إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد فصل فِي مناقشة القَوْل بإستحالة الإجتهاد
أما قَول القَاضِي رَحمَه الله إِنَّه أحَال جمَاعَة من
الْمُتَأَخِّرين الإجتهاد الْمُطلق لتعسر التَّصْحِيح والأهلية
لذَلِك فَكَلَام لَا يَلِيق صدوره عَن مثله فَإِنَّهُ علل
الإحالة بالتعسر وَغير خَافَ على نَاظر أَنه لَو سلم التعسر
لبَعض طرق لَا يصير محالا غَايَته أَنه يصير متعسرا لَا محالا
(1/88)
وَلَكِن قد أطبقت عَامَّة أهل الْمذَاهب
الْأَرْبَعَة فِي هَذِه الْأَعْصَار وَمَا قبلهَا على مَا
قَالَه القَاضِي شرف الدّين وَاشْتَدَّ مِنْهُم النكير على
مدعي الِاجْتِهَاد من عُلَمَائهمْ قائلين إِنَّه قد تعذر ذَلِك
من بعد الْأَئِمَّة وضاق مجَال الِاجْتِهَاد وَلم يبْق فِيهِ
لمن بعدهمْ سَعَة وأطالوا ذَلِك بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ
(1/89)
فَإِنَّهُ غير خَافَ على من لَهُ نباهة أَن
هَذَا مِنْهُم تهويل لَيْسَ عَلَيْهِ تعويل وَمُجَرَّد استبعاد
لَا يهول قعاقع الأذكياء النقاد وَكَأن أُولَئِكَ المستبعدين
لما رَأَوْا كَثْرَة اتِّبَاع الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين
وعظمتم لما وهب الله لَهُم من الْعلم وَالدّين فِي صُدُور
الْأَعْيَان من الْمُتَأَخِّرين ظنُّوا أَنهم غير مخلوقين من
سلالة من طين وَلَو نظرُوا بِعَين الْإِنْصَاف وتتبعوا
أَحْوَال الأسلاف والأخلاف لعلموا يَقِينا إِن فِي
الْمُتَأَخِّرين عَن أُولَئِكَ الْأَئِمَّة من هُوَ أطول
مِنْهُم فِي المعارف باعا وَأكْثر فِي عُلُوم الِاجْتِهَاد
اتساعا قد قيضهم الله لحفظ عُلُوم الِاجْتِهَاد من كل ذِي همة
صَادِقَة وَنِيَّة صَالِحَة من الْعباد قد قربوا للمتأخرين
مِنْهَا كل بعيد ومهدوها لَهُم كل تمهيد
(1/90)
فَمنهمْ من قيضه الله لتتبع علم اللُّغَة
من أَفْوَاه الرِّجَال وَمن أَلْسِنَة النِّسَاء وَالصبيان فِي
بطُون الأودية ورؤوس الْجبَال فَرَحل إِلَى بواديهم وَنزل
مَعَهم فِي موارد مِيَاههمْ ومراعي مَوَاشِيهمْ وتتبعهم فِي
الْبَوَادِي والقفار وواصلهم تَحت الْأَشْجَار والأحجار
ولازمهم فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وصاحبهم فِي الأوطان ورافقهم
فِي الْأَسْفَار وَقَامَ بإقامتهم فِي الْمضَارب والخيام وبيوت
الشّعْر والتلول والآكام
(1/91)
يعرف ذَلِك من رحْلَة الْأَصْمَعِي
والأزهري وَغَيرهمَا من كل ذِي همة سري حَتَّى جمعُوا فنونها
وأناطوا مَعَانِيهَا وأجروا عيونها وأظهروا مخزونها حَتَّى
أَصبَحت بحارا ذاخرة ورياضا ناضرة وأنواعا متكاثرة ومؤلفات
فاخرة قد
(1/92)
فاق من عرفهَا من لَاقَى قس بن سَاعِدَة
وسحبان وَصَارَ دونه من اخْتَلَط بالعرب العرباء فِي كل مَكَان
وَعلم اللُّغَة بأنواعه هُوَ عُمْدَة عُلُوم الِاجْتِهَاد
وبالتبحر فِيهِ وَعَدَمه تَتَفَاوَت النقاد وَألقى الله فِي
قولب أَقوام محبَّة السّنة النَّبَوِيَّة والْآثَار السلفية
ورزقهم همما تناطح السماك وتطاول الأطلس من الأفلاك فارتحلوا
لطلبها من الأقطار وفارقوا الأوطان والأوطار وطووا فِي حبها
الفيافي والقفار وقنعوا من الدُّنْيَا بالكفاف وَتركُوا
لغَيرهم اللَّذَّات والأتراف وَاتَّخذُوا الزّهْد شعارا
والقناعة دثار فسهر الأجفان ألذ إِلَيْهِم وَأطيب من الْمَنَام
والجوع أشهى من الامتلاء من
