الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِى
إِسْرَءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ
مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ
بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * فَمَنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ
فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَلَمِينَ *
فِيهِءَايَتٌ بَيِّنَتٌ مَّقَامُ إِبْرَهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ
كَانَءَامِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله
غَنِىٌّ عَنِ الْعَلَمِينَ * قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ
تَكْفُرُونَ بِئَيَتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا
تَعْمَلُونَ * قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ مَنْءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ
شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *
يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ
الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ
كَفِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى
عَلَيْكُمْءَايَتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن
يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَطٍ مّسْتَقِيمٍ}
.
{نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ} قال
أبو البقاء: مِن متعلقة بحرم، يعني في قوله: إلا ما حرّم
إسرائيل على نفسه. ويبعد ذلك، إذْ هو من الاخبار بالواضح، لأنه
معلوم أنّ ما حرم إسرائيل على نفسه هو من قبل إنزال التوراة
ضرورة لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة. ويظهر أنه
متعلق بقوله: كان حلاً لبني إسرائيل، أي من قبل أن تنزل
التوراة، وفَصَلَ بالاستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب
الكسائي وأبي الحسن: في جواز أن، يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها
إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو: ما حبس إلا زيد عندك،
وما أوى إلا عمر وإليك، وما جاء إلا زيد ضاحكاً. وأجاز الكسائي
ذلك في منصوب مطلقاً نحو: ما ضرب إلا زيد عمراً وأجاز هو وابنُ
الأنباري ذلك في مرفوع نحو: ما ضرب إلا زيداً عمرو، وأما
تخريجه على مذهب غير الكسائي وأبي الحسن فيقدر له عامل من جنس
ما قبله تقديره هنا: حل من قبل أن تنزل التوراة.
{فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّلِمُونَ} والأظهر في من أنها شرطية،
ويجوز أن تكون موصولة. وجمع في فأولئك حملاً على المعنى. وهم:
يحتمل أن تكون فصلاً، ومبتدأً، وبدلاً.
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ
مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَلَمِينَ} وللناس متعلق بوضع، واللام
فيه للتعليل، وللذي ببكة خبر إنّ. والنعنى: للبيت الذي ببكة.
وأكدت النسبة بتأكيدين: إنّ واللام. وأخبر هنا عن النكرة وهو
أول بيت لتخصصها بالإضافة، وبالصفة التي هي وضع إمالها، وإمّا
لما أضيفت إليه. إذْ تخصيصه تخصيصٌ لها بالمعرفة وهو للذي
ببكة، لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس، ويحسن
الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول إنّ. ومن أمثلة سيبويه: أنّ
قريباً منك زيد. تخصص قريب بلفظ منك، فحسن الإخبار عنه. وقد
جاء بغير تخصيص وهو جائز في الاختيار قال:
وأنّ حراماً أن أسب مجاشعاً
بآبائي الشم الكرام الخضارم والباء في ببكة ظرفية كقولك: زيد
بالبصرة. ويضعفُ أن يكون بكة هي المسجد، لأنه يلزم أن يكونَ
الشيء ظرفاً لنفسه، وهو لا يصحّ.
وانتصاب مباركاً على الحال. وجوزوا أنْ يكون حالاً من الضمير
الذي استكن في وضع، والعامل فيها وضع أي أنَّ أول بيت مباركاً،
أي في هذه الحال للذي ببكة. وهذا التقدير ليس بجائز، لأنك فصلت
بين العامل في الحال وبين الحال بأجنبي وهو: الخبر، لأنه معمول
لأنَّ خبر لها، فإنْ أضمرت وضع بعد الخبر أمكن أن يعمل في
الحال، وكان تقديره: للذي ببكة وضع مباركاً. وعلى هذا التقدير
ينبغي أن يحمل تفسير علي بن أبي طالب السابق ذكره عند ذكر كون
هذا البت أولاً، إذ كان قد لاحظ في هذا البيت كونه وضع أولاً
بقيد هذه الحال.
وجوزوا أيضاً أن يكون العامل في الحال العامل في ببكة، أي
استقر ببكة في حال بركته. وهو وجه ظاهر الجواز، ولم يذكر
الزمخشري غيره. وأما هدي فظاهره أنه معطوف على مباركاً،
والمعطوف على الحال حال. وجوَّز بعضهم أنْ يكون مرفوعاً على
أنه خبر مبتدأ محذوف، أي وهو هدي، ولا حاجة إلى تكلف هذا
الإضمار.
{فِيهِءَايَتٌ بَيِّنَتٌ مَّقَامُ إِبْرَهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ
كَانَءَامِناً} وارتفاعُ آيات على الفاعلية بالمجرور قبله،
فيكون المجرور في موضع الحال، والعامل فيها محذوف، وذلك
المحذوف هو الحال حقيقة. ونسبة الحالية إلى الظرف والمجرور
مجاز، كنسبة الخبر إليها. إذا قلت: زيد في الدار، أو عندك.
ولذلك قال بعض أصحابنا: وما يعزى للظرف من خبرية وعمل، فالأصح
كونه لعامله. وكون فيه في موضع حال مقدّرة، سواء كان العامل
فيها هو العامل في ببكة، أم كان العامل فيها هو وضع على ما
أعربوه، أو على ما أعربناه. ويجوز أو يكون جملة مستأنفة. أخبر
الله تعالى أن فيه آيات بينات.
{ومن دخله كان آمناً} جملة من شرط وجزء، أو
مبتدأ وخبر، لا على سبيل أن يكون اسماً مفرداً يعطف على قوله:
مقام ابراهيم، فيكون ذلك تفسيراً صناعياً. بل لم يأت بعد قوله:
{آيات بينات} سوى مفرد وهو: مقام ابراهيم فقال. فإن قلت: كيف
أجزت أنْ يكون مقام إبراهيم والا من عطف بيان وقوله: ومن دخله
كان آمناً جملة مستأنفة: إما ابتدائية، وإما شرطية؟ قلت: أجزت
ذلك من حيث المعنى. ون قوله: {ومن دخله كان آمناً} دل على أمن
داخله، فكأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن داخله.
ألا ترى أنك لو قلت فية آية بينة من دخله كان آمناً صحّ، لأنه
في معنى فيه آية بينة أمن مَن دخله انتهى سؤاله وجوابه وليس
بواضح. لأن تقديره وأمن الداخل، هو مرفوع عطفاً على مقام
إبراهيم، وفسر بهما الآيات. والجملة من قوله: ومن دخله كان
آمناً لا موضع لها من الإعراب، فتدافعا إلا أنْ اعتقد أنّ ذلك
معطوف محذوف يدل عليه ما بعده، فيمكن التوجيه. فلا يجعل قوله:
ومن دخله كان آمناً في معنى: وأمن داخله، إلا من حيث تفسير
المعنى لا تفسير الإعراب. قال الزمخشري: ويجوز أن بذكر هاتين
الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، كأنه قيل:
فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما. ونحوه
في طي الذكر قول جرير:
كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم
من العبيد وثلث من مواليها
ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم «حبب إليّ
من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عيني في الصلاة» انتهى
كلامه. وفيه حذف معطوفين، ولم يذكر الزمخشري في إعراب مقام
إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله: آيات بينات. ورد عليه ذلك،
لأن آيات نكرة، ومقام إبراهيم معرفة، ولا يجوز التخالف في عطف
البيان. وقوله مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين، فلا يلتفت
إليه. وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت، فتتبع النكرة
النكرة والمعرفة المعرفة، وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي.
وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أنْ يكونا معرفتين، ولا يجوز
أنْ يكونا نكرتين. وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم: عطف بيان
وهو نكرة على النكرة قبله، أعربه البصريون بدلاً، ولم يقم لهم
دليل على تعيين عطف البيان في النكرة، فينبغي أن لا يجوز.
والأولى والأصوب في إعراب مقام إبراهيم أنْ يكون خبر مبتدأ
محذوف تقديره: أحدها: أي أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم.
أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره منها: أي من الآيات البينات مقام
إبراهيم. ويكون ذكر المقام لعظمه ولشهرته عندهم، ولكونه
مشاهداً لهم لم يتغير، ولاذ كاره إياهم دين أبيهم إبراهيم.
وأما على قراءة من قرأ: آية بينة بالتوحيد، فإعرابه بدل، وهو
بدل معرفة من نكرة موصوفة، كقوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط
مستقيم صراط الله} .
{وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
مَنِ اسْتَطَعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وقرأ حمزة والكسائي وحفص حج
بكسر الحاء، والباقون بفتحها. وهما لغتان: الكسر لغة نجد،
والفتح لغة أهل العالية. وجعل سيبويه الحج بالكسر مصدراً نحو:
ذكر ذكراً. وجعله الزجاج اسم العمل. ولم يختلفو في الفتح أنه
مصدر، وحج مبتدأ وخبره في المجرور الذي هو ولله وعلى الناس
متعلق بالعامل في الجار والمجرور الذي هو خبر. وجوز أنْ يكونَ
على الناس حالاً، وأنْ يكون خبر الحج. ولا يجوز أن يكون «ولله»
حالاً، لما يلزم في ذلك من تقدّمها على العامل المعنوي. وحج
مصدر أضيف إلى المفعول الذي هو البيت، والألف واللام فيه
للعهد. إذ قد تقدّم «أنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة» هذا
الأصل ثم صار علماً بالغلبة. فمتى ذكر البيت لا يتبادر إلى
الذهن إلا أنه الكعبة، وكأنه صار كالنجم للثريا وقال الشاعر:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله
وأقعد في أفنائه بالأصائل
وفي إعراب مَنْ خلاف، ذهب الأكثرون إلى أنه
بدل بعض من كل، فتكون مَن موصولة في موضع جر، وبدل بعض من كل
لا بد فيه من الضمير، فهو محذوف تقديره، من استطاع إليه سبيلاً
منهم. وقال الكسائي وغيره: من شرطية، فتكون في موضع رفع
بالابتداء. ويلزم حذف الضمير الرابط لهذه الجملة بما قبلها،
وحذف جواب الشرط، إذ التقدير من استطاع إليه سبيلاً منهم فعليه
الحج، أو فعلية ذلك. والوجه الأوّل أولى لقلة الحذف فيه وكثرته
في هذا. ويناسب الشرط مجيءُ الشرط بعده في قوله: {ومن كفر}
وقيل: مَنْ موصولة في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم من
استطاع إليه سبيلاً. وقال بعض البصريين: مَنْ موصولة في موضع
رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حج، فيكون المصدر قد أضيف
إلى المفعول ورفع به الفاعل نحو: عجبت من شرب العسل زيد، وهذا
القول ضعيف من حيث اللفظ والمعنى. أمّا من حيث اللفظ فإنّ
إضافة المصدر للمفعول ورفع الفاعل به قليل في الكلام، ولا يكاد
يحفظ في كلام العرب إلا في الشعر، حتى زعم بعضهم أنه لا يجوز
إلا في الشعر. وأمّا من حيث المعنى فإنه لا يصح، لأنّه يكون
المعنى: إنّ الله أوجب على الناس مستطيعهم وغير مستطيعهم أنْ
يحج البيت المستطيع. ومتعلق الوجوب إنما هو المستطيع لا الناس
على العموم، والضمير في إليه يعود على البيت، وقيل: على الحج.
وإليه متعلق باستطاع، وسبيلاً مفعول بقوله استطاع لأنه فعل
متعد. قال تعالى: {لا يستطيعون نصركم} وكل موصل إلى شيء، فهو
سبيل إليه.
{وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَلَمِينَ} ومن
شرطية وجواب الشرط الجملة المصدرة بالفاء، والرابط لها بجملة
الشرط هو العموم الذي في قوله: {عن العالمين} إذْ مَن كفر فهو
مندرج تحت هذا العموم.
{قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِئَيَتِ اللَّهِ} وتقدّم الكلام على «لم» وحذف الألف من ما
الاستفهامية إذا دخل عليها الجار. وقوله: «على ما تعملون»
متعلق بقوله: شهيد. وما موصولة. وجوزوا أنْ تكون مصدرية، أي
على عملكم.
{قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}
وصدّ: لازم ومتعد. يقال: صد عن كذا، وصد غيره عن كذا. وقراءة
الجمهور: يصدون ثلاثياً، وهو متعد ومفعوله مَنْ آمن. وقرأ
الحسن: تصدُّون من أصدّ، عدى صدّ اللازم بالهمز، وهما لغتان.
وقال ذو الرّمة:
أناس أصدُّوا الناس بالسيف عنهم
{تَبْغُونَهَا عِوَجاً} نصبه على الحال من الضمير في يبغون، أي
عوجاً منكم وعدم استقامة انتهى. وعلى التأويل الأول يكون عوجاً
مفعولاً به،
{يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ كَفِرِينَ} والجملة من قوله:
«يبغونها عوجاً تحتمل الاستئناف، وتحتمل أن تكون حالاً من
الضمير في يصدُّون أو من سبيل الله، لأن فيها ضميرين يرجعان
إليهما.
وانتصاب كافرين على أنه مفعول ثان ليردّ، لأنها هنا بمعنى صير
كقوله:
فرد شعورهنّ السود بيضاً
وردّ وجوههنّ البيض سودا
وقيل: انتصب على الحال، والقول الأول أظهر.
وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة: الاستفهام
الذي يراد به الإنكار في {لم تكفرون} {لم تصدون} {وكيف تكفرون}
والتكرار: في يا أهل الكتاب، وفي اسم الله في مواضع، وفيما
يعملون، والطباق: في الإيمان والكفر، وفي الكفر إذ هو ضلال
والهداية، وفي العوج والاستقامة، والتجوز: بإطلاق اسم الجمع في
فريقاً من الذين أوتوا الكتاب فقيل: هو يهودي غير معين. وقيل:
هو شاس بن قيس اليهودي. وإطلاق العموم والمراد الخصوص: في يا
أيها الذين آمنوا على قول الجمهور أنه خطاب للأوس والخزرج.
والحذف في مواضع.
{يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً
وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا
حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *
وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا
جَآءَهُمُ الْبَيِّنَتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَنِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ
اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * تِلْكَءَايَتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً
لِّلْعَلَمِينَ * وَللَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى
الأٌّرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّمُورُ * كُنتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلَوْءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَبِ لَكَانَ خَيْراً
لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَسِقُونَ
* لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الأٌّدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ * ضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ
مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ
مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ
اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ الأٌّنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِمَا
عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} .
أصبح: من الأفعال الناقصة لاتصاف الموصوف بالصفة وقت الصباح.
وقد تأتي بمعنى صار وهي ناقصة أيضاً، وتأتي أيضاً لازمة تقول:
أصبحت أي دخلت في الصباح. وتقول: أصبح زيد، أي أقام في الصباح
ومنه. إذا سمعت بسري القين فاعلم أنه مصبح، أي مقيم في الصباح.
قال ابن عطية: ويصح أن يكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإنْ
كان لم يتصرف منه، فيكون: كرماة ورام، أو يكون جمع تقي، إحد
فعيل وفاعل بمنزلة. والمعنى على هذا: اتقوا الله كما يحق أن
يكون متقوه المختصون به، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى
انتهى كلامه. وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ، إذ الظاهر أنّ
قوله: حقّ تقاته من باب إضافة إلى موصوفها، كما تقول: ضربت
زيداً شديد الضرب، أي الضرب الشديد. فكذلك هذا أي اتقوا الله
الاتقاء الحق، أي الواجب الثابت. أما إذا جعلت التقاة جمعاً
فإنَّ التركيب يصير مثل: اضرب زيداً حق ضرابه، فلا يدل هذا
التركيب على معنى: اضرب زيداً كما يحق أن يكون ضرابه. بل لو
صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها
المعنى، والتقدير: اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يحق أن يكون ضرب
ضرابه. ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقادير
يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ.
{وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَ} والجملة من قوله: وأنتم مسلمون حالية،
والاستثناء مفرع من الأحوال. التقدير: ولا تموتن على حال من
الأحوال إلا على حالة الإسلام. ومجيئُها إسمية أبلغُ لتكرر
الضمير، وللمواجهة فيها بالخطاب. وزعم بعضهم أنَّ الأظهر في
الجملة أن يكون الحال حاصلة قبل، ومستصحبة. وأمّا لو قيل:
مسلمين، لدلَّ على الاقتران بالموت لا متقدماً ولا متأخراً.
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} انتصب جميعاً على
الحال.
{وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم
أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل
لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح، وتستعمل بمعنى صار، فلا يلحظ
فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال.
وعليه قوله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا
أملك رأس البعير أن نفرا
قال ابن عطية: فأصبحتم عبارة عن الاستمرار، وإنْ كانت اللفظة
مخصوصة بوقت مّا، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي
مبتدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال. فالحال التي يحسبها المرء
من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب، ومنه
قول الربيع بن ضبع:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا
أملك رأس البعير إن نفرا
وهذا الذي ذكره: من أن أصبح للاستمرار،
وعلله بما ذكره لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إليه، إنما
ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما. وجوز الحوفي في
«إذ» أن ينتصب باذكروا، وجوز غيره أن ينتصب بنعمة. أي إنعام
الله، وبالعامل في عليكم. إذ جوزوا أن يكون حالاً من نعمة،
وجوزا أيضاً تعلق عليكم بنعمة، وجوزوا في أصبحتم أن تكون ناقصة
والخبر بنعمته والباء ظرفية وإخواناً حال يعمل فيها أصبح، أو
ما تعلق به الجاروالمجرور. وأن يكون إخواناً خبر أصبح والجار
حال يعمل فيه أصبح، أو حال من إخواناً لأنه صفة له تقدمت عليه،
أو العامل فيه ما فيه من معنى تآخيتم بنعمته. وأن يكون أصبحتم
تامة، وبنعمته متعلق به، أو في موضع الحال من فاعل أصبحتم أو
من إخواناً، وإخواناً حال. والذي يظهر أن أصبح ناقصة وإخواناً
خبر، وبنعمته متعلق بأصبحتم، والباء للسبب لا ظرفية.
وقال بعض الناس: الأخ في الدين يجمع إخواناً، ومن النسب إخوة،
هكذا كثر استعمالهم. وفي كتاب الله تعالى: {إنما المؤمنون
أخوة} والصحيح أنهما يقالان من النسب. وفي الدين: وجمع أخ على
أخوة لا يراه سيبويه، بل أخوة عنده اسم جمع، لأن فعلاً لا يجمع
على فعله. وابن السراج يرى فعلة إذا فهم منه الجمع اسم جمع،
لأن فعلة لم يطرد جمعاً لشيء. والضمير في منها عائد على النار،
وهو أقرب مذكور، أو على الحفرة. وحكى الطبري أن بعض الناس قال:
يعود على الشفا، وأنت من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث. كما
قال جرير:
أرى مر السنين أخذن مني
كما أخذ السرار من الهلال
قال ابن عطية: وليس الأمر كما ذكروا، لأنه
لا يحتاج في الآية إلى هذه الصناعة إلا لو لم يجد معاداً
للضمير إلا الشفا. وهنا معنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه،
ويعضده المعنى المتكلم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة انتهى.
وأقول: لا يحسن عوده إلا على الشفا، لأنّ كينونتهم على الشفا
هو أحد جزئي الإسناد، فالضمير لا يعود إلا عليه. وأما ذكر
الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها، ألا ترى أنك إذا
قلت: كان زيد غلام جعفر، لم يكن جعفر محدثاً عنه، وليس أحد
جزئي الإسناد. وكذلك لو قلت: ضرب زيد غلام هند، لم تحدث عن هند
بشيء، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً مخصصاً للمحدث عنه.
{وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ} قيل: من للجنس، وقيل: للتبعيض.
وقرأ الجمهور: ولْتكن بسكون اللام. وقرأ أبو عبد الرحمن،
والحسن، والزهري، وعيسى بن عمر، وأبو حيوة: بكسرها، وعلَّةُ
بنائها على الكسر مذكورة في النحو. وجوزوا في «ولتكن» أن تكون
تامة، فيكون منكم متعلقاً بها، أو بمحذوف على أنه حال، إذ لو
تأخر لكان صفة لأمّة. وأن تكون ناقصة، ويدعون الخبر، وتعلق من
على الوجهين السابقين. وجوزوا أيضاً أنْ يكونَ منكم الخبر،
ويدعون صفة. ومحط الفائدة إنما هو في يدعون فهو الخبر.
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} والعامل في
{يوم تبيض} ما يتعلق به. ولهم عذاب عظيم أيْ وعذابٌ عظيم كائن
لهم يوم تبيض وجوه. وقال الحوفي: العامل، فيه محذوف تدل عليه
الجملة السابقة، أي: يعذبون يوم تبيض وجوه. وقال الزمخشري:
بإضمار اذكروا، أو بالظرف وهو لهم. وقال قوم: العامل عظيم،
وضعف من جهة المعنى لأنه يقتضي أنّ عظمَ العذاب في ذلك اليوم،
ولا يجوز أنْ يعمل فيه عذاب، لأنه مصدر قد وصف.
وقرأ يحيى بن وثاب، وأبو رزين العقيلي،
وأبو نهيك: تبيض وتسودّ بكسر التاء فيهما، وهي لغة تميم: وقرأ
الحسن، والزهري، وابن محيصن، وأبو الجوزاء: تبياض وتسواد بألف
فيهما. ويجوز كسر التاء في تبياض وتسواد، ولم ينقل أنه قرىء
بذلك.
