وطرح الهمزة.
وأما قوله: فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع كما قلناه، وأما
قوله: كما قالوا: أصيم ومديق، فهذا ممكن كما هو في: راد وضال،
لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدّهما المشروط في النحو،
فأمكن النطق به، وليس مثل: واحد اثنان. لأن الساكن الأول ليس
حرف علة، ولا الثاء في مدغم، فلا يمكن الجمع بينهما.
وأما قوله: فلما حركوا الدال علم أن حركتها
هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وليست لالتقاء الساكنين، لما
بني على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن، وحركة
التقاء الساكنين إنما هي لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ،
ادّعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لالتقاء الساكنين،
وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك، فإن صح كسر الدال، كما نقل هذا
الرجل، فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا لنقل، وقد ردّ قول
الفراء، واختيار الزمخشري إياه بأن قيل: لا يجوز أن تكون حركة
الميم حركة الهمزة ألقيت عليها، لما في ذلك من الفساد
والتدافع، وذلك أن سكون آخر ميم إنما هو على نية الوقف عليها،
والقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل، ونية الوصل
توجب حذف الهمزة، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها،
وهذا متناقض. إنتهى. وهو ردّ صحيح.
والذي تحرر في هذه الكلمات: أن العرب متى سردت أسماء مسكنة
الآخر وصلاً ووقفاً، فلوا التقى آخر مسكن منها، بساكن آخر، حرك
لالتقاء الساكنين. فهذه الحركة التي في ميم: ألم الله، هي حركة
التقاء الساكنين.
{الم * اللَّهُ} قال ابن كيسان: موضع: ألم، نصب، والتقدير:
قرأوا ألم، و: عليكم ألم. ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى:
هذا ألم، و: ذلك ألم.
وتقدم من قول الجرجاني أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف، أي: هذه
الحروف كتابك.
وقرأ عمر بن الخطابد وعبد الله بن مسعود، وعلقمة بن قيس:
القيام. وقال خارجه في مصحف عبد الله: القيم، وروي هذا أيضاً
عن علقمة.
{الله} رفع على الإبتداء، وخبره: {لا إله إلا هو} و {نزل عليك
الكتاب} خبر بعد خبر، ويحتمل أن يكون: نزل، هو الخبر، و: لا
إله إلا هو، جملة اعترض.
وتقدم في آية الكرسي استقصاء إعراب: {لا إله إلا هو الحي
القيوم} فأغنى عن إعادته هنا.
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً} والباء: تحتمل السببية أي: بسبب إثبات الحق،
وتحتمل الحال، أي: محقاً نحو: خرج زيد بسلاحه، أي متسلحاً.
وانتصاب: مصدقاً، على الحال من الكتاب، وهي حال مؤكدة، وهي
لازمة، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه، فهو كما
قال:
أنا ابن دارة معروفاً به نسبي
وهل بدارة يا للناس من عار؟ وقيل: انتصاب: مصدقاً، على أنه بدل
من موضع: بالحق، وقيل: حال من الضمير المجرور. و: لما، متعلق
بمصدقاً، واللام لتقوية التعدية، إذ: مصدقاً، يتعدى بنفسه، لأن
فعله يتعدى بنفسه.
وقرأ الحسن: والأنجيل، بفتح الهمزة، وهذا يدل على أنه أعجمي،
لأن أفعيلاً ليس من أبنية كلام العرب، بخلاف إفعيل، فإنه موجود
في أبنيتهم: كإخريط، وإصليت.
وتعلق: من قبل، بقوله: وأنزل، والمضاف إليه المحذوف هو الكتاب
المذكور، أي: من قبل الكتاب المنزل عليك وقيل: التقدير من
قبلك، فيكون المحذوف ضمير الرسول. وغاير بين نزل وأنزل، وإن
كانا بمعنى واحد، إذ التضعيف للتعدية، كما أن الهمزة للتعدية.
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأٌّرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ}
و: كيف، هنا للجزاء، لكنها لا تجزم. ومفعول: يشاء، محذوف لفهم
المعنى، التقدير: كيف يشاء أن يصوركم. كقوله {ينفق كيف يشاء}
أي: كيف يشاء أن ينفق، و: كيف، منصوب: بيشاء، والمعنى: على أي
حال شاء أن يصوركم صوركم، ونصبه على الحال، وحذف فعل الجزاء
لدلالة ما قبله عليه، نحو قولهم: أنت ظالم إن فعلت، التقدير:
أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب،
وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى، فتعلقها كتعلق إن فعلت،
كقوله: أنت ظالم.
وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه، لا يهتدي له إلاَّ
بعد تمرّن في الإعراب، واستحضار للطائف النحو.
وقال بعضهم {كيف يشاء} في موضع الحال،
معمول: يصوركم؛ ومعنى الحال أي: يصوركم في الأرحام قادراً على
تصوريكم مالكاً ذلك وقيل: التقدير في هذه الحال: يصوركم على
مشيئته، أي مريداً، فيكون حالاً من ضمير اسم الله، ذكره أبو
البقاء، وجوّز أن يكون حالاً من المفعول، أي: يصوركم منقلبين
على مشيئته.
وقال الحوفي: يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى:
يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة، وكما يشاء.
{هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ آيَتٌ
مُّحْكَمَتٌ} وقوله: {منه آيات محكمات} إلى آخره، في موضع
الحال، أي: تركه على هذين الوجهين محكماً ومتشابهاً، وارتفع:
آيات، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد، ويجوز ارتفاعه على
الإبتداء، والجملة حالية. ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة، ووصف
الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة، وأما قوله: {وأخر
متشابهان} فأُخر صفة لآيات محذوفة، والوصف بالتشابه لا يصح في
مفرد آخر.
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَءَامَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} ويكون قوله {والراسخون} مبتدأ و
{يقولون} خبر عنه وقيل: والراسخون، معطوف على الله، وهم يعلمون
تأويله، و: يقولون، حال منهم أي: قائلين وروي هذا عن ابن عباس
أيضاً، ومجاهد والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وأكثر
المتكلمين. ورجح الأول بأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر
علم أن المراد بعض المجازات، وليس الترجيح لبعض إلاَّ بالأدلة
اللفظية، وهي ظنية، والظن لا يكفي في القطعيات، ولأن ما قبل
الآية يدل على ذم طالب المتشابه، ولو كان جائزاً لما ذمّ بأن
طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات، وهو ترك للظاهر، ولا
يجوز، ولأنه مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا {آمنا به} ولو
كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان
به مدح، لأن من علم شيئاً على التفصيل لا بد أن يؤمن به، وإنما
الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر، ويفوضون
تعيين المراد إلى علمه تعالى، وقطعوا أنه الحق، ولم يحملهم عدم
التعيين على ترك الإيمان، ولأنه لو كان: الراسخون، معطوف على:
الله، للزم أن يكون: يقولون، خبر مبتدأ وتقديره: هؤلاء، أو:
هم، فيلزم الإضمار، أو حال والمتقدّم: الله والراسخون، فيكون
حالاً من الراسخين فقط، وفيه ترك للظاهر. ولأن قوله: {كل من
عند ربنا} يقتضي فائدة، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما
لم يعرفوه، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عرى عن الفائدة،
ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير
لا يقع جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير يعلمه
العلماء، وتفسير لا يعلمه إلاَّ الله، تعالى.
وتلخص في إعراب {والراسخون} وجهان:.
أحدهما: أنه معطوف على قوله: الله، ويكون
في إعراب: يقولون، وجهان: أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف.
والثاني: أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين، كما تقول: ما
قام إلاَّ زيد وهند ضاحكة.
والثاني: من إعراب: والراسخون، أن يكون مبتدأ، ويتعين أن يكون:
يقولون، خبراً عنه، ويكون من عطف الجمل.
{كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} هذا من المقول، ومفعول: يقولون
قوله: {آمنا به كل من عند ربنا} وجعلت كل جملة كأنها مستقلة
بالقول، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف، أو جعلا ممتزجين في
القول امتزاج الجملة الواحدة، نحو قوله:
كيف أصحبت؟ كيف أمسيت؟ مما
يزرع الود في فؤاد الكريم؟ كأنه قال: هذا الكلام مما يزرع
الودّ. والضمير في: به، يحتمل أن يعود على المتشابه، وهو
الظاهر، ويحتمل أن يعود على الكتاب. والتنوين في: كل، للعوض من
المحذوف، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب، أي: كله من عند ربنا،
ويحتمل أن يكون التقدير: كل واحد من المحكم والمتشابه من عند
الله، وإدا كان من عند الله فلا تناقض ولا أختلاف، وهو حق يجب
أن يؤمن به.
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ
الْوَهَّابُ} و: إذ، أصلها أن تكون ظرفاً، وهنا أضيف إليها:
بعد، فصارت إسماً غير ظرف، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية
تضاف إلى الجملة، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة،
وليست الإضامة إليها تخرجها عن هذا الحكم. ألا ترى إلى قوله
تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين} ؟ {يوم لا تملك} في قراءة من
رفع يوم؟ وقول الشاعر.
على حين عاتبت المشيب على الصبا
على حين من تكتب عليه ذنوبه
على حين الكرام قليل
ألا ليت أيام الصفاء جديد
كيف خرج الظرف هنا عن بابه، واستعمل خبراً ومجروراً بحرف الجر،
واسم ليت، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة؟.
ويجوز في: أنت، التوكيد للضمير، والفصل، والابتداء.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ
عَنْهُمْ أَمْوَلُهُمْ وَلاَ أَوْلدُهُم مِّنَ اللَّهِ
شَيْئًا} وقرأ أبو عبد الرحمن: لن يغني، بالياء على تذكير
العلامة. وقرأ علي: لن يغني، بسكون الياء. وقرأ الحسن: لن يغني
بالياء أولاً وبالياء منالساكنة آخراً، وذلك لاستثقال الحركة
في حرف اللين، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع. وبعض النحويين يخص
هذا بالضرورة، وينبغي أن لا يخص بها، إذ كثر ذلكح في كلامهم.
و: من، لابتداء الغاية عند المرد، وبمعنى: عند، قاله أبو
بعيدة، وجعله كقوله تعالى: {أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} قال:
معناه عند جوع وعند خوف، وكون: من، بمعنى: عند، ضعيف جداً.
وقال الزمشخري: قوله: من الله، مثله في قوله: {ان الظنّ لا
يغني من الحق شيئاً} والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو
من طاعة الله شيئاً، أي: بدل رحمته وطاعته، وبدل الحق. ومنه:
ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد أي: لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا
بذلك، أي: بدل طاعتك وعبادتك. وما عندك. وف معناه قوله تعالى:
{وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى} إنتهى
كلامه.
وإثبات البدلية: لمن، فيه خلاف أصحابنا ينكرونه، وغيرهم قد
أثبته، وزعم أنها تأتي بمعنى البدل. واستدل بقوله تعالى:
{أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} {لجعلنا منكم ملائكة} أي:
بدل الآخرة وبدلكم. وقال الشاعر:
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة
ظلماً ويكتب للأميلا إفيلا أي بدل الفصيل، وشيئاً ينتصب على
أنه مصدر، كما تقول ضربت شيئاً من الضرب، ويحتمل أن ينتصب على
المفعول به، لأن معنى: لن تغني، لن تدفع أو تمنع، فعلى هذا
يجوز أن يكون: من، في موضع الحال من شيئاً، لأنه لو تأخر لكان
في موضع النعت لها، فلما تقدّم انتصب على الحال. وتكون: من إذ
ذاك للتبعيض.
فتلخص في: من، أربعة أقوال: ابتداء الغاية،
وهو قول المبرد، والكلبي. و: كونها بمعنى: عند، وهو قول أبي
عبيدة. و: البدلية، وهو قول الزمخشري، و: التبعيض، وهو الذي
قررناه.
{وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} تحتمل هذه الجملة أن تكون
معطوفة على خبر: إن، واحتمل أن تكونه مستأنفة عطفت على الجملة
اغلأولى، وأشار: بأولئك، إلى بعدهم. وأتى بلفظ: هم، المشعرة
بالاختصاص، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق، كأن النار
ليس لها ما يضرمها إلا هم، وتقدّم الكلام في الوقود في قوله:
{وقودها الناس والحجارة} .
وقرأ الحسن، ومجاهد، وغيرهما: وقود، بضم الواو، وهو مصدر: وقدت
النار تقد وقوداً، ويكون على حذف مضاف، أي: أهل وقود النار،
أو: حطب وقود، أو جعلهم نفس الوقود مبالغة، كما تقول: زيد رضا.
وقد قيل في المصدر أيضاً: وقود، بفتح الواو، وهو من المصادر
التي جاءت على فعول بفتح الواو، وتقدّم ذكر ذلك.
و: هم، يحتمل أن يكون مبتدأ، ويحتمل أن يكون فصلاً.
{كَدَأْبِءَالِ فِرْعَوْنَ} واختلفوا في إعراب: كدأب، فقيل: هو
خبر مبتدأ محذوف، فهو في موضع رفع، التقدير: دأبهم كدأب، وبه
بدأ الزمشخري وابن عطية.
وقيل: هو في موضع نصب بوقود، أي: توقد النار بهم، كما قد بآل
فرعون. كما تقول: إنك لتثلم الناس كدأب أبيك، تريد: كظلم أبيك،
قاله الزمخشري.
وقيل: يفعل مقدّر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس
الإحتراق، قاله ابن عطية. وقيل: من معناه أي عذبوا تعذيباً
كدأب آل فرعون. ويدل عليه وقود النار.
وقيل: بلن تغني، أي: لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك،
قاله الزمخشري. وهو ضعيف، للفصل بين العالم والمعمول بالجملة
التي هي: {أولئك هم وقود النار} على أي التقديرين اللذين
قدرناهما، فيها من أن تكون معطوفة على خبر إن، أو على الجملة
المؤكدة بإن، فان قدرتها اعتراضية، وهو بعيد، جاز ما قاله
الزمخشري.
وقيل: بفعل منصوب من معنى: لن تغني، أي بطل
انتفاعهم بالأموال والأولاد بطلاناً كعادة آل فرعون.
وقيل: هو نعت لمصدر محذوف تقديره: كفراً كدأب والعامل فيه:
كفروا، قاله الفراء وهو خطأ، لأنه إذا كان معمولاً للصلة كان
من الصلة، ولا يجوز أن يخبر عن الموصول حتى يستوفي صلته
ومتعلقاتها، وهنا قد أخبر، فلا تجوز أن يكون معمولاً لما في
الصلة.
وقيل: بفعل محذوف يدل عليه: كفروا، التقدير: كفروا كفراً كعادة
آل فرعون.
وقيل: العامل في الكاف كذبوا بآياتنا، والضمير في: كذبوا، على
هذا الكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه
وسلّم أي: كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعون.
وقيل: يتعلق بقوله: {فأخذهم الله بذنوبهم} أي: أخذهم أخذاً كما
أخذ آل فرعون، وهذا ضعيف، لأن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل
فيما قبلها.
وحكى بعض أصحابنا عن الكوفيين أنهم أجازوا: زيداً قمت فضربت،
فعلى هذا يجوز هذا القول.
فهذه عشرة أقوال في العامل في الكاف.
{وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} وموضع: والذين، جر عطفاً على: آل
فرعون.
{كَذَّبُواْ بِأَيَتِنَا} بهذه الجملة تفسير للدأب، كأنه قيل:
ما فعلوا؟ وما فعلوا بهم؟ فقيل: كذبوا بآياتنا، فهي كأنها جواب
سؤال مقدّر، وجوّزوا أن تكون في موضع الحال، أي: مكذبين،
وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله: {كدأب آل فرعون} ثم ابتدأ
فقال: {والذين من قبلهم كذبوا} فيكون: الذين، مبتدأ، و: كذبوا
خبره وفي قوله: بآياتنا، التنفات، إذ قبله من الله، فهو اسم
غيبة، فانتقل منه إلى التكلم.
{قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ
كَانَ لَكُمْءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ
تُقَتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ
يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً
لأوْلِى الأٌّبْصَرِ * زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَتِ
مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالأَنْعَمِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا
وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ} .
{وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وأبعد من
ذهب إلى أن: إلى، في معنى: في، فيكون المعنى: إنهم يجمعون في
جهنم وبئس المهاد، يحتمل أن يكون من جملة المقول، ويحتمل أن
يكون استئناف كلام منه تعالى، قاله الراغب؛ والمخصوص بالذم
محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: وبئس المهاد جهنم.
وكثيراً ما يحذف لفهم المعني، وهذا مما يستدل به لمذهب سيبويه:
أنه مبتدأ والجملة التي قبله في موضع الخبر، إذ لو كان خبر
مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر للزم من ذلك حذف الجملة
برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها، وذلك لا يجوز، لأن حذف
المفرد أسهل من حذف الجملة. وأمّا من جعل: المهاد، ما مهدوا
لأنفسهم، أي: بئسما مهدوا لأنفسهم، وكان المعنى عنده، و: بئس
فعلهم الذي أداهم إلى جهنم، ففيه بُعْدٌ، ويروى عن مجاهد.
{قَدْ كَانَ لَكُمْءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ}
والجمهورُ برفع: فئة، على القطع، التقدير: إحداهما، فيكون:
فئة، على هذا خبر مبتدأ محذوف، أو التقدير: منهما، فيكون مبتدأ
محذوف الخبر.
وقيل: الرفع على البدل من الضمير في التقتا.
وقرأ مجاهد، والحسن، والزهري وحميد: فئةٍ،
بالجر على البدل التفصيلي، وهو بدل كل من كل، كما قال:
وكنت كذي رجلينٍ رجل صحيحة
ورجل رمي فيها الزمان فشُلَّتِومنهم من رفع: كافرة، ومنهم من
خفضها على العطف، فعلى هذه القراءة تكون: فئة، الأولى بدل بعض
من كل، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي: فئة منهما تقاتل في سبيل
الله، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الإبتداء وإما على
الخبر.
وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: فئة، بالنصب. قالوا: على
المدح، وتمام هذا القول: إنه انتصب الأول على المدح، والثاني
على الذم، كأنه قيل: أمدح فئة تقاتل في سبيل الله، وأذم أخرى
كافرة.
وقال الزمخشري: النصب في: فئة، على الاختصاص وليس بجيد، لأن
المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً، وأجاز هو،
وغيره قبله كالزجاج: أن ينتصب على الحال من الضمير في: التقتا،
وذكر: فئة، على سبيل التوطئة.
{يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ} فالظاهر أن
الجملة صفة لقوله: وأخرى كافرة، وضمير الرفع عائد عليها على
المعنى، إذ لو عاد على اللفظ لكان: تراهم، وضمير النصب عائد
على: فئة تقاتل في سبيل الله، وضمير الجرّ في: مثليهم، عائد
على فئة أيضاً، وذلك على معنى الفئة، إذ لو عاد على اللفظ لكان
التركيب: تراها مثليها، أي ترى الفئةُ الكافرُة الفئةَ
المؤمنةَ في مثلي عدد نفسها. أي: ستمائة ونيف وعشرين، أو مثلي
أنفس الفئة الكافرة، أي ألفين، أو قريباً من ألفين.
ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الفئة المؤمنة على
المعنى، والضمير المنصوب والمجرور عائداً على الفئة الكافرة
على المعنى، أي: ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها.
ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة، أي: مثلي
الفئة الكافرة.
والجملة إذ ذاك صفة لقوله: وأخرى كافرة، ففي الوجه الأول
الرابط الواو، وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب.
فيه {يَرَوْنَهُمْ} قراءتان بالياء والتاء.
والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدّى لواحد، وانتصب:
مثليهم، على الحال. قاله أبو علي، ومكي، والمهدوي. ويقوي ذلك
ظاهر قوله: رأي العين، وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد.
قال الزمخشري: رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر
المعاينات. وقيل: الرؤية هنا من رؤية اللب، فيتعدى لإثنين،
والثاني هو: مثليهم. ورد هذا بوجهين: أحدهما: قوله تعالى: رأي
العين، والثاني: أن رؤية القلب علم، ومحال أن يعلم الشيء
شيئين.
وأجيب عن الأول: بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي، أي:
رأياً مثل رأي العين أي يشبه رأي العين وليس في التحقيق به.
وعن الثاني: بأن معنى الرؤية هنا الاعتقاد، فلا يكون ذلك
محالاً. وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الاعتقاد دون
اليقين، فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى. قال تعالى: {فإن
علمتموهن مؤمنات} أي فإن اعتقدتم إيمانهن، ويدل على هذا قراءة
من قرأ: ترونهم، بضم التاء، أو الباء. قالوا: فكأن المعنى أن
اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو المؤمنين كان تخميناً وظناً،
لا يقيناً. فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك، وذلك أن: أُري،
بضم الهمزة تقولها فيما عندك فيه نظر، وإذا كان كذلك، فكما
استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم، يستحيل أن يحمل على النظر
بالعين، لأنه كما لا يقع: العلم غير مطابق للمعلوم، كذلك لا
يقع: النظر البصري مخالفاً للمنظور إليه، فالظاهر أن ذلك إنما
هو على سبيل التخمين والظن، وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم شبه
برؤية العين.
{وَالْقَنَطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}
من الذهب بيان للقناطير وهي في موضع الحال أي كائناً من الذهب.
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن
ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّتٌ
تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَأَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَنٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ
إِنَّنَآءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ * الصَّبِرِينَ وَالصَّدِقِينَ وَالْقَنِتِينَ
وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأٌّسْحَارِ * شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَئِكَةُ
وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
{للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار} يحتمل أن
يكون للذين متعلقاً بقوله: بخير من ذلكم، و: جنات، خبر مبتدأ
محذوف أي: هو جنات، فتكون ذلك تبييناً لما أبهم في قوله: بخير
من ذلكم ويؤيد ذلك قراءة يعقوب: جنات، بالجر بدلاً من: بخير،
كما تقول: مررت برجل زيد، بالرفع و: زيد بالجر، وجوّز في قراءة
يعقوب أن يكون: جنات، منصوباً على إضمار: أعني، ومنصوباً على
البدل على موضع بخير، لأنه نصب. ويحتمل أن يكون: للذين، خبرا
لجنات، على أن تكون مرتفعة على الإبتداء، ويكون الكلام تم عند
قوله: بخير من ذلكم، ثم بين ذلك الخير لمن هو، فعلى هذا العامل
في: عند ربهم، العامل في: للذين، وعلى القول الأول العامل فيه
قوله: بخير.
