الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط

سورة القيامة

أربعون آية مكية
ولا أقسم، قيل: لا نافية، وجواب القسم محذوف يدل عليه يوم القيامة المقسم به وما بعده من قوله: {أيحسب} الآية، وتقديره لتبعثن. وقال الزمخشري: فإن قلت: قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} ، والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي، وكان قد أنشد قول امرىء القيس:
لا وأبيك ابنة العامريلا يدعي القوم إني أفرّ وقول غوية بن سلمى:


ألا نادت أمامة باحتماليلتحزنني فلا بك ما أبالي قال: فهلا زعمت أن لا التي للقسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف ههنا منفياً، نحو قولك: {لا أقسم بيوم القيامة} ، لا تتركون سدى؟ قلت: لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقسم. ألا ترى كيف لقي {لا أقسم بهذا البلد} بقوله: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} ، وكذلك {فلا أقسم بمواقع النجوم} ، {إنه لقرآن كريم} ؟ ثم قال الزمخشري: وجواب القسم ما دل عليه قوله: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} ، وهو لتبعثن. انتهى، وهو تقدير النحاس. وقول من قال جواب القسم هو: {أيحسب الإنسان} . وما روي عن الحسن أن الجواب: {بلى قادرين} ، وما قيل أن لا في القسمين لنفيهما، أي لا أقسم على شيء، وأن التقدير: أسألك أيحسب الإنسان؟ أقوال لا تصلح أن يرد بها، بل تطرح ولا يسود بها الورق، ولولا أنهم سردوها في الكتب لم أنبه عليها.
وقرأ الجمهور: {قادرين} بالنصب على الحال من الضمير الذي في الفعل المقدر وهو يجمعها؛ وابن أبي عبلة وابن السميفع: قادرون، أي نحن قادرون. وقيل: {قادرين} منصوب على خبر كان، أي بلى كنا قادرين في الابتداء.
وقال الزمخشري: {بل يريد} عطف على {أيحسب} ، فيجوز أن يكون قبله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب. انتهى. وهذه التقادير الثلاثة لا تظهر، وهي متكلفة، بل المعنى: الإخبار عن الإنسان من غير إبطال لمضمون الجملة السابقة، وهي نجمعها قادرين.
ومفعول {يريد} محذوف يدل عليه التعليل في {ليفجر} .
أمامه: ظرف مكان استعير هنا للزمان.
وقيل: بصيرة مبتدأ محذوف الموصوف، أي عين بصيرة، وعلى نفسه الخبر. والجملة في موضع خبر عن الإنسان، والتقدير عين بصيرة، وإليه ذهب الفراء وأنشد:
كأن على ذي العقل عيناً بصيرةبمقعدة أو منظر هو ناظره


يحاذر حتى يحسب الناس كلهممن الخوف لا تخفى عليهم سرائره
وعلى هذا نختار أن تكون بصيرة فاعلاً بالجار والمجرور، وهو الخبر عن الإنسان. ألا ترى أنه قد اعتمد بوقوعه خبراً عن الإنسان؟ وعلى هذا فالتاء للتأنيث.
وقرأ ابن عطية: {وجوه} رفع بالابتداء، وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله: {يومئذ} و {ناضرة} خبر {وجوه} . وقوله: {إلى ربها ناظرة} جملة هي في موضع خبر بعد خبر. انتهى. وليس {يومئذ} تخصيصاً للنكرة، فيسوغ الابتداء بها، لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة، إنما يكون {يومئذ} معمول لناضرة. وسوغ جواز الابتداء بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل، و {ناضرة} الخبر، و {ناضرة} صفة. وقيل: {ناضرة} نعت لوجوه، و {إلى ربها ناظرة} الخبر، وهو قول سائغ.
{ووجوه يومئذ باسرة} : يجوز أن يكون {وجوه} مبتدأ خبره {باسرة} وتظن خبر بعد خبر وأن تكون باسرة صفة وتظن الخبر.
وكون {فلا صدق} معطوفاً على قوله: {يسأل} فيه بعد، ولا هنا نفت الماضي، أي لم يصدق ولم يصل؛ وفي هذا دليل على أن لا تدخل على الماضي فتنصبه، ومثله قوله:
وأي جميس لا أتانا نهابهوأسيافنا يقطرن من كبشه دما وقال الراجز:
إن تغفر اللهم تغفر جماًوأيّ عبد لك لا ألما