{>ُ؛ ِ} هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسودّ. وابتدىء
بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم، ولمجاورة قوله:
وتسودّ وجوه، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم. فيكون
مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع، ويشرح الصدر. وقد تقدّم
الكلام على أما في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جواباً،
ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها، والخبر هنا محذوف
للعلم به. والتقدير: فيقال لهم: أكفرتم؟ كما حذف القول في
مواضع كثيرة كقوله: أي يقولون: سلام عليكم. ولمّا حذف الخبر
حذفت الفاء، وإنْ كان حذفُها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر
نحو قوله:
فأمّا القتال لا قتال لديكم
ولكنّ سيرا في عرض المواكب
يريد فلا قتال، وقال الشيخ كمال الدين عبد
الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بنهاية
التأميل في أسرار التنزيل: قد اعترض على النحاة في قولهم: لما
حذف. يقال: حذفت الفاء بقوله تعالى: {وأمّا الذين كفروا أفلم
تكن آياتي تتلى عليكم} تقديره فيقال لهم: أفلم تكن آياتي تتلى
عليكم، فحذف فيقال، ولم تحذف الفاء. فلما بطل هذا تعين أن يكون
الجواب: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، فوقع ذلك جواباً له.
ولقوله: أكفرتم، ومن نظم العرب: إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً
له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم
يجعلون لهما جواباً واحداً، كما في قوله تعالى: {فأمّا يأتينكم
مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} فقوله: فلا
خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين، وليس أفلم جواب جواب
أمّا، بل الفاء عاطفة على مقدّر والتقدير: أأهملتكم، فلم أتل
عليكم آياتي. انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام
نحوي. أمّا قوله: قد اعترض على النحاة فيكفي في بطلان هذا
الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة، لأنه ما من نحوي إلا
خرّج الآية على إضمار فيقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فحوى
الخطاب، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى
عنه، فالقول بخلافه مخالف للإجماع، فلا التفات إليه. وأمّا ما
اعترض به من قوله: {وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي} وأنهم
قدروه فيقال لهم: أفلم تكن آياتي، فحذف فيقال: ولم تحذف الفاء،
فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح، بل هذه الفاء التي بعد
الهمزة في أفلم ليست فاء، فيقال التي هي جواب أمّا حتى يقال
حذف، فيقال: وبقيت الفاء، بل الفاء التي هي جواب أمّا، ويقال
بعدها محذوف. وفاء أفلم تحتمل وجهين، أحدهما أن تكون زائدة.
وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قولَ الشاعر:
يموت أناس أو يشيب فتاهم
ويحدث ناس والصغير فيكبر
يريد: يكبر وقول الآخر:
لما اتقى بيد عظيم جرمها
فتركت ضاحي جلدها بتذبذب
يريد: تركت. وقال زهير:
أراني إذا ما بت بتّ على هوى
فثم إذا أصبحت أصبحت غادياً
يريد ثم. وقول الأخفش: وزعموا أنهم يقولون أخوك، فوجد يريدون
أخوك وجد. والوجه الثاني: أن تكون الفاء تفسيرية، وتقدم الكلام
فيقال لهم: ما يسوؤهم، فالم تكن آياتي، ثم اعتنى بهمزة
الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية، كما تقدم على الفاء
التي للتعقيب في نحو قوله: {أفلم يسيروا في الأرض} وهذا على
مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو: توضأ زيد فغسل وجهه
ويديه إلى آخر أفعال الوضوء. فالفاء هنا ليست مرتبة، وإنما هي
مفسرة للوضوء. كذلك تكون في {أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} مفسرة
للقول الذي يسوؤهم وقول هذا الرجل. فلما بطل هذا يعني ـ أن
يكون الجواب فذوقوا ـ أي تعين بطلان حذف ما قدره النحويون من
قوله، فيقال لهم لوجود هذا الفاء في أفلم تكن، وقد بينا أن ذلك
التقدير لم يبطل، وأنه سواء في الآيتين. وإذا كان كذلك فجواب
أمّا هو، فيقال في الموضعين، ومعنى الكلام عليه. وأمّا تقديره:
أأهملتكم، فلم تكن آياتي، فهذه نزعة زمخشرية، وذلك أن الزمخشري
يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح عطف ما بعدها
عليه، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة
أصلهن التقديم على الهمزة، لكنْ اعتنى بالاستفهام، فقدم على
حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين. وقد رجع
الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك، وبطلان قوله الأول
مذكور في النحو. وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك.
وعلى تقدير قول هذا الرجل: أأهملتكم، فلا بدّ من إضمار القول
وتقديره، فيقال: أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ،
والفاء جواب أما. وهو الذي يدل عليه الكلام، ويقتضيه ضرورة.
وقول هذا الرّجل: فوقع ذلك جواباً له، ولقوله: أكفرتم، يعني
أنْ فذوقوا العذاب جواب لأمّا، ولقوله:
أكفرتم؟ والاستفهام هنا لا جواب له، إنما
هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم. وأمّا قول هذا
الرّجل: ومن نظم العرب إلى آخره، فليس كلام العرب على ما زعم،
بل يجعل لكل جواب أنَّ لا يكن ظاهراً فمقدر، ولا يجعلون لهما
جواباً واحداً، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى: {فأما يأتينكم}
الآية. وزعمه أن قوله تعالى: {فلا خوف عليهم} جواب للشرطين.
فقولٌ روي عن الكسائي. وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول
محذوف تقديره: فاتبعوه. والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو
جواب الشرط الأول. وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على
قوله: {فأما يأتينكم} الآية. بما كنتم، الباء سببية وما
مصدرية.
وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر: فأما الذين
اسوادت، وأما الذين ابياضت بألف. وأصل افعلّ هذا افعلل يدل،
على ذلك اسوددت واحمررت، وأن يكون للون أو عيب حسي، كأسود،
وأعوج، واعوز. وأن لا يكون من مضعف كاحم، ولا معتل لام كألمى،
وأنْ لا يكون للمطاوعة. وندر نحو: انقضّ الحائط، وابهار الليل،
وإشعار الرجل بفرق شعره، وشذا رعوى، لكونه معتل اللام بغي لون
ولا عيب مطاوعاً لرعوته بمعنى كففته. وأما دخول الألف فالأكثر
أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها، ولزومه إذا لم يجأ بهما. وقد
يكون العكس. فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى: {مد
هامتان} ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى: {تزوّر عن
كهفهم} واحمرّ خجلاً. وجواب أما ففي الجنة، والمجرور خبر
المبتدأ، أي فمستقرون في الجنة. وهم فيها خالدون جملة مستقلة
من مبتدأ وخبر، لم تدخل في حيز أما، ولا في إعراب ما بعده.
دلّت على أنَّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود. وقال
الزمخشري: (فإن قلت) كيف موقع قوله: هم فيها خالدون بعد قوله:
ففي رحمة الله؟ (قلت) : موقع الاستئناف. كأنه قيل: كيف يكونون
فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون، لا يظعنون عنها ولا يموتون انتهى.
وهو حسن. وقيل: جواب أما ففي الجنة هم فيها خالدون، وهم فيها
خالدون ابتداء. وخبر وخالدون العامل في الظرفين، وكرر على طريق
التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم
المقيم.
{>ُ للهِتِلْكَءَايَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا
عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً
لِّلْعَلَمِينَ} وتلك مبتدأ أو آيات الله خبره، ونتلوها جملة
حالية. قالوا: والعامل فيها اسم الإشارة. وجوزوا أن يكون آيات
الله بدلاً، والخبر نتلوها. وقال الزجاج: في الكلام حذف تقديره
تلك آيات القرآن المذكورة حجج الله ودلائله انتهى. فعلى هذا
الذي قدره يكون خبر المبتدأ محذوف، لأنّه عنده بهذا التقدير
يتم معنى الآية. ولا حاجة إلى تقدير هذا المحذوف، إذ الكلام
مستغن عنه تام بنفسه. والباء في بالحق باء المصاحبة، فهي في
الموضع الحال من ضمير المفعول أي: ملتبسة بالحق.
وللعالمين في موضع المفعول للمصدر الذي هو ظلم، والفاعل محذوف
مع المصدر التقدير: ظلمه، والعائد هو ضمير الله تعالى أي: ليس
الله مريداً أن يظلم أحداً من العالمين.
قالوا وتضمنت هذه الآيات الطباق: في تبيضّ وتسودّ، وفي اسودّت
وابيضّت، وفي أكفرتم بعد إيمانكم، وفي بالحق وظلماً. والتفصيل:
في فأمّا وأمّا. والتجنيس: المماثل في أكفرتم وتكفرون. وتأكيد
المظهر بالمضمر في: ففي رحمة الله هم فيها خالدون. والتكرار:
في لفظ الله. ومحسنه: أنه في جمل متغايرة المعنى، والمعروف في
لسان العرب إذا اختلفت الجمل أعادت المظهر لا المضمر، لأن في
ذكرع دلالة على تفخيم الأمر وتعظيمه، وليس ذلك نظير.
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
لاتحاد الجملة. لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصداً
للتفخيم. والإشارة في قوله: تلك، وتلوين الخطاب في فأمّا الذين
اسودّت وجوههم أكفرتم، والتشبيه والتمثيل في تبيض وتسودّ، إذا
كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة والحذف في مواضع.
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} وظاهر كان هنا
أنها الناقصة، وخير أمة هو الخبر. ولا يراد بها هنا الدلالة
على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك: كان زيد قائماً، بل
المراد دوام النسبة كقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً
رَّحِيماً} {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ
فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} وكون كان تدل على الدوام ومرادفه
لم يزل قولاً مرجوحاً، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على
الانقطاع، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع. وقيل: كان هنا
بمعنى صار، أيْ صرتم خير أمة. وقيل: كان هنا تامة، وخير أمة
حال. وأبعد من ذهب إلى أنّها زائدة، لأن الزائدة لا تكون أول
كلام، ولا عمل لها. وقال الزمخشري: كان عبارة عن وجود الشيء في
من ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على
انقطاع طارىء. ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً} .
ومنه قوله: كنتم خير أمة، كأنه قيل: وجدتم
خير أمة انتهى كلامه. فقوله: أنها لا تدل على عدم سابق هذا إذا
لم تكن بمعنى صار، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق. فإذا
قلت: كان زيد عالماً بمعنى صار، دلت على أنه انتقل من حالة
الجهل إلى حالة العلم. وقوله: ولا على انقطاع طارىء قد ذكرنا
قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على
الانقطاع، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع. وفرقٌ بين الدلالة
والاستعمال، ألا ترى أنك تقول: هذا اللفظ يدل على العموم؟ ثم
تستعمل حيث لا يراد العموم، بل المراد الخصوص. وقوله: كأنه قال
وجدتم خير أمة، هذا يعارض أنها مثل قوله: {وكان الله غفوراً
رحيماً} لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة، وأن خير
أمة حال. وقوله: وكان الله غفوراً لا شك أنها هنا الناقصة
فتعارضا. وقيل: المعنى: كنتم في علم الله. وقيل: في اللوح
المحفوظ. وقيل: فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم. وقيل: هو على
الحكاية، وهو متصل بقوله: {ففي رحمة الله هم فيها خالدون} أي
فيقال لهم في القيامة: كنتم في الدنيا خير أمة، وهذا قول بعيد
من سياق الكلام. وخير مضاف للنكرة، وهي أفعل تفضيل فيجب
إفرادها وتذكيرها، وإن كانت جارية على جمع.
{أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وهي جملة في موضع الصفة لأمة، أي خير
أمة مخرجة، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة، فتكون في
موضع نصب أي مخرجة. وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ
الغيبة، ولم يراع لفظ الخطاب. وهما طريقان للعرب، إذا تقدم
ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب، ثم جاء بعده خبره إسماً، ثم جاء
بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفاً، فتارة يراعى حال ذلك الضمير
فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول: أنا رجل آمر
بالمعروف، وأنت رجل تأمر بالمعروف. ومنه {بل أنتم قوم تفتنون}
وأنك امرؤ فيك جاهلية:
وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية
كأنك منها قاعد في جوالق
وتارةً يراعى حال ذلك الاسم، فيكون ذلك
الصالح للوصف على حسبه من الغيبة. فتقول: أنا رجل يأمر
بالمعروف، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف. ومنه: كنتم خير أمة أخرجت
ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربياً
فصيحاً. والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة، لا لخير لتناسب
الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده.
{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وقال ابن عطية: تأمرون وما بعده
أحوال في موضع نصب انتهى. وقاله الراغب: والاستئناف أمكن
وأمدح. وأجاز الحوفي في أن يكون تأمرون خبراً بعد خبر، وأن كون
نعتاً لخير أمة.
{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} والظاهر أن قوله: إلا أذى
استثناء متصل، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف التقدير: لن
يضرُّوكم ضرراً إلا ضرراً لا نكاية فيه، ولا إجحاف لكم. وقال
الفراء والزجاج والطبري وغيرهم: هو استثناء منقطع، والتقدير:
لن يضروكم لكنْ أذى باللسان.
{ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} ثم لا ينصرون: هذا استئنافُ أخبار
أنّهم لا ينصرون أبداً. ولم يشرك في الجزاء فيجزم، لأنه ليس
مرتباً على الشرط، بل التولية مترتبة على المقاتلة. والنصر
منفى عنهم أبداً سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، إذ منع النصر سببه
الكفر. فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء، كما أن جملة
الشرط والجزاء معطوفة على لن يضروكم إلا أذى. وليس امتناع
الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب
المشروط. قال:
وثم للتراخي، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط. والمعطوف على
الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ، لأن ما زعم أنه
لا يجوز قد جاء في أفصح كلام. قال تعالى: {وإن تتولوا يستبدل
قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} فجزم المعطوف بثم على جواب
الشرط.
{أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} عام في الأمكنة.
وهي شرط، وما مزيدة بعدها، وثقفوا في موضع جزم، وجواب الشرط
محذوف يدل عليه ما قبله، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال: ضربت
هو الجواب، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلة مستقبلاً. وعلى
الوجه الأول هو ماض يدل على المستقبل، أي ضربت عليهم الذلة،
وحيثما ظفر بهم ووجدوا تضرب عليهم، ودل ذكر الماضي على
المستقبل، كما دل في قول الشاعر:
وندمان يزيد الكأس طيباً
سقيت إذا تغوّرت النجوم التقدير: سقيت، وأسقية إذا تغوّرت
النجوم.
{إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} هذا
استثناء ظاهره الانقطاع، وهو قول: الفراء، والزجاج. واختيار
ابن عطية، لأن الذلة لا تفارقهم. وقدره الفراء: إلا أن يعتصما
بحبل من الله، فحذف ما يتعلق به الجار كما قال: حميد بن نور
الهلالي:
رأتني بحبليها فصدت مخافة
ونظره ابن عطية بقوله تعالى: {وما كان
لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ} قال: لأن بادىء الرأي يعطي أن
له أن يقتل خطأ. وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة،
وليس الأمر كذلك. وإنما في الكلام محذوف يدركه فهم السامع
الناظر في الأمر وتقديره: في أمتنا، فلا نجاة من الموت إلا
بحبل. نتهى كلامه. وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعاً، لأنه
مستثنى من جملة مقدّرة وهي قوله: فلا نجاة من الموت، وهو متصل
على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول ضرورة أن
الاستثناء الواحد لا يكون منقطعاً متصلاً. والاستثناء المنقطع
كما قرر في علم النحو على قسمن منه: ما يمكن أن يتسلط عليه
العامل، ومنه ما لا يمكن فيه ذلك، ومنه هذه الآية. على تقدير
الانقطاع، إذ التقدير: لكن اعتصامهم بحبل من الله وحبل من
الناس ينجيهم من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال أموالهم.
ويدل على أنه منقطع الأخبار بذلك في قوله تعالى في سورة
البقرة: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله} فلم
يستثن هناك. وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال:
وهو استثناء من أعم عام الأحوال.
{لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ
أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَءَايَتِ اللَّهِءَانَآءَ الَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الأٌّخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُسَرِعُونَ فِى الْخَيْرَتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ
الصَّلِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ
يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَلُهُمْ
وَلاَ أَوْلَدُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ
أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * مَثَلُ مَا
يُنْفِقُونَ فِى هِذِهِ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ
فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ
فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ
بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ
مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَهِهِمْ
وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الأٌّيَتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَآأَنتُمْ أُوْلاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَبِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْءَامَنَّا
وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأٌّنَامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن
تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً
إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .
سواء خبر ليس
ومن أهل الكتاب أمة قائمة: مبتدأ وخبر.
وقال الفراء: أمة مرتفعة بسواء، أي ليس أهل الكتاب مستوياً من
أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة، فحذفت هذه
الجملة المعادلة، ودل عليها القسم الأول كقوله:
عصيت إليها القلب إني لأمره
سميع فما أدري أرشد طلابها
التقدير: أم غي فحذف لدلالة أرشد وقال:
أراك فما أدري أهم ضممته
وذو الهم قدماً خاشع متضائل
التقدير: أم غيره. قال الفراء: لأن المساواة تقتضي شيئين: سواء
العاكف فيه والبادي سواء محياهم ومماتهم. ويضعف قول الفراء من
حيث الحذف. ومن حذف وضع الظاهر موضع المضمر، إذ التقدير: ليس
أهل الكتاب مستوياً منهم أمة قائمة كذا، وأمة كافرة. وذهب أبو
عبيدة: إلى أن الواو في ليسوا علامة جمع لا ضمير مثلها، في قول
الشاعر:
يلومونني في شراء النخيـ
ـل قومي وكلهم ألوم
واسم ليس: أمّة قائمة، أي ليس سواء من أهل الكتاب أمّةً قائمة
موصوفة بما ذكروا أمة كافرة.
قال ابن عطية: وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود انتهى. ولم يبين
جهة الخطأ، وكأنه توهم أن اسم ليس هو أمة قائمة فقط، وأنه لا
محذوف. ثمّ إذ ليس الغرضُ تفاوت الأمة القائمة التالية، فإذا
قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً. قيل: وما قاله
أبو عبيدة هو على لغة أكلوني البراغيث، وهي لغة رديئة والعرب
على خلافها، فلا يحمل عليها مع ما فيه من مخالفة الظاهر انتهى.
وقد نازع السهيلي النحويين في قولهم: إنها لغة ضعيفة، وكثيراً
ما جاءت في الحديث. والإعراب الأول هو الظاهر. وهو: أن يكون من
أهل الكتاب أمةٌ قائمة مستأنف بيان لانتفاء التسوية كما جاء
{يأمرون بالمعروف} بياناً لقوله: {كنتم خير أمة} .
{وَهُمْ يَسْجُدُونَ} وقوله: وهم يسجدون جملة في موضع الصفة
أيضاً معطوفة على يتلون، وقيل حالية.
وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة معطوفة من
الكلام الأوّل، أخبر عنهم أيضاً أنهم أهل سجود، ويحسِّنُهُ أنْ
كانت التلاوة في غير صلاة. ويكون أيضاً على هذا التأويل في غير
صلاة نعتاً عدد بواو العطف، كما تقول: جاءني زيد الكريم
والعاقل. وأجاز بعضهم في قوله: وهم يسجدون أن يكون حالاً من
الضمير في قائمة، وحالاً من أمة.
{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} والظاهر في
يؤمنون أن يكون صفة أي تالية مؤمنة. وجوزوا أنْ تكون الجملة
مستأنفة، أو في موضع الحال من الضمير في يسجدون، وأن تكون
بدلاً من السجود. قيل: لأن السجود بمعنى الإيمان.
{وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّلِحِينَ} من قيل للتبعيض وقيل لبيان
الجنس.
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِذِهِ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا
كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} ما: قيل
موصولاً وقيل مصدرية.
وارتفاعُ صرّ على أنه فاعل بالمجرور قبله، إذْ قد اعتمد بكونه
وقع صفة للريح. فإنْ كان الصر البرد وهو قول: ابن عباس،
والحسن، وقتادة، والسدي، أو صوت لهيب النار أو صوت الريح
الشديدة. فظاهر كون ذلك في الريح. وإنْ كان الصرُّ صفةً للريح
كالصرصر، فالمعنى فيها قرةُ صرَ كما تقول: برد بارد، وحذف
الموصوف، وقامت الصفة مقامه. أو تكون الظرفية مجازاً جعل
الموصوف ظرفاً للصفة. كما قال: وفي الرحمن كاف للضعفاء.
وقولهم: إن ضيعني فلان ففي الله كاف. المعنى الرحمن كاف، والله
كاف. وهذا فيه بعد.
وقوله: أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح. بدأ أولاً بالوصف
بالمجرور، ثم بالوصف بالجملة. وقوله: ظلموا أنفسهم جملة في
موضع الصفة لقوم.
{وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ} ولكن وقرىء شاذاً: ولكنَّ بالتشديد، واسمها
أنفسهم، والخبر يظلمون. والمعنى: يظلمونها هم. وحسنٌ حذفُ هذا
الضمير، وإنْ كان الحذف في مثله قليلاً كون ذلك فاصلة رأس آية،
فلو صرَّح به لزال هذا المعنى. ولا يجوز أنْ يعتقدَ أنَّ اسم
لكن ضمير الشأن. وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون، لأن حذف هذا
الضمير يختص بالشعر.
{يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً
مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} وقوله: من دونكم
في موضع الصفة لبطانة، وقدّره الزمخشري: من دون أبناء جنسكم،
وهم المسلمون. وقيل: يتعلق من بقوله: لا تتخذوا. وقيل: مِنْ
زائدة، أي بطانة دونكم.