وأعرب: الذين يقولون، صفة وبدلاً ومقطوعاً لرفع أو لنصب، ويكون
ذلك من توابع: {الذين اتقوا} أو من توابع: العباد، والأول
أظهر.
و {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} : مفعول: شهد، وفصل به بين
المعطوف عليه والمعطوف، ليدل على بالاعتناء بذكر المفعول،
وليدل على تفاوت درجة المتعاطفين، بحيث لا ينسقان متجاورين.
وقدم الملائكة على أولي العلم من البشر لأنهم الملأ الأعلى،
وعلمهم كله ضروري، بخلاف البشر، فإن علمهم ضروري وإكتسابي.
وقرأ أبو الشعثاء: شهد، بضم الشين مبيناً
للمفعول، فيكون: أنه، في موضع البدل أي: شهد وحدانية الله
وألوهيته. وارتفاع: الملائكة، على هذه القراءة على الابتداء،
والخبر محذوف تقديره: والملائكة وأولوا العلم يشهدون. وحذف
الخبر لدلابة المعنى عليه، ويحتمل أن يكون فاعلاً بإضمار فعل
محذوف لدلالة شهد عليه، لأنه إذا بني الفعل للمفعول فإنه قبل
ذلك كان مبنياً للفاعل، والتقدير: وشهد بذلك الملائكة وأولوا
العلم.
وقرأ أبو المهلب، عم محارب بن دثار: شهداء الله، على وزن:
فعلاء، جمعاً منصوباً.
قال ابن جني: على الحال من الضمير في المستغفرين. وقيل: نصب
على المدح، وهو جمع شهداء، وجمع شاهد: كظرفاء وعلماء. وروي
عنه، وعن أبي نهيك: شهداء الله، بالرفع أي: هم شهداء الله. وفي
القراءتين: شهداء، مضاف إلى اسم الله.
وروي عن أبي المهلب: شهد بضم الشضين والهاء، جمع: شهيد، كنذير
ونذر، وهو منصوب على الحال، واسم الله منصوب. وذكر النقاش: أنه
قرىء كذلك بضم الدال وبفتحها مضافاً لام الله في القراءتين.
وذكر الزمخشري، أنه قرىء: شهداء لله، برفع الهمزة ونصبها،
وبلام الجر داخلة على اسم الله، فوجه النصب على الحال من
المذكورين، والرفع على إضمارهم، ووجه رفع الملائكة على هاتين
القراءتين عطفاً على الضمير المستكن في شهداء، وأاز ذلك الوقوع
الفاصل بينهما. وتقدم توجيه رفع الملائكة إما على الفاعلية،
وإما على الإبتداء.
وقرأ أبو عمر وبخلاف عنه بإدغام: واو، وهو
في: واو، والملائكة. وقرأ ابن عبا: {أنه لا إله إلاَّ هو} بكسر
الهمزة في: أنه، وخرج ذلك على أنه أجرى: شهد، مجرى: قال، لأن
الشهادة في معنى القول، فلذلك كسر إن، أو على أن معمول: شهد،
هو إن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله: {أنه لا إله إلاَّ
هو} جملة اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف، إذ فيها تسديد
لمعنى الكلام وتقوية، هكذا خرجوه والضمير في: أنه، يحتمل أن
يكون عائداً على: الله، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن، ويؤيد هذا
قراءة عبد الله {شهد الله أن لا إله إلا هو} ففي هذه القراءة
يتعين أن يكون المحذوف إذا خففت ضمير الشأن، لأنها إذا خففت لم
تعمل في غيره إلاَّ ضرورة، وإذا عملت فيه لزم حذفه.
قالوا: وانتصب: {قائماً بالقسط} على الحال من اسم الله تعالى،
أو من: هو، أو من الجميع، على اعتبار كل واحد واحد، أو على
المدح، أو صفة للمنفي، كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلاَّ
هو. أو: على القطع، لأن أصله: القائم، وكذا قرأ ابن مسعبود،
فيكون كقوله: {وله الدين واصبا} أي الواصب.
وقرأ أبو حنيفة: قيما، وانتصابه على ما ذكر. وذكر السجاوندي:
أن قراءة عبد الله: قائم، فأما انتصابه على الحال من اسم الله
فعالمهلا شهد، إذ هو العامل في الحال، وهي في هذا الوجه حال
لازمة، لأن القيام بالقسط وصف ثابت لله تعالى.
وقال الزمخشري: وانتصابه على أنه حال مؤكدة
منه، أي: من الله، كقوله: {وهو الحق مصدقاً} . انتهى. وليس من
الحال المؤكدة، لأنه ليس من باب: {ويوم يبعث حياً} ولا من باب:
أنا عبد الله شجاعاً. فليس {قائماً بالقسط} بمعنى: شهد، وليس
مؤكداً مضمون الجملة السابقة في نحو: أنا عبد الله شجاعاً، وهو
زيد شجاعاً. لكن في هذا التخريج قلق في التركيب، إذ يصير
كقولك: أكل زيد طعاماً وعائشة وفاطمة جائعاً. فيفصل بين
المعطوف عليه والمعطوف بالمفعول، وبين الحال وذي الحال
بالمفعول والمعطوف، لكن بمشيئة كونها كلها معمولة لعامل واحد،
وأما انتصابه على الحال من الضمير الذي هو: هو، فجوّزه
الزمخشري وابن عطية.
قال الزمخشري: فإن قلت: قد جعلته حالاً من فاعل: شهد، فهل يصح
أن ينتصب حالاً من: هو، في: {لا إله إلا هو} ؟
قلت: نعم لأنها حال مؤكدة، والحال المئكدة لا تستدعي أن يكون
في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها، كقوله: أنا عبد
الله شجاعاً. انتهى. ويعني: أن الحال المؤكدة لا يكون العامل
فيها النصب شيئاً من الجملة السابقة قبلها، وإنما ينتصب بعامل
مضمر تقديره: أحق، أو نحوه مضمراً بعد الجملة، وهذا قول
الجمهور. والحال المئكدة لمضمون الجملة هي الدالة على معنى
ملازم للمسند إليه الحكم، أو شبيه بالملازم، فإن كان المتكلم
بالجملة مخبراً على نفسه، فيقدر الفعل: أحق، مبنياً للمفعول،
نحو: أنا عبد الله شجاعاً، أي: أحق شجاعاً. وإن كان مخبراً عن
غيره نحو: هو زيد شجاعاً، فتقديره: أحقه شجاعاً.
وذهب الزجاج إلى أن العامل في هذه الحال هو الخبر بما ضمنم ممن
معنى المسمى، وذهب ابن خروف إلى أنه المبتدأ بما ضمن من معنى
التنبيه. وأما من جعله حالاً من الجميع، على ما ذكره، فرد بأنه
لو جاز ذلك لجاز: جاء القوم راكباً، أي: كل واحد منهم. وهذا لا
تقوله العرب.
وأما انتصابه على المدح، فقال الزمخشري:
فإن قلت أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة، كقولك:
الحمد لله الحميد، «إنا معشر الأنبياء لا نورث» .
إنا بني نهشل لا ندعى لأب؟
قلت: قد جاء نكرة في قول الهذلي:
ويأوي إلى نسوة عطل
وشعثاً مراضيع مثل السعالي
انتهى سؤاله وجوابه. وفي ذلك تخليط، وذلك أنه لم يفرّق بين
لامنصوب على المدح أو الذم أو الترحم، وبين المنصوب على
الاختصاص، وجعل حكمهما واحداً، وأورد مثالاً من المنصوب على
المدح وهو: الحمد لله الحميد، ومثالين من المنصوب على الاختصاص
وهما: «إنا معشر الأنبياء لا نورث» .
إنا بني نهشل لا نعدى لأب
والذي ذكر النحويون أن المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم قد
يكون معرفة، وقبله معرفة يصلح أن يكون تابعاً لها، وقد لا
يصلح، وقد يكون نكرة كذلك، وقد يكون نكرة وقبلها معرفة، فلا
يصلح أن يكون نعتاً لها نحو قول النابغة:
أقارعُ عوفٍ لا أحاولُ غيرَها
وجوه قرودٍ يبتغي من يخادعُ
فانتصب: وجوه قرودٍ، على الذم. وقبله معرفة وهو قوله: أقارع
عوف.
وأما المنصوب على الاختصاص فنصبوا على أنه لا يكون نكرة ولا
مبهماً، ولا يكون إلاَّ معرفاً بالألف واللام، أو بالإضافة، أو
بالعلمية، أو بأي، ولا يكون إلاَّ بعد ضمير متكلم مختص به، أو
مشارك فيه، وربما أتى بعد ضمير مخاطب. وأما انتصابه على أنه
صفة للمنفي فقال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن يكون صفة
للمنفي كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلا هو؟
قلت: لا يبعد، فقد رأيناهم يتسعون في الفصل
بين الصفة والموصوف، ثم قال: وهو أوجه من انتصابه عن فاعل:
شهد، وكذلك انتصابه على المدح. انتهى. وكان قد مثل في الفصل
بين الصفة والموصوف بقوله: لا رجل إلاَّ عبد الله شجاعاً.
ويعني أن انتصاب: قائماً، على أنه صفة لقوله: إله، أو لكونه
انتصب على المدح أوجه من انتصابه على الحال من فاعل: شهد، وهو
الله. وهذا الذي ذكره لا يجوز، لأنه فصل بين الصفة والموصوف
بأجنبي، وهو المعطوفان اللذان هما: الملائكة وأولو العلم،
وليسا معمولين من جملة {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} بل هما
معمولان: لشهد، وهو نظير: عرف زيد أن هنداً خارجة وعمرو وجعفر
التميمية. فيفصل بين هنداً والتميمية بأجنبي ليس داخلاً فيما
عمل فيها، وفي خبرها بأجنبي وهما: عمرو وجعفر، المرفوعان بعرف،
المعطوفان على زيد.
وأما المثال الذي مثل به وهو: لا رجل إلاَّ عبد الله شجاعاً،
فليس نظير تخريجه في الآية، لأن قولك: إلاَّ عبد الله، يدل على
الموضع من: لا رجل، فهو تابع على الموضع، فليس بأجنبي. على أن
في جواز هذا التركيب نظراً، لأنه بدل، و: شجاعاً، وصف،
والقاعدة أنه: إذا اجتمع البدل والوصف قدم الوصف على البدل،
وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل على المذهب الصحيح، فصار من
جملة أخرى على المذهب.
وأما انتصابه على القطع فلا يجيء إلا على مذهب الكوفيين، وقد
أبطله البصريون.
والأولى من هذه الأقوال كلها أن يكون منصوباً على الحال من اسم
الله، والعامل فيه: شهد، وهو قول الجمهور.
وأما قراءة عبد الله: القائم بالقسط، فرفعه
على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو القائم بالقسط. قال
الزمخشري وغيره: إنه بدل من: هو، ولا يجوز ذلك، لأن فيه فصلاً
بين البدل والمبدل منه بأجنبي. وهو المعطوفان، لأنهما معمولان
لغير العامل في المبدل منه، ولو كان العامل في المعطوف هو
العامل في المبدل منه لم يجز ذلك أيضاً، لأنه إذا اجتمع العطف
والبدل قدم البدل على العطف، لو قلت جاء زيد وعائشة أخوك، لم
يجز. إنما الكلام: جاء زيد أخوك وعائشة.
وقال الزمخشري فإن قلت: لم جاز إفراده بنصب الحال دون
المعطوفين عليه، ولو قلت: جاءني زيد وعمرو راكباً لم يجز؟
قلت: إنما جاز هذا لعدم الإلباس، كما جاز في قوله: {ووهبنا له
إسحاق ويعقوب ونافلة} إن انتصب: نافلة، حالاً عن: يعقوب، ولو
قلت: جاءني زيد وهند راكباً، جاز لتميزه بالذكورة. انتهى
كلامه.
وما ذكر من قوله في: جاءني زيد وعمرو راكباً، أنه لا يجوز ليس
كما ذكر، بل هذا جائز، لأن الحال قيد فيمن وقع منه أو به
الفعل، أو ما أشبه ذلك، وإذا كان قيداً فإنه يحمل على أقرب
مذكور، ويكون راكباً حالاً مما يليه، ولا فرق في ذلك بين الحال
والصفة، لو قلت: جاءني زيد وعمرو الطويل. لكان: الطويل، صفة:
لعمرو، ولا تقول: لا تجوز هذه المسألة، لأنه يلبس بل لا لبس في
هذا، وهو جائز فكذلك الحال.
وأما قوله: في: نافلة، إنه انتصب حالاً عن: يعقوب، فلا يتعين
أن يكون حالاً عن: يعقوب، إذ يحتمل أن يكون: نافلة، مصدراً
كالعافية والعاقبة.
{لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وارتفع:
العزيز، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: والعزيز، على الاستئناف
قيل: وليس بوصف، لأن الضمير لا يوصف، وليس هذا بالجمع عليه، بل
ذهب الكسائي إلى أن ضمير الغائب كهذا يوصف.
وجوّزوا في إعراب: العزيز، أن يكون بدلاً من: هو.
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ إِلاَّ مِن
بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن
يَكْفُرْ بِآيَتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ
* فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ
اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ
وَالاٍّمِّيِّينَءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ
اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَغُ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ
بِآيَتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ
النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ
الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ
وَمَا لَهُم مِّن نَّصِرِينَ} .
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ}
قراءة الجمهور بكسر «إن» على الاستئناف وأما قراءة الكسائي ومن
وافقه في نصب: أنه، وأن، فقال أبو علي الفارسي: إن شئت جعلته
من بدل الشيء من الشيء وهو هو، ألا ترى أن الدين الذي هو
الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو هو في المعنى؟ وإن شئت جعلته
من بدل الاشتمال، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل. وقال:
وإن شئت جعلته بدلاً من القسط، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط
وعدل، فيكون أيضاً من بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة.
انتهت تخريجات أبي علي، وهو معتزلي، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ
المعتزلة من التوحيد والعدل، وعلى البدل من أنه لا إله إلا هو،
خرجه غيره أيضاً وليس بجيد، لأنه يؤدي إلى تركيب بعيدٌ أن يأتي
مثله في كلام العرب، وهو: عرف زيد أنه لا شجاع إلاَّ هو، و:
بنو تميم، وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل
المحامي، إن الخصلة الحميدة هي البسالة. وتقريب هذا المثال:
ضرب زيد عائشة، والعمران حنقاً أختك. فحنقاً: حال من زيد،
وأختك بدل من عائشة، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف، وهو
لا يجوز. وبالحال لغير المبدل منه، وهو لا يجوز، لأنه فصل
بأجنبي بين المبدل منه والبدل. وخرجها الطبري على حذف حرف
العطف، التقدير: وأن الدين. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، ولم يبين
وجه ضعفه، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف،
فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين
المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية،
وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل، نحو: أكل
زيد خبزا وعمرو وسمكاً. وأصل التركيب: أكل زيد وعمرو خبزاً
وسمكاً. فإن فصلنا بين قولك: وعمرو، وبين قولك: وسمكاً، يحصل
شنع التركيب. وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح.
وقال الزمخشري: وقرئتا مفتوحتين على أن
الثاني بدل من الأول، كأنه قيل: شهد الله أن الدين عند الله
الإسلام، والبدل هو المبدل منه في المعنى، فكان بياناً صريحاً،
لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل. إنتهى. وهذا نقل كلام أبي
علي دون استيفاء.
وأما قراءة ابن عباس فخرج على {أن الدّين عند الله الإسلام} هو
معمول: شهد، ويكون في الكلام اعتراضان: أحدهما: بين المعطوف
عليه والمعطوف وهو {أنه لا إله إلا هو} والثاني: بين المعطوف
والحال وبين المفعول لشهد وهو {لا إله إلا هو العزيز الحكيم}
وإذا أعربنا: العزيز، خبر مبتدأ محذوف، كان ذلك ثلاث اعتراضات،
فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي
لها بنظير من كلام العرب، وإنما حمل على ذلك العجمة، وعدم
الإمعان في تراكيب كلام العرب، وحفظ أشعارها.
وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتبا: أنه لا يكفي النحو وحده
في علم الفصيح من كلام العرب، بل لا بدّ من الأطلاع على كحلام
العرب، والتطبع بطباعها، والاستكثار من ذكل، والذي خرجت عليه
قراءة: أن الدّين، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول:
للحكيم، على إسقاط حرف الجر، أي: بأن، لأن الحكيم فعيل
للمبالغة: كالعليم والسميع والخبير، كما قال تعالى {من لدن
حكيم خبير} وقال {من لدن حكيم عليم} والتقدير: لا إله إلا هو
العزيز الحاكم أن الدّين عند الله الإسلام.
فإن قلت: لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل
للمبالغة، وهلا جعلته فعيلاً بمعنى مفعل، فيكون معناه
المللهحكم، كما قالوا في: أليم، إنه بمعنى مؤلم، وفي سميع من
قول الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع؟
فالجواب: إنا لا نسلم أن فعيلاً يأتي بمعنى
مفعل، وقد يؤوّل: أليم وسميع، على غير مفعل، ولئن سلمنا ذلك
فهو من الندور والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس، وأما فعيل
المحوّل من فاعل للمبالغلا فهو منقاس كثير جداً، خارج عن
الحصر: كعليم وسميع قدير وخبير وحفيظ، في ألفاظ لا تحصى،
وأيضاً فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم
إلاَّ أنه محوّل للمبالغة من حالكم، ألا ترى أنه لما سمع
قارئاً يقرأ {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا
نكالا من الله والله غفور} رحيك أنك أن تكون فاصلة هذا التركيب
السابق: والله غفور رحيم فقيل له التلاوة: {والله عزيز حكيم}
فقال: هكذا يكون عز فحكم، ففهم من حكم أنه محول للمبالغة من
حالكم، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه، وهذا تخريج سهل
سائغ جداً، يزيل تلك التكلفات والتركيبات المعقدة التي ينزه
كتاب الله عنها.
وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول، ولا نجعل: أن الدين
معمولاً: لشهد، كما فهموا، وان: أنه لا إله إلاَّ هو، اعتراض،
وأنه بين المعطوف والحال وبين: أن الدين، اعتراض آخر، أو
اعتراضان، بل نقول: معمول: شهد، إنه بالكسر على تخريج من خرج
أن شهد، لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراءً لها مجرى
القول، أو نقول: إنه معمولها، وعلقت ولم تدخل اللام في الخبر
لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتاً، فإنك تقول: شهدت إن زيداً
ألمنطلق، فيعلق بأن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت
أن فقلت: شهدت أن زيداً منطلق، فمن قرأ بفتح: أنه، فإنه لم ينو
التعليق، ومن كسر فإنه نوى التعليق. ولم تدخل اللام في الخبر
لأنه منفي كما ذكرنا.
{بغيا بينهم} وإعراب: بغياً، فإنه أتى بعد إلاَّ شيآن ظاهرهما
أنهما مستثنيان، وتخريج ذلك: فأغنى عن إعادته هنا.
{فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وهذه
الجملة جواب الشرط والعائد منها على إسم الشرط محذود تقديره:
سريثع الحساب له.
{فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ
اتَّبَعَنِ} {ومن ابتعن} قيل: من، في موضع رفع، وقيل: في موضع
نصب على أنه مفعول معه، وقيل: في موضع خفض عطفاً على اسم الله.
ومعناه: جعلت مقصدي بالإيمان به، والاعة له، ولمن اتبعني
بالحفظ له، والتحفي بتعلمه، وصحته.
فأما الرفع فعطفاً على الفاعل في: أسلمت، قاله الزمخشري، وبدأ
به قال: وحسن للفاصل، يعنى أنه عطف على الضمير المتصل، ولا
يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلاَّ في الشعر، على رأي
البصريين. إلاَّ إنه فصل بين الضمير والمبعطوف، فيحسن. وقاله
ابن عطية أيضاً، وبدأ به. ولا يمكن حمله على ظاهره لأنه إذا
عطف على الضمير في نحو: أكلت رغيفاً وزيد، لزم من ذكل أن يكونا
شريكين في أكل الرغيف، وهنا لا يسوغ ذلك، لأن المعنى ليس على
أنهم أسلموا هم وهو صلى الله عليه وسلّموجهه لله، وإنما
المعنى: أنه صلى الله عليه وسلّمأسلم وجهه لله، وهم أسلموا
وجوههم لله، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف
منه المفعول، لا مشارك في مفعول: أسلمت، التقدير: ومن اتبعني
وجهه.
أو أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه، ومن اتبعني
كذلك، أي: أسلموا وجوههم لله، كما تقول: قضى زيد نحبه وعمرو،
أي: وعمرو كذفلك. أي: قضى نحبه.
ومن الجهة التي امتنع عطف. ومن، على الضمير إذا حمل الكلام على
ظاهره دون تأويل، يمتنع كون: من، منصوباً على أنه مفعول معه،
لأنك إذا قلت: أكلت رغيفاً وعمراً، أي: مع عمرو، دل ذلك على
أنه مشارك لك في أكل الرغيف، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري، وهو
لا يجوز لما ذكرنا على كل حال، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول
مع كون الواو واو المعية.
وأثبت ياء: اتبعني، في الوصل أبو عمرو،
ونافع، وحذفها الباقون، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف، ولأنها
رأس آية كقوله: أكرمن وأهانن، فتشبه قوافي الشعر كقوله الشاعر:
وهل يمنعنّي ارتيادُ البلا
د من حذر الموت أن يأتيَنْ
{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وهذه الجملة هي خبر: إن،
ودخلت الفاء لما يتضمن الموصول من معنى اسم الشرط كما قدّمناه،
ولم يعب بهذا الناسخ لأنه لم يغير معنى الابتداء، أعني: إن.