سورة الانسان

احدى وثلاثون آية مدنية
هل حرف استفهام، فإن دخلت على الجملة الاسمية لم يمكن تأويله بقد، لأن قد من خواص الفعل، فإن دخلت على الفعل فالأكثر أن تأتي للاستفهام المحض. وقال ابن عباس وقتادة: هي هنا بمعنى قد. قيل: لأن الأصل أهل، فكأن الهمزة حذفت واجتزىء بها في الاستفهام، ويدل على ذلك قوله:
سائل فوارس يربوع لحلتهاأهل رأونا بوادي النتّ ذي الأكم
والجملة من لم يكن {الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً} في موضع الحال من الإنسان، كأنه قيل: غير مذكور، وهو الظاهر أو في موضع الصفة لحين، فيكون العائد على الموصوف محذوفاً، أي لم يكن فيه.


وقال الزمخشري: نطفة أمشاج، كبرمة إعسار، وبرد أكياس، وهي ألفاظ مفرد غير جموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضاً: نطفة مشج، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيراً له، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما. انتهى. وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالاً لا يكون مفرداً. قال سيبويه: وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسماً للجميع، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه.
وقرأ الجمهور: إما {مَّذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} بكسر الهمزة فيهما؛ وأبو السمال وأبو العاج، وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك: بفتحها فيهما، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف وأنشدوا:
يلحقها إما شمال عريةوإما صبا جنح العشي هبوب وقال الزمخشري: وهي قراءة حسنة، والمعنى: إما شاكراً بتوفيقنا، وإما كفوراً فبسوء اختياره. انتهى. فجعلها إما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط، ولذلك تلقاها بفاء الجواب، فصار كقول العرب: إما صديقاً فصديق؛ وانتصب شاكراً وكفوراً على الحال من ضمير النصب في {هديناه} . وقال الزمخشري: ويجوز أن يكونا حالين من السبيل.


وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة: {سلاسل} ممنوع الصرف وقفاً ووصلاً. وقيل عن حمزة وأبي عمر: الوقف بالألف. وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف، واختلف عنهم في الوقف، وكذا عن البزي. وقرأ باقي السبعة: بالتنوين وصلاً وبالألف المبدلة منه وقفاً، وهي قراءة الأعمش، قيل: وهذا على ما حكاه الأخفش من لغة من يصرف كل ما لا ينصرف إلا أفعل من وهي لغة الشعراء، ثم كثر حتى جرى في كلامهم، وعلل ذلك بأن هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا: صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار، أشبه المفرد فجرى فيه الصرف، وقال بعض الرجاز:

والصرف في الجمع أتى كثيراًحتى ادعى قوم به التخييرا و {عيناً} بدل من {كافوراً} مفعولاً بيشربون، أي ماء عين، أو بدل من محل من كأس على حذف مضاف، أي يشربون خمراً خمر عين، أو نصب على الاختصاص. ولما كانت الكأس مبدأ شربهم أتى بمن؛ وفي {يشرب بها} : أي يمزج شرابهم بها أتى بالباء الدالة على الإلصاق، والمعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل، أو ضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء. وقيل: الباء زائدة والمعنى يشرب بها، وقال الهذلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعتمتى لجج خضر لهن نئيج قيل: أي شربن ماء البحر.


وقرأ الجمهور: {ودانية} ، قال الزجاج: هو حال عطفاً على {متكئين} . وقال أيضاً: ويجوز أن يكون صفة للجنة، فالمعنى: وجزاهم جنة دانية. وقال الزمخشري: ما معناه أنها حال مطعوفة على حال وهي لا يرون، أي غير رائين، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنوّ الظلال عليهم. وقرأ أبو حيوة: ودانية بالرفع، واستدل به الأخفش على جواز رفع اسم الفاعل من غير أن يعتمد، نحو قولك: قائم الزيدون، ولا حجة فيه لأن الأظهر أن يكون {ظلالها} مبتدأ {ودانية} خبر له. وقرأ الأعمش: ودانياً عليهم، وهو كقوله: {خاشعةً أبصارهم} . وقرأ أبيّ: ودان مرفوع، فهذا يمكن أن يستدل به الأخفش. {وذللت قطوفها} ، قال قتادة ومجاهد وسفيان: إن كان الإنسان قائماً، تناول الثمر دون كلفة؛ وإن قاعداً أو مضطعجاً فكذلك، فهذا تذليلها، لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك. فأما على قراءة الجمهور: {ودانية} بالنصب، كان {وذللت} معطوفاً على دانية لأنها في تقدير المفرد، أي ومذللة، وعلى قراءة الرفع كان من عطف جملة فعلية على جملة اسمية. ويجوز أن تكون في موضع الحال، أي وقد ذللت رفعت دانية أو نصبت.
وقرأ الأعمش: قوارير من فضة بالرفع، أي هو قرارير.
قال الزمخشري: {قدروها} صفة لقرارير من فضة.


وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهم، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا، قال: فيه حذف على حذف، وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها، ثم حذف على فصار قدر ريهم مفعول لم يسم فاعله، ثم حذف قدر فصار ريهم قائماً مقامه، ثم حذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدر النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل. انتهى. والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديراً، فحذف المضاف وهو الذي، وأقيم الضمير مقامه فصار التقدير: قدروا منها؛ ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدّروها، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور.

قيل: منصوب على الاختصاص.
وجواب {إذا رأيت} : {نعيماً} ، ومفعول فعل الشرط محذوف، حذف اقتصاراً، والمعنى: وإذا رميت ببصرك هناك، وثم ظرف العامل فيه رأيت. وقيل: التقدير: وإذا رأيت ما ثم، فحذف ما كما حذف في قوله: {لقد تقطع بينكم} ، أي ما بينكم. وقال الزجاج، وتبعه الزمخشري فقال: ومن قال معناه ما ثم فقد أخطأ، لأن ثم صلة لما، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة. انتهى. وليس بخطأ مجمع عليه، بل قد أجاز ذلك الكوفيون، وثم شواهد من لسان العرب كقوله:
فمن يهجو رسول الله منكمويمدحه وينصره سواء أي: ومن يمدحه، فحذف الموصول وأبقى صلته. وقال ابن عطية: وثم ظرف العامل فيه رأيت أو معناه، التقدير: رأيت ما ثم حذفت ما. انتهى. وهذا فاسد، لأنه من حيث جعله معمولاً لرأيت لا يكون صلة لما، لأن العامل فيه إذ ذاك محذوف، أي ما استقر ثم. وقرأ الجمهور: ثم بفتح الثاء؛ وحميد الأعرج: ثم بضم التاء حرف عطف، وجواب إذا على هذا محذوف، أي وإذا رميت ببصرك رأيت نعيماً.


وقرأ عمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة: {عاليهم} بفتح الياء؛ وابن عباس: بخلاف عنه؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة: بسكونها، وهي رواية أبان عن عاصم. وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن عليّ: بالياء مضمومة؛ وعن الأعمش وأبان أيضاً عن عاصم: بفتح الياء. وقرأ: عليهم حرف جر، ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضاً؛ وقرأت عائشة رضي الله عنها: علتهم بتاء التأنيث فعلاً ماضياً، فثياب فاعل. ومن قرأ بالياء مضمومة فمبتدأ خبره ثياب؛ ومن قرأ عليهم حرف جر فثياب مبتدأ؛ ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال، وهو حال من المجرور في {ويطوف عليهم} ، فذوا لحال الطوف عليهم والعامل يطوف. وقال الزمخشري: وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في {يطوف عليهم} ، أو في {حسبتهم} ، أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب. ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب. انتهى. إما أن يكون حالاً من الضمير في {حسبتهم} ، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول، وهذا عائد على {ولدان} ، ولذلك قدر عاليهم بقوله: عالياً لهم، أي للولدان، وهذا لا يصح لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من قوله: {وحلوا، وسقاهم} ، وإن هذا كان لكم جزاء، وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لا يجوز. وأما جعله حالاً من محذوف وتقديره أهل نعيم، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف، وثياب مرفوع على الفاعلية بالحال. وقال ابن عطية: ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم. انتهى. وعال وعالية اسم فاعل، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب. وقرأ الجمهور: ثياب بغير تنوين على الإضافة إلى سندس.


وقرأ ابن عبلة وأبو حيوة: عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق، برفع الثلاثة، برفع سندس بالصفة لأنه جنس، كما تقول: ثوب حرير، تريد من حرير؛ وبرفع خضر بالصفة أيضاً لأن الخضرة لونها؛ ورفع استبرق بالعطف عليها، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف تقديره: وثياب استبرق، أي من استبرق. وقرأ الحسن وعيسى ونافع وحفص: خضر برفعهما. وقرأ العربيان ونافع في رواية: خضر بالرفع صفة لثياب، وإستبرق جر عطفاً على سندس. وقرأ ابن كثير وأبو بكر: بجر خضر صفة لسندس، ورفع إستبرق عطفاً على ثياب.
وقال الزمخشري: هنا وقرىء {واستبرق} نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف، تقول: الاستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب.
{خضرٍ} قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران، سوار من ذهب وسوار من فضة. انتهى. فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن، وإما أن يكون بدلاً منه، وإمّا أن يكون مفعول أحسن، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور. فإن كان الأول، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب، لا تقول: ما أحسن بزيد، تريد: ما أحسن زيداً، وإن كان الثاني، ففي مثل هذا الفصل خلاف. والمنقول عن سيبويه أنه لا يجوز، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف.