والجملة من قوله: لا يألونكم خبالاً لا
موضع لها من الإعراب، إذ جاءت بياناً لحال البطانة الكافرة، هي
والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة. ومن ذهب
إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به من، فبعيد عن فهم
الكلام الفصيح. لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة، ثم نبه على
أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين، وودادة مشقتهم،
وظهور بغضهم. والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ
عند انتفائهما. وألا متعد إلى واحد بحرف الجر، يقال: ما ألوت
في الأمر أي ما قصرت فيه. وقيل: انتصب خبالاً على التمييز
المنقول من المفعول، كقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيوناً}
التقدير: لا يألونكم خبالكم، أي في خبالكم. فكان أصل هذا
المفعول حرف الجر. وقيل: انتصابه على إسقاط حرف، التقدير: لا
يألونكم في تخبيلكم. وقيل: انتصابه على أنه مصدر في موضع
الحال. قال ابن عطية: معناه لا يقصرون لكم لكم فيما فيه الفساد
عليكم. فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير على إسقاط اللام، وللخبال
على إسقاط في. وقال الزمخشري: يقال: أَلا في الأمر يألو إذا
قصر فيه، ثم استعمل معدّي إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك
نصحاً، ولا آلوك جهداً، على التضمين. والمعنى: لا أمنعك نصحاً
ولا أنقصكه انتهى.
{وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} وما في قوله: ما عنتم مصدرية، وهذه
الجملة مستأنفة كما قلنا في التي قبلها. وجوّزوا أن يكون نعتاً
لبطانة، وحالاً من الضمير في يألونكم، وقد معه مرادة.
{هَآأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ
يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَبِ كُلِّهِ} تقدّم لنا
الكلام على نظيرها، أنتم أولاء في قوله: {هاأنتم هؤلاء حاججتم}
قراءة وإعراباً. وتلخيصه هنا أن يكونَ أولاء خبراً عن أنتم،
وتحبونهم مستأنف أو حال أو صلة، على أن يكون أولاء موصولاً أو
خبراً لأنتم، وأولاء مناداً، أو يكون أولاء مبتدأ ثانياً،
وتحبونهم خبر عنه، والجملة خبر عن الأوّل. أو يكون أولاء في
موضع نصب نحو: أنا زيداً ضربته، فيكون من الاشتغال. واسم
الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه أنتم، لأن
أنتم خطاب للمؤمنين، وأولاء إشارة إلى الكافرين. وفي الأوجه
السابقة مدلوله ومدلول أنتم واحد. وهو: المؤمنون. وعلى تقدير
الاستئناف في تحبونهم، لا ينعقد مما قبله مبتدأ وخبر إلا
بإضمار وصفٍ تقديره: أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير
المؤمنين إذ تحبونهم ولا يحبونكم.
والواو في وتؤمنون للعطف على تحبونهم، فلها من الإعراب ما لها.
وقال الزمخشري: والواو في وتؤمنون للحال، وانتصابها من لا
يحبونكم أي لا يحبونكم. والحال: إنكم تؤمنون بكتابهم كله، وهم
مع ذلك يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من
كتابكم؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصل منكم في حقكم
ونحوه. فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون
انتهى كلامه وهو حسن. إلا أنه فيه من الصناعة النحوية ما
يخدشه، وهو: أنه جعل الواو في وتؤمنون للحال، وأنها منتصبة من
لا يحبونكم. والمضارعُ المثبت إذا وقع حالاً لا تدخل عليه واوٍ
الحال تقول: جاء زيد يضحك، ولا يجوز ويضحك. فأما قولهم: قمت
وأصك عينه ففي غاية الشذوذ. وقد أوَّل على إضمار مبتدأ أي قمت
وأنا أصك عينه، فتصير الجملة اسمية. ويحتمل هذا التأويل هنا،
أي: ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كلِّه، لكن الأولى ما
ذكرناه من كونها للعطف.
{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن
تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}
وقرأ الجمهور: إن تمسسكم بالتاء. وقرأ السلمي بالياء معجمة من
أسفل، لأن تأنيث الحسنة مجازى. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحمزة
في رواية عنه: لا يضركم من ضار يضير. ويقال: ضار يضور، وكلاهما
بمعنى ضرَّ. وقرأ الكوفيون وابن عامر: لا يضرُّكم بضم الضاد
والراء المشدّدة، من ضرّ يَضُرُّ. واختلف، أحركةُ الراء إعرابٌ
فهو مرفوعٌ أم حركة اتباع لضمة الضاد وهو مجزوم كقولك: كدّ؟
ونسب هذا إلى سيبويه، فخرج الإعراب على التقديم. والتقدير: لا
يضركم أن تصبروا، ونسب هذا القول إلى سيبويه. وخرج أيضاً على
أنّ لا بمعنى ليس، مع إضمار الفاء. والتقدير: فليس يضركم،
وقاله: الفراء والكسائي. وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل
عنه: بضم الضاد، وفتح الراء المشددة. وهي أحسن من قراءة ضم
الراء نحو لم يرد زيد، والفتح هو الكثير المستعمل. وقرأ
الضحاك: بضم الضاد، وكسر الراء المشدّدة على أصل التقاء
الساكنين. وقال ابن عطية: فأما الكسر فلا أعرفه قراءة، وعبارة
الزجاج في ذلك متجوز فيها، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة
انتهى. وهي قراءة كما ذكرنا عن الضحاك. وقرأ أبيُّ لا يضرركم
بفك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز، وعليها في الآية إن تمسَسْكم.
ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله.
قالوا: وتضمنت هذه الآيات ضروباً من
البلاغة والفصاحة. منها: الوصل والقطع في {لَيْسُواْ سَوَآءً
مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} والتكرار: في أصحاب
النار هم. والعدول عن اسم الفاعل إلى غيره: في يتلون وما بعده،
وفي يظلمون. والاكتفاء بذكر بعض الشيء عن كله إذا كان فيه
دلالة على الباقي في: يؤمنون بالله واليوم الآخر. والمقابلة:
في تأمرون وتنهون، وفي المعروف والمنكر. ويجوز أن يكون طباقاً
معنوياً، وفي حسنة وسيئة، وفي تسؤهم ويفرحوا. والاختصاص: في
عليم بالمتقين، وفي أموالهم ولا أولادهم، وفي كمثل ريح، وفي
حرث قوم ظلموا أنفسهم، وفي عليم بذات الصدور. والتشبيه: في مثل
ما ينقون، وفي بطانة، وفي عضوا عليكم الأنامل من الغيظ على أحد
التأويلين، وفي تمسسكم حسنة وتصبكم سيئة. شبه حصولهما بالمس
والإصابة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، والصحيح أن هذه
استعارة. وفي محيط شبه القدرة على الأشياء والعلم بها بالشيء
المحدق بالشيء من جميع جهاته، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
والتجنيس المماثل: في ظلمهم ويظلمون، وفي تحبونهم ولا يحبونكم،
وفي تؤمنون وآمنا، وفي من الغيظ وبغيظكم. والالتفات: في وما
تفعلوا من خير فلن تكفرواه على قراءة من قرأ بالتاء، وفي ما
تعملون محيط على أحد الوجهين. وتسمية الشيء باسم محلة: في من
أفواههم عبر بها عن الألسنة لأنها محلها. والحذف في مواضع.
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ
الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ
وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ
وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ
يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِءَالاَفٍ
مِّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُواْ
وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِءَالافٍ مِّنَ الْمَلَئِكَةِ
مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ
عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً
مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ
خَآئِبِينَ} .
{وَإِذْ غَدَوْتَ} والعامل في إذا ذكر. وقيل: هو معطوف على
قوله: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا} أي وآية إذ غدوت، وهذا
في غاية البعد. ولولا أنه مسطور في الكتب ما ذكرته. وكذلك قولُ
مَنْ جعل من في معنى مع، أي: وإذ غدوت مع أهلك. وهذه تخريجات
يقولها وينقلها على سبيل التجويز من لا بصر له بلسان العرب.
وتبوىء جملة حالية من ضمير المخاطب. فقيل:
هي حال مقدرة، أي خرجت قاصد التبوئة، لأن وقت الغودِّو لم يكن
وقت التبوئة. وقرأ الجمهور تبوىء من بوّأ. وقرأ عبد الله:
تبوِّىء من أبوأ، عداه الجمهور بالتضعيف، وعبد الله بالهمزة.
وقرأ يحيى بن وثاب: تبوى بوزن تحيا، عداه بالهمزة، وسهل لام
الفعل بإبدال الهمزة ياء نحو: يقرى في يقرىء. وقرأ عبد الله:
للمؤمنين بلام الجر على معنى: ترتب وتهيىء. ويظهر أنَّ الأصل
تعديته لواحد بنفسه، وللآخر باللام لأن ثلاثيه لا يتعدى بنفسه،
إنما يتعدى بحرف جر.
وقرأ الأشهب: مقاعد القتال على الإضافة، وانتصاب مقاعد على أنه
مفعول ثان لتبوى. ومَنْ قرأ للمؤمنين كان مفعولاً لتبوىء،
وعداه باللام كما في قوله: {واذبوا أنا لابراهيم مكان البيت}
وقيل: اللام في لابراهيم زائدة، واللام في للقتال لام العلة
تتعلق بتبوىء. وقيل: في موضع الصفة لمقاعد.
وقال الزمخشري: وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار
انتهى. أمّا إجراء قعد مجرى صار فقال أصحابنا: إنما جاء في
لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى، وهي في قولهم: شحذ شفرته حتى
قعدت كأنها حربة، أي صارت. وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله
تعالى: {فتقعد ملوماً} على أن معناه: فتصير، لأن ذلك عند
النحويين لا يطرد. وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهد قال ابن
الأعرابي: القعد الصيرورة، والعرب تقول: قعد فلان أميراً بعدما
كان مأموراً أي صار. وأمّا إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحداً
عدّها في أخوات كان، ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار، ولا ذكر لها
خبراً إلا أبا عبد الله بن هشام الحضراوي فإنه قال في قول
الشاعر:
على ما قام يشتمني لئيم
إنها من أفعال المقاربة
{إِذْ هَمَّتْ} : بدل من إذ غدوت. قال
الزمخشري: أو عمل فيه معنى سميع عليم انتهى. وهذا غير محرر،
لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين، فتحريره أن يقول: أو عمل
فيه معنى سميع أو عليم، وتكون المسألة من باب التنازع. وجوز أن
يكون معمولاً لتبوى، ولغدوت. وهمّ يتعدى بالباء، فالتقدير: بأن
تفشلا.
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ}
والجملة من قوله: وأنتم أذلة حال من المفعول في نصركم.
{أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِءَالاَفٍ} وقرأ الحسن:
بثلاثة آلاف يقف على الهاء، وكذلك بخمسة آلاف. قال ابن عطية:
ووجه هذه القراءة ضعيف، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان
الاتصال، إذ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال الأول.
والهاء إنما هي أمارة وقف، فتعلق الوقف في موضع إنما هو
للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع. فمن ذلك ما حكاه
الفرائ أنهم يقولون: أكلت لحما شاة، يريدون لحم شاة، فمطلوا
الفتحة حتى نشأت عنها ألف، كما قالوا في الوقف قالا: يريدون.
قال: ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها في مواضع الروية
والتثبت. ومن ذلك في الشعر قول الشاعر:
ينباع من زفرى غضوب جسرة
زيانة مثل العتيق المكرم
يريد ينبع فمطل. ومنه قول الآخر:
أقول إذ حزت على الكلكال
يا ناقتا ما جلت من مجال
يريد الكلكال فمطل. ومنه قول الآخر:
فأنت من الغوائل حين ترمى
ومن ذم الرجال بمنتزاح
يريد بمنتزح. قال أبو الفتح: فإذا جاز أن
يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي
والتأني بين المضاف والمضاف إليه، إذ هما في الحقيقة إثنان
انتهى كلامه. وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي
يناسبتوجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى
الوقف، أبدلها هاء في الوصل، كما أبدلوا لها هاء في الوقف،
وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف، وإجراء الوقف مجرى
الوصل. وأما قوله: لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع، وجميع
ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة. وأشباع الحركة ليس نحو
إبدال التاء هاءً في الوصل، وإنما هو نظير قولهم: ثلاثة أربعة،
أبدل التاء هاء، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها، وحذف الهمزة،
فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإبدال. ولأجل الوصل نقل إذ لا
يكون هذا النقل إلا في الوصل.
وقرىء شاذاً بثلاثة آلاف بتكسين التاء في الوصل، أجراه مجرى
الوقف. واختلفوا في هذه التاء الساكنة أهي بدل من الهاء التي
يوقف عليها أم تاء التأنيث هي؟ وهي التي يوقف عليها بالتاء كما
هي؟ وهي لغة.
وقرأ الجمهور منزلين بالتخفيف مبنياً للمفعول، وابن عامر
بالتشديد مبنياً للمفعول أيضاً، والهمزة والتضعيف للتعدية فهما
سيان. وقرأ ابن أبي عبلة: منزلين بتشديد الزاي وكسرها مبنياً
للفاعل. وبعض القراء بتخفيفها وكسرها مبنياً للفاعل أيضاً،
والمعنى: ينزلون النصر.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى
لَكُمْ} وإلاّ بشرى مستثنى من المفعول له، أي: ما جعله الله
لشيء إلا بشرى لكم. فهو استثناء فرغ له العامل، وبشرى مفعول من
أجله. وشروط نصبه موجودة وهو: أنه مصد ومتحد الفاعل والزمان.
ولتطمئن معطوف على موضع بشرى، إذ أصله لبشرى. ولما اختلف
الفاعل في ولتطمئن، أتى باللام إذ فات شرط اتحاد الفاعل، لأن
فاعل بشرى هو الله، وفاعل تطمئن هو قلوبكم. وتطمئن منصوب
بإضمار أن بعد لام كي، فهو من عطف الإسم على توهم. موضع اسم
آخر، وجعل على هذا التقدير متعدية إلى واحد.
وقال الحوفي: إلا بشرى في موضع نصب على البدل من الهاء، وهي
عائدة على الوعد بالمدد. وقيل: بشرى مفعول ثان لجعله الله.
فعلي هذين القولين تتعلق اللام في لتطمئن بمحذوف، إذ ليس قبله
عطف يعذف عليها. قالوا: تقديره ولتطمئن قلوبكم به بشركم.
وبشرى: فعلى مصدر كرجعى، وهو مصدر من بشر الثلاثي المجرد،
والهاء في به تعود على ما عادت عليه في جعله على الخلاف
المتقدم.
وقال ابن عطية: اللام في ولتطمئن متعلقة تفعل مضمر بدل عيه
جعله. ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به،
وتطمئن به قلوبكم انتهى. وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أن يعطف
ولتطمئن على بشرى على الموضع، لأن من شرط العطف على الوضع ـ
عند أصحابنا ـ أن يكون ثم محرر للموضع، ولا محرز هنا، لأن عامل
الجر مفقود. ومن لم يشترط المحرز فيجوز ذلك على مذهبه، وإن لا
فيكون من باب العطف على التوهم كما ذكرناه أولاً.
{لِيَقْطَعَ طَرَفاً} واللام في ليقطع
يتعلق قيل: بمحذوف تقيديره أمدكم أو نصركم. وقال الحوفي: يتعلق
بقوله: {ولقد نصركم الله} أي نصركم ليقطع. قال: ويجوز أن يتعلق
بقوله: وما النصر إلا من عند الله. ويجوز أن تكون متعلقة
بيمددكم. وقال ابن عطية: وقد يحتمل أن تكون اللام متعلقة
بجعله، وقيل: هو معطوف على قوله. ولتطمئن، وحذف حرف العطف منه،
التقدير: ولتطمئن قلوبكم به وليقطع، وتكون الجملة من قوله: وما
النصر إلا من عند الله اعتراضية بين المعطوف عليه والمعطوف.
والذي يظهر أنْ تتعلق بأقرب مذكور وهو: العامل من في عند الله
وهو خبر المبتدأ. كأنّ التقدير: وما النصر إلا كائن من عند
الله، لا من عند غيره. لأحد أمرين: إما قطع طرف من الكفار بقتل
وأسر، وإما بخزي وانقلاب بخيبة. وتكون الألف واللام في النصر
ليست للعهد في نصر مخصوص، بل هي للعموم، أي: لا يكون نصر أي
نصر من الله للمسلمين على الكفار إلا لأحد أمرين.
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأٌّمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَلِمُونَ * وَللَّهِ مَا فِى
السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ
وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *
يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا
أَضْعَفاً مُّضَعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ
لِلْكَفِرِينَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَلِمُونَ} قيل: هو عطف على ما قبله
من الأفعال المنصوبة. ويكون قوله: ليس لك من الأمر شيء جملة
اعتراضية، والمعنى: أن الله مالك أمرهم، فإما أنْ يهلكهم، أو
يهزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصروا على
الكفر. وقيل: أن مضمرة بعد أو، بمعنى: إلا أن، وهي التي في
قولهم: لألزمنك أو تقضيني حقي، والمعنى: أنه ليس له من أمرهم
شيء إلا أن يتوب الله عليهم بالإسلام فيسر بهداهم، أو يعذبهم
بقتل وأسر في الدنيا، أو بنار في الآخرة، فيستشفى بذلك
ويستريح. وعلى هذا التأويل تكون الجملة المنفية للتأسيس، لا
للتأكيد. وقيل: أو يتوب معطوف على الأمر. وقيل: على شيء. أي:
ليس لك من الأمر، أو من توبتهم، أو تعذيبهم شيء. أو ليس لك من
الأمر شيء، أو تعذيبهم. والظاهر من هذه التخاريج الأربعة هو
الأول.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبديع. من ذلك العام
المراد به الخاص: في من أهلك، قال الجمهور: أراد به بيت عائشة.
فالاختصاص في: والله سميع عليم، وفي: فليتوكل المؤمنون، وفي:
ما في السموات وما في الأرض، وفي: يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء
خص نفسه بذلك كقوله: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} نبىء عبادي
أني أنا الغفور الرحيم {وفي العزيز الحكيم} لأن العز من ثمرات
النصر، والتدبير الحسن من ثمرات الحكمة.
والتشبيه: في ليقطع طرفاً، شبه من قتل منهم
وتفرّق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه وانخرم نظامه، وفي:
ولتطمئن قلوبكم شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه
باطمئنان الرّجل الساكن الحركة. وفي: فينقلبوا خائبين شبه
رجوعهم بلا ظفر ولا غنيمة بمن أمل خيراً من رجل فأمّه، فأخفق
أمله وقصده. والطباق: في نصركم وأنتم أذلة، النصر إعزاز وهو ضد
الذل. وفي: يغفر ويعذب، الغفران ترك المؤاخذة والتعذيب
المؤاخذة بالذنب. والتجوز بإطلاق التثنية على الجمع في: أن
يفشلا. وبإقامة اللام مقام إلى في: ليس لك أي إليك، أو مقام
على: أي ليس عليك. والحذف والاعتراض في مواضع اقتضت ذلك
والتجنيس المماثل في: أضعافاً مضاعفة. وتسمية الشيء بما يؤول
إليه في: لا تأكلوا سمَّى الأخذ أكلاً، لأنه يؤول إليه.
{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَتُ وَالأٌّرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى
السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَفِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
* وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ
لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ
وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *
أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّتٌ
تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ
أَجْرُ الْعَمِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
فَسِيرُواْ فِى الأٌّرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى
وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ
تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأٌّعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *
إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ
مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأٌّيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ
شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّلِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ
اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَفِرِينَ} .
{فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
إِلاَّ اللَّهُ} ومفعول استغفروا الله محذوف لفهم المعنى، أي
فاستغفروا لذنوبهم. وتقدم الكلام على هذا الفعل وتعديته.
{وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} جملة اعتراض
المتعاطفين، أو بين ذي الحال والحال. وتقدم الكلام على نظير
هذه الجملة إعراباً في قوله: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من
سفه نفسه} .
{وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال الزمخشري: وهم يعلمون حالية من فعل
الإصرار.
وأجاز أبو البقاء أن يكون: وهم يعلمون حالاً من الضمير في
فاستغفروا، فإنْ أعربنا ولم يصرّوا جملة حالية من الضمير في
فاستغفروا، جاز أن يكون: وهم يعلمون حالاً منه أيضاً. وإن كان
ولم يصروا معطوفاً على فاستغفروا كان ما قاله أبو البقاء
بعيداً للفصل بين ذي الحال والحال بالجملة.
{أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} والذين
إذا فعلوا مبتدأ، وأولئك وما بعده خبره، وجزاؤهم مغفرة مبتدأ
وخبر في موضع خبر أولئك. وثم محذوف أي: جزاء أعمالهم مغفرة من
ربهم لذنوبهم.
{وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَمِلِينَ} المخصوص بالمدح محذوف تقديره:
ونعم أجر العاملين ذلك، أي المغفرة والجنة.
{فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} والجملة
الاستفهامية في موضع المفعول لانظروا لأنها معلقة وكيف في موضع
نصب خبر كان.
{وَأَنتُمُ الأٌّعْلَوْنَ} قيل جملة حالية والظاهر أنها إخبار
مستأنف.
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ
مِّثْلُهُ} وجواب الشرط محذوف تقديره: فتأسوا فقد مس القوم
قرح، لأن الماضي معنى يمتنع أن يكون جواباً للشرط. ومن زعم أن
جواب الشرط هو فقد مس، فهو ذاهل.
{وَتِلْكَ الأٌّيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} والأيام:
صفة لتلك، أو بدل، أو عطف بيان. والخبر نداولها، أو خبر لتلك،
ونداولها جملة حالية.
{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
الَّذِينَءَامَنُواْ} هذه لام كي قبلها حرف العطف، فتتعلق
بمحذوف متأخر أي: فعلنا ذلك وهو المداولة، أو نيل الكفار منكم.
