الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط سورة الجن
ثمان وعشرون آية مكية
وأنه استمع في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله؛ أي استماع
وصفوا قرآناً بقولهم {عجباً} وصفاً بالمصدر على سبيل المبالغة.
وقرأ الحرميان والأبوان: بفتح الهمزة من قوله: {وأنه تعالى}
وما بعده، وهي اثنتا عشرة آية آخرها {وأنا منا المسلمون} ؛
وباقي السبعة: بالكسر. فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على
قوله: {إنا سمعنا} ، فهي داخلة في معمول القول. وأما الفتح،
فقال أبو حاتم: هو على {أوحى} ، فهو كله في موضع رفع على ما لم
يسم فاعله. انتهى. وهذا لا يصح، لأن من المعطوفات ما لا يصح
دخوله تحت {أوحى} ، وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم، كقوله:
{وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} . ألا ترى أنه لا يلائم
{أوحى إليّ} ، {أنا كنا نقعد منها مقاعد} ، وكذلك باقيها؟
وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور
في به من قوله: {فآمنا به} : أي وبأنه، وكذلك باقيها، وهذا
جائز على مذهب الكوفيين، وهو الصحيح. وقد تقدم احتجاجنا على
صحة ذلك في قوله: {وكفر به والمسجد الحرام} . وقال مكي: هو
أجود في أن منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر مع أن. وقال
الزجاج: وجهه أن يكون محمولاً على آمنا به، لأنه معناه: صدقناه
وعلمناه، فيكون المعنى: فآمنا به أنه تعالى جد ربنا؛ وسبقه إلى
نحوه الفراء قال: فتحت أن لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد
الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض، فلا يمنعك ذلك من إمضائهن
على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح أن نحو: صدقنا وشهدنا.
وأشار الفراء إلى أن بعض ما فتح لا يناسب
تسليط آمنا عليه، نحو قوله: {وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن
على الله كذباً} ، وتبعهما الزمخشري فقال: ومن فتح كلهن فعطفاً
على محل الجار والمجرور في آمنا به، كأنه قيل: صدقناه وصدقنا
أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي.
انتهى. ولم يتفطن لما تفطن له الفراء من أن بعضها لا يحسن أن
يعمل فيه آمنا.
وقرأ عكرمة: جد منوباً، ربنا مرفوع الباء، كأنه قال: عظيم هو
ربنا، فربنا بدل، وقرأ عكرمة: جداً ربنا، بفتح الجيم والدال
منوناً، ورفع ربنا وانتصب جداً على التمييز المنقول من الفاعل،
أصله تعالى جد ربنا {وَأَنَّهُ تَعَلَى جَدُّ} . وقرأ قتادة
وعكرمة أيضاً: جداً بكسر الجيم والتنوين نصباً، ربنا رفع. قال
ابن عطية: نصب جداً على الحال، ومعناه: تعالى حقيقة ومتمكناً.
وقال غيره: هو صفة لمصدر محذوف تقديره: تعاليا جداً، وربنا
مرفوع بتعالى.
وانتصب {كذباً} في قراءة الجمهور بتقول، لأن الكذب نوع من
القول، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي قولا كذباً، أي مكذوباً
فيه. وفي قراءة الشاذ على أنه مصدر لتقول، لأنه هو الكذب، فصار
كقعدت جلوساً.
وظنوا وظننتم، كل منهما يطلب، أن لن يبعث {وَأَنَّهُمْ
ظَنُّواْ كَمَا} ، فالمسألة من باب الإعمال، وإن هي المخففة من
الثقيلة.
الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصاب وتعدت إلى واحد، والجملة
من ملئت {أَحَداً * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ
فَوَجَدْنَهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} في موضع
الحال، وأجيز أن تكون تعدت إلى اثنين، فملئت في موضع المفعول
الثاني. وقرأ الأعرج: مليت بالياء دون همز، والجمهور: بالهمز،
وشديداً: صفة للحرس على اللفظ لأنه اسم جمع، كما قال:
أخشى رجيلاً أو ركيباً عادياً
ولو لحظ المعنى لقال: شداداً بالجمع.