ومع ذلك في المسألة خلاف: الصحيح جواز دخول الفاء في خبر: إن،
إذا كان اسمها مضمناً معنى الشرط، وقد تقدّمت شروط جواز دخول
الفاء في خبر المبتدأ، وتلك الشروط معتبرة هنا، ونظير هذه
الآية في دخول الفاء {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم
ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم} {إن الذين قالوا ربنا الله
ثم استقاموا فلا خوف عليهم} {إن الذين فتنوا المؤمنين
والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم} .
ومن منع ذلك جعل الفاء زائدة، ولم يقس زيادتها.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ
نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَبِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَبِ اللَّهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ
وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ وَغَرَّهُمْ
فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا
جَمَعْنَهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * قُلِ
اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ
وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ
وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ
شَىْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ
النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ * لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكَفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ إِلاّ أَن
تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَةً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى
صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا
فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَىْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ
مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ
اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ * قُلْ إِن
كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن
تَوَلَّوْاْ
فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَفِرِينَ}
.
اللهم: هو الله إلاَّ أنه مختص بالنداء فلا يستعمل في غيره،
وهذه الميم التي لحقته عند البصريين هي عوض من حرف النداء،
ولذلك لا تدخل عليه إلاَّ في الضرورة. وعند الفراء: هي من
قوله: يا الله أمنا بخير، وقد أبطلوا هذا النصب في علم النحو،
وكبرت هذه اللفظة حتى حذفوا منها: أل، فقالوا: لا همّ، بمعنى:
اللهمّ. قال الزاجر:
لا هم إني عامر بن جهم
أحرم حجاً في ثياب دسم وخففت ميمها في بعض اللغات قال:
كَحَلْقَه من أبي رياح
يسمعها اللَّهُمَ الكُبار {وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} جملة حالية
وقيل مستأنفة.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ} وارتفع: ذفلك، بالابتداء، و:
بأنهم، هو الخبر، أي: ذلك الإعراض والتولي كائن لهم وحاصل بسبب
هذا القول، وهو قولهم: إنهم لا تمسهم النار إلاَّ أياماً
قلائل، يحصرها العدد. وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي: شأنهم ذلك،
أي التولي والإعراض، قاله الزجاج. وعلى هذا يكون: بأنهم، في
موضع الحال، أي: مصحوباً بهذا القول، و: ما في: ما كانوا،
موصولة، أو مصدرية.
{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}
وانتصاب: فكيف، قيل على الحال، والتقدير: كيف يصنعون؟ وقدره
الحوفي: كيف يكحون حالهم؟ فإن أراد كان التامة كانت في موضع
نصب على الحال، وإن كانت الناقصة كانت في موضع نصب على خبر
كان، والأجود أن تكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه
المعنى: التقدير: كيف حالهم؟ والعامل في: إذا، ذلك الفعل الذي
قدره، والعامل في: كيف، إذا كانت خبراً عن المبتدأ إن قلنا إن
انتصابها انتصاب الظروف، وإن قلنا إنها اسم غير ظرف، فيكون
العامل في: إذا، المبتدأ الذي قدرناه، أي: فكيف حالهم في ذلك
الوقت؟ وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب، وكذا أككثر
استفهامات القرآن، لأنها من عالم الشهادة، وإنما استفهامه
تعالى تقريع.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ}
وانتصاب: مالك الملك، على أنه منادى ثانٍ أي: يا مالك الملك،
ولا يوصف اللهم عند سيبويه، وأجاز أبو العباس وأبو إسحاق وصفه،
فهو عندهما صفة للاهم، وهي مسألة خلافية يبحث عنها في علم
النحو.
{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَفِرِينَ أَوْلِيَآءَ}
وقرأ الجمهور: لا يتخذ، على النهي وقرأ الضبي برفع الذال على
النفي، والمراد به النهي، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة
الضبي.
و: يتخذ، هنا متعدية إلى اثنين، و: من دون، متعلقة بقوله: لا
يتخذ، و: من، لابتداء الغاية.
{وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ}
وخبر: ليس، هو ما استقلت به الفائدة، وهي: في شيء، و: من الله،
في موضع نصب على الحال، لأنه لو تأخر لكان صفة لشيء، والتقدير:
فليس في شيء من ولاية الله. و: من، تبعيضية نفي ولاية الله عن
من اتخذ عدوه ولياً، لأن الولايتين متنافيتان، قال:
تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك، ليس النَّوْكُ عنك بعازب وتشبيه من شبه الآية ببيت
النابغة:
إذا حاولت في أسد فجوراً
فإني لست منك ولست مني ليس بجيد، لأن: منك ومني، خبر ليس،
وتستقل به الفائدة. وفي الآية الخبر قوله: في شيء، فليس البيت
كالآية.
قال ابن عطية {فليس من الله في شيء} معناه
في شيء مرضي على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي صلى الله
عليه وسلّم «من غشنا فليس منا» . وفي الكلام حذف مضاف تقديره:
فليس من التقرب إلى الله والتزلف. ونحو هذا مقوله: في شيء، هو
في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله: {ليس من الله
في شيء} . انتهى كلامه. وهو كلام مضطرب، لأن تقديره: فليس من
التقرب إلى الله، يقتضي أن لا يكون منالله خبراً لليس، إذ لا
يستقل. فقوله: في شيء، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا
يكون خبراً، فيبقى: ليس، على قوله لا يكون لها خبر، وذلك لا
يجوز. وتشبيهه بقوله عليه السلام: «من غشنا فليس منا» ليس بجيد
لما بيناه من الفرق في بيت النابغة بينه وبين الآية.
{إِلاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَةً} هذا استثناء مفرع من
المفعول له.
وقال الزمخشري: إلاَّ أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه
وقرىء: تقية. وقيل: للمتقي تقاة وتقية، كقولهم: ضرب الأمير
لمضروبه. انتهى فجعل: تقاة، مصدراً في موضع اسم المفعول،
فانتصابه على أنه مفعول به لا على أنه مصدر، ولذلك قدره إلاَّ
أن تخافوا أمراً.
وقال أبو عليّ: يجوز أن يكون: تقاة، مثل: رماة، حالاً من:
تتقوا، وهو جمع فاعل، وإن كان لم يستعمل منه فاعل، ويجوز أن
يكون جمع تقي. انتهى كلامه.
وتكون الحال مؤكدة لأنه قد فهم معناها من قوله {إلا أن تتقوا
منهم} وتجويز كونه جمعاً ضعيف جدّاً، ولو كان جمع: تقي، لكان
أتقياء، كغني وأغنياء، وقولهم: كمي وكماة، شاذ فلا يخرجّ عليه،
والذي يدل على تحقيق المصدرية فيه قوله تعالى: {اتقوا الله حق
تقاته} المعنى حق اتقائه، وحسن مجيء المصدر هكذا ثلاثياً أنهم
قد حذفوا: اتقى، حتى صار: تقي يتقي، تق الله فصار كأنه مصدر
لثلاثي.
وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة،
والضحاك، وأبو حيوة، ويعقوب، وسهل، وحميد ابن قيس، والمفضل عن
عاصم: تقية على وزن مطية وجنية، وهو مصدر على وزن: فعيلة، وهو
قليل نحو: النميمة. وكونه من افتعل نادر.
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ
مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا} اختلف في العامل في:
يوم، فقال الزجاج: العامل فيه: ويحذركم، ورجحه. وقال أيضاً:
العامل فيه: المصير. وقال مكي بن أبي طالب: العامل فيه: قدير،
وقال أيضاً: فيه مضمر تقديره اذكر. وقال ابن جرير: تقديره:
اتقوا، ويضعف نصبه بقوله: ويحذركم، لطول الفصل. هذا من جهة
اللفظ، وأما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود، واليوم موعود،
فلا يصح له العمل فيه، ويضعف انتصابه: بالمصير، للفصل بين
المصدر ومعموله، ويضعف نصبه: بقدير، لأن قدرته على كل شيء لا
تختص بيوم دون يوم، بل هو تعالى متصف بالقدرة دائماً. وأما
نصبه باضمار فعل، فالإضمار على خلاف الأصل.
وقال الزمخشري: {يوم تجد} منصوب: بتود، والضمير في: بينه، ليوم
القيامة، حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين تتمنى لو أن بينها
وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً. إنتهى هذا التخريج.
والظاهر في بادىء النظر حسنه وترجيحه، إذ يظهر أنه ليس فيه شيء
من مضعفات الأقوال السابقة، لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها
خلاف بين النحويين، وهي: إذا كان الفاعل ضميراً عائداً على شيء
اتصل بالمعمول للفعل، نحو: غلام هند ضربت، وثوبي أخويك يلبسان،
ومال زيد أخذ، فذهب الكسائي، وهشام، وجمهور البصريين: إلى
جوزاز هذه المسائل. ومنها الآية على تخريج الزمخشري، لأن
الفاعل: بتودّ، هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول: تودّ، وهو:
يوم، لأن: يوم، مضاف إلى: تجد كل نفس، والتقدير: يوم وجدان كل
نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوؤ تودّ.
وذهب الفراء، وأبو الحسن الأخفش، وغير من
البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز، لأن هذا
المعمول فضلة، فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل
به في هذه المسائل يخرجه عن ذلك، لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود
الضمير الفاعل على ما اتصل به، ولهذه العلة امتنع: زيداً ضرب،
وزيداً ظنّ قائماً. والصحيح جواز ذلك قال الشاعر:
أجل المرء يستحث ولا يد
ري إذا يبتغي حصول الأماني أي: المرء في وقت ابتغائه حصول
الأماني يستحث أجله ولا يشعر.
و: تجد، الظاهر أنها متعدّية إلى واحد وهو: ما عملت، فيكون
بمعنى نصيب، ويكون: محضراً، منصوباً على الحال. وقيل: تجد، هنا
بمعنى: تعلم، فتتعدّى إلى اثنين، وينتصب: محضراً على أنه مفعول
ثان لها، وما، في: ما عملت، موصولة، والعائد عليها من الصلة
محذوف، ويجوز أن تكون مصدرية أي: عملها، ويراد به إذ ذاك اسم
المفعول، أي: معمولها، فقوله: ما عملت، هو على حذف مضاف أي:
جزاء ما عملت وثوابه.
قيل: ومعنى: محضراً على بهذا موفراً غير مبخوس. وقيل: ترى ما
عملت مكتوباً في الصحف محضراً إليها تبشضيراً لها، ليكون
الثواب بعد مشاهدة العمل.
وقرأ الجمهور: محضراً، بفتح الضاد، اسم مفعول. وقرأ عبيد بن
عمير: محضرا بكسر الضاد، أي محضراً الجنة أو محضراً مسرعاً به
إلى الجنة من قولهم: أحضر الفرس، إذا جرى وأسرع.
و: ما عملت من سوء، يجوز أن تكون في موضع
نصب، معطوفاً على: ما عملت من خير، فكيون المفعول الثاني إن
كان: تجد، متعدّية إليهما، أو الحال إن كان يتعدّى إلى واحد
محذوفاً، أي: وما عملت من سوء محضراً. وذلك نحو: ظننت زيداً
قائماً وعمراً، إذا أردت: وعمراً قائماً، وعلى هذا الوجه يجوز
أن يكون: تودّ، مستأنفاً. ويجوز أن يكون: توّد، في موضع الحال
أي: وادة تباعد ما بينها وبين ما عملت من سوء، فيكون الضخمير
في بينه عائداً على ما عملت من سوء، وأبعد الزمخشري في عوده
على اليوم، لأن أحد القسمين اللذين أحضر له في ذلك اليوم هو:
الخير الذي عمله، ولا يطلب تباعد وقت إحضاراً لخير إلاَّ
بتجوّز إذا كان يشتمل على إحضار الخير والشر، فتودّ تباعدة
لتسلم من الشر، ودعه لا يحصل له الخير. والأولى: عوده على: ما
عملت من السوء، لأنه أقرب مذكور، لأن المعنى: أن السوء يتمنى
في ذلك اليوم التباعد منه، وإلى عطف: ما عملت من سوء، على: ما
عملت من خير، وكون، تودّ، في موضع الحال ذهب إليه الطبري،
ويجوز أن يكون: وما عملت من سوء، موصولة في موضع رفع بالابتداء
و: تودّ، جملة في موضع الخبر: لما، التقدير: والذي عملته من
سبوء تودّ هي لو تباعد ما بينها وبينه، وبهذا الوجه بدأ
الزمخشري وثنى به ابن عطية، واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون:
وما عملت من سوء، شرطاً. قال الزمخشري: لارتفاع: تودّ. وقال
ابن عطية: لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضى جزمه، اللهم إلاَّ أن
يقدر في الكلام محذوف، أي: فهي تودّ، وفي ذلك ضعف. إنتهى
كلامه. وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع: تودّ، وهذه
المسألة كان سألني عنها قاضي القضاة أبون العباس أحمد بن
إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي، رحمه الله، واستشسكل قول
الزمخشري. وقال: ينبغي أن يجوز غاية ما في هذا أن يكون مثل قول
زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسألة
يقول: لا غائب مالي ولا حرم وكتبت جواب ما
سألني عنه في كتابي الكبير المسمى: (بالتذكرة) ، ونذكر هنا ما
تمس إليه الحاجة من ذلك، بعد أن نقدّم ما ينبغي تقديمه في هذه
المسألة، فنقول: إذا كان فعل الشرط ماضياً، وما بعده مضارع تتم
به جملة الشرط والجزاء، جاز في ذلك المضارع الجزم، وجاز فيه
الرفع، مثال ذلك: إن قام زيد يقوم عمرو، وان قام زيد يقم عمرو.
فاما الجزم فعلى أنه جواب الشرط، ولا تعلم في جواز ذلك خلافاً،
وأنه فصيح، إلاَّ ما ذكره صاحب كتاب (الإعراب) عن بعض النحويين
أنه: لا يجيء في الكلام الفصيح، وإنما يجيء مع: كان، لقوله
تعالى {من كان يريد الحياة الدنا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم
فيها} لأنها أصل الأفعال، ولا يجوز ذلك مع غيرها.
وظاهر كلام سيبويه، ونص الجماعة، أنه لا يختص ذلك بكان، بل
سائر الأفعال في ذلك مثل كان، وأنشد سيبويه للفرزدق:
دسَّت رسولاً بأن القوم إن قدروا
عليك يشفوا صدوراً ذات توغير
وقال أيضاً:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثير. وقال بعض أصحابنا:
وهو أحسن من الجزم، ومنه بين زهير السابق إنشاده، وهو قوله
أيضاً:
وإن سل ريعان الجميع مخافة
يقول جهاراً: ويلكم لا تنفروا وقال أبو صخر:
ولا بالذي إن بان عنه حبيبه
يقول ويخفي الصبر: إني الجازع
وقال الآخر:
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه
تشوّف أهل الغائب بالمتنظِّر
وقال الآخر:
وإن كان لا يرضيك حتى تردّني
إلى قطري لا إخاك راضياً
وقال الآخر:
إن يسألوا الخير يعطوه، وإن خبروا
في الجهد أدرك منهم طيب إخبار
فهذا الرفع، كما رأيت كثير، ونصوص الأمة
على جوازه في الكلام، وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره. وقال
صاحبنا أبو جعفر أحمد بن رشيد المالقي، وهو مصنف (صف المباني)
رحمه الله: لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام، وإذا جاء فقياسه
الجزم لأنه أصل العمل في المضارع، تقدّم الماضي أو تأخر،
وتأوّل هذا المسموع على إضمار الفاء، وجعله مثل قول الشاعر:
إنك إن يصرغ أخوك تصرغ.
على مذهب من جعل الفائ منه محذوفة.
وأما المقدّمون فاختلفوا في تخريج الرفع، فذهب سيبويه إلى أن
ذلك على سبيل التقديم. وأما جواب الشرط فهو محذوف عنده.
وذهب الكوفيون، وأبو العباس إلى أنه هو الجواب حذفت منه الفاء،
وذهب غيرهما إلى أنه لما لم تظهر لأداة الشرط تأثير في فعل
الشرط، لكونه ماضياً، ضعف عن العمل في فعل الجواب، وهو عنده
جواب لا على إضمار الفاء، ولا على نية التقديم، وهذا والمذهب
الذي قبله ضعيفان.
وتلخص من هذا الذي قلناه: أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما
قبله شرطاً، لكن امتنع أن يكون: وما عملت، شرطاً لعلة أخرى، لا
لكون: تود، مرفوعاً، وذلك على ما نقرره على مذه سيبويه من أن
النية بالمرفوع التقديم، ويكون إذ ذاك دليلاً على الجواب لا
نفس الجواب، فنقول: إذا كان: تود، منوياً به كالتقديم أدّى إلى
تقدّم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناه في العربية.
ألا ترى أن الضمير في قوله: وبينه، عائد على اسم الشرط الذي
هو: ما، فيصير التقدير: تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمداً
بعيداً ما عملت من سوء؟ فيلزم من هذا التقدير تقدّم المضمر على
الظاهر، وذلك لا يجوز.
فإن قلت: لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط؟ فإن
كان نيته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله،
وذلك نظير: ضرب زيداً غلامه، فالفاعل رتبته التقديم ووجب
تأخيره لصحة عود الضمير.
فالجواب: إن اشتمال الدليل على ضمير اسم
الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة
الشرط لجملة الدليل، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا
جملة دليله، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل، بل إنما
تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب.
وإذا كان كذلك تدافع الأمر، لأنها من حيث هي جملة دليل لا
يقتضيها فعل الشرط، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضتها،
فتدافعا. وهذا بخلاف: ضرب زيداً غلامه، هي جملة واحدة، والفعل
عامل في الفاعل والمفعول معاً، وكل واحد منهما يقتضي صاحبه،
ولذلك جاز عند بعضهم: ضرب غلامها هنداً، لاشتراك الفاعل المضاف
للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل، وامتنع: ضرب
غلامها جار هند، لعدم الاشتراك في العامل، فهذا فرق ما بين
المسألتين. ولا يحفظ من لسان العرب: أو دّلو أني أكرمنه أياً
ضربت هند، لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير
المواضع التي ذكرها النحويون، فلذلك لا يجوز تأخيره.
وقرأ عبد الله، وابن أبي عبلة: من سوء ودّت لو أن، وعلى هذه
القراءة يجوز أن تكون: ما، شرطية في موضع نصب، فعملت. أو في
موضع رفع على إضمار الهاء في: عملت، على مذهب الفراء، إذ يجيز
ذلك في اسم الشرط في فصيح الكلام، وتكون: ودّت، جزاء الشرط.
قال الزمخشري: لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى،
لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم، وأثبت لموافقة قراءة العامة.
انتهى.
و: لو، هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف،
ومفعول: تود، محذوف، والتقدير: تود تباعد ما بينهما لو أن
بينها وبينه أمداً بعيداً لسرت بذلك، وهذا الإعراب والتقدير هو
على المشهور في: لو، و: أن، وما بعدها في موضع مبتداً على مذهب
سيبويه، وفي موضع فاعل على مذهب أبي العباس.
وأمّا على قول من يذهب إلى أن: لو، بمعنى:
أن، وأنها مصدرية فهو بعيد هنا لولايتها أن وأن مصدرية، ولا
يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلاَّ قليلاً، كقوله تعالى {مثل
ما أنكم تنطقون} والذي يقتضيه المعنى أن: لو أن، وما يليها هو
معمول: لتودّ، في موضع المفعول به. قال الحسن: يسر أحدهم أن لا
يلقى عمله ذلك أبداً، ذلك معناه.
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَهِيمَ
وَءَالَ عِمْرَنَ عَلَى الْعَلَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا
مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرَنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي
بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ
إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاٍّنثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا
مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ
الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ
حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ
عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يمَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ
هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ
رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ
سَمِيعُ الدُّعَآءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ وَهُوَ
قَائِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ
بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا
وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّلِحِينَ * قَالَ رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ
وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا
يَشَآءُ *
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّىءَايَةً
قَالَءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَثَةَ أَيَّامٍ
إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ
بِالْعَشِىِّ وَالإِبْكَرِ} .
نوح: اسم أعجمي مصروف عند الجمهور وإن كان فيه ما كان يقتضي
منع صرفه وهو: العلمية والعجمة الشخصية، وذلك لخفة البناء
بكونه ثلاثياً ساكن الوسط لم يضف إليه سبب آخر، ومن جوز فيه
الوجهين فبالقياس على هذا لا بالسماع، ومن ذهب إلى أنه مشتق من
النواح فقوله ضعيف، لأن العجمة لا يدخل فيها الاشتقاق العربي
إلاَّ ادعى أنه مما اتفقت فيه لغة العرب ولغة العجم، فيمكن
ذلك. ويسمى: آدم الثاني واسمه السكن، قاله غير واحد، وهو ابن
لملك بن متوشلخ بن اخنوخ بن سارد بن مهلابيل بن قينان بن انوش
بن شيث بن آدم.
عمران: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، ولو كان عربياً
لامتنع أيضاً للعلمية، وزيادة الألف والنون إذ كان يكون
اشتقاقه من العمر واضحاً.
زكريا: أعجمي شبه بما فيه الألف الممدودة والألف المقصورة فهو
ممدود ومقصور، ولذلك يمتنع صرفه نكرة، وهاتان اللغتان فيه عند
أهل الحجاز، ولو كان امتناعه للعلمية والعجمة انصرف نكرة. وقد
ذهب إلى ذلك أبو حاتم، وهو غلط منه، ويقال: ذكرى بحذف الألف،
وفي آخره ياء كياء بحتى، منونة فهو منصرف، وهي لغة نجد، ووجهه
فيما قال أبو علي؛ إنه حذف ياءي الممدود والمقصور، وألحقه ياءي
النسب يدل على ذلك صرفه، ولو كانت الياآن هما اللتين كانتا في
زكريا لوجب أن لا يصرف للعجمة والتعريف. انتهى كلامه. وقد حكي:
ذكر على وزن: عمر، وحكاها الأخفش.
هنا: اسم إشارة للمكان القريب، والتزم فيه الظرفية إلاَّ أنه
يجر بحرف الجر، فإن ألحقته كاف الخطاب دل على المكان البعيد.