أو هو معطوف على سبب محذوف هو وعامله أي: فعلنا ذلك ليكون كيت
وكيت وليعلم. هكذا قدّره الزمخشري وغيره، ولم يعين فاعل العلة
المحذوفة إنما كنى عنه بكيت وكيت، ولا يكنى عن الشيء حتى يعرف.
ففي هذا الوجه حذف العلة، وحذف عاملها، وإبهام فاعلها. فالوجه
الأول أظهر إذ ليس فيه غير حذف العامل. ويعلم هنا ظاهره التعدي
إلى واحد، فيكون كعرف. وقيل: يتعدّى إلى ثنين، الثاني محذوف
تقديره: مميزين بالإيمان من غيرهم.
وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من الفصاحة
والبديع والبيان: من ذلك الاعتراض في: والله يحب المحسنين،
وفي: ومن يغفر الذنوب إلا الله، وفي: والله لا يحب الظالمين.
وتسمية الشيء باسم سببه في: إلى مغفرة من ربكم. والتشبيه في:
عرضها السموات والأرض. وقيل: هذه استعارة وإضافة الحكم إلى
الأكثر في أعدّت للمتقين، وهي معدة لهم ولغيرهم من العصاة.
والطباق في: السرّاء والضرّاء، وفي: ولا تهنوا والأعلون، لأن
الوهن والعلو ضدان. وفي آمنوا والظالمين، لأن الظالمين هنا هم
الكافرون، وفي: آمنوا ويمحق الكافرين. والعام يراد به الخاص
في: والعافين عن الناس يعني من ظلمهم أو المماليك. والتكرار
في: واتقوا الله، واتقوا النار، وفي لفظ الجلالة، وفي والله
يحب، وذكروا الله، وفي وليعلم الله، والله لا يحب، وليمحص
الله، وفي الذين ينفقون، والذين إذا فعلوا. والاختصاص في: يحب
المحسنين، وفي: وهم يعلمون، وفي: عاقبة المكذبين، وفي: موعظة
للمتقين، وفي: إن كنتم مؤمنين، وفي: لا يحب الظالمين، وفي:
وليمحص الله الذين آمنوا، وفي: ويمحق الكافرين. والاستعارة في:
فسيروا، على أنه من سير الفكر لا القدم، وفي: وأنتم الأعلون،
إذا لم تكن من علو المكان، وفي: تلك الأيام نداولها، وفي:
وليمحص ويمحق، والإشارة في هذا بيان. وفي: وتلك الأيام. وإدخال
حرف الشرط في الأمر المحقق في: إن كنتم مؤمنين، إذا علق عليه
النهي والحذف في عدة مواضع.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَهَدُواْ
مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّبِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ
رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ
أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ
عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى
اللَّهُ الشَّكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ
إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ
ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ
الأٌّخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّكِرِينَ *
وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ
فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا
ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّبِرِينَ
* وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ
لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ *
فَئْاتَهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ
الأٌّخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَأَيُّهَا
الَّذِينَءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَسِرِينَ *
بَلِ اللَّهُ مَوْلَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّصِرِينَ *
سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ
أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَناً
وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّلِمِينَ *
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَزَعْتُمْ فِى
الأٌّمْرِ وَعَصَيْتُمْ
مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ
مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ
الأٌّخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ} .
كائن: كلمة يكثر بها بمعنى كم الخبرية. وقلَّ الاستفهام بها.
والكاف للتشبيه، دخلت على أي وزال معنى التشبيه، هذا مذهب
سيبويه والخليل، والوقف على قولهما بغير تنوين. وزعم أبو
الفتح: أنّ أيا وزنه فعل، وهو مصدر أوى يأوى إذا انضم واجتمع،
أصله: أوى عمل فيه ما عمل في طي مصدر طوي. وهذا كله دعوى لا
يقوم دليل على شيء منها. والذي يظهر أنه اسم مبني بسيط لا
تركيب فيه، يأتي للتكثير مثل كم، وفيه لغات: الأولى وهي التي
تقدمت. وكائن ومن ادعى أن هذه اسم فاعل من كان فقوله بعيد.
وكلئن على وزن كعن، وكأين وكيين، ويوقف عليها بالنون. وأكثر ما
يجيء تمييزها مصحوباً بمن. ووهم ابن عصفور في قوله: إنه يلزمه
مِنْ، وإذا حذفت انتصب التمييز سواء أولها أم لم يليها، نحو
قول الشاعر:
أطرد اليأس بالرجاء فكاين
آلماً عم يسره بعد عسر
وقول الآخر:
وكائن لنا فضلاً عليكم ونعمة
قديماً ولا تدرون ما من منعم
{أَمْ حَسِبْتُمْ} وأمْ هنا منقطعة في قول الأكثرين تتقدر ببل،
والهمزة على ما قرر في النحو. وقيل: هي بمعنى الهمزة. وقيل: أم
متصلة. قال ابن بحر: هي عديلة همزة تتقدر من معنى ما تتقدم،
وذلك أنَّ قوله: {أن يمسسكم قرح وتلك الأيام نداولها} إلى آخر
القصة يقتضي أن يتبع ذلك: أتعلمون أن التكاليف يوجب ذلك، أم
حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمل مشقة وأن تجاهدوا
فيعلم الله ذلك منكم واقعاً. انتهى كلامه. وتقدّم لنا إبطال
مثل هذا القول. وهذا الاستفهام الذي تضمنته معناه الإنكار
والإضراب الذي تضمنته أيضاً هو ترك لما قبله من غير إبطال وأخذ
فيما بعده.
وظاهره: أن أم متصلة، وخشيتم هنا بمعنى
ظننتم الترجيحية، وسدّ مسد مفعوليها أن وما بعدها على مذهب
سيبويه، وسد مسد مفعول واحد والثاني محذوف على مذهب أبي الحسن.
ولما يعلم: جملة حالية، وهي نفي مؤكد لمعادلته للمثبت المؤكد
بقد. فإذا قلت: قد قام زيد ففيه من التثبيت والتأكيد ما ليس في
قولك: قام زيد. فإذا نفيته قلت: لما يقم زيد. وإذا قلت: قام
زيد كان نفيه لم يقم زيد، قاله سيبويه وغيره. وقال الزمخشري:
ولما بمعنى لم، إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدلَّ على نفي
الجهاد فيما مضى، وعلى وقعه فيما يستقبل. وتقول: وعدني أن يفعل
كذا، ولما تريد، ولم يفعل، وأنا أتوقع فعله انتهى كلامه. وهذا
الذي قاله في لما أنَّها تدل على توقع الفعل المنهى بها فيما
يستقبل، لا أعلم أحداً من النحويين ذكره. بل ذكروا أنك إذا
قلت: لما يخرج زيد دلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً
نفيه إلى وقت الإخبار. أمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل
فلا، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب ما قاله الزمخشري.
قال: لما لتعريض الوجود بخلاف لم.
وقرأ الجمهور بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن وثاب
والنخعي بفتحها، وخرج على أنه اتباع لفتحة اللام وعلى إرادة
النون الخفيفة وحذفها كما قال الشاعر:
لا تهين الفقير علك أن
تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقرأ الجمهور: «ويعلم» برفع الميم فقيل: هو
مجزوم، وأتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ: ولما يعلم
بفتح الميم على أحد التخريجين. وقيل: هو منصوب. فعلى مذهب
البصريين بإضمار أن بعد واو مع نحو، لا تأكل السمك وتشرب
اللبن. وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف، وتقرير المذهبين في علم
النحو. وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد بكسر
الميم عطفاً على ولما يعلم. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ويعلم
برفع الميم. قال الزمخشري: على أن الواو للحال كأنه قيل: ولما
تجاهدوا وأنتم صابرون انتهى. ولا يصح ما قال، لأن واو الحال لا
تدخل على المضارع، لايجوز: جاء زيدو يضحك، وأنت تريد جاء زيد
يضحك، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل. فكما لا يجوز جاء زيد
وضاحكاً، كذلك لا يجوز جاء زيد ويضحك. فإنْ أوّلَ على أن
المضارع خبرُ مبتدأ محذوف أمكن ذلك، التقدير: وهو يعلم
الصابرين كما أولوا قوله: نجوت وأرهنهم مالكاً، أي وأنا
أرهنهم. وخرج غير الزمخشري قراءة الرفع على استئناف الاخبار،
أي: وهو يعلم الصابرين.
{مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} وقرأ النخعي والزهري: تلا قوه
ومعناها ومعنى تلقوه سواء، من حيثُ أنّ معنى لقي يتضمن أنه من
اثنين، وإنْ لم يكنْ على وزن فاعل. وقرأ مجاهد من قبلُ بضم
اللام مقطوعاً عن الإضافة، فيكون موضع أنْ تلقوه نصباً على أنه
بدل اشتمال من الموت.
{فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ
تَنظُرُونَ} وقيل: معنى الرؤية هنا العلم، ويحتاج إلى حذف
المفعول الثاني أي: فقد علمتم الموت حاضراً، وحذف لدلالة
المعنى عليه. وحذف أحد مفعولي ظن وأخواتها عزيز جداً، ولذلك
وقع فيه الخلاف بين النحويين. وقرأ طلحة بن مصرف. فلقد رأيتموه
باللام، وأنتم تنظرون جملة حالية للتأكيد، ورفع ما يحتمله
رأيتموه من المجاز أو من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية
العين، أي معاينين مشاهدين له حين قتلبين أيديكم من قتل من
إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا، فعلى هذا يكون متعلق
النظر متعلق الرؤية، وهذا قول الأخفش، وهو الظاهر.
{أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ
عَلَى أَعْقَبِكُمْ} الفاء للعطف، وأصلها التقديم. إذ التقدير:
فأإن مات. لكنهم يعتنون بالاستفهام فيقدّممونه على حرف العطف،
وقد تقدّم لنا مثل هذا وخلاف الزمخشري فيه. وقال الخطيب كمال
الدين الزملكاني: الأوجه أن يقدّر محذوف بعد الهمزة وقيل
الفاء، تكون الفاء عاطفة عليه. ولو صرّح به لقيل: أتؤمنون به
مدة حياته، فإن مات ارتددتم، فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء
قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد وفاتهم انتهى. وهذه نزعة
زمخشرية. وقد تقدم الكلام معه في نحو ذلك. وأن هذه الفاء إنما
عطفت الجملة المستفهم عنها على الجملة الخبرية قبلها، وهمزة
الاستفهام داخلة على جملة الشرط وجزائه. وجزاؤه، هو انقلبتم،
فلا تغير همزة الاستفهام شيئاً من أحكام الشرط وجزائه. فإذا
كانا مضارعين كانا مجزومين نحو: أإن تأني آتك. وذهب يونس إلى
أن الفعل الثاني يبني على أداة الاستفهام، فينوي به التقديم،
ولا بد إذ ذاك من جعل الفعل الأول ماضياً لأن جواب الشرط
محذوف، ولا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط لا يظهر فيه عمل
لأداة الشرط، فيلزم عنده أن تقول: أإن أكرمتني أكرمك. التقدير
فيه: أكرمك أن أكرمتني، ولا يجوز عنده إنْ تكرمني أكرمك
بجزمهسسما أصلاً، ولا إن تكرمني أكرمك بجزم الأول ورفع الثاني
إلا في ضرورة الشعر. والكلام على هذه المسألة مستوفى في علم
النحو. فعلى مذهب يونس: تكون همزة الاستفهام دخلت في التقدير
على انقلبتم، وهو ماض معناه الاستقبال، لأنه مقيد بالموت أو
بالقتل. وجواب الشرط عند يونس محذوف.
{فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} انتصب شيئاً على المصدر.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ
بِإِذْنِ الله} وأن تموت في موضع اسم كان، ولنفس هو في موضع
الخبر، فيتعلق بمحذوف. وجعل بعضهم كان رائدة. فيكون أن تموت في
موضع مبتدأ، ولنفس في موضع خبره. وقدره الزجاج على المعنى
فقال: وما كانت نفس لتموت، فجعل ما كان اسماً خبراً، وما كان
خبراً اسماً، ولا يريد بذلك الإعراب، إنّما فسر من جهة المعنى.
وقال أبو البقاء: اللام في: لنفس، للتبيين متعلقة بكان انتهى.
وهذا لا يتم إلا أن كانت تامة. وقول من قال: هي متعلقة بمحذوف
تقديره: وما كان الموت لنفس وإن تموت، تبيين للمحذوف مرغوب
عنه، لأن اسم كان إن كانت ناقصة أو الفاعل إن كانت تامة لا
يجوز حذفه، ولما في حذفه أنْ لو جاز من حذف المصدر وإبقاء
معموله، وهو لا يجوز على مذهب البصريين.
{كِتَباً مُّؤَجَّلاً} أي له أجل لا يتقدم ولا يتأخر وفي هذا
رد على المعتزلة في قولهم بالأجلينْ والكتابة هنا عبارة عن
القضاء، وقيل: مكتوباً في اللوح المحفوظ مبيناً فيه. ويحتمل
هذا الكلام أن يكون جواباً لقولهم: لو كانوا عندنا ما ماتوا
وما قتلوا. وانتصاب كتاباً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة
السابقة والتقدير: كتب الله كتاباً مؤجلاً ونظيره: {كتاب الله
عليكم صنع الله ووعد الله} . وقيل: هو منصوب على الإغراء، أي
الزمور وآمنوا بالقدر وهذا بعيد. وقال ابن عطية: كتاباً نصب
على التمييز، وهذا لا يظهر فإن التمييز كما قسمه النحاة ينقسم
إلى منقول وغير منقول، وأقسامه في النوعين محصورة، وليس هذا
واحداً منها.
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ
رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} وقرأ الحرميان وأبو عمرو قتل مبنياً
للمفعول، وقتادة كذلك، إلا أنه شدّد التاء، وباقي السبعة قاتل
بألف فعلاً ماضياً. وعلى كل من هذه القرآت يصلح أن يسند الفعل
إلى الضمير، فيكون صاحب الضمير هو الذي قتل أو قتل على معنى
التكثير بالنسة لكثرة الأشخاص، لا بالنسبة لفرد فرد. إذ القتل
لا يتكثر في كل فرد فرد. أو هو قاتل ويكون قوله: معه ربيون
محتملاً أن تكون جملة في موضع الحال، فيرتفع ربيون بالابتداء،
والظرف قبله خبره، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير في معه
العائد على ذي الحال، ومحتملاً أن يرتفع ربيون على الفاعلية
بالظرف، ويكون الظرف هو الواقع حالاً التقدير: كائناً معه
ربيون، وهذا هو الأحسن. لأن وقوع الحال مفرداً أحسن من وقوعه
جملة. وقد اعتمد الظرف لكونه وقع حالاً فيعمل وهي حال محكمة،
فلذلك ارتفع ربيون بالظرف. وإنْ كان العامل ماضياً لأنه حكى
الحال كقوله تعالى: {وكلبهم باسط ذراعيه} وذلك على مذهب
البصريين. وأما الكسائي وهشام فإنه يجوز عندهما إعمال اسم
الفاعل الماضي غير المعرف بالألف واللام من غير تأويل، بكونه
حكاية حال، ويصلح أن يسند الفعل إلى ربيون فلا يكون فيه ضمير،
ويكون الربيون هم الذين قتلوا أو قتلوا أو قاتلوا، وموضع كأين
رفع على الابتداء. والظاهر أن خبره بالجملة من قوله: قتل أو
قتل أو قاتل، سواء أرفع الفعل الضمير، أم الربيين. وجوزوا أن
يكون قتل إذا رفع الضمير في موضع الصفة ومعه ربيون في موضع
الخبر كما تقول: كم من رجل صالح معه مال. أو في موضع الصفة
فيكون قد وصف بكونه مقتولاً، أو مقتلاً، أو مقاتلاً، وبكونه
معه ربيون كثير. ويكون خبر كأين قد حذف تقديره: في الدنيا أو
مضى. وهذا ضعيف، لأن الكلام مستقل بنفسه لا يحتاج إلى تكلف
إضمار. وأما إذا رفع الظاهر فجوزوا أن تكون الجملة الفعلية من
قتل ومتعلقاتها في موضع الصفة لنبي، والخبر
محذوف. وهذا كما قلنا ضعيف. ولما ذكروا أن
أصل كأين هو أي دخلت عليها كاف التشبيه فجرتها، فهي عاملة
فيها، كما دخلت على ذا في قولهم: له عندي كذا. وكما دخلت على
أنّ في قولهم: كأن ادعى أكثرهم إن كأن، بقيت فيها الكاف على
معنى التشبيه. وإن كذا، وكأن، زال عنهما معنى التشبيه. فعلى
هذا لا تتعلق الكاف بشيء، وصار معنى كأين معنى كم، فلا تدل على
التشبيه ألبتة. وقال الحوفي: أما العامل في الكاف فإن حملناها
على حكم الأصل فمحمول على المعنى، والمعنى: إصابتكم كإصابة من
تقدّم من الأنبياء وأصحابهم. وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى
معنى كم، كان العامل بتقدير الابتداء، وكانت في موضع رفع وقتل
الخبر. ومن متعلقة بمعنى الاستقرار، والتقدير الأول أوضح لحمل
الكلام على اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في أي. وإذا
كانت أي على بابها من معاملة اللفظ، فمن متعلقة بما تعلقت به
الكاف من المعنى المدلول عليه انتهى كلامه. وهو كلام فيه
غرابة. وجزَّهم إلى التخليط في هذه الكلمة ادّعاؤهم بأنها
مركبة من: كاف التشبيه، وإن أصلها أي: فجرت بكاف التشبيه. وهي
دعوى لا يقوم على صحتها دليل. وقد ذكرنا رأينا فيها أنها بسيطة
مبنية على السكون، والنون من أصل الكلمة وليس بتنوين، وحملت في
البناء على نظيرتها كم. وإلى أن الفعل مسند إلى الضمير.
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ
لَنَا} وقرأ الجمهور قولهم بالنصب على أنه خبر كان. وإن قالوا
في موضع الاسم، جعلوا ما كان أعرف الاسم، لأن إنَّ وصلتها
تتنزل منزلة الضمير. وقولهم: مضاف للمضير، يتنزل منزلة العلم.
وقرأت طائفة منهم حماد بن سلمة عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم
فيما ذكره المهدوي برفع قولهم، جعلوه اسم كان، والخبران قالوا.
والوجهان فصيحان، وإن كان الأول أكثر. وقد قرىء: ثم لم تكن
فتنتهم بالوجهين في السبعة.
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}
وتعدت صدق هنا لى اثنين، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر،
تقول: صدقت زيداً الحديث، وصدقت زيداً في الحديث، ذكرها بعض
النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين. ويجوز أن يتعدى إلى
الثاني بحرف الجر، فيكون من باب استغفر. واختاروا العامل في إذ
صدقكم.
{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَزَعْتُمْ فِى الأٌّمْرِ} وإذاً
في قوله: إذا فشلتم، قيل: بمعنى إذ، وحتى حرف جر ولا جواب لها
إذ ذاك، ويتعلق بتحسونهم أي: تقتلونهم إلى هذا الوقت. وقيل:
حتى حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية، كما تدخل على جمل
الابتداء والجواب ملفوظ به وهو قوله: وتنازعتم على زيادة
الواو، قاله: الفراء وغيره. وثم صرفكم على زيادة ثم، وهذان
القولان واللذان قبلهما ضعاف. والصحيح: أنه محذوف لدلالة
المعنى عليه، فقدره ابن عطية: انهزمتم. والزمخشري: منعك نصرة،
وغيرهما: امتحنتم. والتقادير متقاربة. وحذفُ جواب الشرط لفهم
المعنى جائز لقوله تعالى: {فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض
أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية} تقديره فافعل ويظهر أن
الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو: انقسمتم إلى قسمين. ويدل
عليه ما بعده، وهو نظير: {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد}
التقدير: انقسموا قسمين: فمنهم مقتصد لا يقال: كيف، يقال:
انقسموا فيمن فشل وتنازع، وعصى. لأن هذه الأفعال لم تصدر من
كلبهم، بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية.
وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع
ضروباً: من ذلك الاستفهام الذي معناه الإنكار في: أم حسبتم.
والتجنيس المماثل في: انقلبتم ومن ينقلب، وفي ثواب الدنيا وحسن
ثواب. والمغاير في قولهم: إلا أن قالوا. وتسمية الشيء باسم
سببه في: تمنون الموت أي الجهاد في سبيل الله، وفي قوله: وثبت
أقدامنا فيمن فسر ذلك بالقلوب، لأن ثبات الأقدام متسبب عن ثبات
القلوب. والالتفات في: وسنجزي الشاكرين. والتكرار في: ولما
يعلم ويعلم لاختلاف المتعلق. أو للتنبيه على فضل الصابر. وفي:
أفإن مات أو قتل لأن العرف في الموت خلاف العرف في القتل،
والمعنى: مفارقة الروح الجسد فهو واحد. ومن في ومن يرد ثواب
الجملتين، وفي: ذنوبنا وإسرافنا في قول من سوى بينهما، وفي:
ثواب وحسن ثواب. وفي: لفظ الجلالة، وفي: منكم من يريد
الجملتين. والتقسيم في: ومن يرد وفي منكم من يريد. والاختصاص
في: الشاكرين، والصابرين، والمؤمنين. والطباق: في آمنوا أن
تطيعوا الذين كفروا. والتشبيه في: يردّوكم على أعقابكم، شبه
الرجوع عن الدين بالراجع القهقري، والذي حبط عمله بالكفر
بالخاسر الذي ضاع ربحه ورأس ماله وبالمنقلب الذي يروح في طريق
ويغدو في أخرى، وفي قوله: سنلقى. وقيل: هذا كله استعارة.