{فمن يستمع الآن} ، الآن ظرف زمان للحال،
ويستمع مستقبل، فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال، كما قال:
سأسعى الآن إذ بلغت اناها
ودون في موضع الصفة لمحذوف، أي ومنا قوم دون ذلك. ويجوز حذف
هذا الموصوف في التفصيل بمن، حتى في الجمل، قالوا: منا ظعن
ومنا أقام، يريدون: منا فريق ظعن ومنا فريق أقام، والجملة من
قوله: كنا طرائق قدداً {الصَّلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ} تفسير
للقسمة المتقدمة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة: أهواء مختلفة،
وقىل: فرقاً مختلفة. وقال الزمخشري: أي كنا ذوي مذاهب مختلفة،
أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا في
طرائق مختلفة كقوله:
كما عسل الطريق الثعلب
أو كانت طرائقنا قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة
الضمير المضاف إليه مقامه. انتهى. وفي تقديريه الأولين حذف
المضاف من طرائق وإقامة المضاف إليه مقامه، إذ حذف ذوي ومثل.
وأما التقدير الثالث، وهو أن ينتصب على إسقاط في، فلا يجوز ذلك
إلا في الضرورة، وقد نص سيبويه على أن عسل الطريق شاذ، فلا
يخرج القرآن عليه.
وقرأ ابن وثاب والأعمش والجمهور: {فلا ىخاف} ، وخرجت قراءتهما
على النفي. وقىل: الفاء زائدة ولا نفي وليس بشيء، وكان الجواب
بالفاء أجود من المجيء بالفعل مجزوماً دون الفاء، لأنه إذا كان
بالفاء كان إضمار مبتدأ، أي فهو لا يخاف. والجملة الاسمية أدل
وآكد من الفعلية على تحقق مضمون الجملة.
وقرأ الجمهور: {وأن المساجد} ، بفتح الهمزة عطفاً على {أنه
استمع} ، فهو من جملة الموحى.
وقرأ الجمهور: {وأنه لما قام عبد الله} بفتح الهمزة، عطفاً على
قراءتهم {وأن المساجد} بالفتح. وقرأ ابن هرمز وطلحة ونافع وأبو
بكر. بكسرها على الاستئناف.
{إلا بلاغاً} ، قال الحسن: هو استثناء
منقطع، أي لن يجيرني أحد، لكن إن بلغت رحمني بذلك. والإجارة
للبلاغ مستعارة، إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته. وقيل على
هذا المعنى: هو استثناء متصل، أي لن يجيرني في أحد، لكن لم أجد
شيئاً أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيزني الله،
فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحداً وعلى البدل وهو الوجه،
لأن ما قبله نفياً، وعلى البدل خرجه الزجاج. وقال أبو عبد الله
الرازي: هذا الاستثناء منقطع، لأنه لم يقل: ولم أجد ملتحداً
بل، قال: {من دونه} ؛ والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت
قوله: {من دونه ملتحداً} لأنه لا يكون من دون الله، بل يكون من
الله وبإعانته وتوفيقه. وقال قتادة: التقدير لا أملك إلا
بلاغاً إليكم، فأما الإيمان والكفر فلا أملك. انتهى، وفيه بعد
لطول الفصل بينهما. وقيل، إلا في تقدير الانفصال: إن شرطية ولا
نافية، وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه، والتقدير: إن لم أبلغ
بلاغاً من الله ورسالته، وهذا كما تقول: إن لا قياماً قعوداً،
أي إن لم تقيم قياماً فاقعد قعوداً، وحذف هذا الفعل قد يكون
لدلالة عليه بعده أو قبله، كما حذف في قوله:
فطلقها فلست لها بكفءوإلا يعل مفرقك الحسام التقدير: وإن لا
تطقها، فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه، ومن لابتداء الغاية.