(1/93)
نَفِيس الطَّعَام يرتحلون لسَمَاع الحَدِيث
الْوَاحِد من الأقطار الشاسعة وَيطْلبُونَ من الأقاليم
المتباعدة الواسعة فَفِي مثلهم يُقَال
طورا تراهم فِي الصَّعِيد
وَتارَة فِي أَرض آمد ... فيبتغون من الْعُلُوم
بِكُل أَرض كل شارد ... يدعونَ أَصْحَاب الحَدِيث
بهم تجملت الْمشَاهد
فَهَذَا أَبُو عبد الله البُخَارِيّ رَحل بعد إحاطته بِحَدِيث
شُيُوخ بلدته إِلَى الشَّام والكوفة وَالْبَصْرَة وبلخ وعسقلان
وحمص ودمشق وَكتب عَن ألف شيخ وَثَمَانِينَ شَيخا وَجمع
للْمُسلمين هَذِه الْأَحَادِيث الَّتِي تتبعها من الْآفَاق
وَصَحب فِي تطلبها الرفاق بعد الرفاق فِي كِتَابه الْجَامِع
الصَّحِيح يقرأه الْمُحدث قِرَاءَة تَحْقِيق واتقان فِي شهر من
أشهر الزَّمَان وَغَيره من أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن لَهُم أكمل
منَّة على أهل الْإِيمَان فَإِنَّهُ تعبوا فِي جمع
الْأَحَادِيث للمتأخرين ووزعوا أوقاتهم فِي تَحْصِيل مَا فِيهِ
نفع الْمُسلمين حَتَّى لم يبْق لَهُم وَقت لغير نسخ الحَدِيث
أَو السماع
(1/94)
فَفِي سير أَعْلَام النبلاء فِي تَرْجَمَة
الإِمَام الْحَافِظ عبد الرحمن بن أبي حَاتِم صَاحب
التَّفْسِير وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل والمسند الَّذِي أَلفه
فِي ألف جُزْء قَالَ كُنَّا فِي مصر سَبْعَة أشهر لم نَأْكُل
فِيهَا مرقة كل نهارنا مقسم لمجالس الشُّيُوخ وبالليل النّسخ
والمقابلة قَالَ فأتينا يَوْمًا أَنا ورفيق لي شَيخا فَقَالُوا
هُوَ عليل فَرَأَيْنَا فِي طريقنا سَمَكَة أعجبتنا فاشتريناها
فَلَمَّا صرنا إِلَى الْبَيْت حضر وَقت مجْلِس فَلم يمكنا
إِصْلَاحه ومضينا إِلَى الْمجْلس وَلم نزل حَتَّى أَتَى
عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام وَكَاد أَن يتَغَيَّر فأكلناه نيئا
لم يكن لنا فرَاغ أَن نُعْطِيه من يشويه ثمَّ قَالَ لَا
يُسْتَطَاع الْعلم براحة الْجِسْم
(1/95)
وقِي مثلهم يُقَال ... إِن علم الحَدِيث
علم رجال ... تركُوا الابتداع لِلِاتِّبَاعِ ...
(1/96)
.. فَإِذا جن ليلهم كتبوه ... وَإِذا
أَصْبحُوا غدوا للسماع ... فأئمة الحَدِيث جعل الله غذاءهم
ولذتهم قِرَاءَة الحَدِيث وكتابته ودراسته وَرِوَايَته ورزقهم
حفظا يبهر الْعُقُول ويكاد أَن لَا يصدقهُ من يسمع مَا حكى
عَنْهُم فِي ذَلِك من الْمَنْقُول
(1/97)
حفظ الله تَعَالَى بهم السّنة وبهم يتم على
عباده كل منَّة قد حفظوا أَلْفَاظ الْأَحَادِيث كحفظ الْقُرْآن
وأحرزوا كل لفظ مِنْهُ بتحقيق وإتقان وألفوا فِيهَا
الْجَوَامِع النافعة وَالْمَسَانِيد الواسعة ثمَّ تعبوا فِي
أَحْوَال الروَاة وصفاتهم ورحلتهم ومواليدهم وبلدانهم ووفاتهم
حَتَّى صَار من عرف تراجمهم وأحوالهم كَأَنَّهُ شاهدهم وزاحمهم
بل صَار أعرف بأحوالهم من الْمشَاهد لَهُم والمعاصر لِأَنَّهُ
قد يخفى على من عاصرهم بعض أَحْوَال من عَارضه وَشَاهده وَأما
من طالع تراجمهم وتلقى عَن الثِّقَات أخبارهم فَإِنَّهُ يراهم
قد جمعُوا من أَحْوَالهم وصنفوا من تعْيين آثَارهم ورحلهم
ويقظتهم ومنامهم وتتبعوا أَحْوَالهم من كل عَارِف مُوَافق
ومخالف حَتَّى اجْتمع لمن قَرَأَ أخبارهم مَا لم يجْتَمع لمن
شاهدهم من الْأَوْصَاف وَهَذَا أَمر لَا يُنكره إِلَّا من حرم
الأنصاف
(1/98)