والحذف في عدة مواضع.
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى
أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ فَأَثَبَكُمْ
غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلاَ مَآ أَصَبَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً
نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ
الْحَقِّ ظَنَّ الْجَهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ
الأٌّمْرِ مِن شَىْءٍ قُلْ إِنَّ الأٌّمْرَ كُلَّهُ للَّهِ
يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ
لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأٌّمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا
هَهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ
وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا
فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ
كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَنِهِمْ إِذَا
ضَرَبُواْ فِى الأٌّرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ
عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ
ذَلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيىِ وَيُمِيتُ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ
فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ
وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُّتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ * فَبِمَا رَحْمَةٍ
مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ
الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى
الأٌّمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ
فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى
يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن
يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَمَةِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَنَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ
مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *
هُمْ دَرَجَتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ} .
وقرىء تلو من بإبدال الواو همزة، وذلك
لكراهة اجتماع الواوين. وقياس هذه الواو المضمومة أن لا تبدل
همزة لأن الضمة فيها عارضة. ومتى وقعت الواو غير أول وهي
مضمومة، فلا يجوز الإبدال منها همزة إلا بشرطين: أحدهما: أن
تكون الضمة لازمة. الثاني: أن لا تكون يمكن تخفيفها بالإسكان.
مثال ذلك: فووج وفوول. وغوور. فهنا يجوز فؤوج وقؤول وغؤور
بالهمز. ومثل كونها عارضة: هذا دلوك. ومثل إمكان تخفيفها
بالإسكان: هذا سور، ونور، جمع سوار ونوار. فإنك تقول فيهما:
سور ونور. ونبه بعض أصحابنا على شرط آخر وهو لا بد منه، وهو:
أن لا يكون مدغماً فيها نحو: تعود، فلا يجوز فيه تعوذ بإبدال
الواو المضمومة همزة. وزاد بعض النحويين شرطاً آخر وهو: أن لا
تكون الواو زائدة نحو: الترهوك وهذا الشرط ليس مجمعاً عليه.
وقرأ الحسن: تلون، وخرجوها على قراءة من همز الواو، ونقل
الحركة إلى اللام، وحذف الهمزة. قال ابن عطية: وحذفت إحدى
الواوين الساكنين، وكان قد قال في هذه القراءة: هي قراءة
متركبة على قراءة من همز الواو المضمومة، ثم نقلت حركة الهمزة
إلى اللام انتهى. وهذا كلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه قد نقلت
الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنان، إحداهما: الواو التي هي
عين الكلمة، والأخرى: واو الضمير. فحذفت إحدى الواوين لأنهما
ساكنان، وهذا قول من لم يمعن في صناعة النحو. لأنها إذا كانت
متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام، فإن
الهمزة إذ ذاك تحذف، ولا يلتقي واوان ساكنتان. ولو قال:
استثقلت الضمة على الواو، لأن الضمة كأنها واو، فصار ذلك كأنه
جمع ثلاث واواوت، فتنقلب الضمة إلى اللام، فالتقى ساكنان،
فحذفت الأولى منهما، ولم يبهم في قوله إحدى الواوين لأمكن ذلك
في توجيه هذه القراءة الشاذة، أما أنْ يبنى ذلك على أنه على
لغة من همز على زعمه، فلا يتصور. ويحتمل أن يكون مضارع ولي
وعدي بعلي، على تضمين معنى العطف. أي: لا تعطفون على أحد.
وقرأ الأعمش وأبو بكر في رواية عن عاصم:
تلوون من ألوى، وهي لغة في لوى. وظاهر قوله على أحد العموم.
{فَأَثَبَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} وقال
الزمخشري: فأثابكم عطف على صرفكم انتهى. وفيه بعدٌ لطول الفصل
بين المتعاطفين. والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون،
لأنه مضارع في معنى الماضي، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي،
إذ هي ظرف لما مضى. والمعنى: إذ صعدتم وما لويتم على أحد
فأثابكم.
{لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ
أَصَبَكُمْ} اللام لام كي، وتتعلق بقوله: فأثابكم. فقيل: لا
زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن.
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً
نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ} وأعربوا أمنة مفعولاً
بأنزل، ونعاساً بدل منه، وهو بدل اشتمال. لأن كلاًّ منهما قد
يتصور اشتماله على الآخر، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على
الخلاف في ذلك. أو عطف بيان، ولا يجوز على رأي الجمهور من
البصريين لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف. أو
مفعول من أجله وهو ضعيف، لاختلال أحد الشروط وهو: اتحاد
الفاعل، ففاعل الإنزال هو الله تعالى، وفاعل النعاس هو المنزل
عليهم، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين. وقيل:
نعاساً هو مفعول أنزل، وأمنة حال منه، لأنه في الأصل نعت نكرة
تقدم عليها فانتصب على الحال. التقدير: نعاساً ذا أمنة، لأن
النعاس ليس هو إلا من. أو حال من المجرور على تقدير: ذوي أمنة.
أو على أنه جمع آمن، أي آمنين، أو مفعول من أجله أي لأمنة
قاله: الزمخشري، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاساً
مفعولاً من أجله.
وقرأ حمزة والكسائي: تغشى بالتاء حملاً على
لفظ أمنة هكذا قالوا. وقالوا: الجملة في موضع الصفة، وهذا ليس
بواضح، لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى
عطف البيان إذا اجتمعت. فمن أعرب نعاساً بدلاً أو عطف بيان لا
يتم له ذلك، لأنه مخالف لهذه القاعدة، ومن أعربه مفعولاً من
أجله ففيه أيضاً الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة. وفي
جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو: اتحاد
الفاعل. فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل:
ما حكم هذه الأمنة؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم، جاز ذلك.
وقال ابن عطية: أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه انتهى. لما
أعرب نعاساً بدلاً من أمنة، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن
المبدل منه، فحدث هنا عن المبدل منه، فحدث هنا عن المبدل منه.
فإذا قلت: إن هنداً حسنها فاتن، كان الخبر عن حسنها، هذا هو
المشهور في كلام العرب. وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل
منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية، واستدل على ذلك بقوله:
إن السيوف غدوها ورواحها
تركت هوازن مثل قرن الأعضب
ويقول الآخر:
وكأنه لهق السراة كأنه
ما حاجبيه معين بسواد
فقال: تركت، ولم يقل تركاً. وقال معين: ولم يقل معينان، فأعاد
الضمير على المبدل منه وهو السيوف، والضمير في كأنه ولم يعد
على البدل وهي: غدوها ورواحها وحاجبيه. وما زائدة بين المبدل
منه والبدل. ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب
غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل، ولاحتمال أن يكون معين
خبراً عن حاجبيه، لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا
يستغني أحدهما عن الآخر، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين
إخبار الواحد. كما قال:
لمن زحلوقه زل
بها العينان تنهل
وقال:
وكأنّ في العينين حبّ قرنفل
أو سنبلاً كحلت به فانهلت
فقال: ظلتا ولم يقل: ظلت تكف. وقرأ الباقون: يغشى بالياء، حمله
على لفظ النعاس.
{وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَهِلِيَّةِ} والواو في قوله: وطائفة، واو الحال. وطائفة
مبتدأ، والجملة المتصلة به خبره. وجاز الابتداء بالنكرة هنا إذ
فيه مسوغان: أحدهما: واو الحال وقد ذكرها بعضهم في المسوغات،
ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا وقال الشاعر:
سرينا ونم قد أضاء فمذ بدا
محياك أخفى ضوؤه كل شارق
والمسوغ الثاني: أن الموضع موضع تفصيل. إذ المعنى: يغشى طائفة
منكم، وطائفة لم يناموا، فصار نظير قوله:
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
بشق وشق عندنا لم يحوّل
ونصب طائفة على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا
التقدير من الإعراب جائز. ويجوز أن يكون قد أهمتهم في موضع
الصفة، ويظنون الخبر. ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً، والجملتان
صفتان، التقدير: ومنكم طائفة. ويجوز أن يكون يظنون حالاً من
الضمير في أهمتهم، وانتصاب غير الحق. قال أبو البقاء: على أنه
مفعول أول لتظنون، أي أمراً غير الحق، وبالله الثاني. وقال
الزمخشري: غير الحق في حكم المصدر، ومعناه: يظنون بالله ظن
الجاهلية، وغير الحق تأكيد ليظنون كقولك: هذا القول غير ما
تقول، وهذا القول لا قولك، انتهى. فعلى هذا لم يذكر ليظنون
مفعولين، وتكون الباء ظرفية كما تقول: ظننت بزيد. وإذا كان
كذلك لم تتعد ظننت إلى مفعولين، وإنما المعنى: جعلت مكاك ظني
زيداً. وقد نص النحويون على هذا. وعليه:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج
سراتهم في السائريّ المسرد
أي: اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدحج. وانتصاب
ظن على أنه مصدر تشبيهي، أي: ظناً مثل ظن الجاهلية. ويجوز في:
يقولون أن يكون صفة، أو حالاً من الضمير في يظنون، أو خبراً
بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على
جواز تعداده. ومن شيء في موضع مبتدأ، إذ من زائدة، وخبره في
لنا، ومن الأمر في موضع الحال، لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتاً
له، فيتعلق بمحذوف. وأجاز أبو البقاء أن يكون من الأمر هو
الخبر، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة كقوله تعالى: {ولم يكن له
كفواً أحد} وهذا لا يجوز: لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر،
وتقديره: أعني لنا هو جملة أخرى، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا
تستقل بالفائدة، وذلك لا يجوز. وأما تمثيله بقوله: ولم يكن له
كفواً أحد فهما لا سواء، لأن له معمول لكفواً، وليس تبييناً.
فيكون عامله مقدراً، والمعنى: ولم يكن أحد كفواً له، أي
مكافياً له، فصار نظير لم يكن له ضار بالعمرو، فقوله: لعمرو
ليس تبينناً، بل معمولاً لضارب. وقرأ الجمهور كله بالنصب
تأكيداً للأمر. وقرأ أبو عمر: وكله على أنه مبتدأ، ويجوز أن
يعرب توكيداً للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك وهو:
الجرمي، والزجاج، والفراء. قال ابن عطية: ورجح الناس قراءة
الجمهور، لأن التأكيد أملك بلفظة كلّ انتهى. ولا ترجيح، إذ كل
من القراءتين متواتر، والابتداء بكل كثير في لسان العرب وجواب
لو هو الجملة المنفية بما. وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل
عليه اللام.
{وَقَالُواْ لإِخْوَنِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأٌّرْضِ}
اللام في «لإخوانهم» لام السبب وليس لام التبليغ.
وإذا ظرف لما يستقبل. وقالوا: ماض، فلا
يمكن أن يعمل فيه. فمنهم من جرده عن الاستقبال وجعله لمطلق
الوقت بمعنى حين، فاعمل فيه قال: وقال ابن عطية: دخلت إذا وهي
حرف استقبال من حيث الذين اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي،
ومن يقول في المستقبل، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل
الزمان. قال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف قيل إذا ضربوا في الأرض
مع قالوا؟ (قلت) : هو حكاية الحال الماضية، كقولك: حين تضربون
في الأرض انتهى كلامه. ويمكن إقرار إذا على ما استقر لها من
الاستقبال، والعامل فيها مضاف مستقبل محذوف، وهو لا بد من
تقدير مضاف غاية ما فيه أنّا نقدره مستقبلاً حتى يعمل في الظرف
المستقبل، لكن يكون الضمير في قوله: لو كانوا عائداً على
إخوانهم لفظاً، وعلى غيرهم معنى، مثل قوله تعالى: {وما يعمر من
معمر ولا ينقص من عمره} وقول العرب: عندي درهم ونصفه. وقول
الشاعر:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا
إلى حمامتنا ونصفه فقد
والمعنى: من معمر آخر ونصف درهم آخر، ونصف حمام آخر، فعاد
الضمير على درهم الحمام لفظاً لا معنى. كذلك الضمير في قوله:
لو كانوا، يعود على إخوانهم لفظاً والمعنى: لو كان إخواننا
الآخرون.
وقرأ الجمهور غزاً بتشديد الزاي، وقرأ الحسن والزهري بتخفيف
الزاي. ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيفاً، وعلى حذف التاء،
والمراد: غزاة. وقال بعض من وجهٍ على أنّه حُذف التاء وهو: ابن
عطية، قال: وهذا الحذف كثير في كلامهم، ومنه قول الشاعر يمدح
الكسائي:
أبى الذمّ أخلاق الكسائي وانتحى
به المجد أخلاق الأبوّ السوابق
يريد الأبوة: جمع أب، كما أن العمومة جمع
عم، والبنوّة جمع ابن. وقد قالوا: ابن وبنوّ انتهى. وقوله:
وهذا الحذف كثير في كلامهم ليس كما ذكر، بل لا يوجد مثل رام
ورمى، ولا حام وحمى، يريد: رماة وحماة. وإن أراد حذف التاء من
حيث الجملة كثير في كلامهم فالمدعي إنما هو الحذف من فعله، ولا
نقول أنَّ الحذف ـــ أعني حذف التاء ـــ كثيرٌ في كلامهم، لأنه
يشعر أن بناء الجمع جاء عليها، ثم حذفت كثيراً وليس كذلك، بل
الجمع جاء على فعول نحو: عم وعموم، وفحل وفحول، ثم جيء بالتاء
لتأكيد معنى الجمع، فلا نقول في عموم: أنه حذفت منه التاء
كثيراً لأن الجمع لم يبن عليها، بخلاف قضاة ورماة فإن الجمع
بني عليها. وإنما تكلف النحويون لدخولها فيما كان لا ينبغي أن
تدخل فيه، إن ذلك على سبيل تأكيد الجمع، لمَّا رأوا زائداً لا
معنى له ذكروا أنّه جاء بمعنى التوكيد، كالزوائد التي لا يفهم
لها معنى غير التأكيد. وأمّا البيت فالذي يقوله النحويون فيه:
أنه مما شذ جمعه ولم يعل، فيقال فيه: أبى كما قالوا: عصى في
عصا، وهو عندهم جمع على فعول، وليس أصله أبوه. ولا يجمع ابن
علي بنوّة، وإنما هما مصدران. والجملة من لو وجوابها هي معمول
القول فهي في موضع نصب على المفعول، وجاءت على نظم ما بعد إذا
من تقديم نفي الموت على نفي القتل، كما قدم الضرب على الغزو.
والضمير في: لو كانوا، هو لقتلى أحد، قاله: الجمهور. أو للسرية
الذين قتلوا ببئر معونة قاله: بكر بن سهل الدمياطي. وقرأ
الجمهور: وما قتلوا بتخفيف التاء. وقرأ الحسن: بتشديدها
للتكثير في المحال، لا بالنسبة إلى محل واحد، لأنه لا يمكن
التكثير فيه.
{لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِى
قُلُوبِهِمْ} اختلفوا في هذه اللام فقيل: هي لام كي. وقيل: لام
الصيرورة. فإذا كانت لام كي فبماذا تتعلق، ولماذا يشار بذلك؟
فذهب بعضهم: إلى أنّها تتعلق بمحذوف يدل عليه معنى الكلام
وسياقه، التقدير: أوقع ذلك، أي القول والمعتقد في قلوبهم
ليجعله حسرة عليهم. وإنما احتيج إلى تقدير هذا المحذوف لأنه لا
يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال: لأنهم لم يقولوا تلك
المقالة ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، فلا يصح ذلك أن يكون
تعليلاً لقولهم.
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ
لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا
يَجْمَعُونَ} وأكد ذلك بالقسم. لأن اللام في لئن هي الموطئة
للقسم، وجواب القسم هو: لمغفرة. وكان نكرة إشارة إلى أن أيسر
جزء من المغفرة والرحمة خير من الدنيا، وأنه كاف في فوز
المؤمن. وجاز الابتداء به لأنه وصف بقوله من الله. وعطف عليه
نكرة ومسوغ الابتداء بها، كونها عطفت على ما يسوغ به الابتداء.
أو كونها موصوفة في المعنى إذ التقدير: ورحمة منه. وثمَّ صفة
أخرى محذوفة لا بد منها وتقديرها: ورحمة لكم. وخبر هنا على
بابها من كونها افعل تفضيل، كما روي عن ابن عباس: خير من طلاع
الأرض ذهبة حمراء. وارتفاع خير على أنه خبر عن قوله: لمغفرة.
وترتفع المغفرة على خير الابتداء المقدر. وقوله: خير صفة لا
خير ابتداء انتهى قوله. وهو خلاف الظاهر. وجواب الشرط الذي هو
إن قتلتم محذوف، لدلالة جواب القسم عليه. وقول الزمخشري: سدَّ
مسدَّ جواب الشرط إن عنى أنه حذف لدلالته عليه فصحيح، وإن عنى
أنه لا يحتاج إلى تقدير فليس بصحيح.
{وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى
الله تُحْشَرُونَ} لم يؤكد الفعل الواقع جواباً للقسم المحذوف
لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور.
ولو تأخر لكان: لتحشرن إليه كقوله: ليقولن ما يحبسه. وسواء كان
الفصل بمعمول الفعل كهذا، أو بسوف. كقوله: {فلسوف تعلمون} أو
بقد كقول الشاعر:
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه
وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
قال أبو علي: الأصل دخول النون فرقاً بين لام اليمين ولام
الابتداء، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات، فبدخول لام
اليمين على الفضلة وقع الفصل، فلم يحتج إلى النون. وبدخولها
على سوف وقع الفرق، فلم يحتج إلى النون، لأن لام الابتداء لا
تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً، أمّا إذا كان مستقبلاً فلا.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} وما هنا
زائدة للتأكيد، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف، وبين
مجروراتها شيء معروف في اللسان، مقرر في علم العربية. وذهب بعض
الناس إلى أنها منكرة تامة، ورحمة بدل منها. كأنه قيل: فبشيء
أبهم، ثم أبدل على سبيل التوضيح، فقال: رحمة. وكان قائل هذا
يفر من الإطلاق عليها أنهار زائدة. وقيل: ما هنا استفهامية.
قال الرازي: قال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام
أحكم الحاكمين غير جائز، وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية
للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم، وذلك بأن جنايتهم
لما كانت عظيمة ثم أنه ما أظهر البتة تغليظاً في القول، ولا
خشونة في الكلام، علموا أنَّ هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني
قبل ذلك انتهى كلامه. وما قاله المحققون: صحيح، لكنَّ زيادة ما
للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية، فضلاً
عن مَنْ يتعاطى تفسير كلام الله، وليس ما في هذا المكان مما
يتوهمه أحد مهملاً فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن يكون
استفهاماً للتعجب. ثمّ إنَّ تقديره ذلك: فبأي رحمة، دليل على
أنّه جعل ما مضافة للرحمة، وما ذهب إليه خطأ من وجهين: أحدهما:
أنه لا تضاف ما الاستفهامية، ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا
خلاف، وكم على مذهب أبي إسحاق. والثاني: إذا لم تصح الإضافة
فيكون إعرابه بدلاً، وإذا كان بدلاً من اسم الاستفهام فلا بد
من إعادة همزة الاستفهام في البدل، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم
يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ، وكان يغنيه
عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه. قول
الزجاج في ما هذه؟ إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع
النحويين.
وتضمنت هذه الآيات الطباق في: ينصركم
ويخذلكم، وفي رضوان الله وبسخط. والتكرار في: ينصركم وينصركم،
وفي الجلالة في مواضع. والتجنيس المماثل: في يغل وما غل.
والاستفهام الذي معناه النفي في: أفمن اتبع الآية. والاختصاص
في: فليتوكل المؤمنون، وفي: وما كان لنبي، وفي: بما يعملون خص
العمل دون القول لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء. والحذف في
عدة مواضع.
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ
فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ
عَلَيْهِمْءَايَتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ
مُّبِينٍ * أَوَ لَمَّا أَصَبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ
أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ
عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ *
وَمَآ أَصَبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ
اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ
اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً
لاَّتَّبَعْنَكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ
مِنْهُمْ لِلإِيمَنِ يَقُولُونَ بِأَفْوَهِهِم مَّا لَيْسَ فِى
قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ
قَالُواْ لإِخْوَنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا
قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن
كُنتُمْ صَدِقِينَ * وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ
فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ
خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}
.
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤمِنِينَ} وقرىء شاذاً: لمن منّ الله على المؤمنين بمن
الجارة ومن مجرور بها بدل قد من. قال الزمخشري: وفيه وجهان: أن
يراد لمن من الله على المؤمنين منه أو بعثه فيهم، فحذف لقيام
الدلالة. أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك: أخطب ما يكون
الأمير، إذا كان قائماً بمعنى لمن مَنَّ الله على المؤمنين وقت
بعثه انتهى.
أمّا الوجه الأوّل فهو سائغ، وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع
منها: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به} {وما منا إلا له
مقام} {وما دون ذلك} على قول. وأما الوجه الثاني فهو فاسد،
لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة ألبتة، إنما
تكون ظرفاً أو مضافاً إليها اسم زمان، ومفعولة باذكر على قول.
أمّا أنْ تستعمل مبتدأ فلم يثبت ذلك في لسان العرب، ليس في
كلامهم نحو: إذ قام زيد طويل وأنت تريد وقت قيام زيد طويل. وقد
قال أبو علي الفارسي: لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين،
ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين، ولا مبتدأين انتهى كلامه.
