إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد

فصل فِي الحكم بسهولة الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار
قد علمت مِمَّا سقناه أَن الله وَله الْحَمد والْمنَّة قد قيض للمتأخرين أَئِمَّة من الْمُتَقَدِّمين جمعُوا لَهُم الْعُلُوم اللُّغَوِيَّة والحديثية من الأفواه والصدور وحفظوها لَهُم فِي الأوراق والسطور وذللوا لَهُم صعاب المعارف وقادوها إِلَى كل ذكي عَارِف ودونوا الْأُصُول واللغة بأنواعها مَعَ انتشارها واتساعها وأدخلوا عُلُوم الِاجْتِهَاد لأَهْلهَا من كل بَاب تَارَة بإيجاز وَتارَة بإسهاب وإطناب وَهَذَا شَيْء لَا شكّ فِيهِ وَلَا ارتياب وَلَا يجهله إِلَّا من لَيْسَ من أولي الْأَلْبَاب الَّذين نحوهم يساق هَذَا الْخطاب وَبعد هَذَا فَالْحق الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ غُبَار الحكم بسهولة الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار وَأَنه أسهل مِنْهُ فِي الْأَعْصَار الخالية لمن لَهُ فِي الدّين همة عالية ورزقه الله فهما صافيا وفكرا صَحِيحا ونباهة فِي علمي السّنة وَالْكتاب

(1/103)


فَإِن الْأَحَادِيث فِي الْأَعْصَار الخالية كَانَت مُتَفَرِّقَة فِي صُدُور الرِّجَال وعلوم اللُّغَة فِي أَفْوَاه سكان الْبَوَادِي ورؤوس الْجبَال حَتَّى جمعت متفرقاتها ونفقت ممزقاتها حَتَّى لَا يحْتَاج طَالب الْعلم فِي هَذِه الْأَعْصَار إِلَى الْخُرُوج من الوطن وَإِلَى شدّ الرحل والظعن فيا عجباه حِين تفضل الله بجمعها من الأغوار والأنجاد وَسَهل سياقها للعباد حَتَّى أينعت رياضها وأترعت حياضها وأجريت عيونها وتهدلت بثمراتها غصونها وفاض فِي ساحات تحقيقها معينها وَاشْتَدَّ عضدها وَجل ساعدها وَكثر معينها تَقول تعذر الِاجْتِهَاد مَا هَذَا وَالله إِلَّا كفران النِّعْمَة وجحودها والإخلاد إِلَى ضعف الهمة وركودها إِلَّا أَنه لَا بُد مَعَ ذَلِك أَولا من غسل فكرته عَن أدران العصبية وَقطع مَادَّة الوساوس المذهبية وسؤال لِلْفَتْحِ من الفتاح الْعَلِيم وَتعرض لفضل الله {وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} الْحَدِيد 29 فالعجب كل الْعجب مِمَّن يَقُول بتعذر الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار وَأَنه محَال مَا هَذَا إِلَّا منع لما بَسطه الله من فَضله لفحول الرِّجَال واستبعاد لما خرج من يَدَيْهِ واستصعاب لما لم يكن لَدَيْهِ وَكم للأئمة الْمُتَأَخِّرين من استنباطات رائقة واستدلالات صَادِقَة مَا حام حولهَا الْأَولونَ وَلَا عرفهَا مِنْهُم الناظرون وَلَا دارت فِي بصائر المستبصرين وَلَا جالت فِي أفكار المفكرين

(1/104)