وبنو تميم تقول: هناك، ويصح دخول حرف التنبيه عليه إذا لم تكن
فيه اللام، وقد يراد بها ظرف الزمان.
يحيي: اسم أعجمي امتنع الصرف للعجمة
والعلمية، وقيل: هو عربي، وهو فعل مضارع من: حي، سمي به فامتنع
الصرف للعلمية ووزن الفعل، وعلى القولين يجمع على: يحيون، بحذف
الأولف وفتح ما قبلها على مذهب الخليل، وسيبويه ونقل عن
الكوفيين: إن كان عربياً فتحت الياء، وإن كان أعجمياً ضمت
الياء.
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} وروي معناه عن ابن
عباس، قال: المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان، واختاره
الفراء. وقال التبريزي: هذا ضعيف، لأنه لو كان ثَمَّ مضاف
محذوف لكان: ونوح مجروراً، لأن آدم محله الجر بالإضافة، وهذا
الذي قاله التبريزي ليس بشيء، ولولا تسطيره في الكتب ما ذكرته.
لأنه لا يلزم أن يجر المضاف إليه إذا حذف المضاف، فيلزم جر ما
عطف عليه، بل يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف المحذوف. ألا ترى
إلى قوله واسأل القرية؟ وأما إقراره مجروراً فلا يجوز إلا بشرط
ذكر في علم النحو.
{عَلَى الْعَلَمِينَ} متعلق باصطفى، ضمنه معنى فضل، فعداه
بعلى. ولو لم يضمنه معنى فضل لعدى بمن.
{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} أجازوا في نصب: ذرية،
وجهين:
أحدهما: أن يكون بدلاً. قال الزمخشري {من آل إبراهيم وآل
عمران} يعني أن الآلين ذرية واحدة، وقال غيره بدل من نوح ومن
عطف عليه من الأسماء. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون بدلاً
من آدم لأنه ليس بذرية انتهى.
وأجازوا أيضاً نصب: ذرية، على الحال، وهو الوجه الثاني من
الوجهين، ولم يذكره الزمخشري، وذكره ابن عطية. وقال: وهو أظهر
من البدل.
وتقدّم الكلام على ذرية دلالةً واشتقاقاً ووزناً، فأغنى عن
إعادته.
وقرأ زيد بن ثابت والضحاك: ذِرية، بكسر الذال، والجمهور بالضم.
{بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} جملة في موضع الصفة لذرية و: من،
للتبعيض حقيقة أي: متشعبة بعضها من بعض في التناسل.
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَنَ} والعامل
في: إذ، مضمر تقديره: إذكر، قاله الأخفش، والمبرد، أو معنى
الاصطفاء، التقدير: واصطفى آل عمران. قاله الزجاج، وعلى هذا
يجعل {وآل عمران} من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات،
لأنه إن جعل من باب عطف المفردات لزم أن يكون العامل فيه اصطفى
آدم، ولا يسوغ ذلك لتغاير زمان هذا الاصطفاء، وزمان قول امرأة
عمران، فلا يصح عمله فيه.
وقال الطبري ما معناه: إن العامل فيه: سميع، وهو ظاهر قول
الزمخشري، أو: سميع عليم، لقول امرأة عمران ونيتها، و: إذ،
مصنوب به. انتهى. ولا يصح ذلك لأن قوله: عليم، إما ان يكون
خبراً بعد خبر، أو وصفاً لقوله: سميع، فإن كان خبراً فلا يجوز
الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما، وإن كان وصفاً
فلا يجوز أن يعمل: سميع، في الظرف، لأنه قد وصف. اسم الفاعل
وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن
يعمل على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك، ولأن اتصافه تعالى: بسميع
عليم، لا يتقيد بذلك الوقت.
وذهب أبو عبيدة إلى أن إذ زائدة، المعنى: قالت امرأة عمران.
وتقدّم له نظير هذا القول في: مواضع، وكان أبو عبيدة يضعف في
النحو.
وانتصب محرراً، على الحال. قيل: من ما، فالعامل: نذرت وقيل من
الضمير الذي في: استقر، العامل في الجار والمجرور، فالعامل في
هذا: استقر، وقال مكي فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدّره:
غلاماً محرراً. وقال ابن عطية: وفي هذا نظر، يعني أن: نذر، قد
أخذ مفعوله، وهو: ما في بطني، فلا يتعدّى إلى آخره، ويحتمل أن
ينتصب: محرراً، على أن يكون مصدراً في معنى: تحريراً، لأن
المصدر يجوز أن يكون على زنة المفعول من كل فعل زائد على
الثلاثة، كما قال الشاعر:
ألم تعلم مسرحي القوافي
فلاعياً بهنّ ولا اجتلابا التقدير: تسريحي
القوافي، ويكون إذ ذاك على حذف مضاف، أي: نذر تحرير، أو على
أنه مصدر من معنى: نذرت، لأن معنى: {نذرت لك ما في بطني} حررت
لك بالنذر ما في بطني. والظاهر القول الأول، وهو أن يكون حالاً
من: ما، ويكون، إذ ذاك حالاً مقدّرة إن كان المراد بقوله:
محرراً، خادماً للكنيسة، وحالاً مصاحبة إن كان المراد عتيقاً،
لأن عتق ما في البطن يجوز.
{قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى} وقال الزمخشري: فإ
قلت: كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها؛ وهو
كقولك: وضعت الأنثى أنثى؟.
قلت: الأصل وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال، وذا
الحال شيء واحد، كما أنث الأسم في من كانت أمّك لتأنيث الخبر،
ونظيره قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين} . إنتهى. وآل قوله إلى
أن: أنثى، تكون حالاً مؤكدة، لا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال من
أن يكون الحال مؤكدة. وأما تشبيهه ذلك بقوله: من كانت أمّك،
حيث عاد الضمير على معنى: من، فليس ذلك نظير: وضعتها أنثى، لأن
ذلك حمل على معنى: من، إذا المعنى: أية امرأة، كانت امّك، أي:
كانت هي أيّ المرأة أمّك، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر، وإنما هو
من باب الحمل على معنى: من، ولو فرضنا أنه تأنيث للأسم لتأنيث
الخبر لم يكن نظير: وضعتها أنثى، لأن الخبر مخصص بالإضافة إلى
الضمير، فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف
أنثى، فإنه لمجرد التأكيد.
وأما تنظيره بقوله: {فإن كانتا اثنتين} فيعنى أنه ثنى بالأسم
لتثنية الخبر، والكلام عليه يأتي في مكانه، فإنه من المشكلات،
فالأحسن أن يجعل الضمير في: وضعتها أنثى، عائداً على النسمة،
أو النفس، فتكون الحال مبنية لا مؤكدة.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} و: ما، موصولة بمعنى:
الذي، أو: التي، وأتى بلفظ: ما، كما في قوله: {نذرت لك ما في
بطني} والعائد عليها محذوف على كل قراءة.
{وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} مريم في
لغتهم معناه: العابدة، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير،
والتقرب إلى الله تعالى، والتضرّع إليه بأن يكون فعلها مطابقاً
لاسمها، وأن تصدّق فيها ظنها بها. ألا ترى إلى إعاذتها بالله
وعاذة ذريتها من الشيطان؟ وخاطبت الله بهذا الكلام لترتب
لاستعاذة عليه، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران
كان قد مات، كما نقل أنه مات وهي حامل، على أنه يحتمل من حيث
هي أنثى أن تستبدّ الأمّ بالتسمية لكراهة الرجال البنات، وفي
الآية تسمية الطفل قرب الولادة، وفي الحديث: «ولد لي الليلة
مولود فسميته باسم أبي إبراهيم» . وفي الحديث أنه: «يعق عن
المولود في السابع ويسمى» .
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها، وهي كلها داخله
تحت القول على قراءة من قرأ: بما وضعت، بضم التاء. وأما من
قرأ: بما وضعت، بسكون التاء أو بالكسر. فقال الزمخشري: هي
معطوفة على: إني وضعتها أنثى، وما بينهما جملتان معترضان،
كقوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} . إنتهى كلامه. ولا يتعين
ما ذكر من أنهما جملتا معترضتان، لأنه يحتمل أن يكونه {وليس
الذكر كالأنثى} في هذه القراءة من كلامها، ويكون المعترض جملة
واحدة، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ: وضعت، بضم التاء،
بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه
القراءة، لأن في اعتراض جملتين خلافاً مذهب أبي علي: أنه لا
يعترض جملتان وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك.
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض
بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله: {وانه لقسم لو
تعلمون عظيم} ليس تشبيهاً مطابقاً للآية، لأنه لم يعترض جملتان
بين طالب ومطلوب، بل اعترض بين القسم الذي هو: {فلا أقسم
بمواقع النجوم} وجوابه الذي هو: {انه لقرآن كريم} بجملة واحدة
وهي قوله: {وانه لقسم لو تعلمون عظيم} لكنه جاء في جملة
الأعتراض بين بعض أجزائه وبعض، اعتراض بجملة وهي قوله: {لو
تعلمون} اعترض به بين المنعوت الذي هو: لقسم، وبين نعته الذي
هو: عظيم، فهذا اعتراض في اعتراض، فليس فصلاً بجملتي اعتراض
لقوله: {والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى} وسمي من
الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر،
ويجوز حذفه واثباته هو الأصل، يقول سميت ابني بزيد، وسميته
زيداً. قال:
وسميت كعباً بشر العظام
وكان أبوك يسمى الجعلأي: وسميت بكعب، ويسمى: بالجعل، وهو باب
مقصور على السماع، وفيه خلاف عن الأخفش الصغير، وتحرير ذلك في
علم النحو.
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا
نَبَاتًا حَسَنًا} والباء في: بقبول، قيل: زائدة، ويكون إذ ذاك
ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر، وقيل: ليست بزائدة.
وانتصب: نباتاً، على أنه مصدر على غير الصدر، أو مصدر لفعل
محذوف أي: فنبتت نباتاً حسناً.
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} وانتصاب: هنالك، بقوله:
دعا، ووقع في تفسير السجاوندي: أن هناك في المكان، وهنالك في
الزمان، وهو وهم، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام
والكاف أو الكاف فقط أو لم يتصلا. وقد يتجوز بها عن المكان إلى
الزمان، كما أن أصل: عند، أن يكون للمكان، ثم يتجوز بها
للزمان، كما تقول: آتيك عند طلوع الشمس.
{قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} وتقدّم أن: لدن، لما قرب، و: عند، لما
قرب ولما بعد، وهي أقل إبهاماً من: لدن، ألا ترى أن: عند، تقع
جواباً لأين، ولا تقع له جواباً: لدن؟.
و {مِن لَّدُنْكَ} متعلق: بهب، وقيل: في موضع الحال من: ذرية،
لأنه لو تأخر لكان صفة، فعلى هذا تتعلق بمحذوف.
وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول، أو من
الملائكة، و: يصلي، يحتمل أن يكون صفة: لقائم، ويحتمل أن يكون
حالاً من الضمير المستكن في: قائم، أو: من ضمير المفعول، على
مذب من جوّز حالين من ذي حال واحد، ويحتمل أن يكون خبراً
ثانياً: لهو، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لمبتدأ واحد، وإن
لم تكن في معنى خبر واحد.
ويتعلق: في المحراب، بقوله: يصلي، ولا يجوز أن يتعلق: بقائم،
في وجه من احتمالات إعراب: يصلي، إلا في وجه واحد، وهو أن
يكون: يصلي، حالاً من الضمير الذي استكن في: قائم، فيجوز. لأنه
إذ ذاك يتحد العامل فيه وفي: يصلى، وهو: قائم، لأن العامل إذ
ذاك في الحال هو: قائم، إذ هو العامل في ذي الحال، وبه يتعلق
المجرور.
وفي قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ} قالوا:
دلالة على جواز قيام الإمام في محرابه، وقد كرهه أبو حنيفة،
وقال: كان ذلك شرعاً لمن قبلنا.
ورقق وَرش راء: المحراب، وأمال الراء ابن ذكوان إذا كانت:
المحراب، مجروراً ونسب ذلك أبو علي إلى ابن عامر. ولم يقيد
بالجر.
{أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} قرأ ابن عامر، وحمزة:
إن الله، بكسر الهمزة. فعند البصريين الكسر على إضمار القبول،
أي: وقالت. وعند الكوفيين لا إضمار، لأن غير القول مما هو في
معناه: كالنداء والدعاء، يجري مجرى القول في الحكاية، فكسرت
بنادته، لأن معناه قالت له.
وقرأ الباقون بفتح الهمزة، وهو معمول لباء محذوفة في الأصل، أي
بتبشير:
وحين حذفت فالموضع نصب بالفعل أو جر بالباء
المحذوفة، قولان قد تقدما في غير ما موضع من هذا الكتاب.
وقرأ عبد الله: يا زكريا إن الله. فقوله: يا زكرياء، هو معمول
النداء. فهو في موضع نصب، ولا يجوز فتح: إن، على هذه القراءة،
لأن الفعل قد استوفى مفعوليه، وهما: الضمير والمنادى.
{مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} وانتصب: مصدّقاً، على
الحال قال ابن عطية: وهي حال مؤكدة.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي
الْكِبَرُ} و: يكون، يجوز أن تكون تامّة وفاعلها غلام، أي:
أنَّي يحدث لي غلام؟ ويجوز أن تكون ناقصة، ولا يتعين إذ ذاك
تقديم الخبر على الأسم، لأنه قيل: دخول كان مصحح لجواز
الإبتداء بالنكرة، إذ تقدّم أداة الإستفهام مسوغ لجواز
الإبتداء بالنكرة، والجملتان بعد كل منهما حال، والعامل فيهما:
يكون، إن كانت تامة، أو العامل في: لي، إن كانت ناقصة.
وقيل: {وامرأتي عاقر} حال من المفعول في: بلغني، والعامل
بلغني، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدّد شيئاً
فشيئاً، فلم يكن وصفاً لازماً، وكانت الثانية اسمية والخبر:
عاقر، لأنه كونها عاقراً أمر لازم لها لم يكن وصفاً طارئاً
عليها، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية، وناسب أن تكون
الثانية جملة اسمية.
{قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا
يَشَآءُ} الكاف: للتشبيه، وذلك: إشارة إلى الفعل، أي: مثل ذلك
الفعل، وهو تكوّن الولد بين الفاني والعاقر، يفعل الله ما يشاء
من الأفعال الغربية فيكون إخباراً من الله أنه يفعل الأشياء
التي تتعلق بها مشيئته فعلاً، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء، بل
سبب إيجاده هو تعلق الإرادة: سواء كان من الأفعال الجارية على
العادة أم من التي لا تجري على العادة؟ وإذا كان تعالى يوجد
الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب، فكيف بالأشياء التي
لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة؟ وتكون الكاف على
هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي: فعلاً
مثل ذلك الفعل، أو على انها في موضع الحال من ضمير المصدر
المحذوف: من يفعل، وذكل على مذهب سيبويه، وقد تقدّم لنا مثل
هذا، ويحتمل أن يكون كذلك الله مبتدأ وخبراً، وذلك على حذف
مضاف، أي صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع، ويكون {يفعل ما يشاء}
شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة، وقدره الزمخشري على نحو
هذه الصفة: الله، قال: {ويفعل ما يشاء} بيان له، أي يفعل ما
يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات. إنتهى.
وقال ابن عطية: أي: كهذه القدرة المسغربة هي قدرة الله. إنتهى.
وعلى هذا الاحتمال، تكون الكاف في موضع رفع، لأن الجار
والمجرور في موضع خبر المبتدأ والكلام جملتان، وعلى التفسير
الأول الكلام جملة واحدة.
{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّىءَايَةً} وظاهر: جعل، هنا أنها بمعنى
صيِّر، فتتعدّى لمفعولين: الأول آية، والثاني المجرور، قبله
وهو: لي، وهو يتعين تقديمه، لأنه قبل دخول: اجعل، هو مصحح
لجواز الابتداء بالنكرة.
وقرأ ابن أبي عبلة: أن لا تكلم، برفع الميم
على أن: أن، هي المخففة من الثقيلة، أي أنه لا تكلم، واسمها
محذوف ضمير الشأن، أو على إجراء: أن، مجرى: ما المصدرية،
وانتصاب: ثلاثة أيام، على الظرف خلافاً للكوفيين، إذ زعموا أنه
كان اسم الزمان يستغرقه الفعل، فليس بظرف، وإنما ينتصب انتصاب
المفعول به نحو: صمت يوماً، فانتصاب ثلاثة أيام عندهم على أنه
مفعول به، لأن انتفاء الكلام منه للناس كان واقعاً في جميع
الثلاثة، لم يخل جزء منها من انتفاء فيه.
{إِلاَّ رَمْزًا} واستثناء الرمز، قيل: هو استثناء منقطع، إذا
الرمز لا يدخل تحت التكليم، من أطلق الكلام في اللغة على
الإشارة الدالة على ما في نفس المشير، فلا يبعد أن يكون هذا
استثناء متصلاً على مذهبه. ولذكل أنشد النحويون:
أرادت كلاماً فاتقت من رقيبها
فلم يك إلاَّ ومؤها بالحواجب
وقال:
إذا كلمتني بالعيون الفواتر
رددت عليها بالدموع البوادرواستعمل المولدون هذا المعنى. قال
حبيب:
كلمته بجفون غير ناطقة
فكان من ردّه ما قال حاجبه وكونه استثناءً متصلاً بدأ به
الزمخشري. قال: لما أدّى مؤدّي الكلام، وفهم منه ما يفهم منه،
سمي كلاماً.
وأما ابن عطية فاختار أن يكون منقطعاً. قال: والكلام المراد به
في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس،
فحقيقة هذا الأستثناء أنه منقطع، وبدأ به أوّلاً، فقال استثناء
الرمز وهو استثناء منقطع، ثم قال: وذهب الفقهاء في الإشارة
ونحوها إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها، فعلى هذا
يجيء الاستثناء متصلاً.
وقرأ الأعمش: رمزاً، بفتح الراء والميم، وخرج على أنه جمع
رامز، كخادم وخدم، وانتصابه إذا كان جمعاً على الحال من
الفاعل، وهو الضمير في تكلم، ومن المفعول وهو: الناس. كما قال
الشاعر:
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن
أيىّ وأيّك فارس الأحزاب أي: إلاَّ مترامزين كما يكلم الأخرس
الناس ويكلمونه.
{وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ
بِالْعَشِىِّ وَالإِبْكَرِ} وانتصاب: كثيراً، على أنه نعت
لمصدر محذوف، أو منصوب على الحال من ضمير المصدر المحذوف الدال
عليه: اذكروا، على مذهب سيبويه.
ومفعول: وسبح، محذوف للعلم به، لأن قبله: {واذكر ربك كثيراً}
أي: وسبح ربك. و: الباء في: بالعشي، ظرفية أي: في العشي.
وقرىء شاذاً والإبكار، بفتح الهمزة، وهو جمع بكر بفتح الباء
والكاف، تقول: أتيتك بكراً، وهو مما يلتزم فيه الظرفية إذا كان
من يوم معين ونظيره: سحر وأسحار، وجبل وأجبال. وهذه القراءة
مناسبة للعشي على قول من جعله جمع عشية إذ يكون فيها تقابل من
حيث الجمعية، وكذلك هي مناسبة إذا كان العش مفرداً، وكانت
الألف واللام فيه للعموم، كقوله: {إن الإنسان لفي خسر} وأهلك
الناس الدينار الصفر.
وأما على قراءة الجمهور: والإبكار، بكسر الهمزة، فهو مصدر،
فيكون قد قابل العشي الذي هو وقت، بالمصدر، فيحتاج إلى حذف أي:
بالعشي ووقت الإبكار.
ويتعلق: بالعشي، بقوله: وسبح، ويكون على إعمال الثاني وهو
الألى، إذ لو كان متعلقاً بقوله: واذكر ربك، لأضمر في الثاني،
إذ لا يجوز حذفه إلا في ضرورة.
قيل: أو في قليل من الكلام، ويحتمل أن يكون من باب الإعمال،
فيكون الأمر بالذكحر غير مقيد بهذين الزمانين.
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يمَرْيَمُ
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَكِ عَلَى
نِسَآءِ الْعَلَمِينَ * يمَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ
وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُون أَقْلَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا
كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ
الْمَلَئِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ
مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا
فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ *
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ
الصَّلِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ
مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن
فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِى
إِسْرَءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ
أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ
فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَأُبْرِىءُ الأٌّكْمَهَ والأٌّبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى
بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا
تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً
لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ
يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلاٌّحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي
حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ
فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّى
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ} .
{ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ} والكاف
في: ذلك، و: إليك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم والأحسن في
الإعراب أن يكون: ذلك، مبتدأ و: من أنباء الغيب، خبره. وأن
يكون: نوحيه، جملة مستأنفة، ويكون الضمير في: نوحيه، عائداً
على الغيب، أي: شأننا أننا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ولذلك
أتى بالمضارع، ويكون أكثر فائدة من عوده على: ذلك، إذ يشتمل ما
تقدّم من القصص وغيرها التي يوحيها إليه في المستقبل، إذ يصير
نظير: زيد يطعم المساكين، فيكون إخباراً بالحالة الدائمة.
والمستعمل في هذا المعنى إنما هو المضارع، وإذ يلزم من عوده
على: ذلك، أن يكون: نوحيه، بمعنى: أوحيناه إليك، لأن الوحي به
قد وقع وانفصل، فيكون أبعد فلي المجاز منه إذا كان شاملاً لهذه
القصص وغيرها مما سيأتي، وجوّزوا أن يكون: نوحيه، خبراً: لذلك،
و: من أنباء، حال من: الهاء، في: نوحيه، أو متعلقاً: بنوحيه.
{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَمَهُمْ} والعامل
في: إذ، العامل في: لديهم. وقال أبو علي الفارسي: العامل في:
إذ، كنت. إنتهى. ولا يناسب ذلك مذهبه في كان الناقصة. لأنه
يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث، وتجردت للزمان وما سبيله
هكذا، فكيف يعمل في ظرف؟ لأن الظرف وعاء للحدث ولا حدث فلا
يعمل فيه، والمضارع بعد: إذ، في معنى الماضي، أي: إذ ألقوا
أقلامهم للاستهام على مريم.