وأمّا قوله: في محل الرفع كإذا، فهذا التشبيه فاسد، لأن المشبه
مرفوع بالابتداء، والمشبه به ليس مبتدأ. إنما هو ظرف في موضع
الخبر على زعم من يرى ذلك. وليس في الحقيقة في موضع رفع، بل هو
في موضع نصب بالعامل المحذوف، وذلك العامل هو مرفوع. فإذا قال
النحاة: هذا الظرف الواقع خبراً في محل الرفع، فيعنون أنه لما
قام مقام المرفوع صار في محله، وهو في التحقيق في موضع نصب كما
ذكرنا. وأما قوله في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان
قائماً، فهذا في غاية الفساد. لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله
في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب، لا يجيز أن ينطق به، إنما
هو أمر تقديري. ونصّ أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب
أخطب مبتدأ، أنَّ هذه الحال سدت مسد الخبر، وأنه مما يجب حذف
الخبر فيه لسد هذه الحال مسده. وفي تقرير هذا الخبر أربعة
مذاهب، ذكرت في مبسوطات
النحو.
{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ} وإن هنا هي
الخففة من الثقيلة، وتقدّم الكلام عليها وعلى اللام في قوله:
{وإن كانت لكبيرة} والخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته هنا. وقال
الزمخشري: إنْ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها
وبين النافية، وتقديره: وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل لفي
ضلال مبين. انتهى. وقال مكي: وقد ذكر أنه قبل إن نافية، واللام
بمعنى إلا، أي وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين، قال: وهذا
قول الكوفيين. وأما سيبويه فإنه قال: إن مخففة من الثقيلة،
واسمها مضمر، والتقدير على قوله: وإنهم كانوا من قبل في ضلال
مبين. فظهر من كلام الزمخشري أنه حين خففت حذف اسمها وهو ضمير
الشأن والحديث. ومن كلام مكي أنها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير
عائد على المؤمنين، وكلا هذين الوجهين لا نعرف. نحو: يا ذهب
إليه. إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنّك إذا قلت:
إن زيداً ائم ثم خففت، فمذهب البصريين فيها إذ ذاك وجهان:
أحدهما: جواز الأعمال، ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي
مشددة، إلا أنها لا تعمل في مضمر. ومنع ذلك الكوفيون، وهم
محجوجون بالسماع الثابت من لسان العرب. والوجه الثاني: وهو
الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل، لا في ظاهر، ولا في مضمر لا
ملفوظ به ولا مقدر ألبتة. فإن وليها جملة اسمية ارتفعت
بالابتداء والخبر، ولزمت اللام في ثاني مضمونيها إن لم ينف،
وفي أولهما إن تأخر فنقول: إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن
زيداً قائم. وإن وليه جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون
من فواتح الابتداء. وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس
عليه عند جمهورهم. والجملة من قوله: وإن كانوا، حالية. والظاهر
أن العامل فيها هو: ويعلمهم، فهو حال من المفعول.
{أَوَ لَمَّا أَصَبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ
أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} الهمزة
للاستفهام الذي معناه الإنكار. وقال ابن عطية: دخلت عليها ألف
التقرير، على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال.
وقال الزمخشري: ولمّا نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجرّ بإضافة
لما إليه، وتقديره: أقلتم حين أصابتكم، وأنَّى هذا نصب لأنه
مقول، والهمزة للتقرير والتقريع. (فإن قلت) : على م عطفت الواو
هذه الجملة؟ (قلت) : على ما مضى من قصة أحد من قوله: {ولقد
صدقكم الله وعده} ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف، فكأنه قال:
أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا؟ انتهى.
أمّا العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله: {لقد صدقكم الله
وعده} . ففيه بعدٌ، وبعيد أن يقع مثله في القرآن. وأمّا العطف
على محذوف فهو جار على ما تقرر في غير موضع من مذهبه، وقد
رددناه عليه. وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا:
وأصلها التقديم، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها. وأمّا
قوله: ولما نصب إلى آخره وتقديره: وقلتم حينئذ كذا، فجعل لمّا
بمعنى حين فهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما هو مذهب أبي علي
الفارسي. زعم أن لما ظرف زمان بمعنى حين، والجملة بعدها في
موضع جر بها، فجعلها من الظروف التي تجب إضافتها إلى الجمل،
وجعلها معمولة للفعل الواقع جواباً لها في نحو: لما جاء زيد
عمرو، فلما في موضع نصب بجاء من قولك: جاء عمرو. وأمّا مذهب
سيبويه فأما حرف لا ظرف، وهو حرف وجوب لوجوب، ومذهب سيبويه هو
الصحيح. وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى:
بالتكميل.
{قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} وأنى هذا: جملة من
مبتدأ وخبر، وهي في موضع نصب على أنها معمولة لقوله: قلتم.
قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار لما أصابهم، والمعنى: كيف
أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله، وقد وعدنا بالنصر وإمداد
الملائكة؟ فاستفهموا على سبيل التعجب عن ذلك. وأنى سؤال عن
الحال هنا، ولا يناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى، لأنّ
الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا، إنما الاستفهام
وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك، سألوا عنها على سبيل
التعجب. وقال الزمخشري: أنى هذا من أين هذا، كقوله: «أنى لك
هذا» لقوله: «من عند أنفسكم» وقوله: «من عند الله» انتهى
كلامه. والظرف إذا وقع خبر للمبتدأ ألا يقدر داخلاً عليه حرف
جر غير في، أما أنْ يقدَّر داخلاً عليه مِنْ فلا، لأنه إنما
انتصب على إسقاط في. ولك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل
بوساطة في ألاّ أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول
به، فتقدير الزمخشري: أنى هذا، من أين هذا تقدير غير سائغ،
واستدلاله على هذا التقدير بقوله: من عند أنفسكم، وقوله: من
عند الله، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ، وذهول عن
هذه القاعدة التي ذكرناها. وأمّا على ما قررناه، فإنّ الجواب
جاء على مراعاة المعنى، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ.
وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال
مطابقاً له في اللفظ، ومراعي فيه المعنى لا اللفظ. والسؤال
بأبي سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر، والجواب بقوله: من
عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية، لأنه بتعيين السبب تتعين
الكيفية من حيث المعنى. لو قيل على سبيل التعجب والإنكار: كيف
لا يحج زيد الصالح، وأجيب ذلك بأن يقال: بعدم استطاعته حصل
الجواب وانتظم من المعنى، أنه لا يحج وهو غير مستطيع.
{وَمَآ أَصَبَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ} وما موصولة مبتدأ، والخبر قوله: فبإذن الله، وهو
على إضمار أي: فهو بإذن الله. ودخول الفاء هنا. قال الحوفي:
لما في الكلام من معنى الشرط لطلبته للفعل. وقال ابن عطية:
ودخلت الفاء رابطة مسددة. وذلك للإبهام الذي في ما فأشبه
الكلام الشرط، وهذا كما قال سيبويه: الذي قام فله درهمان،
فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء انتهى كلامه. وهو
أحسن من كلام الحوفي، لأن الحوفي زعم أن في الكلام معنى الشرط.
وقال ابن عطية: فأشبه الكلام الشرط. ودخول الفاء على ما قاله
الجمهور وقرروه قلق هنا، وذلك أنهم قرّروا في جواز دخول الفاء
على خبر الموصول أنّ الصلة تكون مستقلة، فلا يجيزون الذي قام
أمس فله درهم، لأن هذه الفاء إنما دخلت في خبر الموصول لشبهه
بالشرط. فكما أن فعل الشرط لا يكون ماضياً من حيث المعنى،
فكذلك الصلة.
{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَنِ}
وأقرب هنا افعل تفضيل، وهي من القرب المقابل للبعد. ويعدّي
بإلى وباللام وبمن، فيقال: زيد أقرب لكذا، وإلى كذا، ومن كذا
من عمرو. فمن الأولى ليست التي يتعدى بها افعل التفضيل مطلقاً
في نحو: زيد أفضل من عمرو. وحرفا الجر هنا يتعلقان بأقرب، وهذا
من خواص أفعل التفضيل إنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد، وليس
أحدهما معطوفاً على الآخر. ولا بدلاً منه بخلاف سائر العوامل،
فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد إلا بالعطف، أو على سبيل
البدل. فتقول: زيد بالنحو أبصر منه بالفقه.
والعامل في يومئذ أقرب. ومنهم متعلق بأقرب
أيضاً، والجملة المعوض منها التنوين هي السابقة، أي: هم قوم إذ
قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم. وذهب بعض المفسرين فيما حكى
النقاش: إلى أن أقرب ليس هو هنا المقابل للأبعد، وإنما هو من
القَرَب بفتح القاف والراء وهو المطلب، والقارب طالب الماء،
وليلة القرب ليلة الوداد، فاللفظة بمعنى الطلب. ويتعين على هذا
القول التعدية باللام، ولا يجوز أن تعدّى بإلى ولا بمن التي لا
تصحب كل أفعل التفضيل، وصار نظير زيد أقرب لعمرو من بكر.
{الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَنِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ
أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} وجوزوا في إعراب الذين وجوهاً:
الرفع على النعت للذين نافقوا، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو
على أنه بدل من الواو في يكتمون، والنصب على الذم أي: أذم
الذين، والجرّ على البدل من الضمير في بأفواههم أو في قلوبهم.
والجملة من قوله: وقعدوا حالية أي: وقد قعدوا. ووقوع الماضي
حالاً في مثل هذا التركيب مصحوباً بقد، أو بالواو، أو بهما، أو
دونهما، ثابت من لسان العرب بالسماع.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الذين قتلوا
فاعلاً، ويكون التقدير: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً، أي:
لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. (فإن قلت) : كيف جاز حذف
المفعول الأوّل؟ (قلت) : هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف
المبتدأ في قوله: أحياء. والمعنى: هم أحياء لدلالة الكلام
عليها انتهى كلامه. وما ذهب إليه من أن التقدير: ولا تحسبنهم
الذين قتلوا أمواتاً لا يجوز، لأنَّ فيه تقديم المضمر على
مفسره، وهو محصور في أماكن لا تتعدى وهي باب: رب بلا خلاف،
نحو: ربه رجلاً أكرمته، وباب نعم وبئس في نحو: نعم رجلاً زيد
على مذهب البصريين، وباب التنازع على مذهب سيبويه في نحو:
ضرباني وضربت الزيدين، وضمير الأمر والشأن وهو المسمى بالمجهول
عند الكوفيين نحو: هو زيد منطلق، وباب البدل على خلاف فيه بين
البصريين في نحو: مررت به زيد، وزاد بعض أصحابنا أن يكون
الظاهر المفسر خبراً للضمير، وجعل منه قوله تعالى: {وقالوا إن
هي إلا حياتنا الدّنيا} التقدير عنده: ما الحياة إلا حياتنا
الدّنيا. وهذا الذي قدره الزمخشري ليس واحداً من هذه الأماكن
المذكورة. وأما سؤاله وجوابه فإنه قد يتمشى على رأي الجمهور في
أنه: يجوز حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها اختصاراً، وحذف الاختصار
هو لفهم المعنى، لكنه عندهم قليل جداً. قال أبو عليّ الفارسي:
حذفه عزيز جداً، كما أن حذف خبر كان كذلك، وإن اختلفت جهتا
القبح انتهى. قول أبي علي. وقد ذهب الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم
بن ملكون الحضرمي الإشبيلي إلى منع ذلك اقتصاراً، والحجة له
وعليه مذكورة في علم النحو. وما كان بهذه المثابة ممنوعاً عند
بعضهم عزيزاً حذفه عند الجمهور، ينبغي أن لا يحمل عليه كلام
الله تعالى. فتأويل مَن تأوّل الفاعل مضمراً يفسره المعنى، أي:
لا يحسبن هو أي أحد، أو حاسب أولى. وتنفق القراءتان في كون
الفاعل ضميراً وإن اختلفت بالخطاب والغيبة.
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ
فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} وقرأ الجمهور:
بل أحياء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: بل هم أحياء.
وقرأ ابن أبي عبلة: أحياء بالنصب. قال الزمخشري: على معنى بل
أحسبهم أحياء انتهى. وتبع في إضمار هذا الفعل الزجاج قال
الزجاج: ويجوز النصب على معنى: بل أحسبهم أحياءً. ورده عليه
أبو علي الفارسي في الإغفال وقال: لا يجوز ذلك، لأن الأمر
يقين، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة، ولا يصح أن يضمر له إلا
فعل المحسبة. فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن يُضمر فعلاً غير
المحسبة اتقدهم أو اجعلهم، وذلك ضعيف، إذ لا دلالة في الكلام
على ما يضمر انتهى كلام أبي علي. وقوله: لا يجوز ذلك لأن الأمر
يقين، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة معناه: أنَّ المتيقن لا
يعبر عنه بالمحسبة، لأنها لا تكون لليقين. وهذا الذي ذكره هو
الأكثر، وقد يقع حسب لليقين كما تقع ظن، لكنه في ظن كثير، وفي
حسب قليل. ومن ذلك في حسب قول الشاعر:
حسبت التقى والحمد خير تجارة
رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلا
وقول الآخر:
شهدت وفاتوني وكنت حسبتني
فقيراً إلى أن يشهدوا وتغيبي
فلو قدر بعد: بل أحسبهم بمعنى أعلمهم، لصحَّ لدلالة المعنى
عليه، لا لدلالة لفظ ولا تحسبن، لاختلاف مدلوليهما. وإذا اختلف
المدلول فلا يدل أحدهما على الآخر. وقوله: ولا يصح أن يضمر له
إلا فعل المحسبة غير مسلم، لأنه إذا امتنع من حيث المعنى
إضماره أضمر غيره لدلالة المعنى عليه لا اللفظ. وقوله: أو
اجعلهم، هذا لا يصح ألبتة، سواء كانت اجعلهم بمعنى اخلقهم، أو
صيرهم، أو سمهم، أو القهم. وقوله: وذلك ضعيف أي النصب، وقوله:
إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر إن عنى من حيث اللفظ فصحيح،
وإن عنى من حيثُ المعنى فغير مسلم له، بل المعنى يسوغ النصب
على معنى اعتقدهم، وهذا على تسليم إن حسب لا يذهب بها مذهب
العلم.
ومعنى عند ربهم: بالمكانة والزلفى، لا
بالمكان. قال ابن عطية: فيه حذف مضاف تقديره: عند كرامة ربهم،
لأن عند تقتضي غاية القرب، ولذلك يصغر قاله سيبويه انتهى.
ويحتمل عند ربهم أن يكون خبراً ثانياً، وصفة، وحالاً. وكذلك
يرزقون: يجوز أن يكون خبراً ثالثاً، وأن يكون صفة ثانية.
وقدَّم صفة الظرف على صفة الجملة، لأن الأفصح هذا وهو: أن يقدم
الظرف أو المحرور على الجملة إذا كانا وصفين، ولأن المعنى في
الوصف بالزلفى عند الله والقرب منه أشرف من الوصف بالرزق. وأن
يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف، ويكون العامل فيه في
الحقيقة هو العامل في الظرف.
{فَرِحِينَ بِمَآءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} ومن يحتمل أن
تكون للسبب، أي: ما آتاهم الله متسبب عن فضله، فتتعلق الباء
بآتاهم. ويحتمل أن تكون للتبعيض، فتكون في موضع الحال من
الضمير المحذوف العائد على ما، أي: بما آتاهموه الله كائناً من
فضله. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، فتتعلق بآتاهم. وجوّزوا
في فرحين أن يكون حالاً من الضمير في يرزقون، أو من الضمير في
الظرف، أو من الضمير في أحياء، وأن يكون صفة لأحياء إذا نصب.
{أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وجوزوا في
إعراب ويستبشرون أن يكون معطوفاً على فرحين ومستبشرين كقوله:
«صافات ويقبضن» أي قابضات وأن يكون على إضمارهم. والوا للحال،
فتكون حالية من الضمير في فرحين، أو من ضمير المفعولين في
آتاهم، أو للعطف. ويكون مستأنفاً من باب عطف الجملة الاسمية أو
الفعلية على نظيرها.
وإن هي المخففة من الثقيلة، واسمها محذوف
ضمير الشأن، وخبرها الجملة المنفية بلا. وإن ما بعدها في تأويل
مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين، فيكون هو المستبشر به
في الحقيقة أو منصوب على أنه مفعول من أجله، فيكون هو المستبشر
به في الحقيقة. أو منصوب على أنه مفعول من أجله، فيكون علة
للاستشار، والمستبشر به غيره. التقدير: لأنه لا خوف عليهم.
ولاذوات لا يستبشر بها فلا بد من تقدير مضاف مناسب وتضمنت هذه
الآيات من ضروب البديع، الطباق في قوله: لقد منّ الله الآية،
إذ التقدير منّ الله عليهم بالهداية، فيكون في هذا المقدّر.
وفي قوله: في ضلال مبين، وفي: يقولون بأفواههم، والقول ظاهر
ويكتمون. وفي قالوا لإخوانهم وقعدوا، إذ التقدير حين خرجوا
وقعدوا هم. وفي: أمواتاً بل أحياء وفي: فرحين ويحزنون.
والتكرار في: وليعلم المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا الاختلاف
متعلق العلم. وفي فرحين ويستبشرون. والتجنيس المغاير في:
إصابتكم مصيبة، والمماثل في: أصابتكم قد أصبتم. والاستفهام
الذي يراد به الإنكار في: أو لما أصابتكم. والاحتجاج النظري
في: قل فادرأوا عن أنفسكم. والتأكيد في: ولا هم يحزنون. والحذف
في عدة مواضع لا يتم المعنى إلا بتقديرها.
{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ
وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ *
الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ
أَصَبَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ
وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ
وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ
الشَّيْطَنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَلاَ يَحْزُنكَ
الَّذِينَ يُسَرِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ
اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ
حَظّاً فِى الأٌّخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ
الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَنِ لَن يَضُرُّواْ
اللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلاَ يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ
لأًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ
إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَّا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى
يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى
مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَئَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ *
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآءَاتَهُمُ
اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ
لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ
وَللَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
{الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ
أَصَبَهُمُ الْقَرْحُ} والظاهر إعراب الذين مبتدأ، والجملة
بعده الخبر وجوزوا الاتباع نعتاً، أو بدلاً، والقطع إلى الرفع
والنصب. ومن في منهم قال الزمخشري: للتبيين مثلها في قوله
تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم غفرة
وأجراً عظيماً} لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم
واتقوا، إلا بعضهم. وعن عروة بن البزير قالت لي عائشة: أن
أبويك لممن استجابوا لله والرسول تعني: أبا بكر والزبير انتهى.
وقال أبو البقاء: منهم حال من الضمير في أحسنوا، فعلى هذا تكون
من للتبعيض وهو قول من لا يرى أن من تكون لبيان الجنس.
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وجوزوا في إعراب الذين قال:
أوجه الذين قبله، والفاعل بزاد ضمير مستكن يعود على المصدر
المفهوم من قال أي: فزادهم ذلك القول إيماناً. وأجاز الزمخشري
أن يعود إلى القول، وأن يعود إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده.
وهما ضعيفان، من حيث أن الأول لا يزيد إيماناً إلا بالنطق به،
لا هو في نفسه. من حيثُ أن الثاني إذا أطلق على المفرد لفظ
الجمع مجازاً فإن الضمائر تجزي على ذلك الجمع، لا على المفرد.
فيقول: مفارقه شابت، باعتبار الإخبار عن الجمع، ولا يجوز
مفارقه شاب، باعتبار مفرقه شاب.
{لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} الجملة من قوله: لم يمسسهم سوء في
موضع الحال، أي سالمين. وبنعمة حال أيضاً، لأن الباء فيه باء
المصاحبة، أي: انقلبوا متنعمين سالمين. والجملة الحالية
المنفية بلم المشتملة على ضمير ذي الحال، يجوز دخول الواو
عليها، وعدم دخولها. فمن الأوّل قوله تعالى: {أو قال أوحي إلي}
ولم يوح إليه شيء، وقول الشاعر:
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل
ومن الثاني قوله تعالى: {وردّ الله الذين
كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً} وقول قيس بن الأسلت:
واضرب القوس يوم الوغى
بالسيف لم يقصر به باعي
ووهم الأستاذ أبو الحسن بن خروف في ذلك فزعم: أنها إذا كانت
الجملة ماضية معنى لا لفظاً احتاجت إلى الواو كان فيها ضميراً،
ولم يكن فيها. والمستعمل في لسان العرب ما ذكرناه.