فصل فِي بَيَان أَنه لَا فرق بَين الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين إِلَّا بِكَثْرَة الوسائط وقلتها
وَمن هَذَا تعرف انه لَا فرق بَين اجْتِهَاد من ذكره السَّائِل من العلامه الْجلَال والمقبلي واجتهاد من تقدمها من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة الَّذين اتّفقت الْأمة على اجتهادهم وَأَن مرجعهما فِي تَصْحِيح الْأَحَادِيث لَيْسَ بتقليد لأئمة التَّصْحِيح بل قبُول رِوَايَة هَذَا الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ اتّفقت الْأمة على اجْتِهَاده ومرجعه فِي صِحَة الحَدِيث وَعدمهَا إِلَى أَئِمَّة الحَدِيث فَإِنَّهُ يَقُول فِي مَوَاضِع إِذا لم يعْمل بِالْحَدِيثِ إِنَّه لم يرتض رِوَايَة هَذَا الحَدِيث وَنَحْو هَذِه الْعبارَة فِي محلات من تَلْخِيص ابْن حجر وتيسير الْبَيَان وَغَيرهمَا من الْكتب الْمَجْمُوعَة لسرد الْأَدِلَّة والتفتيش عَن أَحْوَال رجالها كَقَوْلِه فِي حَدِيث بهز بن حَكِيم فِي الزَّكَاة وَهَذَا الحَدِيث لَا يُثبتهُ أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ وَلَو ثَبت لقلنا بِهِ هَذَا

(1/105)


هُوَ بِعَيْنِه مَا يَقُوله الْجلَال والمقبلي وكل من تقدمها وَقدمنَا لَك أَن البُخَارِيّ نَفسه إِنَّمَا يعْتَمد وَيُصَرح فِي التَّصْحِيح وَغَيره على أَقْوَال من تقدمه من الرِّجَال وَإنَّهُ لم يلق إِلَّا شُيُوخه وَالَّذين روى عَنْهُم وَصحح لَهُم أَضْعَاف أَضْعَاف شُيُوخه وَحِينَئِذٍ يعرف النَّاظر أَنه لَا فرق بَين الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين إِلَّا بِكَثْرَة الوسائط وقلتها وسيلان الأذهان وجمودها وحركات الهمم وركودها وَالْفضل بيد الله لَا مَانع لما أعْطى وَلَا معطي لما منع أما قَول القَاضِي رَحمَه الله إِنَّه لم يَتَيَسَّر فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة إِلَّا تَرْجِيح بعض الْمذَاهب على بعض بِاعْتِبَار قُوَّة الدّلَالَة أَو كَثْرَة من صحّح أَو جلالته فَجَوَابه أَن هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ تَرْجِيحا هُوَ الإجتهاد الْمُطلق إِنَّمَا ذَنْب الْمُتَأَخر أَنه تَأَخّر زَمَنه عَن زمَان من قَالَ بالْقَوْل الرَّاجِح والمرجوح فَنظر كنظر من قبله من الْمُجْتَهدين وَجزم بِأحد الْقَوْلَيْنِ نظرا إِلَى الدَّلِيل فسميتموه تَرْجِيحا لقَوْل غَيره وَلَيْسَ كَذَلِك فافرضوا أَنه لم يتقدمه أحد فَإِنَّهُ لَو كَانَ زَمَانه سَابِقًا ورأيتم مَا أدعاه وَمَا أَقَامَهُ من الْبَرَاهِين على دَعْوَاهُ لقلتم أَنه مُجْتَهد مُطلق

(1/106)


وَلَا يخفى أَن تقدم الزَّمَان وتأخره لَا أثر لَهُ فِي جمع الْأَدِلَّة والاستنباط مِنْهَا قطعا بل قد أوضحنا لَك أَن الله قد جمع شَمل الْأَدِلَّة للمتأخرين وَلَكِنَّكُمْ نظرتم إِلَى تَأَخّر زَمَانه وَإنَّهُ قد قَالَ بِمَا جنح إِلَيْهِ قَائِل قبله فقلتم إِن هَذَا للمجتهد الآخر رجح مَا قَالَه من قبله بِقُوَّة الدّلَالَة أَو نَحْوهَا قُلْنَا هُوَ عين الِاجْتِهَاد وَلَا يضرنا تسميتكم لَهُ تَرْجِيحا

(1/107)