{ورسالاته} ، قيل: عطف على {بلاغاً} ، أي إلا أن أبلغ عن الله،
أو أبلغ رسالاته. الظاهر أن رسالاته عطف على الله، أي إلا أن
أبلغ عن الله وعن رسالاته.
وقرأ الجمهور: {فإن له} بكسر الهمزة. وقرأ
طلحة: بفتحها، والتقدير: فجزاؤه أن له. قال ابن خالويه: وسمعت
ابن مجاهد يقول: ما قرأ به أحد وهو لحن، لأنه بعد فاء الشرط.
وسمعت ابن الأنباري يقول: هو ضراب، ومعناه: فجزاؤه أن له نار
جهنم. انتهى. وكان ابن مجاهد إماماً في القراآت، ولم يكن متسع
النقل فيها كابن شنبوذ، وكان ضعيفاً في النحو. وكيف يقول ما
قرأ به أحد؟ وهذا كطلحة بن مصرّف قرأ به. وكيف يقول وهو لحن؟
والنحويون قد نصوا على أن إن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح
والكسر. وجمع {خالدين حملاً} على معنى من، وذلك بعد الحمل على
لفظ من في قوله: {يعص} ، {فإن له} .
{حتى إذا رأوا} : حتى هنا حرف ابتداء، أي يصلح أن يجيء بعدها
جملة الابتداء والخبر، ومع ذلك فيها معنى الغاية. قال
الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له؟ قلت:
بقوله {يكونون عليه لبداً} .
ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله، وهو معلق عنه لأن
من استفهام. ويجوز أن تكون من موصولة في موضع نصب بسيعلمون،
وأضعف خبر مبتدأ محذوف. والجملة صلة لمن، وتقديره: هو أضعف،
وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصراً.
وقال ابن عباس: إلا بمعنى لكن، فجعله استثناء منقطعاً. وقيل:
إلا بمعنى ولا أي، ولا من ارتضى من رسول وعالم خبر مبتدأ
محذوف، أي هو عالم الغيب، أو بدل من ربي. وقرىء: عالم بالنصب
على المدح.
وأحصى كل شيء عدداً {أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن
رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ} : أي معدوداً محصوراً، وانتصابه
على الحال من كل شيء، وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم.
ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء. وقال أبو
البقاء: ويجوز أن يكون تمييزاً. انتهى، فيكون منقولاً من
المفعول، إذا أصله: وأحصى عدد كل شيء، وفي كونه ثابتاً من لسان
العرب خلاف.
سورة المزمل
عشرون آية مكية
وإلا قليلاً استثناء من النصف، كأنه قال:
قم أقل من نصف الليل. والضمير في منه وعليه للنصف، والمعنى:
التخيير بين أمرين، بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت،
وبين أن يخنار أحد الأمرين، وهما النقصان من النصف والزيادة
عليه. انتهى. فلم يتنبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول، لأنه
على تقديره: قم أقل من نصف الليل كان قوله، أو انقص من نصف
الليل تكراراً. وإذا كان نصفهبدلاً من قوله: {إلا قليلاً} ،
فالضمير في نصفه إما أن يعود على المبدل منه، أو على المستثنى
منه وهو الليل، لا جائز أن يعود على المبدل منه، لأنه يصير
استثناء مجهول من مجهول، إذ التقدير إلا قليلاً نصف القليل،
وهذا لا يصح له معنى البتة. وإن عاد الضمير على الليل، فلا
فائدة في الاستثناء من الليل، إذ كان يكون أخصر وأوضح وأبعد عن
الإلباس أن يكون التركيب قم الليل نصفه. وقد أبطلنا قول من
قال: إلا قليلاً استثناء من البدل وهو نصفه، وأن التقدير: قم
الليل نصفه إلا قليلاً منه، أي من النصف. وأيضاً ففي دعوى أن
نصفه بدل من إلا قليًلا، والضمير في نصفه عائد على الليل،
إطلاق القليل على النصف، ويلزم أيضاً أن يصير التقدير: إلا
نصفه فلا تقمه، أو انقص من النصف الذي لا تقومه، وأزد عليه
النصف الذي لا تقومه، وهذا معنى لا يصح، وليس المراد من الآية
قطعاً.