{يدخل من يشاء في رحمته} : وهم المؤمنون. وقرأ الجمهور: {والظالمين} نصباً بإضمار فعل يفسره قوله: {أعدّ لهم} ، وتقديره: ويعذب الظالمين، وهو من باب الاشتغال، جملة عطف فعلية على جملة فعلية. وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة: والظالمون، عطف جملة اسمية على فعلية، وهو جائز حسن. وقرأ عبد الله: وللظالمين بلام الجر، وهو متعلق بأعد لهم توكيداً، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال، ويقدر فعل يفسره الفعل الذي بعده، فيكون التقدير: وأعد للظالمين أعدّ لهم، وهذا مذهب الجمهور، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو، فتقول: بزيد مررت به، ويكون التقدير: مررت بزيد مررت به، ويكون من باب الاشتغال. والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخر، وما أشبهه من جهة المعنى فعلاً ماضياً.

سورة المرسلات

خمسون آية مكية
ومعنى عرفاً: إفضالاً من الله تعالى على عباده، ومنه قول الشاعر:
لا يذهب العرف بين الله والناس
وانتصابه على أنه مفعول له، أي أرسلن للإحسان والمعروف، أو متتابعة تشبيهاً بعرف الفرس في تتابع شعره وأعراف الخيل. وتقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه متتابعين، وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه، وانتصابه على الحال.
وانتصابهما على البدل من ذكراً، كأنه قيل: فالملقيات عذراً أو نذراً، أو على المفعول من أجله، أو على أنهما مصدران في موضع الحال، أي عاذرين أو منذرين. ويجوز مع الإسكان أن يكونا جمعين على ما قررناه. وقيل: يصح انتصاب {عذراً أو نذيراً} على المفعول به بالمصدر الذي هو {ذكراً} ، أي فالملقيات، أي فذكروا عذراً، وفيه بعد لأن المصدر هنا لا يراد به العمل، إنما يراد به الحقيقة لقوله: {أألقي عليه الذكر} .
وجواب إذا محذوف لدلالة ما قبله عليه وتقديره: إذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون.
قال الزمخشري: من هلكه بمعنى أهلكه. قال العجاج:
ومهمه هالك من تعرجا
انتهى.


وخرج بعضهم هالك من تعرجاً على أن هالكاً هو من اللازم، ومن موصول، فاستدل به على أن الصفة المشبهة باسم الفاعل قد يكون معمولهاً موصولاً.
وانتصب أحياء وأمواتاً {لَوَقِعٌ * فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نُهْلِكِ الأٌّوَّلِينَ} بفعل يدل عليه ما قبله، أي يكفت أحياء على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. واستدل بهذا من قال: إن النباش يقطع، لأن بطن الأرض حرز للكفن، فإذا نبش وأخذ منه فهو سارق. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: نكفتكم أحياء وأمواتاً، فينتصبا على الحال من الضمير.
وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية: {هذا يوم لا ينطقون} ، بفتح الميم؛ والجمهور: برفعها. قال ابن عطية: لما أضاف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء، وهي في موضع رفع. وقال صاحب اللوامح: قال عيسى: هي لغة سفلى مضر، يعني بناءهم يوم مع لا على الفتح، لأنهم جعلوا يوم مع لا كالاسم الواحد، فهو في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ. انتهى. والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه، وإنما هذا مذهب كوفي. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نصباً صحيحاً على الظرف، فيصير هذا إشارة إلى ما تقدمه من الكلام دون إشارة إلى يوم، ويكون العامل في نصب يوم نداء تقدمه من صفة جهنم.


{فيعتذرون} : عطف على {ولا يؤذن} داخل في حيز نفي الإذن، أي فلا إذن فاعتذار، ولم يجعل الاعتذار متسبباً عن الإذن فينصب. وقال ابن عطية: ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي، والوجهان جائزان. انتهى. فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال: والوجهان جائزان، فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسبباً بل صريح عطف، والنصب يكون فيه متسبباً فافترقا. وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل ويكون معناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعياً للأكثر في كلام العرب، وجعل دليله ذلك، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره.