فقه اللغة وسر العربية

الفصل السادس والسبعون: في التكرير والإعادة.
هي من سنن العرب في إظهار العناية بالأمر كما قال الشاعر: [من البسيط]
مَهْلاً بَني عَمِّنا مَهْلاً مَوالِينا.
كما قال الآخر: [من الرجز]
كَمْ نِعْمَتٍ كانت لَكُمْ كَمْ كَمْ وكَمْ.
فكرر لفظ "كم" للعناية بتكثير العدد. ومنه قوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} 1. ولهذا جاء في كتاب الله التكرير كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 2 وقوله عزَّ وجلّ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} 3.
الفصل السابع والسبعون: في إجراء غير بني آدم مجراهم في الإخبار عنه.
من سنن العرب أن تجري الموات وما لا يعقل في بعض الكلام مجرى بني آدم فتقول في جميع أرض أرضون وتقول: لَقيتُ مِنهُمُ الأمَرَّين وربَّما يَتَعَدَّى هذا إلى أكثر منه كما قال الجعدي: [من الطويل]
تَمَزَّزْتها والدِّيكُ يدعو صَباحه ... وأمَّا بَنو نعْشٍ4 دَنوا فَتَصَوَّبوا.
وكما قال الله عز وجل: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 5 وقال عزّ اسمه: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} 6 وقال عزّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} 7 وقال: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} 8
__________
1 سورة القيامة: الآية 34.
2 سورة الرحمن: الآية 13.
3 سورة المرسلات: 19.
4 بنات نعش سبعة كواكب.
5 سورة يّس: الآية 40.
6 سورة يوسف الآية: 4.
7 سورة النمل الآية: 18.
8 سورة الانبياء الآية: 65.

(1/265)


وأكبر من قول الجعدي قول عبدة بن الطّبيب: [من البسيط]
إذا أشْرَفَ الدِّيكُ يَدْعو بَعْضَ أُسْرَتِهِ ... إلى الصَّباحِ وهُمْ قَوْمٌ مَعازيلُ.
فجعل للدِّيك أسرة وسمَّهم قوم.
الفصل الثامن والسبعون: في خصائص من كلام العرب.
للعرب كلام تَخُصُّ به معاني في الخير والشَّرِّ وفي الليل والنهار وغيرهما فمن تلك التتابع والتَّهافُت لا يكونان إلا في الشَّرِّ. وهاج الفحل والشَّر والحرب والفتنة. ولا يُقال: هاج لِما يؤدي إلى الخير. وظَلَّ يفعل كذا إذا فعله نهارا وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا. والتَّأويب: سير النَّهار لا تَعْريج فيه. والإسْئادُ: سيرُ الليل لا تَعريس فيه. ومن ذلك قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} 1 أي مَثَّلنا بهم ولا يُقال: جُعِلوا أحاديثَ إلا في الشَّرِّ. ومن ذلك: التأبين: لا يكون إلا مدحا للميت. والمساعاة: لا تكون إلا للزنا بالإماء دون الحرائر. ويُقال نَفَشَتِ الغَنَمُ لَيلاً وهَمَلَتْ نهاراً. وخُفِضَتِ الجاريةُ ولا يُقال: خُفِضَ الغُلام. ولَقَمَهُ بِبَعْرَةٍ إذا رماه بها ولا يقال ذلك في غيرها.
الفصل التاسع والسبعون: يناسبه في الرّيح والمطر.
لم يأت لفظ الرِّيح في القرآن إلا في الشَّرِّ والرِّياح إلا في الخير. قال عزَّوجلَّ: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ, مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} 2 وقال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ, تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} 3 وقال جلَّ جَلالُه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} 4 وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 5 وعن عبد الله بن عمر: الرِّياح ثمان فأربع رحمة وأربع عذاب. فأمَّا التي للرَّحمة: فالمُبَشِّرات والمُرْسَلات والذَّرِيات والنَّاشِرات وأما التي للعذاب: فالصَّرصَرُ والعَقيمُ وهما في البرِّ والعاصِفُ والقاصِفُ وهما في البحر ولم يأتِ لفظُ الإمطار في القرآن إلا
__________
1 سورة سبأ الآية: 19.
2 سورة الذريات: الآيتان 41، 42.
3 سورة القمر: الآيتان 19، 20.
4 سورة الأعراف الآية: 57.
5 سورة الروم: الآية 46.

(1/266)


للعذاب كما قال عزّ من قائل: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} 1 وقال عزّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} 2 وقال تعالى: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3.