وقال الزمخشري: وإن شئت جعلت نصفه بدلاً من
قليلاً، وكان تخييراً بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين
قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد علىه؛ وإنما وصف النصف
بالقلة بالنسبة إلى الكل. وإن شئت قلت: لما كان معنى {قم الليل
إلا قليلاً نصفه} : إذا أبدلت النصف من الليل، قم أقل من نصف
الليل، رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف، فكأنه
قيل: قم أقل من نصف الليل، وقم أنقص من ذلك إلا قل أو أزيد منه
قليلاً، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث، ويجوز
إذا أبدلت نصفه من قليلاً وفسرته به أن تجعل قليلاً الثاني
بمعنى نصف النصف وهو الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً
نصفه، وتجعل المزيد على هذا القليل، أعني الربع نصف الربع،
كأنه قيل: أو زد عليه قليلاً نصفه. ويجوز أن تجعل الزيادة
لكونها مطلقة تتمة الثلث، فيكون تخييراً بين النصف والثلث
والربع. انتهى. وما أوسع خيال هذا الرجل، فإنه يجوز ما يقرب
وما يبعد، والقرآن لا ينبغي، بل لا يجوز أن يحمل إلا على أحسن
الوجوه التي تأتي في كلام العرب، كما ذكرناه في خطبة هذا
الكتاب. وممن نص على جواز أن يكون نصفه بدلاً من الليل أو من
قليلاً الزمخشري، كما ذكرنا عنه. وابن عطية أورده مورد
الاحتمال، وأبو البقاء، وقال: أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلاً
من قليلاً، أو زد عليه، والهاء فيهما للنصف. فلو كان الاستثناء
من النصف لصار التقدير: قم نصف الليل إلا قليلاً، أو انقص منه
قليلاً. والقليل المستثنى غير مقدر، فالنقصان منه لا يتحصل.
انتهى. وأما الحوفي فأجاز أن يكون بدلاً من الليل، ولم يذكر
غيره.
قال ابن عطية: وقد يحتمل عندي قوله: {إلا قليلاً} أنه استثناء
من القيام، فيجعل الليل اسم جنس.
وانتصب {تبتيلاً} على أنه مصدر على غير
الصدر، وحسن ذلك كونه فاصلة. وقرأ الأخوان وابن عامر وأبو بكر
ويعقوب: رب بالخفض على البدل من ربك؛ وباقي السبعة: بالرفع؛
وزيد بن عليّ: بالنصب؛ والجمهور: المشرق والمغرب موحدين؛ وعبد
الله وأصحابه وابن عباس: بجمعهما. وقال الزمخشري، وعن ابن
عباس: على القسم، يعني: خفض رب بإضمار حرف القسم، كقولك: الله
لأفعلن، وجوابه: لا إله إلا هو، كما تقول: والله لا أحد في
الدار إلا زيد. انتهى. ولعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس،
إذ فيه إضمار الجار في القسم، ولا يجوز عند البصريين إلا في
لفظة الله، ولا يقاس عليه. ولأن الجملة المنفية في جواب القسم
إذا كانت اسمية فلا تنفيء إلا بما وحدها، ولا تنفي بلا إلا
الجملة المصدرة بمضارع كثيراً وبماض في معناه قليلاً، نحو قول
الشاعر:
ردوا فوالله لا زرناكم أبداًما دام في مائنا ورد لورّاد
والزمخشري أورد ذلك على سبيل التجويز والتسليم، والذي ذكره
النحويون هو نفيها بما نحو قوله:
لعمرك ما سعد بخلة آثمولا نأنأ يوم الحفاظ ولا حصر
يوماً {وَبِيلاً * فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً
يَجْعَلُ} منصوب بتتقون، منصوب نصب المفعول به على المجاز، أي
كيف تستقبلون هذا اليوم العظيم الذي من شأنه كذا وكذا؟ والضمىر
في {يجعل} لليوم، أسند إليه الجعل لما كان واقعاً له على سبيل
المجاز. وقال الزمخشري: {يوماً} مفعول به، أي فكيف تقون أنفسكم
يوم القيامة.
