إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد

فصل فِي معرفَة الْحق من أَقْوَال أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل
قد يصعب على من يُرِيد دَرك الْحَقَائِق وتجنب المهاوي والمزالق معرفَة الْحق من أَقْوَال أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل بعد اتِّبَاع هَذِه الْمذَاهب الَّتِي طَال فِيهَا القال والقيل وَفرقت كلمة الْمُسلمين وأنشأت بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الدّين وقدح بَعضهم فِي بعض وانْتهى الْأَمر إِلَى الطامة الْكُبْرَى من التفسيق والتكفير وشب على ذَلِك من أهل الْمذَاهب الصَّغِير وشاب عَلَيْهِ الْكَبِير كل هَذَا من آثَار هَذِه الاعتقادات المبتدعة فِي الْإِسْلَام والمجانبة لما جَاءَ بِهِ سيد الْأَنَام عَلَيْهِ وعَلى آله أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فترى إِمَامًا من الْعلمَاء العاملين يقْدَح فِي راو من حفاظ عُلُوم الدّين بِأَنَّهُ كَانَ يَقُول بِخلق الْقُرْآن وتجد إِمَامًا آخر يقْدَح فِي راو آخر بِأَنَّهُ كَانَ يَقُول بقدم الْقُرْآن وَكَذَلِكَ يقدحون بِأُمُور لَيست عُمْدَة فِي الدّين وَلَا يخرج المتصف بهَا عَن زمرة الْمُتَّقِينَ ويقدحون بالْقَوْل بِالْقدرِ والإرجاء وَالنّصب والتشيع ثمَّ تراهم يصححون أَحَادِيث جمَاعَة من الروَاة قد رموهم بِتِلْكَ القوادح أَلا ترى أَن البُخَارِيّ أخرج لجَماعَة رموهم بِالْقدرِ كهشام بن

(1/124)


أبي عبد الله الدستوَائي أخرج لَهُ البُخَارِيّ وَقد قَالَ فِيهِ مُحَمَّد بن سعد كَانَ حجَّة إِلَّا أَنه كَانَ يرى الْقدر وَأخرج مَالك لجَماعَة يرَوْنَ الْقدر كَمَا قَالَه ابْن البرقي أَنه سُئِلَ مَالك كَيفَ رويت عَن دَاوُد بن الْحصين وثور بن زيد

(1/125)


وَذكر لَهُ جمَاعَة كَيفَ رويت لَهُم وَلَقَد كَانُوا يرَوْنَ الْقدر قَالَ كَانُوا لِأَن يخروا من السَّمَاء على الأَرْض أسهل من أَن يكذبوا وَكم فِي الصَّحِيحَيْنِ من جمَاعَة صححوا أَحَادِيثهم وهم قدرية وخوارج ومرجئة إِذا عرفت هَذَا فَهُوَ من صَنِيع أَئِمَّة الدّين قد يعده الْوَاقِف عَلَيْهِ تناقضا وَيَرَاهُ لما قَرَّرَهُ مُعَارضا ويفت عِنْده من عضد أَئِمَّة هَذَا الشَّأْن ويظن التَّصْحِيح صادرا عَن مجازفة من غير إتقان وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فَإِنَّهُ إِذا حقق صَنِيع الْقَوْم وتتبع طرائقهم وقواعدهم نفى عَنْهُم اللوم وَعلم أَنهم أجل من ذَلِك قدرا وأدق نظرا وأنصح لأهل الدّين من جمَاعَة الثغور الْمُجَاهدين وَأَنَّهُمْ لَا يعتمدون بعد إِيمَان الرَّاوِي إِلَّا على صدق لهجته وَضبط رِوَايَته وَقد أَقَمْنَا برهَان هَذِه الدَّعْوَى فِي رِسَالَة ثَمَرَات النّظر فِي علم الْأَثر برهانا لَا يَدْفَعهُ إِلَّا من لَيْسَ من الأذكياء ذَوي النباهة والخطر

(1/126)


فصل فِي أَن القوادح المذهبية لَا يتلفت إِلَيْهَا
إِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَن هَذِه القوادح المذهبية والابتداعات الاعتقادية يَنْبَغِي للنَّاظِر أَن لَا يلْتَفت إِلَيْهَا وَلَا يعرج فِي الْقدح عَلَيْهَا فَإِن القَوْل بقدم الْقُرْآن مثلا بِدعَة كَمَا أَن القَوْل بخلقه بِدعَة وَقد اخْتَار الْحَافِظ ابْن حجر رَحمَه الله لنَفسِهِ وَحَكَاهُ عَن الجماهير غَيره أَن الابتداع بمفسق لَا يقْدَح بِهِ فِي الرَّاوِي إِلَّا أَن يكون دَاعِيَة

(1/127)


وَهَذِه مَسْأَلَة قبُول فساق التَّأْوِيل وكفار التَّأْوِيل وَقد نقل فِي العواصم إِجْمَاع الصَّحَابَة على قبُول فساق التَّأْوِيل من عشر طرق وَمثله فِي كفار التَّأْوِيل من أَربع طرق وَإِذا عرفت وَرَأَيْت أَئِمَّة الْجرْح وَالتَّعْدِيل يَقُولُونَ فلَان ثِقَة حجَّة إِلَّا أَنه قدري أَو يرى الإرجاء أَو يَقُول بِخلق الْقُرْآن أَو نَحْو ذَلِك أخذت بقَوْلهمْ ثِقَة وعملت بِهِ وأطرحت قَوْلهم قدري وَلَا يقْدَح بِهِ فِي الرِّوَايَة غَايَة ذَلِك أَنه مُبْتَدع وَلَا يضر الثِّقَة بدعته من قبُول رِوَايَته لما عرفت من كَلَام ابْن حجر وَمن كَلَام مَالك

(1/128)


فَإِن قَوْلهم ثِقَة قد أَفَادَ الْإِخْبَار بِأَنَّهُ صَدُوق وَقَوْلهمْ يَقُول بِخلق الْقُرْآن مثلا إِخْبَار بِأَنَّهُ مُبْتَدع وَلَا تضرنا بدعته فِي قبُول خَبره وَمن هُنَا يَتَّضِح لَك اختلال رسم الْعَدَالَة الَّذِي اتّفق عَلَيْهِ الأصوليون والفروعيون وأئمة الحَدِيث بِأَنَّهَا ملكة تحمل على مُلَازمَة التَّقْوَى والمروءة وفسروا التَّقْوَى باجتناب الْأَعْمَال السَّيئَة من شرك أَو فسق أَو بِدعَة وَقد أوضحنا اختلاله فِي ثَمَرَات النّظر وَفِي الْمسَائِل المهمة وَفِي منحة الْغفار بِمَا يعرف بِهِ أَنه رسم دارس وَقَول لَا يعول عَلَيْهِ من هُوَ لدقائق الْعُلُوم ممارس وَإِن أطبق عَلَيْهِ الأكابر فكم ترك الأول وَالْآخر وَقد ناقضوه مناقضة ظَاهِرَة بِقبُول فساق التَّأْوِيل وكفاره والخوارج وَغَيرهم من أهل الْبدع المتكاثرة

عُلُوم الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار أقرب تناولا مِنْهَا فِيمَا سلف
وَبعد هَذَا فقد تقرر لَك بِمَا سقناه واتضح لَك بِمَا حققناه أَن للنَّاظِر فِي هَذِه الْأَعْصَار أَن يصحح ويضعف وَيحسن كَمَا فعله من قبله من الْأَئِمَّة الْكِبَار فَإِن

(1/129)