وارتفع {أيّهم يكفل مريم} على الابتداء والخبر، وهو في موضع
نصب إما على الحكاغية بقول محذوف، أي: يقولون أيهم يكفل، ودل
على المحذوف: {يلقون أقلامهم} .
والعامل في: اذ، العامل في: لديهم، أو، كنت، على قول أبي علي
في: إذ يلقون.
وتضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة:
التكحرار في: اصطفاك، وفي: يا مريم، وفي: ما كنت لديهم. قيل:
والتقديم والتأخير في: واسجدي واركعي، على بعض الأقوال.
والأشتعارة، فيمن جعل القنوعت والسجود والركوع ليس كناية عن
الهيئات التي في الصلاة، والإشارة بذلك من أنباء الغيب،
والعموم المراد به الخصوص في نساء العالمين على أحد التفسيرين،
والتشبيه في أقلامهم، إذا قلنا إنه أراد القداح. والحذف على
عدة مواضع.
{إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يمَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ
يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} العامل في: إذا، اذكر أو:
يختصمون، أو إذ، بد من إذ، في قوله: إذ يختصمون، أو من: وإذ
قالت الملائكة، أقوال يلزم في القولين المتوسطين اتحاد زمان
الاختصام وزمان قول الملائكة، وهو بعيد، وهو قول الزجاج. ويبعد
الرابع لطول الفصل بين البدل والمبدل منه. والرابع اختيار
الزمخشري وبه بدأ.
{اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} والظاهر أن اسمه:
المسيح، فيكون: اسمه المسيح، مبتدأ وخبراً، و: عيسى، جوزوا فيه
أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون بدلاً، وأن يكون عطف بيان.
ومنع بعض النحويين أن يكون خبراً بعد خبر، وقال: كان يلزم أن
يكون أسماه على المعنى، أو أسماها على لفظ الكلمة، ويجوز أن
يكون: عيسى، خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو عيسى ابن مريم. قال
ابن عطية: ويدعو إلى هذا كون قوله: ابن مريم، صفة: لعيسى، إذ
قد أجمع الناس على كتبه دون الألف. وأما على البدل، أو عطف
البيان، فلا يجوز أن يكون: ابن مريم، صفة: لعيسى، لأن الأسم
هنا لم يرد به الشخص. هذه النزعة لأبي علي. وفي صدر الكلام
نظر. إنتهى كلامه.
وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل: {اسمه المسيح عيسى بن مريم}
وهذه ثلاثة أشياء الأسم منها: عيسى، وأما: المسيح و: الأبن،
فلقب وصفة؟.
قلت: الأسم للمسمى علامة يعرف بها، ويتميز
من غيره، فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه
الثلاثة. إنتهى كلامه. ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه
الثلاثة، فتكون الثلاثة أخباراً عن قوله: اسمه، ويكون من باب:
هذا حلو حامض، و: هذا أعسر يسر. فلا يكون أحدها على هذا
مستقلاًغ بالخبرية. ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم
شيء واحد قول الشاعر:
كيف أصبحت كيف أمسيت مما
يزرع الود في فؤاد الكريم؟ أي: مجموع هذا مما يزرع الود، فلما
جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على
المجموع، كذلك يجوز في الخبر. وأجاز أبو البقاء أن يكون: ابن
مريم، خبر مبتدأ محذوف أي: هو ابن مريم، ولا يجوز أن يكون
بدلاً مما قبله، ولا صفة لأن: ابن مريم، ليس باسم. ألا ترى أنك
لا تقول: اسم هذا الرجل ابن عمرو إلاَّ إذا كان علماً عليه؟
إنتهى.
قال بعضهم: ومن قال إن المسيح صفة لعيسى، فيكون في الكلام
تقديم وتأخير تقديره: اسمه عيسى المسيح، لأن الصفة تابعة
لموصوفها. إنتهى. ولا يصح أن يكون المسيح في هذا التركيب صفة،
لأن المخبر به على هذا اللفظ، والمسيح من صفة المدلول لا من
صفة الدال، إذ لفظ عيسى ليس المسيح.
ومن قال: إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشضهرته. قال ابنه
الأنباري: وإنما بدأ بلقبه لأن: المسيح، أشهر من: عيسى، لأنه
قل أن يقل على سمي يشتبه، وعيسه قد يقع على عدد كثير، فقدمه
لشهرته. ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم؟ وهذا يدل
على أن المسيح عند أبن الأنباري لقب لا اسم.
قال الزجاج: وعيسى معرب من: ايسوع، وإن جعلته عربياً لم ينصرف
في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف تأنيث، ويكون مشتقاً من: عاسه
يعوسه، إذا اساسه وقام عليه.
{وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} معطوف على قوله: وجيهاً، وتقديره:
ومقرباً من جملة المقربين.
أعلم تعالى أن ثَمَّ مقربين، وأن عيسى
منهم. ونظير هذا العطف قوله تعالى: {وانكم لتمرون عليهم مصبحين
وبالليل} فقوله: وبالليل، جار ومجرور في موضع الحال، وهو معطوف
على: مصبحين، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل، فلو جاء:
ومقرباً، لم تكن فاصلة.
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً} وعطف: ويكلم،
وهو حال أيضاً على: وجيهاً، ونظيره: {إلى الطير فوقهم صافات
ويقبضن} أي: وقابضات. وكذلك: ويكلم، أي: وملكماً. وأتى في
الحال الأول بالأسم لأن الأسم هو للثبوت، وجاءت الحال الثانية
جاراً ومجروراً لأنه يقد بالأسم. وجاءت الحالة الثالثة جملة
لأنها في الرتبة الثالثة. أترى في الحال وصف في المعنى؟ فكما
أن الأحسن والأكثر في لسان العرب أنه إكذا اجتمع أوصاف متغايرة
بدىء بالأسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. كقوله تعالى:
{وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمان} فكذلك الحال، بدىء
بالأسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. وكانت هذه الجملة
مضارعية لأن الفعل يشعر بالتجدد، كما أن الأسم يشعر بالثبوت،
ويتعلق: في المهد، بمحذوف إذ هو في موضع الحال، التقدير: كائنا
في المهد وكهلاً، معطوف على هذه الحال، كأنه قيل: طفلاً
وكهلاً، فعطف صريح الحال على الجار والمجرور الذي في موضع
الحال. ونظيره عكساً: {وانكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل} ومن
زعم أن: وكهلاً، معطوف على: وجيهاً، فقد أبعد.
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} وقرأ نافع، وعاصم، ويعقوب، وسهل:
ويعلمه، بالياء وقرأ الباقون: بالنون، وعلى كلتا القراءتين هو
معطوف على الجملة المقولة، وذلك إن قوله: قال كذلك، الضمير في:
قال، عائد على الرب، والجملة بعده هي المقولة، وسواء كان لفظ
الله مبتدأ، وخبره فيما قبله، لزم مبتدأ وخبره يخلق على ما مر
إعرابه في: {قال كذلك الله يفعل ما يشاء} فيكون هذا من المقول
لمريم، أم على سبيل الاغتباط والتبشير بهذا الولد الذي يوجده
الله منها، ويجوز أن يكون معطوفاً على: يخلق، سواء كانت خبراً
عن الله أم تفسيراً لما قبلها، إذا أعربت لفظ: الله مبتدأ وما
قبله الخبر، وهذا ظاهر كله على قراءة الياء. وأما على قراءة
النون، فيكون من باب الإلتفات، خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير
التكلم لما في ذلك من الفخامة.
وقال أبو علي: وجوزه الزمخشري، وغيره عطف: ويعلمه، على: يبشرك،
وهذا بعيد جداً لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه. وأجاز
ابن عطية وغيره أن يكون معطوفلاً على: ويكلم، وأجاز الزمخشري
أن يكون معطوفاً على: وجيهاً، فيكون على هذين القولين في موضع
نصب على الحال. وفيما أجازه أبو علي والزمخشري في موضع رفع
لأنه معطوف على خبر إن، وهذا القولان بعيدان أيضاً لطول الفصل
بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يقع مثله في لسان العرب.
وقال بعضهم: ونعلمه، بالنون حمله على قوله
{نوحيه إليك} فإن عنى بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا
التقدير، وإن عنى بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح وقال
الزمخشري: أو هو كلام مبتدأ يعنى أنه لا يكون معطوفاً على شيء
من هذه التي ذكرت، فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله، أو من
الله، على اختلاف القراءتين، فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون
معطوفاً على شيء قبله، فلا يكون ابتداء كلام إلاَّ أن يدعى
زيادة الواو في: ويعلمه، فحينئذ يصح أن يكون ابتداء كلام، وإن
عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر، فكان ينبغي أن يبين ما عطف
عليه، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف
كذلك.
وقال الطبري: قراءة الياء عطف على قوله {يخلق ما يشاء} وقراءة
النون عطف على قوله {نوحيه إليك} قال ابن عطية: وهذا القول
الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى. انتهى. ولم يبين ابن عطية
جهة إفساد المعنى، أما قراءة النون فظاهر فساد عطفه على:
نوحيه، من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى، أما من حث اللفظ فمثله
لا يقع في لسان العرب لبعد الفصل المفرط، وتعقيد التركيب،
وتنافر الكلام. وأما من حيث المعنى فإن المعطوف بالواو شريك
المعطوف عليه، فيصير المعنى بقوله ذلك من أنباء الغيب أي:
إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمران، وولادتها لمريم، وكفالة
زكريا، وقصته في ولادة يحيى له، وتبشير الملائكة لمريم
بالاصطفاء والتطهير، كل ذلك من أخبار الغيب، نعلِّمه، أي: نعلم
عيسى الكتاب، فهذا كلام لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله.
وأما قراءة الياء وعطف: ويعلمه، على: يخلق،
فليست مفسدة للمعنى، بل هو أولى وأصح ما يحمل عليه عطف:
ويعلمه، لقرب لفظه وصحة معناه. وقد ذكرنا جوازه قبل، ويكون
الله قد أخبر مريم بأنه تعالى يخلق الأشياء الغريبة التي لم
تجرِ بها عادة، مثل ما خلق لك ولداً من غير أب، وأنه تعالى
يعلم هذا الولد الذي يخلقه لك ما لم يعلمه قبله من الكتاب
والحكمة والتوراة والإنجيل، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشير
لها بهذا الولد، وإظهار بركته، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس من
بني إسرائيل، بل هو مخالف لهم في أصل النشأة، وفيما يعلمه
تعالى من العلم، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف:
ويعلمه.
{وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ
بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} اختلفوا في: رسولاً، هنا فقيل: هو
وصف بمعنى المرسل على ظاهر ما يفهم منه وقيل: هو مصدر بمعنى
رسالة، إذ قد ثبت أن رسولاً يكون بمعنى رسالة، وممن جوز ذلك
فيه هنا الحوفي، وأبو البقاء، وقالا: هو معطوف على الكتاب، أي:
ويعلمه رسالة إلى بني اسرائيل، فتكون: رسالة، داخلاً في ما
يعلمه الله عيسى. وأجاز أبو البقاء في هذا الوجه أن يكون
مصدراً في موضع الحال. وأما الوجه الأول فقالوا في إعرابه،
وجوها.
أحدها: أن يكون منصوباً بإضمار فعل تقديره: ويجعله رسولاً إلى
بني إسرائيل، قالوا: فيكون مثل قوله:
يا ليت زوجك قد غدا
متقلداً سيفاً ورمحاً أي: ومعتقلاً رمحاً. لما لم يمكن تشريكه
مع المنصوبات قبله في العامل الذي هو: يعلمه، أضمر له فعل ناصب
يصح به المعنى، قاله ابن عطية وغيره.
الثاني: أن يكون معطوفاً على: ويعلمه، فيكون: حالاً، إذ
التقدير: ومعلماً الكتاب، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله:
وجيهاً، قاله الزمخشري، وثنى به ابن عطية، وبدأ به وهو مبني
على إعراب: ويعلمه وقد بينا ضعف إعراب من يقول: إن: ويعلمه،
معطوف على: وجيهاً، للفصل المفرط بين المتعاطفين.
الثالث: أن يكون منصوباً على الحال من
الضمير المستكن في: ويكلم، فيكون معطوفاً على قوله: وكهلاً،
أي: ويكلم الناس طفلاً وكهلاً ورسولاً إلى بني إسرائيل، قاله
ابن عطية، وهو بعيد جداً لطول الفصل بين المتعاطفين.
الرابع: أن تكون الواو زائدة، ويكون هالاً من ضمير: ويعلمه،
قاله الأخفش، وهو ضعيف لزيادة الواو، لا يوجد في كلامهم: جاء
زيد وضاحكاً، أي: ضاحكاً.
الخامس: أن يكون منصوباً على إضمار فعل من لفظ رسول، ويكون ذلك
الفعل معمولاً لقول من عيسى، التقدير: وتقول أرسلت رسولاً إلى
بني إسرائيل، واحتاج إلى هذا التقدير كله، لقوله: {أني قد
جئتكم} وقوله: {ومصدقاً لما بين يدي} ، إذ لا يصح في الظاهر
حمله على ما قبله من المنصوبات لاختلاف الضمائر، لأن ما قبله
ضمير غائب، وهذا أن ضمير متكلم، فاحتاج إلى هذا الإضمار لتصحيح
المعنى. قاله الزمخشري، وقال: هو من المضايق، يعني من المواضع
التي فهيا إشكال. وهذا الوجه ضعيف، إذ فيه إضمار القول ومعموله
الذي هو: أرسلت، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال
المؤكدة، إذ يفهم من قوله: وأرسلت، أنه رسول، فهي على هذا
التقدير حال مؤكدة.
فهذه خمسة أوجه في إعراب: ورسولاً، أولاها الأول، إذ ليس فيه
إلاَّ إضمار فعل يدل عليه المعنى، أي: ويجعله رسولاً، ويكون
قوله {أني قد جئتكم} معمولاً لرسول، أي ناطقاً بأني قد جئتكم،
على قراءة الجمهور، ومعمولاً لقول محذوف على قراءة من كسر
الهمزة، وهي قراءة شاذة، أي: قائلاً إني قد جئتكم، ويحتمل أن
يكون محكياً بقوله: ورسولاً، لأنه في معنى القول، وذلك على
مذهب الكوفيين.
وقرأ اليزيدي: ورسولٍ، بالجر، وخرجه الزمخشري على أنه معطوف
على: بكلمة منه، وهي قراءة شاذة في القياس لطول البعد بين
المعطوف عليه والمعطوف.
ويجوز أن يكون: من ربكم، في موضع الصفة، لأنه يتعلق بمحذوف،
ويجوز أن يتعلق: بجئتكم، أي: جئتكم من ربكم بآية.
{أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا
بِإِذْنِ اللَّهِ} قرأ الجمهور: أني أخلق، بفتح الهمزة على أن
يكون بدلاً من: آية، فيكون في موضع جر، أو بدلاً من قوله: أني
قد جئتكم، فيكون في موضع نصب أو جر على الخلاف، أو على أنه خبر
مبتدأ محذوف، أي: هي، أي: الآية أني أخلق، فيكون في موضع رفع.
وقرأ نافع بالكسر على الاستئناف، أو على إضمار القول، أو على
التفسير للآية. كما فسر المثل في قوله: {كمثل آدم} بقوله:
{خلقه من تراب} .
وقرأ بعضهم فأنفخها، أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة. إذ يكون
التقدير: هيئة كهيئة الطير، أو: على الكاف على المعنى، إذ هي
بمعنى: مماثلة هيئة الطير، فيكون التأنيث هنا كما هو في
المائدة في قوله: {فتنفخ فيها} ويكون في هذه القراءة قد حذف
حرف الجرّ. كما قال:
ما شق جيب ولا قامتك نائحة
ولا بكتك جياد عند إسلاب يريد: ولا قامت عليك، وهي قراءة شاذة
نقلها الفراء. وقال النابغة:
كالهبرقيّ ثنحَّى ينفخ الفحماء
فعدى: تفخ، لمنصوب، فيمكن أن يكون على إسقاط حرف الجر، ويمكن
أن يكون على التضمين، أي: يضرم بالنفخ الفحم، فيكون هنا ناقصة
على بابها، أو بمعنى: تصير.
وقرأ نافع ويعقوب هنا وفي المائدة: طائراً، وقرأ الباقون:
طيراً، وانتصابه على أنه خبر: يكون، ومن جعل: يكون، هنا تامّة،
و: طائراً، حالاً فقد أبعد. وتعلق بإذني الله، قيل: بيكون.
وقيل: بطائر.
{وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى
بُيُوتِكُمْ} و: ما، في: ما تأكلون وما تدخرون، موصولة اسمية،
وهو الظاهر. وقيل: مصدري.
وقرأ الجمهور: تدخرون، بدال مشددة، وأصله:
إذتخر، من الذخر، أبدلت التاء دالاً، فصار: إذدخر، ثم أدغمت
الذال في الدال، فقيل: ادّخر، كما قيل: ادكره. وقرأ مجاهد،
والزهري، وأيوب السختياني، وأبو السمال: تذخرون، بذال ساكنة
وخاء مفتوحة. وقرأ أبو شعيب السوسي، في رواية عنه: وما
تذدخرون، بذال ساكنة ودال مفتوحة من غير إدغام، وهذا الفك
جائز. وقراءة الجمهور بالإدغام أجود، ويجوز جعل بالدال ذالاً،
والإدغام فتقول: اذخر، بالذال المعجمة المشددة.
{وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} عطف
و: مصدقاً، على قوله: بآية إذ الباء فيه للحال، ولا تكون
للتعدية لفساد المعنى، فالمعنى: وجئتكم مصحوباً بآية من ربكم،
ومصدقاً لما بين يدي. ومنعوا أن يكون: ومصقاً، معطوفاً على:
رسولاً إلى بني إسرائيل، ولا على: وجيهاً، لما يلزم من كون
الضمير في قوله: لما بين يدي، غائباً. فكان يكون: لما بين
يديه، وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله: ورسولاً، أن يكون منصوباً
بإضمار فعل، أي: وأرسلت رسولاً، فعلى هذا التقدير يكون:
ومصدقاً، معطوفاً على: ورسولاً.
{وَلاٌّحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} واللام
في: ولأحل لكم، لام كي، ولم يتقدم ما يسوغ عطفه عليه من جهة
اللفظ، فقيل: هو معطوف على المعنى، إذ المعنى في: ومصدقاً، أي:
لأصدق ما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم. وهذا هو العطف على
التوهم، وليس هذا منه، لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية
التعليل، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحداً في
المعطوف والمعطوف عليه. ألا ترى إلى قوله: فأصدق وأكحي كيف
اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض؟ وكذلك قوله:
تقي نقي لم يكثر غنيمة
بنكهة ذي قربى ولا بحفلد كيف اتحد معنى
النفي في قوله: لم يكثر، ولا في قوله: ولا بخفلد؟ أي: ليس
بمكثر ولا بحفلد. وكذلك ما جاء من هذا النوع. وقيل: اللام
تتعلق بفعل مضمر بعد الواو يفسره المعنى: أي وجئتكم لأحلّ لكم.
وقيل: تتعلق اللام بقوله: وأطيعون، والمعنى: واتبعون لأحل لكم،
وهذا بعيد جداً. وقال أبو البقاء: هو معطوف على محذوف تقديره:
لأخفف عنكم، أو نحو ذلك.
وقال الزمخشري: ولأحل، ردّ على قوله: بآية من ربكم، أي: جئتكم
بآية من ربكم، لأن: بآية، في موضع حال، و: لأحل، تعليل، ولا
يصح عطف التعليل على الحال لأن العطف بالحرف المشترك في بالحكم
يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه، فإن عطفت على مصدر، أو
مفعول به، أو ظرف، أو حال، أو تعليل، أو غير ذلك شاركه في ذلك
المعطوف.
{وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ
هَذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ظاهر اللفظ أن يكون قوله: {وجئتكم
بآية من ربكم} للتأسيس لا للتوكيد، لقوله: قد جئتكم بآية من
ربكم، وتكون هذه الآية قوله: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه} لأن
هذا القول شاهد على صحة رسالته، إذ جميع الرسل كانوا عليه لم
يختلفوا فيه، وجعل هذا القول آية وعلامة، لأنه رسول كسائر
الرسل، حخيث هداه للنظر في أدلة العقل والأستدلال. وكسر: إن،
على هذا القول لأن: قولاً، قبلها محذوف، وذلك القول بدل من
الآية، فهو معمول للبدل. ومن قرأ بفتح: أن، فعلى جهة البدل من:
آية، ولا تكون الجملة من قوله: إن، بالكسر مستأنفة على هذا
التقدير من إضمار القول، ويكون قوله: {فاتقوا الله واطيعون}
جملة اعتراضية بين البدل والمبدل منه.
وقيل: الآية الأولى في قوله: {قد جئتكم
بآية} هي معجزة. وفي قوله: {وجئتكم بآية} هي الآية من الإنجيل،
فاختلف متعلق المجيء، ويجوز أن يكون {وجئتكم بآية من ربكم}
كررت على سبيل التوكيد، أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم
من: خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات، وبغيره من
ولادتي من غير أب، ومن كلامي في المهد، وسائر الآيات. فعلى
بهذا من كسر: إن، فعلى الأستئناف، ومن فتح فقيل التقدير، لأن
الله ربي وربك فاعبدوه، فيكون متعلقاً بقوله: فاعبدوه، كقوله:
{لايلاف قريشض} ثم قال: {فليعبدوا} فقدم: أن، على عاملها. ومن
جوز: أن تتقدم: أن، ويتأخر عنها العامل في نحو هذا غير مصيب،
لا يجوز: أن زيداً منطلق عرفت، نص على ذلك سيبويه وغيره، ويجوز
أن يكون المعنى: وجئتكم بآية على أن الله ربي وربكم، وما
بينهما اعتراض. وقال ابن عطية: التقدير: أطيعون لأن الله ربي
وربكم. إنتهى. وليس قوله بظاهر.
{فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ
الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِءَامَنَّا بِاللَّهِ
وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَآءَامَنَّا بِمَآ
أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّهِدِينَ * وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ
عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَمَا لَهُمْ
مِّن نَّصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُواْ
الصَّلِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ
يُحِبُّ الظَّلِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ
الآيَتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ
اللَّهِ كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ
لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن
الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا
جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ
أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ
وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل
لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَذِبِينَ} .
{وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى}
قيل: خير، هنا ليست للتفضيل، بل هي: كهي في قوله: {أصحاب الجنة
يومئذ خير مستقر} وقال حسان.
فشركما لخيركما الفداء
وفي هذه الآية من ضروب البلاغة: الاستعارة
في: أحس، إذ لا يحس إلا ما كان متجسداً، والكفر ليس بمحسوس،
وإنما يعلم ويفطن به، ولا يدرك بالحس إلاَّ إن كان أحس، بمعنى
رأى، أو بمعنى: سمع منهم كلمة الكفر، فيكون: أحس، لا استعارة
فيه، إذ يكون أدرك ذلك منهم بحاسة البصر، أو بحاسة الأذن،
وتسمية الشيء باسم ثمرته.
قال الجمهور: أحس منهم القتل، وقتل نبي من أعظم ثمرات الكفر.
والسؤال والجواب في: قال {من أنصاري إلى الله قال الحواريون}
والتكرار في: من أنصاري إلى الله، وأنصار الله، وآمنا بالله،
وآمنا بما أنزلت، ومكروا ومكر الله، والماكرين، وفي هذا
التجنيس المماثل، والمغاير، والحذف، في مواضع.
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} العامل في:
إذ، ومكر الله قاله الطبري، أو: اذكر، قاله بعض النحاة، أو:
خير الماكرين، قاله الزمخشري. وهذا القول هو بواسطة الملك، لأن
عيسى ليس بملكم، قاله ابن عطية.
{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ} {إلى يوم القيامة} الظاهر أن: إلى،
تتعلق بمحذوف، وهو العامل في: فوق، وهو المفعول الثاني: لجاعل،
إذ معنى جاعل هنا مصير.
{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَتِ
وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} و: ذلك، مبتدأ، و: نتلوه، خبر و: من
الآيات، متعلق بمحذوف لأنه في موضع الحال، أي: كائناً من
الآيات. و: من، للتبعيض لأن هذا المتلو بعض الآيات والذكر،
وجوّزوا أن يكون: من الآيات، خبراً بعد خبر، وذلك على رأي من
يجيز تعداد الأخبار بغير حرف عطف، إذا كان لمبتدأ واحد، ولم
يكن في معنى خبر واحد، وجوّزوا أن يكون: من، لبيان الجنس، وذلك
على رأي من يجيز أن تكون: من، لبيان الجنس. ولا يتأتى ذلك هنا
من جهة المعنى إلاَّ بمجاز، لأن تقدير: من، البيانية بالموصول.
ولو قلت: ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم، لاحتيج
إلى تأويل، لأن هذا المشار إليه من نبأ من تقدم ذكره ليس هو
جميع الآيات، والذكر الحكيم إنما هو بعض الآيات، فيحتاج إلى
تأويل أنه جعل بعض الآيات، والذكر هو الآيات، والذكر على سبيل
المجاز.
وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس: أبو محمد بن عطية، وبدأ به، ثم
قال: ويجوز أن تكون للتبعيض وجوّزوا أن يكون ذلك منصوباً بفعل
محذوف يفسره ما بعده، فيكون من باب الإشتغال، أي: نتلو ذلك
نتلوه عليك، والرفع على الإبتداء أفصح لأنه عرى من مرجح النصب
على الإشتغال؛ فزيدٌ ضربته، أفصح من: زيداً ضربته، وإن كان
عربياً، وعلى هذا الإعراب يكون: نتلوه، لا موضع له من الإعراب،
لأنه مفسر لذلك الفعل المحذوف، ويكون: من الآيات، حالاً من
ضمير النصب في: نتلوه.
وأجاز الزمخشري أن يكون: ذلك، بمعنى: الذي، و: نتلوه، صلته. و:
الآيات، الخبر. وقاله الزجاج قبله، وهذه نزعة كوفية، يجيزون في
أسماء الإشارة أن تكون موصولة، ولا يجوز ذلك عند البصريين،
إلاَّ في: ذا، وحدها إذا سبقها: ما، الإستفهامية باتفاق، أو:
من، الإستفهامية باختلاف. وتقرير هذا في علم النحو.
وجوّزوا أيضاً أن يكون: ذلك، مبتدأ و: من
الآيات، خبر. و: نتلوه، حال. وأن يكون: ذلك، خبر مبتدأ محذوف،
أي: الأمر ذلك. و: نتلوه، حال.
والظاهر في قوله: {والذكر الحكيم} أنه معطوف على الآيات، ومن
جعلها للقسم وجواب القسم: {إن مثل عيسى} فقد أبعد.
{كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} والضمير المنصوب في:
خلقه، عائد على آدم، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم، فلا موضع
لها من الإعراب. وقيل: هي في موضع الحال، وقدر مع خلقه مقدرة،
والعامل فيها معنى التشبيه. قال ابن عطية: ولا يجوز أن يكون
خلقه صفة لآدم ولا حالاً منه. قال الزجاج: إذ الماضي لا يكون
حالاً أنت فيها، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل.
إنتهى كلامه. وفيه نظر.
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} جملة من مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون:
الحق، خبر مبتدأ محذوف، أي: هو. أي: خبر عيسى في كونه خلق من
أم فقط هو الحق، و: من ربك، حال أو: خبر ثان وأخبر عن قصة عيسى
بأنها حق.
{فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ} و: من، يصح أن تكون موصولة، ويصح أن تكون شرطية، و:
العم، هنا: الوحي الذي جاء به جبريل، وقيل: الآيات المتقدّمة
في أمر عيسى، الموجبة للعمل. و: ما، في: ما جاءك، موصولة
بمعنى: الذي، وفي: جاءك، ضمير الفاعل يعود عليها. و: من العلم،
متعلق بمحذوف في موضع الحال، أي: كائناً من العلم. وتكون: من،
تبعيضية. ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك، قال
بعضهم، ويخرج على قول الأخفشض: أن تكون: ما، مصدرية، و: من،
زائدة، والتقدير: من بعد مجيء العلم إياك.
{فَقُلْ تَعَالَوْاْ} قرأ الجمهور بفتح
اللام وهو الأصل والقياس، إذا التقدير تفاعل، وألفة منقلبة عن
يائ وأصلها واو، فإذا أمرت الواحد قلت: تعال، كما تقول: إخشَ
واسعَ. وقرأ الحسن، وأبو واقد، وأبو السمال: بضم اللام، ووجههم
أن أصله: تعاليوا، كما تقول: تجادلوا، نقل الضمة من الياء إلى
اللام بعد حذف فتحتها، فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة
فخذفت الياء لإلتقاء الساكنين، وهذا تعليل شذوذ.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ
إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
* فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
* قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا
أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ
اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ
تُحَآجُّونَ فِى إِبْرَهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ
وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *
هأَنتُمْ هَؤُلاءِ حَجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ
تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَهِيمُ
يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا
مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْرَهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِىُّ وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِىُّ
الْمُؤْمِنِينَ} .
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}
وقيل: هذا إشارة إلى ما بعده من قوله {وما من إله إلاَّ الله}
ويضعف بأن هذه الجملة ليست بقصص وبوجود حرف العطف في قوله: وما
قال بعضهم إلاَّ إن أراد بالقصص الخبر، فيصح على هذا، ويكون
التقدير: إن الخبر الحق أنه ما من إله إلاَّ الله. انتهى. لكن
يمنع من هذا التقدير وجود واو العطف واللام في: لهو، دخلت على
الفصل. والقصص خبر إن، والحق صفة له، والقصص مصدر، أو فعل
بمعنى مفعول، أي: المقصوص كالقبض، بمعنى المقبوض، ويجوز أن
يكون: هو، مبتدأ و: القصص، خبره، والجملة، في موضع خبر إن.
{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ} و: من، زائدة لاستغراق
الجنس، و: إله، مبتدأ محذوف الخبر، و: الله، بدل منه على
الموضع، ولا يجوز البدل على اللفظ، لأنه يلزم منه زيادة: من،
في الواجب، ويجوز في العربية في نحو هذا التركيب نصب ما بعد:
إلاَّ، نحو ما من شجاع إلاَّ زيداً، ولم يقرأ بالنصب في هذه
الآية، وإن كان جائزاً في العربية النصب على الاستثناء.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ويجوز في:
لهو، من الإعراب ما جاز في: لهو القصص، وتقديم ذكر فائدة
الفصل.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}
و: تولوا، ماضٍ أو مضارع حذفت تاؤه، وجواب الشرط في الظاهر
الجملة من قوله: {فان الله عليم بالمفسدين} .
{قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} عبر بالكلمة عن الكلمات، لأن الكلمة
قد تطلقها العرب على الكلام، وإلى هذا ذهب الزجاج، إما لوضع
المفرد موضع الجمع، كما قال:
بها جيفُ الحسرى، فأما عظامها
فبيض، وأما جلدها فصليب وإما لكون الكلمات
مرتبطة بعضها ببعض، فصارت في قوة الكلمات الواحدة إذا اختلّ
جزء منها اختلت الكلمة، لأن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، هي
كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في الله إلا
بمجموعها.
وقرأ الجمهور: سواء، بالجر على الصفة. وقرأ الحسن: سواء،
بالنصب، وخرجه الحوفي والزمخشري على أنه مصدر. قال الزمخشري:
بمعنى استوت استواء، فيكون: سواء، بمعنى استواء، ويجوز أن
ينتصب على الحال من: كلمة، وإن كان نكرة ذو الحال، وقد أجاز
ذلك سيبويه وقاسه، والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى،
والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل، وإلى تأويل: سواء، بمعنى:
استواء، والأشهر استعمال: سواء، بمعنى اسم الفاعل، أي: مستو،
وقد تقدّم الكلام على سواء في أول سورة البقرة والظاهر انتصاب
الظرف بسواء.
{أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} موضع: أن، جر على البدل من:
كلمة، بدل شيء من شيء، ويجوز أن في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف،
أي: هي أن لا نعبد إلاَّ الله. وجوّزوا أن يكون الكلام تم عند
قوله: سواء، وارتفاع: أن لا نعبد، على الابتداء والخبر قوله:
بيننا وبينكم. قالوا: والجملة صفة للكلمة، وهذا وهم لعرو
الجملة من رابط يربطها بالموصوف، وجوزوا أيضاً ارتفاع: أن لا
نعبد، بالظرف، ولا يصح إلاَّ على مذهب الأخفش والكوفيين حيث
أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد، والبصريون يمنعون ذلك، وجوز
علي بن عيسى أن يكون التقدير: إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها
الامتناع من عبادة غير الله، فعلى هذا يكون: أن لا نعبد، في
موضع رفع على الفاعل بسواء، إلاَّ أن فيه إضمار الرابط، وهو
فيها، وهو ضعيف.
قل {يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تُحَآجُّونَ} و: ما، في قوله: لمَ،
استفهامية حذفت ألفها مع حرف الجر، ولذلك علة ذكرت في النحو،
وتتعلق: اللام بتحاجون.
{هأَنتُمْ هَؤُلاءِ} وقرأ الكوفيون، وابن
عامر، والبزي: ها أنتم، بألف بعد الهاء بعدها همزة: أنتم،
محققة. وقرأ نافع، وأبو عمرو، ويعقوب: بهاء بعدها ألف بعدها
همزة مسهلة بين بين، وأبدل أناس هذه الهمزة ألفاً محضة لورش:
ها،للتنبيه لأنه يكثر وجودها مع المضمرات المرفوعة مفصولاً
بينها وبين اسم الإشارة حيث لا استفهام، وأصلها أن تباشر إسم
الإشارة، لكن اعتنى بحرف التنبيه، فقدم، وذلك نحو قول العرب:
ها أناذا قائماً، و: ها أنت ذا تصنع كذا. و: ها هوذا قائماً.
ولم ينبه المخاطب هنا على وجود ذاته، بل نبه على حال غفل عنها
الشغفه بما التبس به، وتلك الحالة هي أنهم حاجوا فيما لا
يعلمون، ولم ترد به التوراة والإنجيل، فتقول لهم: هب أنكم
تحتجون فيما تدعون أن قد ورد به كتب الله المتقدمة، فلم تحتجون
فيما ليس كذلك؟ وتكون الجملة خبرية وهو الأصل، لأنه قد صدرت
منهم المحاجة فيما يعلمون، ولذاك أنكر عليهم بعد المحاجة فيما
ليس لهم به علم، وعلى هذا يكون: ها، قد أعيدت مع اسم الإشارة
توكيداً، وتكون في قراءة قنبل قد حذف ألف: ها، كما حذفها من
وقف على: {أيه الثقلان} يا أيه بالسكون وليس الحذف فيها يقوى
في القياس. وقال أبو عمرو ابن العلاء، وأبو الحسن الأخفش:
الأصل في: ها أنتم. فأبدل من الهمزة الأولى التي للاستفهام
هاء. لأنها أختها. واستحسنه النحاس. وإبدال الهمزة هاء مسموع
في كلمات ولا ينقاس، ولم يسمع ذلك في همزة الاستفهام، لا يحفظ
من كلامهم: هتضرب زيداً، بمعنى: زيداً إلاَّ في بيت نادر جاءت
فيه: ها، بدل همزة الاستفهام، وهو:
وأتت صواحبها وقلن هذا الذي
منح المودّة غيرنا وجفانا ثم فصل بين الهاء
المبدلة من همزة الاستفهام، وهمزة: أنت، لا يناسب، لأنه إنما
يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال
الأولى: هاء، ألا ترى أنهم حذفوا الهمزة في نحو: أريقه، إذ
أصله: أأريقه؟ فلما أبدلوها هاء لم يحذفوا، بل قالوا: أهريقه.
وقد وجهوا قراءة قنبل على أن: الهاء، بدل من همزة الاستفهام
لكونها هاء لا ألف بعدها، وعلى هذا من أثبت الألف، فكيون عنده
فاصلة بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام، وبين همزة: أنتم،
أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه، والاستفهام على هذا
معناه التعجب من حماقتهم، وأمّا من سهل فلأنها همزة بعد ألف
على حد تسهيلهم إياها في: هيأة. وأمّا تحقيقها فهو الأصل،
وأمّا إبدالها ألفاً فقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله
{أأنذرتهم أم لم تنذرهم} .
و: أنتم، مبتدأ، و: هؤلاء. الخنبر. و: حاججتم، جملة حالية.
كقول: ها أنت ذا قائماً. وهي من الأحوال التي ليست يستغنى
عنها، كقوله: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون} على أحسن الوجوه في
إعرابه.
وقال الزمخشري: أنتم، مبتدأ، و: هؤلاء، خبره، و: حاججتم، جملة
مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص
الحمقي، وبيان حماقتكم، وقلة عقولكم، أنكم حاججتم فيما لكم به
علم مما نطق به التوراة والإنجيل، فلم تحاجون فيما ليس لكم به
علم، ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم؟ انتهى.
وأجازوا أن يكون: هؤلاء، بدلاً، وعطف بيان، والخبر: حاججتم،
وأجازوا أن يكون، هؤلاء، موصولاً بمعنى الذي، وهو خبر المبتدأ،
أو: حاججتم، صلته. وهذا على رأي الكوفيين. وأجازوا أيضاً أن
يكون منادي أي: يا هؤلاء، وحذف منه حرف النداء، ولا يجوز حذف
حرف النداء من المشار على مذهب البصريين، ويجوز على مذهب
الكوفيين، وقد جاء في الشعر حذفه، وهو قليل، نحو قول رجل من
طيء:
إن أُلالى وصفوا قومي لهم فهم
هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً
وقال:
لا يغرّنكم أولاء من القو
م جنوح للسلم فهو خداع يريد: يا هذا اعتصم، و: يا أولاء.
{وَهَذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَءَامَنُواْ} مبتدأ والخبر: هم
المتبعون له، فقد تكلف إضماراً لا ضرورة تدعو إليه.
وقرىء: وهذا النبيّ، بالنصب عطفاً على: الهاء، في اتبعوه،
فيكون متبعاً لا متبعاً: أي: أحق الناس بإبراهيم من اتبعه،
ومحمداً صلى الله عليهما وسلم، ويكون: والذين آمنوا، عطفاً على
خبر: إن، فهو في موضع رفع.
وقرىء: وهذا النبي، بالجر، ووجه على أنه عطف على: إبراهيم، أي:
إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين اتبعوا إبراهيم. و:
النبي، قالوا: بدل من هذا، أو: نعت، أو: عطف بيان.
{وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَوْ
يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ * يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَتِ
اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ
تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ
وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وقال أبو مسلم الأصبهاني: ودّ بمعنى: تمنى، فتستعمل معها: لو،
و: أن، وربما جمع بينهما، فيقال: وددت أن لو فعل، ومصدره:
الودادة، والأسم منه: وُدّ، وقد يتداخلان في المصدر والأسم.
قال الراغب: إذا كان: ودّ، بمعنى أحبّ لا يجوز إدخال: لوغ فيه
أبداً. وقال عليّ بن عيسى: إذا كان: ودّ، بمعنى: تمنى، صلح
للماضي والحال والمستقبل، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم
يصلح للماضي لأن الإرادة كاستدعاء الفعل. وإذا كان للحال
والمستقبل جاز: أن ولو، وإذا كان للماضي لم يجز: أن، لأن: أن،
للمستقبل. وما قال فيه نظر، ألا ترى أن: أن، توصل بالفعل
الماضي نحو: سرّني أن قمت؟.
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ} في موضع الصفة
لطائفة، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم. وقال ابن عطية: ويحتمل:
من، أن تكون لبيان الجنس، وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب، وما
قاله يبعد من دلالة اللفظ، ولو، هنا قالوا بمعنى: أن فتكون
مصدرية، ولا يقول بذلك جمهور البصريين، والأولى إقرارها على
وضعها. ومفعول: ودّ، محذوف، وجواب: لو، محذوف، حذف من كلَ من
الجملتين ما يدل المعنى عليه، التقدير: ودّوا إضلالكم لو
يضلونكم لسرّوا بذلك، وقد تقدم لنا الكلام في نظير هذا مشبعاً
في قوله: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} فيطالع هناك.
{وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} جملة حالية.
{وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وأما: يكتمون،
فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاَّ الرفع بمعنى أنه ليس معطوف على:
تلبسون، بل هو استئناف، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم
أنه حق، وقال ابن عطية: قال أبو علي: الصرف ها هنا يقبح، وكذلك
إضمار: أن، لأن: يكتمون، معطوف على موجب مقرر، وليس بمستفهم
عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، فليست
الآية بمنزلة قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وبمنزلة،
قولك: أتقوم فأقوم؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب،
إلاَّ في ضرورة شعر، كما روي:
وألق بالحجاز فاستريحا
وقد قال سيبويه: في قولك: أسرت حتى تدخلها، الا يجوز إلاَّ
النصب، في: تدخل، لأن السير مستفهم عنه غير موجب. وإذا قلنا:
أيهم سار حتى يدخلها، رفعت، لأن السير موجب، والأستفهام إنما
وقع عن غيره. إنتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي.
والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله، لأن ما
قبله فيه: أن الأستفهام وقع على اللبس فحسب، وأما: يكتمون،
فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاّ الرفع، وفيما نقله ابن عطية أن:
يكتمون، معطوف على موجب مقرر، وليس بمستفهم عنه، فيدل العطف
على اشتراكهما في الإستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين،
وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون: ويكتمون، إخباراً محضاً لم
يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب، وهذا الذي ذهب إليه أبو
علي من أن الإستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل
بإضمار أن في جوابه، تبعه في ذكل ابن مالك. فقال في (التسهيل)
حين عد ما يضمر: أن، لزوماً في الجواب، فقال: أو لإستفهام لا
يتضمن وقوع الفعل، فإن تضمن وقع الفعل م يجز النصب عنده، نحو:
لم ضربت زيداً، فيجاز بك؟ لأن الضرب قد وقع ولم نر أحداً من
أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي، وتبعه فيه ابن
مالك في الإستفهام، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله، إما لكونه
ليس ثم فعل، ولا ما في معناه ينسبك منه، وإما لإسحالة سبك مصدر
مراد استقباله لأجل مضي الفعل، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله
مما يدل عليه المعنى، فإذا قال: لم ضربت زيداً فأضربك. أي:
ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا، وما ردّ به أبو عليّ على
أبي إسحاق ليس بمتجه. لأن قوله: {لم تلبسون} ليس نصاً على أن
المضارع أريد به الماضي حقيقة، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق
صدوره، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله. ولو
فرضنا أنه ماض حقيقة، فلا ردّ فيه على أبي إسحاق، لأنه كما
قررنا قبل: إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة، سبكناه من
لازم الجملة.
وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل
المستفهم عنه محقق الوقوع، نحو: أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكذلك في:
كم مالك فنعرفه؟ و: من أبوك فنكرمه؟ لكنه يتخرج على ما سبق
ذكره من أن التقدير: ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا. و:
ليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا. و: ليكن منك إعلام بأبيك
فاكرام منا له.
وقرأ عبيد بن عمير: لم تلبسوا، وتكتموا، بحذف النون فيهما،
قالوا: وذلك جزم، قالو: ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من
النحاة في إلحاق: لِمَ بلم في عمل الجزم. وقال السجاوندي: ولا
وجه له إلاَّ أن: لم، تجزم الفعل عند قوم كلم. إنتهى. والثابت
في لسان العرب أن: لَم، لا ينجزم ما عدها، ولم أر أحداً من
النحويين ذكر أن لِمَ تجري مجرى: لَمُ في الجزم إلا ما ذكره
أهل التفسير هنا، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع،
وقد جاء ذلك في النثر قليلاً جداً، وذلك في قراءة أبي عمر، ومن
بعض طرقه قالوا: ساحران تظاهرا، تتشديد الظائ، أي أنتما ساحران
تتظاهرن فأدغم التاء في الظاء وحذف النون، وأما في النظم،
فنحو: قول الراجز:
أبيت أسرى وتبيتي تدلكي
يريد: وتبيتين تدلكين. وقال:
فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو
ستحتلبوها لاقحاً غير باهل والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق
بالباطل، وكتم الحق، وكأن الحق منقسم إلى قسمين: قسم خلطوا فيه
الباطل حتى لا يتميز، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر.
{وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} جملة حالية.
{وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ
الْكِتَبِءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى
الَّذِينَءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْءَاخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن
تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن
يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ
عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
.
{ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْءَاخِرَهُ} وانتصب:
وجه النهار، على الظرف ومعناه: أول النهار، شبه بوجه الإنسان
إذ هو أول ما يواجه منه.
وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي:
من كان مسروراً بمقتل مالك
فليأت نسوتنا بوجه نهار والضمير في: آخره، عائد على النهار،
أي: آخر النهار.
والناصب للظرف الأول: آمنوا، وللآخر: اكفروا. وقيل: الناصب
لقوله: وجه النهار، أنزل. أي: بالذي أنزل على الذين آمنوا في
أول النهار، والضمير في: آخره، يعود على الذي أنزل، أي:
واكفروا آخر المنزل، وهذا فيه بعد ومخالفة لأسباب النزول،
ومتعلق الرجوع محذوف أي: يرجعون عن دينهم.
{وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} اللام في:
لمن، قيل: زائدة للتأكيد، كقوله {عسى: أن يكون ردف لكم} أي
ردفكم، وقال الشاعر:
ما كنت أخدع للخليل بحله
حتى يكون لي الخليل خدوعاً أراد: ما كنت أخدع الخليل، والأجود
أن لا تكون: اللام، زائدة بل ضمن، آمن معنى: أقر واعترف، فعدى
باللام. وقال أبو علي: وقد تعدّى آمن باللام في قوله {فما آمن
لموسى إلا ذريه} {وآمنتم له} {ويؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين}
انتهى.
{أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ}
يكون: أو يحاجوكم، معطوفاً على: يؤتى، وأو: للتنويع، وأجازوا
أن يكون: هدى الله، بدلاً من: الهدى. لا خبراً لأن. والخبر
قوله: {أن تؤتى أح مثل ما أوتيتم} أي أن هدى الله إيتاء أحد
مثل ما أوتيتم من العلم، ويكون: أو يحاجوكم، منصوباً بإضمار:
أن، بعد أو بمعنى: حتى، أي: حتى يحاجوكم عند ربكم فيغلبوكم
ويدحضوا حجتكم عند الله، لأنكم تعلمون صحة دين الإسلام، وأنه
يلزمكم اتباع هذا النبي، ولا يكون: أو يحاجوكم، معطوفاً على:
يؤتى، وداخلاً في خبر إن، و: أحد، في هذين القولين ليس الذي
يأتي في العموم مختصاً به، لأن ذلك شرطه أن يكون في نفي، أو في
خبر نفي، بل: أحد، هنا بمعنى: واحد، وهو مفرد، إذ عنى به
الرسول صلى الله عليه وسلّم وإنما جمع الضمير في: يحاجوكم،
لأنه عائد على الرسول وأتباعه، لأن الرسالة تدل على الأتباع.
وقال بعض النحويين: إن، هنا للنفي بمعنى: لا، التقدير: لا يؤتى
أحد مثل ما أوتيتم، ونقل ذلك أيضاً عن الفراء، وتكون: أو،
بمعنى إلاَّ، والمعنى إذ ذاك: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ
أن يحاجوكم، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم ومحاجتكم
عند ربكم، لأن من آتاه الله الوحي لا بد أن يحاجهم عند ربهم في
كونهم لا يتبعونه، فقوله: أو يحاجوكم، حال من جهة المعنى
لازمة، إذ لا يوحي الله إلى رسول إلاَّ وهو محاج مخالفيه. وفي
هذا القول يكون، أحد، هو الذي للعموم. لتقدّم النفي عليه، وجمع
الضمير في: يحاجوكم، حملاً على معنى: أحد، كقوله تعالى {فما
منكم من أحد عنه حاجزين} جمع حاجزين حملاً على معنى: أحد، لا
على لفظه، إذ لو حمل على لفظه لأفرد.
لكن في هذا القول القول بأن: أن، المفتوحة
تأتي للنفي بمعنى لا، ولم يقم على ذلك دليل من كلام العرب.
والخطاب في: أو تتيم، وفي: يحاجوكم، على هذه الأقوال الثلاثة
للطائفة السابقة، القائلة: {آمنوا بالذي أنزل} وأجاز بعض
النحويين أن يكون المعنى: أن لا يؤتى أحد، وحذفت: لا، لأن في
الكلام دليلاً على الحذف. قال كقوله: {يبين الله لكم أن تضلوا}
أي: لا تضلوا. وردّ ذلك أبو العباس، وقال: لا تحذف: لا، وإنما
المعنى: كراهة أن تضلوا، وكذلك هنا: كراهة أن يؤتي أحد مثل ما
أوتيتم، أي: ممن خالف دين الإسلام، لأن الله لا يهدي من هو
كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين.
والخطاب في: أوتيتم، و: يحاجوكم، لأمة محمد صلى الله عليه
وسلّم فعلى هذا: أن يؤتى مفعول من أجله على حذف كراهة، ويحتاج
إلى تقديره عامل فيه، ويصعب تقديره، إذ قبله جملة لا يظهر
تعليل النسبة فيها بكراهة الإيتاء المذكور.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون قوله: أن يؤتى، بدلاً من قوله:
أن يؤتى، بدلاً من قوله: هدى الله، ويكون المعنى: قل إن الهدى
هدى الله وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن. ويكون قوله: أو
يحاجوكم، بمعنى: أو فليحاجوكم، فإنهم يغلبونكم. انتهى هذا
القول. وفيه الجزم بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على
مذهب البصريين إلاَّ في الضرورة.
وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب: أن يؤتى، بفعل مضمر يدل عليه
قوله {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} كأنه
قيل: {قل إن الهدى هدى الله} فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما
أوتوا. انتهى كلامه. وهو بعيد، لأن فيه حذف حرف النهي ومعموله،
ولم يحفظ ذلك من لسانهم. وأجازوا أن يكون قوله {أن يؤتى أحد
مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم} ليس داخلاً تحت قوله: قل،
بل هو من تمام قول الطائفة، متصل بقوله: {ولا تؤمنوا إلا لمن
تبع دينكم} ويكون قوله: {هل إن الهدى هدى الله} حملة اعتراضية
بين ما قبلها وما بعدها.
{أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ
أُوتِيتُمْ} وقرأ ابن كثير: أن يؤتى أحد؟ بالمدّ على
الإستفهام، وخرجه أبو عليّ على أنه من قول الطائفة، ولا يمكن
أن يحمل على ما قبله من الفعل، لأن الإستفهام قاطع، فيكون في
موضع رفع على الإبتداء وخبره محذوف تقديره تصدّقون به، أو
تعترفون، أو تذكرونه لغيركم، ونحوه مما يدل عليه الكلام. و:
يحاجوكم، معطوف على: أن يؤتى.
قال أبو علي: ويجوز أن يكون موضع: أن، نصباً، فيكون المعنى:
أتشيعون، أو: أتذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ ويكون بمعنى:
أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم؟ فعلى كلا الوجهين معنى الآية
توبيخ من الأحبار للاتباع على تصديقهم بأن محمداً نبي مبعوث،
ويكون: أو يحاجوكم، في تأويل نصب أن بمعنى: أو تريدون أن
يحاجوكم؟.
قال أبو عليّ وأحد، على قراءة ابن كثير هو الذي لا يدل على
الكثرة، وقد منع الإستفهام القاطع من أن يشيع لامتناع دخوله في
النفي الذي في أول الكلام، فلم يبق إلاَّ أنه: أحد، الذي في
قولك: أحد وعشرون، وهو يقع في الإيجاب، لأنه في معنى: واحد،
وجمع ضميره في قوله: أو يحاجوكم، حملاً على المعنى، إذ: لأحد،
المراد بمثل النبوّة أتباع فهو في المعنى للكثرة قال أبو عليّ:
وهذا موضع ينبغى أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن
كثير، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن يدل على الكثرة.
انتهى تخريج أبي علي لقراءة ابن كثير، وقد تقدم تخريج قراءته
على أن يكون قوله: أن يؤتيى، مفعولاً من أجله، على أن يكون
داخلاً تحت القول من قول الطائفة، وهو أظهر من جعله من قول
الطائفة.
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ مَنْ إِن
تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ
إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا
دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ
عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ *
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَنِهِمْ
ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَقَ لَهُمْ فِى
الأٌّخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَبِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَبِ وَمَا
هُوَ مِنَ الْكِتَبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ
وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن
يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ
يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ
وَلَكِن كُونُواْ رَبَّنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} .
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ
يُؤَدِّهِ} وقرأ أبي بن كعب: تئمنه، في الحرفين، و: تئمنا، في
يوسف. وقرأ ابن مسعود، والأشهب العقيلي، وابن وثاب: تيمنه،
بتاء مكسورة وياء ساكنة بعدها، قال الداني: وهي لغة تميم. وأما
إبدال الهمزة ياء في: تئمنه، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا في
بئر.
وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من: فعل، ومن: ما أوله
همزة وصل عند الكلام على قوله {نستعين} فأغني عن إعادته.
وقال: ابن عطية، حين ذكر قراءة أبي: وما
أراها إلاَّ لغة: قرشية، وهي كسر نون الجماعة: كنستعين، وألف
المتكلم، كقول ابن عمر: لا إخاله، وتاء الخاطب كهذه الآية، ولا
يكسرون الياء في الغائب، وبها قرأ أبي في: تئمنه. انتهى. ولم
يبين ما يكسر فيه حروف المضارعة بقانون كلي، وما ظنه من أنها
لغة قرشية ليس كما ظنّ. وقد بينا ذلك في {نستعين} وتقدّم
تفسير: القنطار، في قوله: {والقناطير المقنطرة} .
وقرأ الجمهور: يؤده، بكسر الهاء ووصلها بياء. وقرأ قالون
باختلاس الحركة، وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر، وحمزة، والأعمش
بالسكون. قال أبو إسحاق: وهذا الإسكان الذي روي عن ثؤلاء غلط
بيِّن، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن
تسكن في الوصل. وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة، فغلطب
عليه كما غلط عليه في: بارئكم، وقد حكى عنه سيبويه، وهو ضابط
لمثل هذا، أنه كان يكسر كسراً خفيفاً. انتهى كلام ابن إسحاق.
وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء، إذ هي
قراءة في السبعة، وهي متواترة، وكفى أنها منقولة من إمام
البصريين أبي عمرو بن العلاء. فإنه عربي صريح، وسامع لغة،
وإمام في النحو، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا.
وقد أجاز ذلك الفراء وهو إمام في النحو واللغة. وحكى ذلك لغة
لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع.
وقد روي الكسائي أن لغة عقيل وكلاب: أنهم يختلسون الحركة في
هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك، وأنهم يسكنون أيضاً. قال
الكسائي: سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون: {لربه لكنود} بالجزم،
و: لربه لكنود، بغير تمام وله مال وغير عقيل وكلاب لا يوجد في
كلامهم اختلاس ولا سكون في: له، وشبهه إلاَّ في ضرورة نحو
قوله.
له زجل كأنه صوت حاد
وقال:
إلا لأن عيونه سيل واديها
ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء بعد
الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم يجوز فيها الإشباع، ويجوز
الاختلاس، ويجوز السكون. وأبو إسحاق الزجاج، يقال عنه: إنه لم
يكن إماماً في اللغة، ولذلك أنك على ثعلب في كتابه: (الفصيح)
مواضع زعم أن العرب لا تقولها، وردّ الناس على أبي إسحاق في
إنكاره، ونقلوها من لغة العرب. وممن ردّ عليه: أبو منصور
الجواليقي، وكان ثعلب إماماً في اللغة وإماماً في النحو على
مذهب الكوفيين، ونقلوا أيضاً قراءتين: إحداهما ضم الهاء ووصلها
بواو، وهي قراءة الزهري، والأخرى: ضمها دون وصل، وبها قرأ
سلام.
والباء في: بقنطار، وفي: بدينارد قيل: للإلصاق. وقيل: بمعنى
على، إذا الأصل أن تتعدى بعلى، كما قال مالك: {لا تأمنا على
يوسف} وقال: {هل آمنكم عليه إلاَّ كما أمنتكم على أخيه} وقيل:
بمعنى في أي: في حفظ قنطار، وفي حفظ دينار.
{إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا} و: ما، في: ما دمت،
مصدرية ظرفية. و: دمت، ناقصة فخبرها: قائماً، وأجاز أبو البقاء
أن تكون: ما، مصدرية فقط لا ظرفية، فتتقدر بمصدر، وذلك المصدر
ينتصب على الحال، فيكون ذلك استثناءً من الأحوال لا من
الأزمان. قال: والتقدير: إلاَّ في حال ملازمتك له. فعلى هذا
يكون: قائماً، منصوباً على الحال، لا خبراً لدام، لأن شرط نقص:
دام، أن يكون صلة لما المصدرية الظرفية.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى
الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} وجوّزوا أن يكون: علينا، خبر: ليس، وأن
يكون الخبر: في الأمّيين، وذهب قوم إلى عمل: ليس، في الجار،
فيجوز على هذا أن يتعلق بها.
قيل: ويجوز أن يرتفع: سبيل، بعلينا، وفي: ليس، ضمير الأمر،
ويتعلق: على الله، بيقولون بمعنى: يفترون.
قيل: ويجوز أن يكون حالاً من الكذب مقدماً عليه ولا يتعلق
بالكذب.
قيل: لأن الصلة لا تتقدّم على الموصول.
{وهم يعلمون} جملة حالية.
{مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى
فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} و: من، يحتمل أن تكون
موصولة، والأظهر أنها شرطية، و: أوفى، لغة الحجاز و: وفى،
خفيفة لغة نجد و: وفى، مشدّدة لغة أيضاً. وتقدّم ذكر هذه
اللغات.
{ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّى} وقرأ
الجمهور: ثم يقول، بالنصب عطفاً على: أن يؤتيه، وقرأ شبل عن
ابن كثير، ومحبوب عن أبي عمرو: بالرفع على القطع أي: ثم هو
يقول. وقرأ الجمهور: عباداً لي، بتسكين ياء الإضافة. وقرأ عيسى
بن عمر: بفتحها.
{بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَبَ وَبِمَا كُنتُمْ
تَدْرُسُونَ} الباء للسبب، و: ما، الظاهر أنها مصدرية، و:
تعلمون، متعدٍ لواحد على قرائة الحرميين وأبي عمرو إذ قرؤا
بالتخفيف مضارع علم، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء وفتح
العين وتشديد اللام المكسورة، فيتعدّى إلى اثنين، إذ هي منقولة
بالتضعيف من المتعدية إلى واحد، وأول المفعولين محذوف تقديره:
تعلمون الناس الكتاب. وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على
الأخرى، وقد تقدّم أني لا أرى شيئاً من هذه التراجيح، لأنها
كلها منقولة متواترة قرآناً، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على
الأخرى.
{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَئِكَةَ
وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا} وقرأ عاصم وابن عامر، وحمزة ولا
يأمركم، بنصب الراء، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى:
ولا له أن يأمركم، فقد روا: أن، مضمرة بعد: لا، وتكون: لا،
مؤكدة معنى النفي السابق، كما تقول: ما كان من زيد إتيان ولا
قيام. وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد، فلا للتوكيد في
النفي السابق، وصار المعنى: ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام.
وقال الطبري قوله: بولا يأمركم، بالنصب
معطوفعلى قوله: ثم يقول: قال ابن عطية: وهذا خطأ لا يلتئم به
المعنى. انتهى كلامه. ولم يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام
المعنى به، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفاً على: ثم يقول،
وكانت لا لتأسيس النفي، فلا يمكن إلاَّ أن يقدر العامل قبل:
لا، وهو: أن، فينسبك من: ان، والفعل المنفي مصدرٍ منتف فيصير
المعنى: ما كان لبشر موصوف بما وصف به انفاء امره باتخاذ
الملائكة والنبيين أرباباً، وإذا لم يكن له الأنتفاء كان له
الثبوت، فصار آمراً باتخاذهم أرباباً وهو خطأ، فإذا جعلت لا
لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحباً على المصدرين المقدر
ثبوتهما، فينتفي قوله: {كونوا عباداً لي} وأمره باتخاذ
الملائكة والنبيين أرباباً، ويوضح هذا المعنى وضع: غير، موضع:
لا، فإذا قلت: ما لزيد فقه ولا نحو، كانت: لا، لتأكيد النفي،
وانتفى عنه الوصفان، ولو جعلت: لا، لتأسيس النفي كانت بمعنى:
غير، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له، إذ لو
قلت: ما لزيد فقه وغير نحو، كان في ذلك إثبات النحو له، كأنك
قلت: ماله غير نحو. ألا ترى أنك إذا قلت: جئت بلا زاد، كان
المعنى: جئت بغير زاد، وإذا قلت: ما جئت بغير زاد، معناه: أنك
جئت بزاد؟ لأن: لا، هنا لتأسيس النفي، وأن يكون من عطف المنفي
بلا على الثبت الداخل عليه النفي، نحو: ما أريد أن تجهل وأن لا
تتعلم، تريد: ما أريد أن لا تتعلم.
وأجاز الزمخشري أن أن تكون: لا، لتأسيس النفي، فذكر أولاً
كونها زائدة لتأكيد معنى النفي، ثم قال: والثاني أن يجعل: لا،
غير مزيده، والمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان ينهي
قريضشاً عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير
والمسيح، فلما قالوا له: أنتخذك رباً، قيل لهم: ما كان لبشر أن
يستنبئه الله، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة
الملائكة والأنبياء.
قال: والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام
أظهر، وينصرها قراءة عبد الله: ولن يأمركم، انتهى كلام
الزمخشري.
{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَئِكَةَ
وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ
إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} .
و: بعد، ينتصب بالكفر، أو: بيأمركم، و: هذ، مضافة للجملة
الإسمية كقوله: {واذكروا إذ أنتم قليل} وأضيف إليها: بعد، ولا
يضاف إليها إلاَّ ظرف زمان.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ النَّبِيِّيْنَ
لَمَآءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ
رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى
ذلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ
وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّهِدِينَ} .
يكون العامل: أذكر، أو: أذكروا، ويجوز أن يكون العامل في: إذ،
قال من قوله: {قال أأقررتم} وهو حسن، إذ لا تكلف فيه.
قيل: ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم من لفظ إذ، والعامل
فيها: اصطفى، وهذا بعيد جداً.
وقرأ جمهور السبعة: لما، بفتح اللام وتخفيف الميم وقرأ حمزة:
لما، بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير، والحسن: لما، بتشديد
الميم.
فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال.
أحدهما: أن: ما، شرطية منصوبة على المفعول
بالفعل بعدها، واللام قبلها موطئة لمجيء: ما، بعدها جواباً
باللقسم، وهو أخذ الله ميثاق. و: من، في قوله: من كتاب، كهي،
في قوله: {ما ننسخ من آية} والفعل بعد: ما، ماضٍ معناه
الاستقبال لتقدم، ما، الشرطية علىه. وقوله: ثم جاءكم، معطوف
على الفعل بعد: ما، فهو في حيز الشرط، ويلزم أن يكون في قوله:
ثم جاءكم، رابط يربطها بما عطفت عليه، لأن: جاءكم، معطوف على
الفعل بعد: ما، و: لتؤمنن به، جواب لقوله {أخذ الله ميثاق
النبيين} ونظيره من الكلام في التركيب: أقسم لأيهم صحبت، ثم
أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه، تريد لأحسنن إلى الرجل
التميمي. فلأحسنن جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب
القسم عليه، وكذلك في الآية جواب الشرط محذوف لدلالة جواب
القسم عليه، والضمير في: به، عائد على: رسول، وهذا القول، وهو
أن: ما، شرطية هو قول الكسائي.
وسأل سيبويه الخليل عن هذه الآية فقال ما نصه: ما، ههنا
بمنزلة: الذي، ودخلت اللام كما دخلت على: إن، حين قلت: والله
لئن فعلت لأفعلن، فاللام في: ما، كهذه التي في: أن، واللام
التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا انتهى ثم قال سيبويه:
ومثل ذلك {لمن تبعك منهم لأملأن جهنم} إنما دخلت اللام على نية
اليمين انتهى.
وقال أبو علي: لم يرد الخليل بقوله: بمنزلة
الذي أنها موصولة، بل أنها السم، كما أن الذي اسم وفرَّ أن
تكون حرفاً كما جاءت حرفاً: {وإن كلا لما ليوفينهم} وفي قوله:
{وإن كل ذلك لما متاع} انتهى. وتحصل من كلام الخليل وسيبويه
أن: ما، في: لما أتيتكم، شرطية وقد خرجها على الشرطية غير
هؤلاء: كالمازني، والزجاج، وأبي علي، والزمخشري، وابن عطية
وفيه خدش لطيف جدّاً، وهو أنه: إذا كانت شرطية كان الجواب
محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه، وإذا كان كذلك فالمحذوف من
جنس المثبت، ومتعلقاته متعلقاته، فإذا قلت: والله لمن جاءني
لأكرمنه، فجواب: مَنْ، محذوف، التقدير: من جاءني أكرمه. وفي
الآية اسم الشرط: ما، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم، وهو
الفعل المقسم عليه، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بواسطة حرف
الجر لا ضمير: ما، المقدّر، فجواب: ما، المقدّر إن كان من جنس
جواب القسم فلا يجوز ذلك، لأنه تعّز. والجملة الجوابية إذ ذاك
من ضمير يعود على اسم الشرط، وإن كان من غير جنس جواب القسم
فيكف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلاَّ
إذا كان من جنس جواب القسم؟ ألا ترى أنك لو قلت: والله لئن
ضربني زيد لأضربنه؟ فكيف تقدره: إن ضربني زيد أضربه؟ ولا يجوز
أن يكون التقدير: والله إن ضربني زيد أشكه لأضربنه، لأن:
لأضربنه، لا يدل على: أشكه، فهذا ما يرد على قول من خرج: ما،
على أنها شرطية.
وأما قول الزمخشري: ولتؤمنن، ساد مسد جواب
القسم، والشرط جميعاً فقول ظاهره مخالف لقول من جعل: ما،
شرطية، لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم
عليه، اللهم إن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب
يسد مسدهما، فيمكن أن يقال؛ وأما من حيث تفسير الإعراب فلا
يصح، لأن كلاًّ منهما، أعني: الشرط والقسم، يطلب جواباً على
حدة، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما، لأن الشرط يقتضيه
على جهة العمل فيه، فيكون في موضع جزم، والقسم يطلبه على جهة
التعلق المعنوي به بغير عمل فيه، فلا موضع له من الإعراب.
ومحال أن يكون الشيء الواحد له موضع من الإعراب ولا موضع له من
الإعراب.
والقول الثاني: قاله أبو علي الفارسي وغيره، وهو: أن تكون: ما،
موصولة مبتدأة، وصلتها: آتيناكم، والعائد محذوف تقديره:
آتيناكموه، و: ثم جاءكم، معطوف على الصلة، والعائد منها على
الموصول محذوف تقديره: ثم جاءكم رسول به، فحذف لدلالة المعنى
عليه، هكذا خرجوه، وزعموا أن ذلك على مذهب سيبويه، وخرجوه على
مذهب الأخفش: أن الربط لهذه الجملة العارية عن الضمير حصل
بقوله: لما معكم، لأنه هو الموصول، فكأنه قيل: ثم جاءكم رسول
مصدق له، وقد جاء الربط في الصلة بغير الضمير، إلاَّ أنه قليل:
روي من كلامهم: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، يريدون: رويت
عنه وقال:
فيا رب ليلى أنت في كل موطن
وأنت الذي في رحمة الله أطمعيريد في رحمته أطمع.
وخبر المبتدأ، الذي هو: ما، الجملة من القسم المحذوف وجوابه،
وهو: لتؤمنن به، والضمير في: به، عائد على الموصول المبتدأ،
ولا يعود على: رسول، لئلا تخلو الجملة التي وقعت خبراً عن
المبتدأ من رابط يربطها به، والجملة الابتدائية التي هي: لما
آتيناكم، إلى آخره هي الجملة المتلقى بها ما أجرى مجرى القسم،
وهو قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} .
والقول الثالث: قاله بعض أهل العلم، وهو:
أن تكون: ما، موصولة مفعولة بفعل جواب القسم، التقدير: لتبلغن
ما آتيناكم من كتاب وحكمة، قال: إلاَّ أنه حذف: لتبلغن، لدلالة
عليه، لأن لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دلت هذه اللام
على هذا الفعل حذف، ثم قال تعالى: {ثم جاءكم رسول مصدق لما
معكم} وهو محمد صلى الله عليه وسلّم {لتؤمنن به ولتنصرنه} وعلى
هذا التقدير يستقيم النظم، انتهى. ويعني: يكون: لتؤمنن به،
جواب قسم محذوف، وهذا بعيد جداً لا يحفظ من كلامهم، والله
لزيداً تريد ليضربن زيداً.
والقول الرابع: قاله ابن أبي إسحاق، وهو: أن يكون: لما، تخفيف
لما، والتقدير: حين آتيناكم، ويأتي توجيه قراءة التشديد.
وأمّا توجيه قراءة حمزة: فاللام هي للتعليل، و: ما، موصولة:
بآتيناكم، والعائد محذوف. و: ثم جاءكم، معطوف على الصلة،
والرابط لها بالموصول إما إضمار: به، على ما نسب إلى سيبويه،
وإما هذا الظاهر الذي هو: لما معكم، لأنه في المعنى هو الموصول
على مذهب أبي الحسن.
وقول الزمخشري: فجواب: أخذ الله ميثاق
النبيين هو لتؤمنن به، والضمير في: به، عائد على رسول، ويجوز
الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور، لو
قلت: أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمر ولأحسنن إليه، جاز. وأجاز
الزمخشري، في قراءة حمزة، أن تكون: ما، مصدرية، وبدأ به في
توجيه هذه القراءة، قال: ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب
والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به، على أن: ما،
مصدرية، والفعلان معها أعني: آتيناكم وجاءكم، في معنى
المصدرين، واللام داخلة للتعليل على معنى: أخذ الله ميثاقهم
ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة، وأن الرسول
الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف. انتهى
كلامه. إلاَّ أن ظاهر هذا التعليل الذي ذكره، وهذا التقدير
الذي قدره، أنه تعليل للفعل المقسم عليه، فإن عنى هذا الظاهر
فهو مخالف لظاهر الآية، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً
لأخذ الميثاق لا لمتعلقة، وهو الإيمان. فاللام متعلقة بأخذ،
وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله: لتؤمنن به،
ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما
بعدها فيما قبلها. تقول: والله لأضربن زيداً، فلا يجوز: والله
زيداً لاضربن، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في: لما،
بقوله: لتؤمنن به.
وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب، إذا كان ظرفاً أو
مجروراً، تقدّمه، وجعل من ذلك عوض لا نتفرق، وقوله تعالى: {عما
قليل ليصبحن نادمين} فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله: لتؤمنن به،
وفي هذه المسألة تفصيل يذكر في علم النحو.
وذكر السجاوندي، عن صاحب النظم: أن هذه اللام في قراءة حمزة هي
بمعنى: بعد، كقول النابغة:
توهمت آيات لها فعرفتها
لستة أعوام وذا العام سابع فعلى ذا لا تكون اللام في: لما،
للتعليل.
وأمّا توجيه قراءة سعيد بن جبير، والحسن:
لما، فقال أبو إسحاق: أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ
الميثاق، وتكون: لما، تؤول إلى الجزاء كما تقول: لما جئتني
أكرمتك. انتهى كلامه.
قال ابن عطية: ويظهر أن: لما، هذه هي الظرفية، أي: لما كنتم
بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق، إذ على
القادة يؤخذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة.
وقال الزمخشري: لما، بالتشديد بمعنى: حين آتيتكم بعض الكتاب
والحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق وجب عليكم الإيمان به ونصرته.
انتهى. فاتفق ابن عطية والزمخشري على أن: لما، ظرفية، واختلفا
في تقدير الجواب العامل في: لما، على زعمهما. فقدّره ابن عطية
من القسم، وقدّره الزمخشري من جواب القسم، وكلا قوليهما مخالف
لمذهب سيبويه في: لما، المقتضية جواباً، فإنها عند سيبويه حرف
وجواب لوجوب، وليست ظرفية بمعنى: حين، ولا بمعنى غيره، وإنما
ذهب إلى ظرفيتها أبو علي الفارسي.
وقد تكلمنا على ذلك كلاماً مشبعاً في كتاب (التكميل لشرح
التسهيل) وبينا أن الصحيح مذهب سيبويه.
وذهب ابن جني في تخريج هذه القراءة إلى أن أصلها: لمن ما،
وزيدت: من، في الواجب على مذهب الأخفش، ثم أدغمت كما يجب في
مثل هذا، فجاء: لمما، فثقل اجتماع ثلاث مميات، فحذفت الميم
الأولى فبقي: لما.
قال ابن عطية: وتفسير هذه القراءة على هذا التوجيه الملحق
تفسير: لما، بفتح الميم مخففة، وقد تقدّم. انتهى.
وظاهر كلامه أن: من، في قوله: لمن ما،
زائدة في الواجب على مذهب الأخفش، وقد ذكر هذا التقدير في
توجيه قراءة: لما، بالتشديد الزمخشري ولم ينسبه إلى أحد، فقال:
وقيل أصله: لمن مّا، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي: الميمان
والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم، فحذفوا إحداها،
فصارت: لما، ومعناه: لمن أجل ما آتيناكم لتؤمنن به، وهذا نحو
من قراءة حمزة في المعنى. انتهى كلامه. وهو مخالف لكلام ابن
جني في: من، المقدّر دخولها على: ما، فإن ظاهر كلام ابن جني
أنها زائدة، وظاهر كلام الزمخشري أنها ليست بزائدة، لأنه جعلها
للتعليل.
وفي قول الزمخشري: فحذفوا إحداهما، إبهام في المحذوف، وقد
عينها ابن جني: بأن المحذوفة هي الأولى، وهذا التوجيه في قراءة
التشديد في غاية البعد، وينزه كلام العرب أن يأتي فيه مثله،
فكيف كلام الله تعالى؟ وكان ابن جني كثير التمحل في كلام
العرب. ويلزم في: لما، على ما قرره الزمخشري أن تكون اللام في:
لمن ما آتيناكم، زائدة، ولا تكون اللام الموطئة، لأن اللام
الموطئة إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر، لو قلت:
أقسم بالله لمن أجلك لأضربن عمراً، لم يجز، وإنما سميت موطئة
لأنها توطىء ما يصلح أن يكون جواباً للشرط للقسم، فيصير جواب
الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه.
وقرأ عبد الله: رسول مصدّقاً، نصبه على الحال، وهو جائز من
النكرة، وإن تقدّمت النكرة. وقد ذكرنا أن سيبويه قاسه، ويحسن
هذه القراءة أنه نكرة في اللفظ معرفة من حيث المعنى، لأن
المعنى به محمد صلى الله عليه وسلّمعلى قول الجمهور.
{قَالَ فَاشْهَدُواْ} وقوله: فاشهدوا،
معطوف على محذوف التقدير، قال: أأقرتم فاشهدوا، فالفاء دخلت
للعطف. ونظير ذلك قوله: ألقيت زيداً؟ قال: فأحسن إليه.
التقدير: لقيت زيداً فاحسن إليه، فما فيه الفاء بعض المقول،
ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء، ألا ترى قال: أأقررتم،
وقوله: قالوا أقررنا؟ لما كان كل المقول لم تدخل بالفاء.
{وأنا معكم من الشاهدين} يحتمل الاسئناف على سبيل بالتوكيد،
ويحتمل أن يكون جملة حالية.
{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْفَسِقُونَ} .
و: من، الظاهر أنها شرط، والجملة من: فأولئك وما بعده جزاء،
ويحتمل أن تكون موصولة، وأعاد الضمير في: تولى، مفرداً على
لفظ: من وجمع في: فأولئك، حملاً على المعنى.
وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة. منها: الطباق: في:
بقنطار وبدينار، إذ أريد بهما القليل والكثير، وفي: يؤدّه ولا
يؤدّه، لأن الأداء معناه الدفع وعدمه معناه المنع، وهما ضدان،
وفي قوله: بالكفر ومسلمون، والتجنيس المغاير في: اتقى
والمتقين، وفي: فاشهدوا والشاهدين، والتجنيس المماثل في: ولا
يأمركحم أيأمركم، وفي: أقررتم وأقررنا. والإشارة في قوله: ذلك
بأنهم، وفي أولئك لا خلاق لهم. والسؤال والجواب، وهو في: قال
أأقررتم؟ ثم: قالوا أقررنا. والاختصاص في: يحب المتقين، وفي
يوم القيامة، اختصه بالذكر لأنه اليوم الذي تظهر فيه مجازاة
الأعمال. والتكرار في: يؤدّه ولا يؤده، وفي اسم الله في مواضع،
وفي: من الكتاب وما هو من الكتاب. والاستعارة في: يشترون بعهد
الله. والالتفات في: لما آتيتكم، وهو خطاب بعد قوله: النبيين،
وهو لفظ غائب. والحذف في عدة مواضع تقدمت.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ
وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ طَوْعًا
وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْءَامَنَّا بِاللَّهِ
وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَهِيمَ
وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأٌّسْبَاطِ وَمَا
أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
* وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ
مِنْهُ وَهُوَ فِى الأٌّخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ * كَيْفَ
يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَنِهِمْ
وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَتُ
وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ * أُوْلَئِكَ
جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ
وَالْمَلَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَلِدِينَ فِيهَا
لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ *
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
بَعْدَ إِيمَنِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ * إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن
يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأٌّرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ
افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ
مِّن نَّصِرِينَ} .
وقرأ أبو عمرو، وحفص، وعياش، ويعقوب، وسهل:
يبغون، بالياء على الغيبة، وينسبها ابن عطية لأبي عمرو، وعاصم
بكماله. وقرأ الباقون: بالتائ، على الخطاب، فالياء على نسق: هم
الفاسقون، والتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والفاء
لعطف هذه الجملة على ما قبلها، وقدمت الهمزة اعتناء
بالاستفهام. والتقدير: فأغير؟ وجوّز هذا الوجه الزمخشري، وهو
قول جميع النحاة قبله. قال: ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره:
أيتولون فغير دني الله يبغون. انتهى. وقد تقدم ذكر هذا والكلام
على مذهبه في ذلك، وأمعنا الكلام عليه في كتاب (التكميل) من
تأليفنا.
وانتصب: غير، على أنه مفعول يبغون، وقدم على فعله لأنه أهم من
يحث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود
بالباطل، قاله الزمخشري. ولا تحقيق فيه، لأن الإنكار الذي هو
معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات، إنما يتوجه إلى الأفعال التي
تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير
دين الله، وانما جاء تقديم المفعول هنا من باب الاتساع، وشبه:
يبغون، بالفاصلة بآخر الفعل.
والجملة من قوله: {وله أسلم} حالية. و: طوعاً وكرهاً، مصدران
في موضع الحال، أي: طائعين وكارهين. وقيل: هما مصدران على خلاف
الصدر.
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَمِ دِينًا} وانتصب: ديناً على
التمييز: لغير، لأن: غير، مبهمة، ففسرت بدين، كما أن مثلاً
مبهمة فتفسر أيضاً. وهذا كقولهم: لنا غيرها إبلاً وشاء،
ومفعول: يبتغ هو: غير، وقيل: ديناً، مفعول، و: غير، منصوب على
الحال لأنه لو تأخر كان نعتاً وقيل: ديناً، بدل من: غير،
والجمهور على إظهار الغينين وروي عن أبي عمرو الإدغام.
{وَهُوَ فِى الأٌّخِرَةِ مِنَ
الْخَسِرِينَ} الخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب
شبه في تضييع زمانه في الدنيا باتباع غير الإسلام بالذي خسر في
بضاعته، ويحتمل أن تكون هذه الجملة قد عطفت على جواب الشرط،
فيكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً عدم القبول
والخسران، ويحتمل أن لا تكون معطوفة عليه بل هي استئناف إخبار
عن حاله في الآخرة.
و: في الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده، أي: وهو خاسر في
الآخرة، أو: بإضمار أعني، أو: بالخاسرين على أن الألف واللام
ليست موصولة بل للتعريف، كهي في: الرجل، أو: به على أنها
موصولة، وتسومح في الظرف والمجرور لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع
في غيرهما، وكلُّ منقول، وقد تقدّم لنا نظير.
{وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} وشهدوا: ظاهره أنه معطوف
على قوله كفروا، وبه قال الحوفي، وابن عطية، ورده مكي وقال: لا
يجوز عطف: شهدوا، على: كفروا، لفساد المعنى، ولم يبين من أي
جهة فساد المعنى، وكأنه توهم الترتيب، فلذلك فسد المعنى عنده
وقال ابن عطية: المعنى مفهوم أن الشاهدة قبل الكفر، و: الواو،
لا ترتب، وأجاز قوم منهم: مكي، والزمخشري: أن يكون معطوفاً
على: ما في إيمانهم، من معنى الفعل، إذ المعنى: بعد أن آمنوا
وشهدوا. وأجاز الزمخشري وغيره أن تكون: الواو، للحال لا للعطف،
التقدير: كفروا بعد إيمانهم وقد شهدوا، والعامل فيه: كفروا.
{ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}
وانتصاب: كفراً، على التمييز المنقول من الفاعل، المعني: ثم
ازداد كفرهم، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال.
وقرأ عكرمة: لن نقبل، بالنون، توبتهم، بالنصب، والضالون
المخطئون طريق الحق والنجاة في الآخرة، أو: الهالكون، من: ضل
اللبن في الماء إذا صار هالكاً. والواو في: وأولئك، للعطف إما
على خبر إن، فتكون الجملة في موضع رفع، وإما على الجملة من: إن
ومطلوبيها، فلا يكون لها موضع من الإعراب.
وذكر الراغب قولاً: إن الواو في: وأولئك،
واو الحال، والمعنى: بل تقبل توبتهم من الذنوب في حال أنهم
ضالون، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان. انتهى هذا القول.
وينبو عن هذا المعنى هذا التركيب، إذ لو أريد هذا المعنى لم
يؤت باسم الإشارة، ويجوز في: هم الفصل، والابتداء والبدل.
قرأ عكرمة: فلن نقبل، بالنون و: ملء، بالنصب. وقرىء: فلن يقبل
بالياء مبنياً للفاعل، أي فلن يقبل الله. و: ملء، بالنصب. وقرأ
أبو جعفر، وأبو السمال: مل الأرض، يدون همز. ورويت عن نافع،
ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبل، وهو اللام، وحذفت
الهمزة، وهو قياس في كل ما كان نحو هذا، وأتى بلفظ: أحدهم، لوم
يأت بلفظ: منهم، لأن ذلك أبلغ وأنص في المقصود، إذ كان: منهم،
يحتمل أن يكون يفيد الجميع.
وانتصاب: ذهباً، على التمييز، وفي ناصب التمييز خلاف، وسماه
الفراء: تفسيراً، لأن المقدار معلوم، والمقدّر به مجمل. وقال
الكسائي: نصب على إضمار: من، أي: من ذهب، كقوله: {أو عدل ذلك
صياماًإِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ
فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأٌّرْضِ ذَهَبًا} أي:
من صيام. وقرأ الأعمش: ذهب، بالرفع. قال الزمخشري: ردّ على:
ملء، كما يقال عندي عشرون نفساً رجال. انتهى. ويعني بالردّ:
البدل، ويكون من بدل النكرة من المعرفة، لأن: ملء الأرض، معرفة
ولذكل ضبط الحذاق قوله: {لك الحمد ملء السموات والأرض} بالرفع
على بالصفة للحمد، واستعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة.
{وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} قرأ ابن أبي عبلة:
لو افتدى به، دون واو، و: لو، هنا هي بمعنى: إن، الشرطية لا:
لو، التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره، لأن: لو، هنا معلقة
بالمستقبل، وهو: فلن يقبل، وتلك معلقة بالماضي. فأما قراءة ابن
أبي عبلة فإنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول فلم يتعمم نفي
وجود القبول، وأما قراءة الجمهور بالواو، فقيل: الواو زائدة،
وهو ضعيف، ويكون المعنى إذ ذاك معنى قراءة ابن أبي عبلة. وقيل:
ليست بزائدة.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد: ولو افتدى بمثله، لقوله: {ولو
أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه} والمثل يحذف
كثيراً في كلامهم، كقولك: ضربت ضرب زيد، تريد: مثل ضربه، وأبو
يوسف أبو حنيفة، تريد: مثله.
ولا هيثم الليلة للمطي
و: قضية ولا أبا حسن لها تريد: ولا هيثم، و: لا مثل أبي حسن،
كما أنه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد: أنت: وذلك
أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد.
انتهى كلامه.
ولا حاجة إلى تقدير: مثل، في قوله {ولو افتدى به} وكان
الزمخشري تخيل أن ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به، فاحتاج
إلى إضمار: مثل، حتى يغاير بينب ما نفي قبوله وبين ما يفتدى
به، وليس كذلك، لأن ذلك كما ذكرناه هو على سبيل الفرض،
والتقدير: إذ لا يمكن عادة أن أحداً يملك ملء الأرض ذهباً بحيث
لو بذلفه على أي جهة بذله لم يقبل منه، بل لو كان ذلك ممكناً
لم يحتج إلى تقدير مثل، لأنه نفي قبوله حتى في حالة الافتداء،
وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به، لأن هذا التقدير لا
يحتاج إليه، ولا معنى له، ولا في الفظ ولا المعنى ما يدل عليه،
فلا يقدر. وأما فيما مثل به من: ضربت ضرب زيد، وأبو يوسف أبو
حنيفة، فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير: مثل، إذ ضربك
يستبحيل أن يكون ضرب زيد، وذات أبي يوسف يستحيل أن تكون ذات
أبي حنيفة. وأما:
لا هيثم الليلة للمطي.
يدل على حذف: مثل ما تقرر في اللغة العربية
أن: لا، التي لنفي الجنس لا تدخل على الأعلام فتؤثر فيها،
فاحتاج إلى إضمار: مثل، لتبقى على ما تقرر فيها، إذ تقرر أنها
لا تعمل إلاَّ فى الجنس، لأن العلمية تنافي عموم الجنس. وأما
قوله: كما أن يزاد في: مثلك لا يفعل كذا، تريد، أنت، فهذا قول
قد قيل، ولكن المختار عند حذاق النحويين أن الأسماء لا تزاد،
ولتقرير أن مثلك لا يفعل كذا، ليست فيه مثل زائدة مكان غير
هذا.
وتضمنت هذه الآية من أصناف البديع: الطباق: في قوله: طوعا
وكرها. وفي: كفروا بعد إيمانهم في موضعين. والتكرار: في: يهدي
ولا يهدي. وفي: كفروا بعد إيمانهم. والتجنيس المغاير: في كفروا
وكفروا. والتأكيد: بلفظ: هم، في قوله: وأولئك هم الضالون. قيل:
والتشبيه في: ثم ازدادوا كفراً، شبه تماديهم على كفرهم
وإجرامهم بالإجرام التي يزاد بعضها على بعض، وهو من تشبيه
المعقول بالمحسوس. والعدول من مفعل إلى فعيل، في: عذاب أليم،
لما في: فعيل، من المبالغة. والحذف في مواضع.
{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ
وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} .
و: من، في: مما تحبون، للتبعيض، ويدل على ذلك قراءة عبد الله:
حتى تنفقوا بعض ما تحبون. و: ما، موصولة، والعائد محذوف.
|