واتقى يتعدى إلى واحد، ووقى يتعدى إلى
اثنين. قال تعالى: {ووقاهم عذاب الجحيم} ، ولذلك قدره
الزمخشري: تقون أنفسكم يوم القيامة، لكنه ليس تتقون بمعنى
تقون، فلا يتعدى بعديته، ودس في قوله: ولم تؤمنوا وتعملوا
صالحاً الاعتزال. قال: ويجوز أن يكون ظرفاً، أي فيكف لكم
بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ قال: ويجوز أن
ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن
جحدتم يوم القيامة؟ والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه. انتهى.
وقرأ الجمهور: {يوماً} منوناً، {يجعل} بالياء؛ والجملة من
قوله: {يجعل} صفة ليوم، فإن كان الضمير في {يجعل} عائداً على
اليوم فواضح وهو الظاهر؛ وإن عاد على الله، كما قال بعضهم، فلا
بد من حذف ضمير يعود إلى اليوم، أي يجعل فيه كقوله: {يوماً لا
تجزي نفس} . وقرأ زيد بن عليّ: بغير تنوين: نجعل بالنون،
فالظرف مضاف إلى الجملة، والشيب مفعول ثان ليجعل.
وقال الزمخشري: أو السماء شيء منفطر، فجعل منفطر صفة لخبر
محذوف مقدر بمذكر وهو شيء، والانفطار: التصدع والانشقاق؛
والضمير في به الظاهر أنه يعود على اليوم، والباء للسبب، أي
بسبب شدة ذلك اليوم، أو ظرفية، أي فيه.
فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً {شِيباً * السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ
بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} بالتقرب إليه بالطاعة، ومفعول
شاء محذوف يدل عليه الشرط، لأن من شرطية، أي فمن شاء أن يتخذ
سبيلاً اتخذه إلى ربه، وليست المشيئة هنا على معنى الإباحة، بل
تتضمن معنى الوعد والوعيد.
وقرأ العربيان ونافع: ونصفه وثلثه، بجرهما عطفاً على {ثلثي
الليل} ؛ وباقي السبعة وزيد بن علي: بالنصب عطفاً على {أدنى} ،
لأنه منصوب على الظرف، أي وقتاً أدنى من ثلثي الليل.
وطائفة: معطوف على الضمير المستكن في {تقوم} ، وحسنة الفصل
بينهما.
{والله يقدر الليل والنهار} : أي هو وحده
تعالى العالم بمقادير الساعات. قال الزمخشري: وتقديم اسمه عز
وجل مبتدأ مبنياً عليه يقدر هو الدال على معنى الاختصاص
بالتقدير. انتهى. وهذا مذهبه، وإنما استفيد الاختصاص من سياق
الكلام لا من تقديم المبتدأ. لو قلت: زيد يحفظ القرآن أو يتفقه
في كتاب سيبوىه، لم يدل تقديم المبتدأ على الاختصاص.
وقرأ الجمهور: {هو خيراً وأعظم أجراً} بنصبهما، واحتمل هو أن
يكون فصلاً، وأن يكون تأكيداً لضمير النصب في {تجدوه} . ولم
يذكر الزمخشري والحوفي وابن عطية في إعراب هو إلا الفصل. وقال
أبو البقاء: هو فصل، أو بدل، أو تأكيد. فقوله: أو بدل، وهم لو
كان بدلاً لطابق في النصب فكان يكون إياه. وقرأ أبو السمال
وابن السميفع: هو خير وأعظم، برفعهما على الابتداء أو الخبر.