عَطاء رَبك لم يكن مَحْظُورًا وإفضاله الْمَمْدُود لَيْسَ على السَّابِق محصورا وَأَن عُلُوم الِاجْتِهَاد فِي هَذِه الْأَعْصَار أقرب تناولا مِنْهَا فِيمَا سلف من أزمنة الْأَئِمَّة النظار إِلَّا أَنه لايخفى أَن الِاجْتِهَاد موهبة من الله يَهبهُ لمن يَشَاء من الْعباد فَمَا كل من أحرز الْفُنُون أجْرى من قواعدها الْعُيُون وَلَا كل من عرف الْقَوَاعِد استحضرها عِنْد وُرُود الْحَادِثَة الَّتِي يفْتَقر إِلَى تطبيقها على الْأَدِلَّة والشواهد ... وَمَا كل من قاد الْجِيَاد يسوسها ... وَلَا كل من أجْرى يُقَال لَهُ مجْرى ... لَكِن على العَبْد طلب المعارف والتماسه من كل عَارِف وسهر الجفون فِي إِحْرَاز دقائق الْفُنُون وإخلاص النِّيَّة وَطلب الْفَتْح من بارىء الْبَريَّة فالخير كُله بِيَدِهِ وَلَا يلْتَمس إِلَّا من عِنْده وَكم قد رَأينَا وَسَمعنَا من زكى عَارِف إِمَام يضيق عطن بَحثه عِنْد وُرُود حَادِثَة من الْأَحْكَام فَيتبع أَقْوَال الرِّجَال تقليدا وَيعود عِنْدهَا مُقَلدًا مبلدا كَأَنَّهُ مَا غرف من بحار الْفُنُون وَلَا عرف شَيْئا من تِلْكَ الشئون نسْأَل الله أَن يعلمنَا مَا جهلناه ويذكرنا مَا نسيناه ويرزقنا الْعَمَل بِمَا علمنَا ويلهمنا إِلَى الْعلم بِمَا جهلنا أَنه ولي كل خير وَإِلَيْهِ تَعَالَى بِالْعلمِ وَالْعَمَل الْقَصْد وَالسير وَهُوَ الْمَقْصُود فِي النِّهَايَة والابتداء وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى وَمِنْه نستمد الْهِدَايَة والتوفيق فِي كل بداية وَنِهَايَة وَقد طَال الْمقَال وَخرج عَن مُطَابقَة مُقْتَضى السُّؤَال وَإِن لم نخرج عَن مُطَابقَة مُقْتَضى الْحَال فالمقام جدير بالإطالة والإسهاب حقيق بِالزِّيَادَةِ على هَذَا الإطناب إِذْ الْكَلَام فِي قَوَاعِد دينية ومباحث حَدِيثِيَّةٌ وخوض فِيمَا هُوَ من

(1/130)


أساس الدّين وَعَلِيهِ دوران فلك الِاجْتِهَاد الْمُجْتَهدين وكما قَالَ ... وَقد أَطَالَ ثنائي طول لِابْنِهِ ... إِن الْبناء على التنبال تنبال ...

(1/131)


بَيَان أَن الْفضل للْمُتَقَدِّمين وَمن خالفهم فِي الْمسَائِل لم يدع الترفع عَلَيْهِم
إِذا عرفت مَا قَرَّرْنَاهُ فالعلم أَن الَّذِي سهل الِاجْتِهَاد وألان مِنْهُ الصعاب والشداد هُوَ مَا قدمنَا لَك من سعي أَئِمَّة الدّين فِي جَمِيع عُلُوم الْأَوَّلين وَجَمعهَا بعد الشتات فِي نفائس المصنفات فلنكثر لَهُم الدُّعَاء ولنحسن عَلَيْهِم الثَّنَاء وَلَا نَكُنْ من كفار النعم وَأَشْبَاه النعم وَإِنَّمَا يعرف الْفضل لأولي الْفضل من هُوَ مِنْهُم وَإِلَيْهِ أَشَارَ من قَالَ
إِذا أفادك إِنْسَان بفائدة
من الْعُلُوم فَأكْثر شكره أبدا ... وَقل فلَان جزاه الله صَالِحَة
أفادنيها وخل اللؤم والحسدا
وَبِهَذَا يبطل تشيع الْجُهَّال بِأَن من خَالف الْأَوَائِل فِي بعض الْمسَائِل قد ادّعى الترفع عَلَيْهِم وَقَالَ إِنَّه أعلم مِنْهُم وَهَذَا خيال بَاطِل وَسُوء ظن حَاصِل وَإِلَّا لزم أَن التَّابِعين قد ادعوا الْفضل على السَّابِقين الْأَوَّلين من الْأَنْصَار والمهاجرين وَأَن الْأَئِمَّة الْمُتَأَخِّرين قد ادعوا أَن لَهُم الْفضل على الْمُتَقَدِّمين وهيهات مَا زَالَ الْفضل للمتقدم مَعْرُوفا وَمَا برح السَّابِق بالتفضيل مَوْصُوفا
وَلَو قبل مبكاها بَكَيْت صبَابَة
بسعدي شفيت النَّفس بعد التندم

(1/132)


.. وَلَكِن بَكت قبلي فيهج لي البكا ... بكاها فَقلت الْفضل للمتقدم ...