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}
والتشديد في يخوّف للنقل، كان قبله يتعدّى لواحد، فلما ضعف صار
يتعدّى لاثنين. وهو من الأفعال التي يجوز حذف مفعوليها،
وأحدهما اقتصار أو اختصار، أو هنا تعدّى إلى واحد، والآخر
محذوف. فيجوز أن يكون الأوّل ويكون التقدير: يخوفكم أولياء، أي
شر أوليائه في هذا الوجه. لأن الذوات لا تخاف، ويكون المخوفون
إذ ذاك المؤمنين، ويجوز أن يكون المحذوف المفعول الثاني، أي:
يخوّف أولياءه شرّ الكفار، ويكون أولياءه في هذا الوجه هم
المنافقون، ومن في قلبه مرض المتخلفون عن الخروج مع رسول الله
صلى الله عليه وسلّمأي: أنه لا يتعدّى تخويفه المنافقين، ولا
يصل إليكم تخويفه. وعلى لوجه الأوّل يكون أولياءه هم الكفار:
أبو سفيان ومن معه. ويدل على هذا الوجه قراءة ابن مسعود وابن
عباس يخوفكم أولياءه، إذ ظهر فيها أن المحذوف هو المفعول
الأوّل. وقرأ أبيّ والنخعي: يخوفكم بأوليائه، فيجوز أن تكون
الباء زائدة مثلها في يقرأن بالسور، ويكون المفعول الثاني هو
بأوليائه، أي: أولياءه، كقراءة الجمهور. ويجوز أن تكون الباء
للسبب، ويكون مفعول يخوّف الثاني محذوفاً أي: يخوّفكم الشرّ
بأوليائه، فيكونون آلة للتخويف. وقد حمل بعض المعربين قراءة
الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير: بأوليائه فيكون إذ ذاك
قد حذف مفعولاً لدلالة، المعنى على الحذف، والتقدير: بأوليائه،
فيكونون آلة للتخويف. وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف
أولياءه على أن التقدير: بأوليائه، فيكونون
آلة للتخويف. وقد حمل بعض المعربين قراءة
الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير: بأوليائه، فيكون إذ ذاك
قد حذف مفعولاً يخوف لدلالة، المعنى على الحذف، والتقدير:
يخوفكم الشرّ بأوليائه، وهذا بعيد. والأحسن في الإعراب أن يكون
ذلكم مبتدأ، والشيطان خبره، ويخوف جملة حالية، يدل على أن هذه
الجملة حال مجيء المفرد منصوباً على الحال مكانها نحو قوله
تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية} {وهذا بعلي شيخاً} وأجاز أبو
لابقاء أن يكون الشيطان بدلاً أو عطف بيان، ويكون يخوف خبراً
عن ذلكم. وقال الزمخشري: الشيطان خبر ذلكم، بمعنى: إنما ذلك
المثبط هو الشيطان، ويخوّف أولياءه جملة مستأنفة بيان لتثبيطه،
أو الشيطان صفة لاسم الإشارة، ويخوف الخبر والمراد بالشيطان
نعيم أو أبو سفيان انتهى كلامه. فعلى هذا القول تكون الجملة لا
موضع لها من الإعراب. وإنما قال: والمراد بالشيطان نعيم، أو
أبو سفيان، لأنه لا يكون صفة، والمراد به إبليس. لأنه إذا أريد
به إبليس كان إذ ذاك علماً بالغلبة، إذ أصله صفة كالعيوق، ثم
غلب على إبليس، كما غلب العيوق على النجم الذي ينطلق عليه.
وقال ابن عطية: وذلكم في الإعراب ابتداء،
والشيطان مبتدأ آخر، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان، والجملة
خبر الابتداء الأوّل. وهذا الإعراب خبر في تناسق المعنى من أن
يكون الشيطان خبر ذلكم، لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة
انتهى. وهذا الذي اختاره إعراب لا يجوز، إن كان الضمير في
أولياءه عائداً على الشيطان، لأن الجملة الواقعة خبراً عن ذلكم
ليس فيها رابط يربطها بقوله: ذلكم، وليست نفس المبتدأ في
المعنى نحو قولهم: هجيري أبي بكر لا إله إلا الله، وإن ان
عائداً على ذلكم، ويكون ذلك عن الشيطان جاز، وصار نظير: إنما
هند زيد يضرب غلامها والمعنى: إذ ذاك، إنما ذلكم الركب، أو أبو
سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه، أي: أولياء الركب، أو أبي سفيان
والضمير المنصوب في تخافوهم الظاهر عوده على أولياءه، هذا إذا
كان المراد بقوله: أولياءه كفار قريش، وغيرهم من أولياء
الشيطان. وإن كان المراد به المنافقين، فيكون عائداً على الناس
من قوله: {إن الناس قد جمعوا لكم} قوى نفوس المسلمين فنهاهم عن
خوف أولياء الشيطان، وأمر بخوفه تعالى، وعلق ذلك على الإيمان.
أي إنَّ وصف الإيمان يناسب أن لا يخاف المؤمن إلا الله كقوله:
{ولا يخشون أحداً إلا الله} وأبرز هذا الشرط في صفة الإمكان.
وإن كان واقعاً إذ هم متصفون بالإيمان، كما تقول: إن كنت رجلاً
فافعل كذا. وأثبت أبو عمرو ياء وخافون وهي ضمير المفعول،
والأصل الإثبات. ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون،
فتذهب الدلالة على المحذوف.
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأًّنفُسِهِمْ} وقرأ حموة
تحسبنّ بتاء الخطاب، فيكون الذين كفروا مفعولاً أول. ولا يجوز
أن يكون: أنما نملي لهم خير، في موضع المفعول الثاني، لأنه
ينسبك منه مصدر المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول من حيث
المعنى، والمصدر لا يكون الذات، فخرج ذلك على حذف مضاف من
الأول أي: ولا تحسبن شأن الذين كفروا. أو من الثاني أي: ولا
تحسبن الذين كفروا أصحاب، أنَّ الإملاء خير لأنفسهم حتى يصح
كون الثاني هو الأول. وخرجه الأستاذ أبو الحسن بن الباذش
والزمخشري: على أن يكون أنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من
الذين. قال ابن الباذش: ويكون المفعول الثاني حذف لدلالة
الكلام عليه، ويكون التقدير: ولا تحسبن الذين كفروا خيرية
إملائنا لهم كائنة أو واقعة. وقال الزمخشري: (فإن قلت) : كيف
صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصار
بفعل الحسبان على على مفعول واحد؟ (قلت) : صح ذلك من حيث أن
التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحيّ، ألا تراك تقول:
جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك انتهى
كلامه. وهو التخريج الذي خرجه ابن الباذش والزمخشري سبقهما
إليه الكسائي والفراء، فالأوجه هذه القراءة التكرير والتأكيد.
التقدير: ولا تحسبن الذين كفروا، ولا تحسبن أنما نملي لهم. قال
الفرّاء ومثله: هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم، أي ما ينظرون
إلا أن تأتيهم انتهى. وقد ردّ بعضهم قول الكسائي والفراء فقال:
حذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد، فهو غلط
منهما انتهى.
وقد أشبعنا الكلام في حذف أحد مفعولي ظن
اختصاراً فيما تقدم من قول الزمخشري في قوله: {ولا تحسبن الذين
قتلوا في سبيل الله أمواتاً} إن تقديره: ولا تحسبنهم. وذكرنا
هناك أن مذهب ابن ملكون أنه لا يجوز ذلك، وأن مذهب الجمهور
الجواز لكنه عزيز جداً بحيث لا يوجد في لسان العرب إلا نادراً
وأن القرآن ينبغي أن ينزه عنه. وعلى البدل خرج هذه القراءة أبو
إسحاق الزجاج، لكن ظاهر كلامه أنها بنصب خير. قال: وقد قرأ بها
خلق كثير، وساق عليها مثالاً قول الشاعر:
فما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل، وعلى هذا يكون: أنما نملي
بدل، وخيراً: المفعول الثاني أي إملائنا خيراً. وأنكر أبو بكر
بن مجاهد هذه القراءة التي حكاها الزجاج، وزعم أنه لم يقرأ بها
أحد. وابن مجاهد في باب القراءات هو المرجوع إليه.
وقال أبو حاتم: سمعت الأخفش يذكر قبح أن
يحتج بها لأهل القدر لأنه كان منهم، ويجعله على التقديم
والتأخير كأنه قال: ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم
ليزدادوا إثماً، إنما نملي لهم خير لأنفسهم انتهى وعلى مقالة
الأخفش يكون إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً في موضع المفعول
الثاني، وإنما نملي لهم خير مبتدأ وخبر، أي إملاؤنا لهم خير
لأنفسهم. وجاز الابتداء بأن المفتوحة، لأن مذهب الأخفش جواز
ذلك. ولإشكال هذه القراءة زعم أبو حاتم وغيره أنها لحن
وردّوها. وقال أبو علي الفارسي: ينبغي أن تكون الألف من إنما
مكسورة في هذه القراءة، وتكون إن وما دخلت عليه في موضع
المفعول الثني. وقال مكي في مشكله: ما علمت أحداً قرأ تحسبن
بالتاء من فوق، وكسر الألف من إنما. وقرأ باقي السبعة والجمهور
يحسبنَّ بالياء، وإعرابُ هذه القراءة ظاهر، لأن الفاعل هو
الذين كفروا، وسدّت إنما نملي لهم خير مسد مفعولي يحسبنَّ كما
تقول: حسبت أن زيداً قائم. وتحتمل ما في هذه القراءة وفي التي
قبلها أن تكون موصولة بمعنى الذي، ومصدرية، أي: أن الذي نملي،
وحذف العائد أي: عليه وفيه شرط جواز الحذف من كونه متصلاً
معمولاً لفعل تام متعيناً للربط، أو أنَّ إملائنا خير. وجوّز
بعضهم أن يسند الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فيكون فاعل
الغيب كفاعل الخطاب، فتكون القراءتان بمعنى واحد.
وقرأ يحيى بن وثاب: ولا يحسبن بالياء،
وإنما نملي بالكسر. فإن كان الفعل مسنداً للنبي صلى الله عليه
وسلّم فيكون المفعول الأول الذين كفروا، ويكون إنما نملي لهم
جملة في موضع المفعول الثاني. وإن كان مسنداً للذين كفروا
فيحتاج يحسبن إلى مفعولين. فلو كانت إنما مفتوحة سدت مسد
المفعولين، ولكن يحيى قرأ بالكسر، فخرج على ذلك التعليق فكسرت
إن، وإن لم تكن اللام في حيزها. والجملة المعلق عنها الفعل في
موضع مفعولي يحسبن، وهو بعيد: لحذف اللام نظير تعليق الفعل عن
العمل، مع حذف اللام من المبتدأ كقوله:
إني وجدت ملاك الشيمة الأدب
أي لملاك الشيمة الأدب، ولولا اعتقاد حذف اللام لنصب. وحكى
الزمخشري أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر إنما الأولى، وفتح الثانية.
ووجه ذلك على أن المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم
ليزدادوا إثماً كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في
الإيمان. والجملة من إنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين
الفعل ومعموله، ومعناه: أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه
وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة، وترك المعاجلة
بالعقوبة. وظاهر الذين كفروا العموم.
وكتبوا ما متصلة بأن في الموضعين. قيل: وكان القياس الأولى في
علم الخط أن تكتب مفصوله، ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا
تخالف، ونتبع سنة الإمام في المصاحف. وأما الثانية، فحقها أن
تكتب متصلة لأنها كافة دون العمل، ولا يجوز أن تكون موصولة
بمعنى الذي. ولا مصدرية، لأن لازم كي لا يصحّ وقوعها خبر
للمبتدأ ولا لنواسخه. وقيل: اللام في ليزدادوا للصيرورة. {ولهم
عذاب مهين} هذه الواو في: ولهم، للعطف.
{مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ} واللام في قوله: ليذر هي المسماة لام الجحود،
وهي عند الكوفيين زائدة لتأكيد النفي، وتعمل بنفسها النصب في
المضارع. وخبر كان هو الفعل بعدها فتقول: ما كان زيد يقوم، وما
كان زيد ليقوم، إذا أكدت النفي. ومذهب البصريين أنَّ خبر كان
محذوف، وأن النصب بعد هذه اللام بأن مضمرة واجبة الإضمار،
وأنَّ اللام مقوية لطلب ذلك المحذوف لما بعدها، وأنَّ التقدير:
ما كان الله مريداً ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه، أي: ما
كان مريداً لترك المؤمنين. وقد تكلمنا على هذه المسألة في
كتابنا المسمى بالتكميل في شرح التسهيل.
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآءَاتَهُمُ
اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ
لَّهُمْ} وقرأ حمزة تحسين بالتاء، فتكون الذين أول مفعولين
لتحسبن، وهو على حذف مضاف أي: بخل الذين. وقرأ باقي السبعة
بالياء. فإنْ كان الفعل مسنداً إلى الضمير، فيكون المفعول
الأول محذوفاً تقديره: بخلهم، وحذف لدلالة يبخلون عليه. وحذفه
كما قلنا: عزيز جداً عند الجمهور، فلذلك الأولى تخريج هذه
القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على
حذف مضاف، وهو فصل. وقرأ الأعمش بإسقاط هو، وخيراً هو المفعول
بتحسبن. قال ابن عطية: ودل قوله: يبخلون على هذا البخل المقدر،
كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر:
إذا نهى السفيه جرى إليه
وخالف والسفيه إلى خلاف
والمعنى: جرى إلى السفه انتهى. وليست
الدلالة فيهما سواء لوجهين: أحدهما أن الدال في اةية هو الفعل،
وفي البيت هو اسم الفاعل، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من
دلالة اسم الفاعل، ولذلك كثر إضمار المصدر لدلالة الفعل عليه
في القرآن وكلام العرب، ولم تكثر دلالة اسم الفاعل على المصدر
إنما جاء في هذا البيت أو في غيره إنْ وجد. والثاني أن في
الآية حذفاً لظاهر، إذ قدروا المحذوف بخلهم، وأما في البيت فهو
إضمار، لا حذف. ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد
العربية، وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال، إذا جعلنا الفعل
مسنداً للذين، وذلك أن تحسبن تطلب مفعولين، ويبخلون يطلب
مفعولاً بحرف جر، فقوله: ما آتاهم يطلبه يحسبن، على أن يكون
المفعول الأول، ويكون هو فصلاً، وخيراً المفعول الثاني ويطلبه
يبخلون بتوسط حرف الجر، فاعمل الثاني على الأفصح في لسان
العرب، وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون. فعدى بحرف الجر واحد
معموله، وحذف معمول تحسين الأول، وبقي معموله الثاني، لأنه لم
يتنازع فيه، إنما التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول. وساغ
حذفه وحده، كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه: متى رأيت
أو فلت: زيد منطلق، لأن رأيت وقلت في هذه المسألة تنازعا زيد
منطلق، وفي الآية: لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد، وتقدير
المعنى: ولا تحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم الناس
الذين يبخلون به، فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلاً لما
آتاهم المحذوف، لا لتقديرهم بخلهم. ونظير هذا التركيب ظن الذي
مرّ بهند هي المنطلقة المعنى، ظن هنداً الشخص الذي مرّ بها هي
المنطلقة، فالذي تنازعه الفعلان هو الاسم الأول، فاعمل الفعل
الثاني وبقي الأول يطلب محذوفاً، ويطلب المفعول الثاني مثبتاً،
إذ لم يقع فيه التنازع. ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو
المبخول به خيراً لهم، وكان تحت الانتفاء قسمان: أحدهما أن لا
خير ولا شر، والآخر إثبات
الشر، أتى بالجملة التي تعين أحد القسمين
وهو: إثبات كونه شراً لهم.
وتضمنت هذه الآيات فنوناً من البلاغة والبديع. الاختصاص في:
أجر المؤمنين. والتكرار ف: يستبشرون، وفي: لن يضروا الله
شيئاً، وفي: اسمه في عدة مواضع، وفي: لا يحسبن الذين كفروا،
وفي ذكر الإملاء. والطباق في: اشتروا الكفر بالإيمان، وفي:
ليطلعكم على الغيب. والاستعارة في: يسارعون، وفي: اشتروا، وفي:
نملي وفي: ليزدادوا إثماً، وفي: الخبيث والطيب. والتجنيس
المماثل في: فآمنوا وإن تؤمنوا. والالتفات في: أنتم إن كان
خطاباً للمؤمنين، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لكان على ما هم
عليه، وإن كان خطاباً لغيرهم كان من تلوين الخطاب، وفي: تعملون
خبير فيمن قرأ بتاء الخطاب. والحذف في مواضع.
{لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ
اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ
وَقَتْلَهُمُ الأٌّنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ
عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّمٍ لِّلْعَبِيدِ * الَّذِينَ
قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ
لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ
قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَتِ
وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ
صَدِقِينَ * فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن
قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَبِ
الْمُنِيرِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَمَن زُحْزِحَ
عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما
الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَعُ الْغُرُورِ} .
{قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ}
وإن وما بعدها محكي بقالوا: وأجاز أبو
البقاء أن يكون محكياً بالمصدر، فيكون من باب الأعمال. قال:
وإعمالُ الأول أصلٌ ضعيف، ويزداد ضعفاً لأن الثاني فعل والأول
مصدر، وإعمال الفعل أقوى. والظاهر أنَّ ما فيما قالوا موصولة
بمعنى الذي، وأجيز أن تكون مصدرية.
وقرأ الجمهور: سنكتب وقتلهم بالنصب. ونقول: بنون المتكلم
المعظم. أو تكون للملائكة. وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء
على الغيبة. وقرأ حمزة: سيكتب بالياء مبنياً للمفعول، وقتلهم
بالرفع عطفاً على ما، إذ هي مرفوعة بسيكتب، ويقول بالياء على
الغيبة. وقرأ طلحة بن مصرّف: سنكتب ما يقولون. وحكى الداني
عنه: ستكتب ما قالوا بتاء مضمومة على معنى مقالتهم. وقرأ ابن
مسعود: ويقال ذوقوا. ونقلوا عن أبي معاذ النحويّ أنّ في حرف
ابن مسعود سنكتبُ ما يقولون ونقول لهم ذوقوا.
و {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ
عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى
يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ} والذين قالوا صفة للذين قالوا. وقال
الزجاج: الذين صفة للعبيد. قالابن عطية: وهذا مفسد للمعنى
والوصف انتهى. وهو كما قال. وجوزوا قطعة للرّفع، والنصب،
واتباعه بدلاً. وفي أن لا نؤمن تقدير حرف جر، فحذف وبقي على
الخلاف فيه: أهو في موضع نصب أو جر؟ وأن يكون مفعولاً به على
تضمين عهد معنى الزم، فكأنه ألزمنا أن لا نؤمن. وقرأ عيسى بن
عمر بقرُبان بضم الراء. قال ابن عطية: اتباعاً لضمة القاف،
وليس بلغة. لأنه ليس في الكلام فُعُلان بضم الفاء والعين. وحكى
سيبويه السلطان بضم اللام، وقال: إن ذلك على الاتباع انتهى.
ولم يقل سيبويه: إنَّ ذلك على الاتباع، بل قال: ولا نعلم في
الكلام فعلان ولا فعلان، ولا شيئاً من هذا النحو لم يذكره.
ولكنه جاء فعلان وهو قليل، قالوا: السلطان وهو اسم انتهى. وقال
الشارح: صاحب في اللغة لا يسكن ولا يتبع، وكذا ذكر التصريفيون
أنه بناء مستقبل. قالوا فيما لحقه زيادتان بعد اللام وعلى
فعلان ولم يجيء إلا اسماً: وهو قليل نحو سلطان.
{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ
مِّن قَبْلِكَ} وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه التقدير:
وإن يكذبوك فتسلّ به. ولا يمكن أن يكون فقد كذب رسل الجواب
لمضيه، إذ جواب الشرط مستقبل لا محالة لترتبه على المستقبل،
وما يوجد في كلام المعربين أنَّ مثل هذا من الماضي هو جواب
الشرط، فهو على سبيل التسامح لا الحقيقة. وبنى الفعل للمفعول
لأنه لم يقتصر في تكذيب الرسل على تكذيب اليهود وحدهم
لأنبيائهم، بل نبه على أنَّ من عادة اليهود وغيرهم من الأمم
تكذيب الأنبياء، فكان المعنى: فقد كذبت أمم من اليهود وغيرهم
الرسل. قيل: ونكر رسل لكثرتهم وشياعهم. ومن قبلك: متعلق بكذب،
والجملة من قوله: جاؤا في موضع الصفة لرسل انتهى. والباء في
بالبينات تحتمل الحال والتعدية، أي: حاؤا أممهم مصحوبين
بالبينات، أو جاؤا البينات. وقرأ الجمهور: والزبر. وقرأ ابن
عامر: وبالزبر، وكذا هي في مصاحف أهل الشأم. وقرأ هشام بخلاف
عنه وبالكتاب. وقرأ الجمهور: والكتاب. وإعادة حرف الجر في
العطف هو على سبيل التأكيد. وكان ذكر الكتاب مفرداً وإنَّ كان
مجموعاً من حيث المعنى لتناسب الفواصل، ولم يلحظ فيه أن يجمع
كالمعطوف عليهما لذلك.
وتضمنت هذه الآيات التجنيس المغاير في قوله: الذين قالوا:
والمماثل في: قالوا، وسنكتب ما قالوا، وفي: كذبوك فقد كذب.
والطباق في: فقير وأغنياء، وفي: الموت والحياة، وفي: زحزح عن
النار وأدخل الجنة. والالتفات في: سنكتب ونقول، وفي: أجوركم،
إذ تقدمه كل نفس. والتكرار في: لفظ الجلالة، وفي البينات.
والاستعارة في: سنكتب على قول من لم يجعل الكتابة حقيقة، وفي:
قدّمت أيديكم، وفي: تأكله النار، وفي: ذوقوا وذائقة. والمذهب
الكلامي في فلم قتلتموهم. والاختصاص في: أيديكم. والإشارة في:
ذلك، والشرط المتجوز فيه. والزيادة للتوكيد في: وبالزبر
وبالكتاب في قراءة من قرأ كذلك. والحذف في مواضع.
{لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَلِكُمْ
وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى
كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ
عَزْمِ الاٍّمُورِ * وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ الَّذِينَ
أُوتُواْ الْكِتَبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ
تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ
بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لاَ
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ
وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ
تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ فِى خَلْقِ
السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَاخْتِلَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ
لأّيَتٍ لاٌّوْلِى الأٌّلْبَبِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ رَبَّنَآ
مَا خَلَقْتَ هَذا بَطِلاً سُبْحَنَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ * رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ
أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ أَنْصَرٍ * رَّبَّنَآ
إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَنِ
أَنْءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ
لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَتِنَا وَتَوَفَّنَا
مَعَ الأٌّبْرَارِ * رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا
عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّكَ
لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ
أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ
أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَجَرُواْ
وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَرِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى
وَقَتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئَتِهِمْ وَلائدْخِلَنَّهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى
مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ
وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ * لاَ يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَدِ * مَتَعٌ قَلِيلٌ
ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّتٌ تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ
اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ * وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ
إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَشِعِينَ للَّهِ لاَ
يَشْتَرُونَ بِئَايَتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلئِكَ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اصْبِرُواْ
وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} .