قال أبو زيد: هو لغة بني تميم، يرفعون ما بعد الفاصلة، يقولون:
كان زيد هو العاقل بالرفع، وهذا البيت لقيس بن ذريح وهو:
نحن إلى ليلى وأنت تركتهاوكنت عليها بالملا أنت أقدر قال أبو
عمرو الجرمي: أنشد سيبويه هذا البيت شاهداً للرفع والقوافي
مرفوعة. ويروى: أقدر. وقال الزمخشري: وهو فصل وجاز وإن لم يقع
بين معرفتين، لأن أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف
المعرفة. انتهى. وليس ما ذكر متفقاً عليه. ومنهم من أجازه،
وليس أفعل من أحكام الفصل ومسائله، والخلاف الوارد فيها كثير
جداً، وقد جمعنا فيه كتاباً سميناه بالقول الفصل في أحكام
الفصل، وأودعنا معظمه شرح التسهيل من تأليفنا.
سورة المدثر
ست وخمسون آية مكية
قال الزمخشري: واختص ربك بالتكبير، وهو
الوصف بالكبرياء، وأن يقال: الله أكبر. انتهى. وهذا على مذهبه
من أن تقديم المفعول على الفعل يدل على الاختصاص، قال: ودخلت
الفاء لمعنى الشرط، كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره. انتهى.
وهو قريب مما قدره النحاة في قولك: زيدا فاضرب، قالوا تقديره:
تنبه فاضرب زيداً، فالفاء هي جواب الأمر، وهذا الأمر إما مضمن
معنى الشرط، وإما الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عند
النحاة.
وقرأ الجمهور: تستكثر برفع الراء، والجملة
حالية، أي مستكثراً. قال الزمخشري: ويجوز في الرفع أن تحذف أن
ويبطل عملها، كما روي: أحضر الوغى بالرفع. انتهى، وهذا لا يجوز
أن يحمل القرآن عليه، لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر، ولنا
مندوحة عنه مع صحة الحال، أي مستكثراً. وقرأ الحسن وابن أبي
عبلة: بجزم الراء، ووجهه أنه بدل من تمنن، أي لا تستكثر،
كقوله: يضاعف له العذاب { (20) يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *
يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ *
وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * فَإِذَا
نُقِرَ فِى النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ
* عَلَى الْكَفِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ * ذَرْنِى وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً *
وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ
يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كان لأٌّيَتِنَا
عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *
ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ
وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ *
إِنْ هَذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ *
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ *
لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا
جَعَلْنَآ أَصْحَبَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَةً وَمَا
جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ وَيَزْدَادَ
الَّذِينَءَامَنُواْ إِيمَناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ
أُوتُواْ الْكِتَبَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ
فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ
بِهَذَا
مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن
يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ
إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ * كَلاَّ
وَالْقَمَرِ * وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَآ
أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإًّحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً
لِّلْبَشَرِ} في قراءة من جزم، بدلاً من قوله: {يلق} ، وكقوله:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارناتجد حطباً جزًلا وناراً تأججا
وقال الزمخشري: والفاء في فذلك {النَّاقُورِ * فَذَلِكَ
يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} للجزاء. فإن قلت: بم انتصب إذا،
وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دل
عليه الجزاء، لأن المعنى: {فإذا نقر في الناقور} ، عسر الأمر
على الكافرين؛ والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفاً ليوم عسير أن
المعنى: فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير، لأن يوم القيامة يأتي
ويقع حين ينقر في الناقور. ويجوز أن يكون يومئذ مبنياً مرفوع
المحل بدلاً من ذلك، ويوم عسير خبر، كأنه قيل: فيوم النقر يوم
عسير.
وقال الحوفي: {فإذا} ، إذا متعلقة بأنذر، أي فأنذرهم إذا نقر
في الناقورة، قال أبو البقاء: يجري على القول الأخفش أن تكون
إذا مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة. فأما يومئذ فظرف لذلك،
وأجاز أبو البقاء أن يتعلق على الكافرين بيسير، أي غير يسير،
أي غير سهل على الكافرين؛ وينبغي أن لا يجوز، لأن فيه تقديم
معمول العامل المضاف إليه غير على العامل، وهو ممنوع على
الصحيح؛ وقد أجازه بعضهم فيقول: أنا بزيد غير راض.