أَلا ترى أَن من عرف تراجم الْأَئِمَّة
السِّتَّة أهل الْأُمَّهَات من كتب أَئِمَّة التأريخ عرف
أَحْوَالهم وأوصفاهم كَأَنَّهُ لاقاهم ورآهم لِقَاء خبْرَة
ورؤية مخاللة وَحصل لَهُ من الاطمئنان بأقوالهم ويقر فِي قلبه
من إمامتهم فِي الدّين وَعظم نصحهمْ للْمُسلمين مَا لَا يحوم
حوله قدح قَادِح وَلَا جرح جارح حَتَّى لَو جَاءَهُ من ينازعه
فِي حفظ البُخَارِيّ وتقواه لما فت ذَلِك فِي عضد يقينه بحفظه
وهداه وَكَذَلِكَ غَيره من الْأَئِمَّة وَمثلهمْ الروَاة فَإِن
الله يسر أَقْوَامًا جعل هممهم الْعَالِيَة وأفكارهم الصافية
مصروفة إِلَى تتبع أَحْوَال رجال الحَدِيث وَرُوَاته فِي
الْقَدِيم والْحَدِيث ثمَّ ألفوا فِي الرِّجَال مَا يطلع
النَّاظر على كل مَا يُقَال من جرح وتعديل قَالَ وَقيل ذللوا
للمتأخرين مَا كَانَ صعبا وصيروا بهمتهم مَا كَانَ ضيقا
وَاسِعًا رحبا وجمعوا مَا كَانَ مُتَفَرقًا ولفقوا مَا كَانَ
ممزقا قد قربوا الْعُلُوم الحديثية أتم تقريب بإكمال وتقريب
وتهذيب فَاجْتمع للمتأخرين من أَحْوَال الْمُتَقَدِّمين
اجتماعا لم يتم للأولين فَإِنَّهَا اجْتمعت لَهُم معارف
العارفين وأقوال المتخالفين وكل من الْأَئِمَّة مَا زَالَ
حَرِيصًا على تقريب المعارف للْمُسلمين حَتَّى ألفوا الْكتب
على حُرُوف المعجم فِي الرِّجَال والمتون وَأتوا بِمَا لم
يَأْتِ بِهِ الْأَولونَ فَلم
(1/99)
يبْق للمتأخرين إِلَّا الاقتطاف لثمرات
المعارف والارتشاف بكؤوس قد أترعها لَهُم كل إِمَام عَارِف
إبْقَاء ءلحجة الله على الْعباد وحفظا لعلوم الدّين إِلَى
يَوْم الْمعَاد
(1/100)
فصل فِي تقريب الْفَهم إِلَى تيسير
الِاجْتِهَاد بالأمثلة
إِذا عرفت هَذَا فَكيف يُحَال فِي حق الْمُتَأَخِّرين
الِاجْتِهَاد الْمُطلق لتعسر بعد هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي
سَاقهَا الله إِلَى أَئِمَّة الإجتهاد على أَيدي أهل الْحِفْظ
والورع والانتقاد أَلا ترى أَنَّك لَو وجدت حَدِيثا فِي مُسْند
ابْن أبي شيبَة أَو عبد الرزاق أَو غَيرهمَا وَلم تَجِد فِيهِ
كلَاما لأحد أَئِمَّة الحَدِيث بِإِحْدَى الصِّفَات الثَّلَاث
وَرَأَيْت من روياة الْحجَّاج بن أَرْطَأَة مثلا فَإنَّك تحكم
بضعفه لكَلَام الْأَئِمَّة فِي الْحجَّاج كَمَا يحكم بذلك
الدَّارَقُطْنِيّ وَالْمُنْذِرِي مثلا وَمَا لاقاه
الدَّارَقُطْنِيّ وَلَا رَآهُ بل وقف على مَا وقفت عَلَيْهِ من
كَلَام أَئِمَّة الْجرْح غَايَة الْفرق أَنَّهَا قد تكون
طَرِيق الدَّارَقُطْنِيّ فِي ذَلِك السماع وطريقك
(1/101)
الوجادة وَهَذَا لَا يخْرجك عَن جَوَاز
التَّكَلُّم بِمَا تكلم بِهِ أَو وجدت حَدِيثا كَذَلِك ثمَّ
نظرت كَلَام أَئِمَّة التَّعْدِيل فِي رِجَاله فوجدتهم
مُوثقِينَ فَأَي مَانع لَك عَن تَصْحِيحه مثلا كَمَا يَفْعَله
الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ وَابْن حجر فَإِنَّهُمَا يتكلمان على
عدَّة من الْأَحَادِيث تَصْحِيحا وتحسينا وتضعيفا وطريقهما فِي
ذَلِك تتبع أَقْوَال أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل فِي
رِجَاله كَمَا أَنَّهَا طَريقَة النَّاظر فِي هَذِه
الْأَعْصَار وهما لم يلقيا إِلَّا شيوخهما كَمَا أَنَّك لم تلق
إِلَّا من رويت عَنهُ أَو قَرَأت عَلَيْهِ إِن كَانَت طريقك
الْقِرَاءَة لَا الوجادة أَو الْإِجَازَة
(1/102)
|