{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ
تَكْتُمُونَهُ} وارتفاع ولا تكتموانه لكونه وقع حالاً، أي: غير
كاتمين له وليس داخلاً في المقسم عليه. قالوا وللحال لا العطف،
كقوله: {فاستقيما ولا تتبعان} وقوله: ولا يسأل في قراءة من خفف
النون ورفع اللام. وقيل: الواو للعطف، وهو من جملة المقسم
عليه. ولمّا كان منفياً بلا لم يؤكد، تقول: والله لا يقوم زيد،
فلا تدخله النون. وهذا الوجه عندي أعرب وأفصح، لأن الأول يحتاج
إلى إضمار مبتدأ، قبل لا، حتى تكون الجملة اسمية في موضع
الحال، إذ المضارع المنفي بلالاً تدخل عليه واو الحال. وقرأ
عبد الله: ليبينونه بغير نون التوكيد. قال ابن عطية: وقد لا
تلزم هذه النون لام التوكيد، قاله: سيبويه انتهى. وهذا ليس
معروفاً من قول البصريين، بل تعاقب اللام والنون عندهم ضرورة.
والكوفيون يجيزون ذلك في سعة الكلام، فيجزون: والله لا قوم،
ووالله أقومن. وقال الشاعر:
وعيشك يا سلمى لا وقن إنني
لما شئت مستحل ولو أنه القتل
وقال آخر:
يميناً لأبغض كل امرىء
يزخرف قولاً ولا يفعل
{لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ
وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ
تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ} .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: لا يحسبن ولا يحسبنهم بالياء فيهما،
ورفع باء يحسبنهم على إسناد يحسبن للذين، وخرجت هذه القراءة
على وجهين: أحدهما ما قاله أبو عليّ: وهو أن لا يحسبن لم يقع
على شيء، والذين رفع به. وقد تجيء هذه الأفعال لغواً لا في حكم
الجمل المفيدة نحو قوله:
وما خلت أبقي بيننا من مودّة
عراض المداكي المشنقات القلائصا
وقال الخليل: العرب تقول: ما رأيته يقول ذلك إلا زيد، وما
ظننته يقول ذلك إلا زيد. قال ابن عطية: فتتجه القراءة بكون فلا
يحسبنهم بدلاً من الأول، وقد تعدّى إلى المفعولين وهما: الضمير
وبمفازة، واستغنى بذلك عن المفعولين، كما استغنى في قوله:
بأي كتاب أم بأية سنة
ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب
أي: وتحسب حبهم عاراً عليّ. والوجه الثاني ما قاله الزمخشري:
وهو أن يكون المفعول الأول محذوفاً على لا يحسبنهم الذين
يفرحون بمفازة، بمعنى: لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين.
وفلا يحسبنهم تأكيد، وتقدّم لنا الرد على الزمخشري في تقديره
لا يحسبنهم الذين في قوله: {ولا يحسبن الذين كفروا إنما} وإن
هذا التقدير لا يصح فيطلع هناك. وتعدى في هذه القراءة فعل
الحسبان إلى ضميريه المتصلين: المرفوع والمنصوب، وهو مما يختص
به ظننت وأخواتها، ومن غيرها: وجدت، وفقدت، وعدمت، وذلك مقرّر
في علم النحو.
وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم: لا تحسبن، وفلا تحسبنهم بتاء
الخطاب، وفتح الباء فيهما خطاباً للرسول، وخرجت هذه القراءة
على وجهين: أحدهما ذكره ابن عطية، وهو أن المفعول الأول هو:
الذين يفرحون. والثاني محذوف لدلالة ما بعده عليه كما قيل
آنفاً في المفعولين. وحسن تكرار الفعل فلا يحسبنهم لطول
الكلام، وهي عادة العرب، وذلك تقريب لذهن المخاطب. والوجه
الثاني ذكره الزمخشري، قال: وأحد المفعولين الذين يفرحون،
والثاني بمفازة. وقوله: فلا يحسبنهم توكيد تقديره لا يحسبنهم،
فلا يحسبنهم فائزين. وقرىء لا تحسبن فلا تحسبنهم بتاء الخطاب
وضم الباء فيهما خطاباً للمؤمنين. ويجيء الخلاف في المفعول
الثاني كالخلاف فيه في قراءة الكوفيين. وقرأ نافع وابن عامر:
لا يحسبن بياء الغيبة، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب، وفتح الباء
فيهما، وخرجت هذه القراءة على حذف مفعولي يحسبن لدلالة ما
بعدهما عليهما. ولا يجوز في هذه القراءة البدل الذي جوّز في
قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين لاختلاف الفاعل.
وإذا كان فلا يحسبنهم توكيداً أو بدلاً، فدخول الفاء إنما
يتوجه على أن تكون زائدة، إذ لا يصح أن تكون للعطف، ولا أن
تكون فاء جواب الجزاء. وأنشدوا على زيادة الفاء قول الشاعر:
حتى تركت العائدات يعدنه
يقلن فلا تبعد وقلت له: ابعد
وقال آخر:
لما اتقى بيد عظيم جرمها
فتركت ضاحي: كفه يتذبذب
أي: لا تبعد، وأي تركت. وقرأ النخعي ومروان بن الحكم بما آتوا
بمعنى: أعطوا.
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً} وجوزوا في
الذين النعت والقطع للرفع والنصب، وعلى جنوبهم حال معطوفة على
حال، وهنا عطف المجرور على صريح الاسم. وفي قوله: دعانا لجنبه
أو قاعداً أو قائماً عطف صريح الاسم على المجرور.
{ويتفكرون في خلق السموات والأرض} الظاهر أنه معطوف على الصلة،
فلا موضع له من الإعراب. وقيل: الجملة في موضع نصب على الحال،
عطفت على الحال قبلها.
{رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَطِلاً سُبْحَنَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ} هذه الجملة محكية بقول محذوف تقديره:
يقولون. وهذا الفعل في موضع نصب على الحال.
انتصاب باطلاً على أنه نعت لمصدر محذوف. وقيل: انتصب باطلاً
على الحال من المفعول. وقيل: انتصب على إسقاط الباء، أي بباطل،
بل خلقته بقدرتك التي هي حق. وقيل: على إسقاط اللام وهو مفعول
من أجله، وفاعل بمعنى المصدر أي بطولاً. وقيل: على أنه مفعول
ثان لخلق، وهي بمعنى جعل التي تتعدى إلى اثنين، وهذا عكس
المنقول في النحو وهو: أنَّ جعل يكون بمعنى خلق، فيتعدى لواحد.
أما أنّ خلق يكون بمعنى جعل فيتعدى لاثنين، فلا أعلم أحداً ممن
له معرفة ذهب إلى ذلك. والباطل: الزائل الذاهب ومنه:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
والأحسن من أعرايبه انتصابه على الحال من هذا، وهي حال لا
يستغنى عنها نحو قوله: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما
لاعبين} لا يجوز في هذه الحال أن تحذف لئلا يكون المعنى على
النفي، وهو لا يجوز.
{رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} ومن مفعوله لفعل الشرط. وحكى بعض
المعربين ما نصه، وأجاز قوم أن يكون من منصوباً بفعل دل عليه
جواب الشرط وهو: فقد أخزيته. وأجاز آخرون أن يكون من مبتدأ،
والشرط وجوابه الخير انتهى. أما القول الأول فصادر عن جاهل
بعلم النحو، وأما الثاني فإعراب من مبتدأ في غاية الضعف. وأما
إدخاله جواب الشرط في الخبر مع فعل الشرط فجهالة. ومن أعظم
وزراً ممن تكلم في كتاب الله بغير علم.
{رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً
يُنَادِى لِلإِيمَنِ أَنْءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَئَامَنَّا}
سمع إن دخل على مسموع تعدي لواحد نحو: سمعت كلام زيد، كغيره من
أفعال الحواس. وإن دخل على ذات وجاء بعده فعل أو اسم في معناه
نحو: سمعت زيداً يتكلم، وسمعت زيداً يقول كذا، ففي هذه المسألة
خلاف. منهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم إن كان قبله نكرة
كان صفة لها، أو معرفة كان حالاً منها. ومنهم من ذهب إلى أن
ذلك الفعل أو الاسم هو في موضع المفعول الثاني لسمع، وجعل سمع
مما يعدي إلى واحد إن دخل على مسموع، وإلى اثنين إن دخل على
ذات، وهذا مذهب أبي علي الفارسي. والصحيح القول الأول، وهذا
مقرر في علم النحو. فعلى هذا يكون ينادي في موضع الصفة لأن
قبله نكره، وعلى مذهب أبي علي يكون في موضع المفعول الثاني.
وذهب الزمخشري إلى القول الأول قال: تقول: سمعت رجلاً يقول
كذا، وسمعت زيداً يتكلم، لتوقع الفعل على الرّجل، وتحذف
المسموع لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالاً عنه، فأغناك عن
ذكره. ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بدٌّ. وإن يقال: سمعت
كلام فلان، أو قوله انتهى كلامه. وقوله: ولولا الوصف أو الحال
إلى آخره ليس كذلك، بل لا يكون وصف ولا حال، ويدخل سمع على
ذات، لا على مسموع. وذلك إذا كان في الكلام ما يشعر بالمسموع
وإن لم يكن وصفاً ولا حالاً، ومنه قوله تعالى: {هل يسمعونكم إذ
تدعون} أغني ذكر ظرف الدعاء عن ذكر المسموع.
واللام متعلقة بينادي، ويعدي نادي، ودعا،
وندب باللام وبالي، كما يعدي بهما هدي لوقوع معنى الاختصاص،
وانتهاء الغاية جميعاً. ولهذا قال بعضهم: إن اللام بمعنى إلى.
لما كان ينادي في معنى يدعو، حسن وصولها باللام بمعنى: إلى.
وقيل: اللام لام العلة، أي لأجل الإيمان. وقيل: اللام بمعنى
الباء، أي بالإيمان. والسماع محمول على حقيقته، أي سمعنا صوت
مناد. قيل: ومن جعل المنادي هو القرآن، فالسماع عنده مجاز عن
القبول، وأن مفسرة التقدير: أنْ آمنوا. وجوز أن تكون مصدرية
وصلت بفعل الأمر، أي: بأن آمنوا. فعلى الأول لا موضع لها من
الإعراب، وعلى الثاني لها موضع وهو الر، أو النصب على الخلاف.
وعطف فآمنا بالفاء مؤذن بتعجيل القبول، وتسبيب الإيمان عن
السماع من غير تراخ، والمعنى: فآمنا بك أو بربنا.
{رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} ويجوز
أن يكون متعلقاً بمحذوف أي: ما وعدتنا منزلاً على رسلك، أو
محمولاً على رسلك، لأنَّ الرسل يحملون ذلك، فإنما عليه ما حمل
انتهى. وهذا الوجه الذي ذكر آخراً أنه يجوز لبس بجائز، لأن من
قواعد النحويين أن الجارّ والمجرور والظرف متى كان العامل
فيهما مقيداً فلا بد من ذكر ذلك العامل، ولا يجوز حذفه، ولا
يحذف العامل إلا إذا كان كوناً مطلقاً. مثال ذلك: زيد ضاحك في
الدار، لا يجوز حذف ضاحك ألبتة. وإذا قلت: زيد في الدار
فالعامل كون مطلق يحذف. وكذلك زيد ناج من بني تميم، لا يجوز
حذف ناج. ولو قلت: زيد من بني تميم جاز على تقدير كائن من بني
تميم، والمحذوف فيما جوزه الزمخشري وهو قوله: منزلاً أو
محمولاً، لا يجوز حذفه على ما تقرر في علم النحو. وإذا كان
العامل في الظرف أو المجرور مقيداً صار ذلك الظرف أو المجرور
ناقصاً، فلا يجوز أن يقع صلة، ولا خبر إلا في الحال. ولا في
الأصل، ولا صفة، ولا حالاً.
{وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَمَةِ} يوم
القيامة: معمول لقوله ولا تخزنا، ويصلح أن يكون معمولها لتخزنا
وآتنا ووعدتنا ويكون من باب الإعمال.
{أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ
أَوْ أُنثَى} ومنكم في موضع الصفة، أي: كائن منكم. وقوله: من
ذكر أو أنثى، قيل: من تبيين لجنس العامل، فيكون التقدير الذي
هو ذكر أو أنثى. ومن قيل: زائدة لتقدم النفي في الكلام. وقيل:
مِنْ في موضع الحال من الضمير الذي في العامل في منكم أي: عامل
كائن منكم كائناً من ذكر أو أنثى. وقال أبو البقاء: من ذكر أو
أنثى بدل من منكم، بدل الشيء من الشيء، وهما لعينٍ واحدة
انتهى. فيكون قد أعاد العامل وهو حرف الجر، ويكون بدلاً
تفصيلياً من مخاطب. ويعكر على أن يكون بدلاً تفصيلياً عطفه
بأو، والبدل التفصيلي لا يكون إلا بالواو كقوله:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
ويعكر على كونه من مخاطب أنَّ مذهب الجمهور: أنه لا يجوز أن
يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين
واحدة، وأجاز ذلك الأخفش. هكذا أطلق بعض أصحابنا الخلاف وقيده
بعضهم بما كان البدل فيه لإحاطة، فإنه يجوز إذ ذاك. وهذا
التقييد صحيح، ومنه «تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا» فقوله
لأوّلنا وآخرنا بدل من ضمير المتكلم في قوله: لنا وقول الشاعر:
فما برحت أقدامنا في مقامة
ثلاثتنا حتى أرينا المنائيا
فثلاثتنا بدل من ضمير المتكلم. وأجاز ذلك لأنه بدل في معنى
التوكيد، ويشهد لمذهب الأخفش قول الشاعر:
بكم قريش كفينا كل معضلة
وأم نهج الهدى من كان ضليلا
وقول الآخر:
وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى
بمستلئم مثل الفنيق المرجل
فقريش بدل من ضمير المخاطب. وبمستلئم بدل من ضمير المتكلم. وقد
تجيء أو في معنى الواو إذا عطفت ما لا بد منه كقوله:
قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم
من بين ملجم مهره أو سافع
يريد: وسافع. فكذلك يجوز ذلك هنا في أو، أن
تكون بمعنى الواو، لأنه لما ذكر عمل عامل دل على العموم، ثم
أبدل منه على سبيل التأكيد، وعطف على حد الجزئين ما لا بد منه،
لأنه لا يؤكد العموم إلا بعموم مثله، فلم يكن بدّ من العطف حتى
يفيد المجموع من المتعاطفين تأكيد العموم، فصار نظير من بين
ملجم مهره أو سافع. لأنّ بين لا تدخل على شيء واحد، فلا بد من
عطف مصاحب مجرورها.
{وَقَتَلُواْ وَقُتِلُواْ} وقرأ حمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا
بالبناء للمفعول ثم بالمبني للفاعل، فتتخرج هذه القراءة على أن
الواو لا تدل على الترتيب، فيكون الثاني وقع أولاً ويجوز أن
يكون ذلك على التوزيع فالمعنى: قتل بعضهم وقاتل باقيهم. وقرأ
عمر بن عبد العزيز: وقتلوا وقتلوا بغير ألف، وبدأ ببناء الأول
للفاعل، وبناء الثاني للمفعول، وهي قراءة حسنة في المعنى،
مستوفية للحالين على الترتيب المتعارف. وقرأ محارب بن دثار:
وقتلوا بفتح القاف وقاتلوا. وقرأ طلحة بن مصرف: وقتلوا وقاتلوا
بضم قاف الأولى، وتشديد التاء، وهي في التخريج كالقراءة
الأولى.
{لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَتِهِمْ وَلائدْخِلَنَّهُمْ
جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَرُ} لأكفرن: جواب قسم
مذوف، والقسم وما تلقى به خبر عن قوله: {فالذين هاجروا} وفي
هذه الآية ونظيرها من قوله: {والذين هاجروا في الله من بعد ما
ظلموا لنبوئنهم} والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وقول
الشاعر:
جشأت فقلت اللذ خشيت ليأتين
وإذا أتاك فلات حين مناص
رد على أحمد بن يحيى ثعلب إذ زعم أن الجملة الواقعة خبراً
للمبتدأ لا تكون قسمية.
{ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ
عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} انتصب ثواباً على المصدر المؤكد،
وإن كان الثواب هو المثاب به، كما كان العطاء هو المعطى.
واستعمل في بعض المواضع بمعنى المصدر الذي هو الإعطاء، فوضع
ثواباً موضع إثابة، أو موضع تثويباً، لأنَّ ما قبله في معنى
لأثيبنهم. ونظيره صنع الله ووعد الله. وجوّز أن يكون حالاً من
جنات أي: مثاباً بها، أو من ضمير المفعول في: {ولأدخلنهم} أي
مثابين. وأن يكون بدلاً من جنات على تضمين، ولأدخلنهم معنى:
ولأعطينهم. وأن يكون مفعولاً بفعل محذوف يدل عليه المعنى أي:
يعطيهم ثواباً. وقيل: انتصب على التمييز. وقال الكسائي: هو
منصوب على القطع، ولا يتوجه لي معنى هذين القولين هنا.
وأعربوا عنده حسن الثواب مبتدأ، وخبراً في موضع خبر المبتدأ
الأول. والأحسن أن يرتفع حسن على الفاعلية، إذ قد اعتمد الظرف
بوقوعه خبراً فالتقدير: والله مستقر، أو استقرّ عنده حسن
الثواب.
وانتصاب نزلاً قالوا: إما على الحال من جنات لتخصصها بالوصف،
والعامل فيها العامل في لهم. وإما بإضمار فعل أي: جعلها نزلاً.
وإمّا على المصدر المؤكد فقدره ابن عطية: تكرمة، وقدره
الزمخشري: رزقاً أو عطاء. وقال افرّاء: انتصب على التفسير كما
تقول: هو لك هبة وصدقة انتهى. وهذا القول راجع إلى الحال.
{وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} وللأبرار متعلق
بخير، والأبرار هم المتقون الذين أخبر عنهم بأن لهم جنات.
وقيل: فيه تقديم وتأخير. أي الذي عند الله للأبرار خير لهم،
وهذا ذهول عن قاعدة العربية من أن المجرور إذ ذاك يتعلق بما
تعلق به الظرف الواقع صلة للموصول، فيكون المجرور داخلاً في
حيز الصلة، ولا يخبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته
ومتعلقاتها.
{خَشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ
بِئَايَتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} كما اشترت بها أحبارهم
الذين لم يؤمنوا. وانتصاب خاشعين على الحال من الضمير في يؤمن،
وكذلك لا يشترون هو في موضع نصب على الحال. وقيل: حال من
الضمير في إليهم، والعامل فيها أنزل. وقيل: حال من الضمير في
لا يشترون، وهما قولان ضعيفان. ومن جعل من نكرة موصوفة، يجوز
أن يكون خاشعين ولا يشترون صفتين للنكرة. وجمع خاشعين على معنى
من كما جمع في وما أنزل إليهم. وحمل أولاً على اللفظ في قوله:
يؤمن، فأفرد وإذا اجتمع الحملان، فالأولى أن يبدأ بالحمل على
اللفظ.
وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع
الاستعارة. عبر بأخذ الميثاق عن التزامهم أحكام ما أنزل عليهم
من التوراة والإنجيل، وبالنبذ وراء ظهورهم عن ترك عملهم بمقتضى
تلك الأحكام، وباشتراء ثمن قليل عن ما تعوضوه من الحطام على
كتم آيات الله، وبسماع المناد إن كان القرآن عن ما تلقوه من
الأمر والنهي والوعد والوعيد بالاستجابة عن قبول مسألتهم،
وبانتفاء التضييع عن عدم مجازته على يسير أعمالهم، وبالتقلب عن
ضربهم في الأرض لطلب المكاسب، وبالمهاد عن المكان المستقر فيه،
وبالنزل عما يعجل الله لهم في الجنة من الكرامة، وبالخشوع الذي
هو تهدم المكان وتغير معالمه عن خضوعهم وتذللهم بين يديه،
وبالسرعة التي هي حقيقة في المشي عن تعجيل كرامته. قيل: ويحتمل
أن يكون الحساب استعير للجزاء، كما استعير «ولم أدر ما حسابيه»
لأن الكفار لا يقام لهم حساب كما قال تعالى: {فحبطت أعمالهم
فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} والطباق في: البيينة للناس
ولا تكتمونه، وفي السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار،
فالسماء جهة العلو والأرض جهة السفل، والليل عبارة عن الظلمة
والنهار عبارة عن النور، وفي: قياماً وقعوداً ومن: ذكر أو
أنثى. والتكرار: في لا تحسبن فلا تحسبنهم، وفي: ربنا في خمسة
مواضع، وفي: فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا إن كان المعنى
واحد وفي: ما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وف: ثواباً وحسن
لثواب. والاختصاص في: لأولي الألباب، وفي: وما للظالمين من
أنصار، وفي: توفنا مع الأبرار، وفي: ولا تحزنا يوم القيامة،
وفي: وما عند الله خير للأبرار. والتجنيس المماثل في: أن آمنوا
فآمنا، وفي: عمل عامل منكم. والمغاير في: مناداً ينادي.
والإشارة في: ما خلقت هذا باطلاً، والحذف في مواضع.
|