يجوز أن يكون {إنه فكر} بدلاً من قوله: {إنه كان لآياتنا
عنيداً} .
{سأصليه سقر} ، قال الزمخشري: بدل من {سأرهقه صعوداً} . انتهى.
ويظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة، منهما.
وقرأ الجمهور: {لوّاحةٌ} بالرفع، أي هي
لوّاحة. وقرأ العوفي وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي عبلة: لواحة
بالنصب على الحال المؤكدة، لأن النار التي لا تبقي ولا تذر لا
تكون إلا مغيرة للإبشار. وقال الزمخشري: نصباً على الاختصاص
للتهويل.
{تسعة عشر} وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطيب وإبراهيم بن
قنة: بضم التاء، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس
فتحات، ولا يتوهم أنها حركة إعراب، لأنها لو كانت حركة إعراب
لأعرب عشر.
{ليستيقن} : هذا مفعول من أجله، وهو متعلق بجعلنا لا بفتنة.
وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر
وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن العزيز والحسن وطلحة
والنحويان والابنان وأبو بكر: إذا ظرف زمان مستقبل دبر بفتح
الدال؛ وابن جبير والسلمي والحسن: بخلاف عنهم؛ وابن سيرين
والأعرج وزيد بن علي وأبو شيخ وابن محيصن ونافع وحمزة وحفص: إذ
ظرف زمان ماض.
وقرأ الجمهور: نذيراً {وَالْقَمَرِ * وَالَّيْلِ إِذْ} ،
واحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار، كالنكير بمعنى الإنكار،
فيكون تمييزاً: أي لإحدى الكبر إنذاراً، كما تقول: هي إحدى
النساء عفافاً. كما ضمن إحدى معنى أعظم، جاء عنه التمييز. وقال
الفراء: هو مصدر نصب بإضمار فعل، أي أنذر إنذاراً. واحتمل أن
يكون اسم فاعل بمعنى منذر. فقال الزجاج: حال من الضمير في
إنها. وقيل: حال من الضمير في إحدى، ومن جعله متصلاً بقم في
أول السورة، أو بفأنذر في أول السورة، أو حالاً من الكبر، أو
حالاً من ضمير الكبر، فهو بمعزل عن الصواب. قال أبو البقاء:
والمختار أن يكون حالاً مما دلت عليه الجملة تقديره: عظمت
نذيراً. انتهى، وهو قول لا بأس به.
قال أبو رزين: نذير هنا هو الله تعالى، فهو منصوب بإضمار فعل،
أي ادعوا نذيراً. وقال ابن زيد: نذير هنا هو محمد صلى الله
عليه وسلّم فهو منصوب بفعل مضمر، أي ناد، أو بلغ، أو أعلن.
وقرأ أبيّ وابن أبي عبلة: نذير بالرفع. فإن كان من وصف النار،
جاز أن يكون خبراً وخبر مبتدأ محذوف، أي هي نذير. وإن كان من
وصف الله أو الرسول، فهو على إضمار هو. والظاهر أن لمن بدل من
البشر بإعادة الجار، وأن يتقدم منصوب بشاء ضمير يعود على من.
وقيل: الفاعل ضمير يعود على الله تعالى، أي لمن شاء هو، أي
الله تعالى.
وقال الزمخشري: {أن يتقدم} في موضع الرفع بالابتداء، و {لمن
شاء} خبر مقدم عليه، كقولك لمن توضأ: أن يصلي.
وقيل: الهاء في رهينة للمبالغة. وقيل: على تأنيث اللفظ لا على
الإنسان، والذي أختاره أنها مما دخلت فيه التاء، وإن كان بمعنى
مفعول في الأصل كالنطيحة، ويدل على ذلك أنه لما كان خبر عن
المذكر كان بغير هاء، قال تعالى: كل امرىء بما كسب رهين
{يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *
إِلاَّ أَصْحَبَ الْيَمِينِ * فِى جَنَّتٍ يَتَسَآءَلُونَ *
عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ} . فأنت ترى
حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء، وحيث كان خبراً عن
المؤنث أتى بالتاء. |